حديث الرسول ﷺ English الإجازة تواصل معنا
الحديث النبوي

كان أحدهما لا يستتر من بوله، وكان الآخر يمشي بالنميم - صحيح البخاري

صحيح البخاري | كتاب الوضوء باب: من الكبائر أن لا يستتر من بوله (حديث رقم: 216 )


216- عن ابن عباس، قال: مر النبي صلى الله عليه وسلم بحائط من حيطان المدينة، أو مكة، فسمع صوت إنسانين يعذبان في قبورهما، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «يعذبان، وما يعذبان في كبير» ثم قال: «بلى، كان أحدهما لا يستتر من بوله، وكان الآخر يمشي بالنميمة».
ثم دعا بجريدة، فكسرها كسرتين، فوضع على كل قبر منهما كسرة، فقيل له: يا رسول الله، لم فعلت هذا؟ قال: «لعله أن يخفف عنهما ما لم تيبسا» أو: «إلى أن ييبسا»

أخرجه البخاري


أخرجه مسلم في باب الطهارة باب الدليل على نجاسة البول ووجوب الاستبراء منه رقم 292 (بحائط) بستان من النخل إذا كان له جدار.
(في كبير) أمر يشق عليهما الاحتراز عنه.
(بلى) أي كبير من حيث ما يترتب عليه من إثم.
(لا يستتر) لا يستبرىء منه ولا يتحفظ عن الإصابة به.
(يمشي بالنميمة) ينقل الكلام لغيره بقصد الإضرار.
(بجريدة) غصن النخل الذي ليس عليه ورق

شرح حديث (كان أحدهما لا يستتر من بوله، وكان الآخر يمشي بالنميم)

فتح الباري شرح صحيح البخاري: ابن حجر العسقلاني - أحمد بن علي بن حجر العسقلاني

‏ ‏قَوْله : ( حَدَّثَنَا عُثْمَان ) ‏ ‏هُوَ اِبْن أَبِي شَيْبَة , وَجَرِير هُوَ اِبْن عَبْد الْحَمِيد , وَمَنْصُور هُوَ اِبْن الْمُعْتَمِر , وَمُجَاهِد هُوَ اِبْن جَبْر صَاحِب اِبْن عَبَّاس وَقَدْ سَمِعَ الْكَثِير مِنْهُ وَاشْتُهِرَ بِالْأَخْذِ عَنْهُ , لَكِنْ رَوَى هَذَا الْحَدِيث الْأَعْمَش عَنْ مُجَاهِد فَأَدْخَلَ بَيْنه وَبَيْن اِبْن عَبَّاس طَاوُسًا كَمَا أَخْرَجَهُ الْمُؤَلِّف بَعْد قَلِيل , وَإِخْرَاجه لَهُ عَلَى الْوَجْهَيْنِ يَقْتَضِي صِحَّتهمَا عِنْده , فَيُحْمَل عَلَى أَنَّ مُجَاهِدًا سَمِعَهُ مِنْ طَاوُس عَنْ اِبْن عَبَّاس ثُمَّ سَمِعَهُ مِنْ اِبْن عَبَّاس بِلَا وَاسِطَة أَوْ الْعَكْس , وَيُؤَيِّدهُ أَنَّ فِي سِيَاقه عَنْ طَاوُس زِيَادَة عَلَى مَا فِي رِوَايَته عَنْ اِبْن عَبَّاس , وَصَرَّحَ اِبْن حِبَّان بِصِحَّةِ الطَّرِيقَيْنِ مَعًا , وَقَالَ التِّرْمِذِيّ رِوَايَة الْأَعْمَش أَصَحّ.
‏ ‏قَوْله : ( مَرَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِحَائِطٍ ) ‏ ‏أَيْ : بُسْتَان , وَلِلْمُصَنِّفِ فِي الْأَدَب " خَرَجَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ بَعْض حِيطَان الْمَدِينَة " فَيُحْمَل عَلَى أَنَّ الْحَائِط الَّذِي خَرَجَ مِنْهُ غَيْر الْحَائِط الَّذِي مَرَّ بِهِ , وَفِي الْأَفْرَاد لِلدَّارَقُطْنِيّ مِنْ حَدِيث جَابِر أَنَّ الْحَائِط كَانَ لِأُمّ مُبَشِّر الْأَنْصَارِيَّة , وَهُوَ يُقَوِّي رِوَايَة الْأَدَب لِجَزْمِهَا بِالْمَدِينَةِ مِنْ غَيْر شَكّ وَالشَّكّ فِي قَوْله " أَوْ مَكَّة " مِنْ جَرِير.
‏ ‏قَوْله : ( فَسَمِعَ صَوْت إِنْسَانَيْنِ يُعَذَّبَانِ فِي قُبُورهمَا ) ‏ ‏قَالَ اِبْن مَالِك : فِي قَوْله " صَوْت إِنْسَانَيْنِ " شَاهِد عَلَى جَوَاز إِفْرَاد الْمُضَاف الْمُثَنَّى إِذَا كَانَ جُزْء مَا أُضِيف إِلَيْهِ نَحْو أَكَلْت رَأْس شَاتَيْنِ , وَجَمْعه أَجْوَد نَحْو ( فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبكُمَا ) وَقَدْ اِجْتَمَعَ التَّثْنِيَة وَالْجَمْع فِي قَوْله : ظَهْرَاهُمَا مِثْل ظُهُور التُّرْسَيْنِ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ الْمُضَاف جُزْء مَا أُضِيف إِلَيْهِ , فَالْأَكْثَر مَجِيئُهُ بِلَفْظِ التَّثْنِيَة , فَإِنْ أُمِنَ اللَّبْس جَازَ جَعْل الْمُضَاف بِلَفْظِ الْجَمْع.
وَقَوْله " يُعَذَّبَانِ فِي قُبُورهمَا " شَاهِد لِذَلِكَ.
‏ ‏قَوْله : ( يُعَذَّبَانِ ) ‏ ‏فِي رِوَايَة الْأَعْمَش " مَرَّ بِقَبْرَيْنِ " زَادَ اِبْن مَاجَهْ " جَدِيدَيْنِ فَقَالَ : إِنَّهُمَا لَيُعَذَّبَانِ " فَيَحْتَمِل أَنْ يُقَال : أَعَادَ الضَّمِير عَلَى غَيْر مَذْكُور لِأَنَّ سِيَاق الْكَلَام يَدُلّ عَلَيْهِ , وَأَنْ يُقَال أَعَادَهُ عَلَى الْقَبْرَيْنِ مَجَازًا وَالْمُرَاد مَنْ فِيهِمَا.
‏ ‏قَوْله : ( وَمَا يُعَذَّبَانِ فِي كَبِير.
ثُمَّ قَالَ : بَلَى ) ‏ ‏أَيْ : إِنَّهُ لَكَبِير.
وَصَرَّحَ بِذَلِكَ فِي الْأَدَب مِنْ طَرِيق عَبْد بْن حُمَيْدٍ عَنْ مَنْصُور فَقَالَ " وَمَا يُعَذَّبَانِ فِي كَبِير.
وَإِنَّهُ لَكَبِير " وَهَذَا مِنْ زِيَادَات رِوَايَة مَنْصُور عَلَى الْأَعْمَش وَلَمْ يُخْرِجهَا مُسْلِم , وَاسْتَدَلَّ اِبْن بَطَّال بِرِوَايَةِ الْأَعْمَش عَلَى أَنَّ التَّعْذِيب لَا يَخْتَصّ بِالْكَبَائِرِ بَلْ قَدْ يَقَع عَلَى الصَّغَائِر , قَالَ لِأَنَّ الِاحْتِرَاز مِنْ الْبَوْل لَمْ يَرِد فِيهِ وَعِيد , يَعْنِي قَبْل هَذِهِ الْقِصَّة.
وَتُعُقِّبَ بِهَذِهِ الزِّيَادَة , وَقَدْ وَرَدَ مِثْلهَا مِنْ حَدِيث أَبِي بَكْرَة عِنْد أَحْمَد وَالطَّبَرَانِيِّ وَلَفْظه " وَمَا يُعَذَّبَانِ فِي كَبِير , بَلَى " وَقَالَ اِبْن مَالِك : فِي قَوْله " فِي كَبِير " شَاهِد عَلَى وُرُود " فِي " لِلتَّعْلِيلِ , وَهُوَ مِثْل قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " عُذِّبَتْ اِمْرَأَة فِي هِرَّة " قَالَ : وَخَفِيَ ذَلِكَ عَلَى أَكْثَر النَّحْوِيِّينَ مَعَ وُرُوده فِي الْقُرْآن كَقَوْلِ اللَّه تَعَالَى ( لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ ) وَفِي الْحَدِيث كَمَا تَقَدَّمَ , وَفِي الشِّعْر فَذَكَرَ شَوَاهِد.
اِنْتَهَى.
وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي مَعْنَى قَوْله " وَإِنَّهُ لَكَبِير " فَقَالَ أَبُو عَبْد الْمَلِك الْبَوْنِيّ : يَحْتَمِل أَنَّهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ظَنَّ أَنَّ ذَلِكَ غَيْر كَبِير , فَأُوحِيَ إِلَيْهِ فِي الْحَال بِأَنَّهُ كَبِير , فَاسْتَدْرَكَ.
وَتُعُقِّبَ بِأَنَّهُ يَسْتَلْزِم أَنْ يَكُون نَسْخًا وَالنَّسْخ لَا يَدْخُل الْخَبَر.
وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْحُكْم بِالْخَبَرِ يَجُوز نَسْخه فَقَوْله " وَمَا يُعَذَّبَانِ فِي كَبِير " إِخْبَار بِالْحُكْمِ , فَإِذَا أُوحِيَ إِلَيْهِ أَنَّهُ كَبِير فَأَخْبَرَ بِهِ كَانَ نَسْخًا لِذَلِكَ الْحُكْم.
‏ ‏وَقِيلَ : يَحْتَمِل أَنَّ الضَّمِير فِي قَوْله " وَأَنَّهُ " يَعُود عَلَى الْعَذَاب , لِمَا وَرَدَ فِي صَحِيح اِبْن حِبَّان مِنْ حَدِيث أَبِي هُرَيْرَة " يُعَذَّبَانِ عَذَابًا شَدِيدًا فِي ذَنْب هَيِّن " وَقِيلَ الضَّمِير يَعُود عَلَى أَحَد الذَّنْبَيْنِ وَهُوَ النَّمِيمَة لِأَنَّهَا مِنْ الْكَبَائِر بِخِلَافِ كَشْف الْعَوْرَة , وَهَذَا مَعَ ضَعْفه غَيْر مُسْتَقِيم لِأَنَّ الِاسْتِتَار الْمَنْفِيّ لَيْسَ الْمُرَاد بِهِ كَشْف الْعَوْرَة فَقَطْ كَمَا سَيَأْتِي.
وَقَالَ الدَّاوُدِيّ وَابْن الْعَرَبِيّ : " كَبِير " الْمَنْفِيّ بِمَعْنَى أَكْبَر , وَالْمُثْبَت وَاحِد الْكَبَائِر , أَيْ : لَيْسَ ذَلِكَ بِأَكْبَر الْكَبَائِر كَالْقَتْلِ مَثَلًا , وَإِنْ كَانَ كَبِيرًا فِي الْجُمْلَة.
وَقِيلَ : الْمَعْنَى لَيْسَ بِكَبِيرٍ فِي الصُّورَة لِأَنَّ تَعَاطِيَ ذَلِكَ يَدُلّ عَلَى الدَّنَاءَة وَالْحَقَارَة , وَهُوَ كَبِير الذَّنْب.
وَقِيلَ لَيْسَ بِكَبِيرٍ فِي اِعْتِقَادهمَا أَوْ فِي اِعْتِقَاد الْمُخَاطَبِينَ وَهُوَ عِنْد اللَّه كَبِير كَقَوْلِهِ تَعَالَى ( وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْد اللَّه عَظِيم ) , وَقِيلَ لَيْسَ بِكَبِيرٍ فِي مَشَقَّة الِاحْتِرَاز , أَيْ : كَانَ لَا يَشُقّ عَلَيْهِمَا الِاحْتِرَاز مِنْ ذَلِكَ.
وَهَذَا الْأَخِير جَزَمَ بِهِ الْبَغَوِيُّ وَغَيْره وَرَجَّحَهُ اِبْن دَقِيق الْعِيد وَجَمَاعَة , وَقِيلَ لَيْسَ بِكَبِيرٍ بِمُجَرَّدِهِ وَإِنَّمَا صَارَ كَبِيرًا بِالْمُوَاظَبَةِ عَلَيْهِ , وَيُرْشِد إِلَى ذَلِكَ السِّيَاق فَإِنَّهُ وَصَفَ كُلًّا مِنْهُمَا بِمَا يَدُلّ عَلَى تَجَدُّد ذَلِكَ مِنْهُ وَاسْتِمْرَاره عَلَيْهِ لِلْإِتْيَانِ بِصِيغَةِ الْمُضَارَعَة بَعْد حَرْف كَانَ.
وَاَللَّه أَعْلَم.
‏ ‏قَوْله : ( لَا يَسْتَتِر ) ‏ ‏كَذَا فِي أَكْثَر الرِّوَايَات بِمُثَنَّاتَيْنِ مِنْ فَوْق الْأُولَى مَفْتُوحَة وَالثَّانِيَة مَكْسُورَة , وَفِي رِوَايَة اِبْن عَسَاكِر " يَسْتَبْرِئ " بِمُوَحَّدَةٍ سَاكِنَة مِنْ الِاسْتِبْرَاء.
وَلِمُسْلِمٍ وَأَبِي دَاوُدَ فِي حَدِيث الْأَعْمَش " يَسْتَنْزِه " بِنُونٍ سَاكِنَة بَعْدهَا زَاي ثُمَّ هَاء , فَعَلَى رِوَايَة الْأَكْثَر مَعْنَى الِاسْتِتَار أَنَّهُ لَا يَجْعَل بَيْنه وَبَيْن بَوْله سُتْرَة يَعْنِي لَا يَتَحَفَّظ مِنْهُ , فَتُوَافِق رِوَايَة لَا يَسْتَنْزِه لِأَنَّهَا مِنْ التَّنَزُّه وَهُوَ الْإِبْعَاد , وَقَدْ وَقَعَ عِنْد أَبِي نُعَيْمٍ فِي الْمُسْتَخْرَج مِنْ طَرِيق وَكِيع عَنْ الْأَعْمَش " كَانَ لَا يَتَوَقَّى " وَهِيَ مُفَسِّرَة لِلْمُرَادِ.
وَأَجْرَاهُ بَعْضهمْ عَلَى ظَاهِره فَقَالَ : مَعْنَاهُ لَا يَسْتُر عَوْرَته.
وَضُعِّفَ بِأَنَّ التَّعْذِيب لَوْ وَقَعَ عَلَى كَشْف الْعَوْرَة لَاسْتَقَلَّ الْكَشْف بِالسَّبَبِيَّةِ وَاطُّرِحَ اِعْتِبَار الْبَوْل فَيَتَرَتَّب الْعَذَاب عَلَى الْكَشْف سَوَاء وُجِدَ الْبَوْل أَمْ لَا , وَلَا يَخْفَى مَا فِيهِ.
وَسَيَأْتِي كَلَام اِبْن دَقِيق الْعِيد قَرِيبًا.
وَأَمَّا رِوَايَة الِاسْتِبْرَاء فَهِيَ أَبْلَغ فِي التَّوَقِّي.
وَتَعَقَّبَ الْإِسْمَاعِيلِيّ رِوَايَة الِاسْتِتَار بِمَا يَحْصُل جَوَابه مِمَّا ذَكَرْنَا قَالَ اِبْن دَقِيق الْعِيد : لَوْ حُمِلَ الِاسْتِتَار عَلَى حَقِيقَته لَلَزِمَ أَنَّ مُجَرَّد كَشْف الْعَوْرَة كَانَ سَبَب الْعَذَاب الْمَذْكُور , وَسِيَاق الْحَدِيث يَدُلّ عَلَى أَنَّ لِلْبَوْلِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى عَذَاب الْقَبْر خُصُوصِيَّة , يُشِير إِلَى مَا صَحَّحَهُ اِبْن خُزَيْمَةَ مِنْ حَدِيث أَبِي هُرَيْرَة مَرْفُوعًا " أَكْثَر عَذَاب الْقَبْر مِنْ الْبَوْل " أَيْ : بِسَبَبِ تَرْك التَّحَرُّز مِنْهُ.
قَالَ : وَيُؤَيِّدهُ أَنَّ لَفْظ " مِنْ " فِي هَذَا الْحَدِيث لَمَّا أُضِيف إِلَى الْبَوْل اِقْتَضَى نِسْبَة الِاسْتِتَار الَّذِي عَدَمه سَبَب الْعَذَاب إِلَى الْبَوْل , بِمَعْنَى أَنَّ اِبْتِدَاء سَبَب الْعَذَاب مِنْ الْبَوْل , فَلَوْ حُمِلَ عَلَى مُجَرَّد كَشْف الْعَوْرَة زَالَ هَذَا الْمَعْنَى , فَتَعَيَّنَ الْحَمْل عَلَى الْمَجَاز لِتَجْتَمِع أَلْفَاظ الْحَدِيث عَلَى مَعْنًى وَاحِد لِأَنَّ مَخْرَجه وَاحِد.
وَيُؤَيِّدهُ أَنَّ فِي حَدِيث أَبِي بَكْرَة عِنْد أَحْمَد وَابْن مَاجَهْ " أَمَّا أَحَدهمَا فَيُعَذَّب فِي الْبَوْل " وَمِثْله لِلطَّبَرَانِيّ عَنْ أَنَس.
‏ ‏قَوْله : ( مِنْ بَوْله ) ‏ ‏يَأْتِي الْكَلَام عَلَيْهِ فِي التَّرْجَمَة الَّتِي بَعْد هَذِهِ.
‏ ‏قَوْله : ( يَمْشِي بِالنَّمِيمَةِ ) ‏ ‏قَالَ اِبْن دَقِيق الْعِيد : هِيَ نَقْل كَلَام النَّاس.
وَالْمُرَاد مِنْهُ هُنَا مَا كَانَ بِقَصْدِ الْإِضْرَار , فَأَمَّا مَا اِقْتَضَى فِعْل مَصْلَحَة أَوْ تَرْك مَفْسَدَة فَهُوَ مَطْلُوب.
اِنْتَهَى.
وَهُوَ تَفْسِير لِلنَّمِيمَةِ بِالْمَعْنَى الْأَعَمّ , وَكَلَام غَيْره يُخَالِفهُ كَمَا سَنَذْكُرُ ذَلِكَ مَبْسُوطًا فِي مَوْضِعه مِنْ كِتَاب الْأَدَب.
قَالَ النَّوَوِيّ : وَهِيَ نَقْل كَلَام الْغَيْر بِقَصْدِ الْإِضْرَار , وَهِيَ مِنْ أَقْبَح الْقَبَائِح.
وَتَعَقَّبَهُ الْكَرْمَانِيُّ فَقَالَ : هَذَا لَا يَصِحّ عَلَى قَاعِدَة الْفُقَهَاء , فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ : الْكَبِيرَة هِيَ الْمُوجِبَة لِلْحَدِّ وَلَا حَدّ عَلَى الْمَشْي بِالنَّمِيمَةِ , إِلَّا أَنْ يُقَال : الِاسْتِمْرَار هُوَ الْمُسْتَفَاد مِنْهُ جَعْله كَبِيرَة ; لِأَنَّ الْإِصْرَار عَلَى الصَّغِيرَة حُكْمه حُكْم الْكَبِيرَة.
أَوْ أَنَّ الْمُرَاد بِالْكَبِيرَةِ مَعْنًى غَيْر الْمَعْنَى الِاصْطِلَاحِيّ.
اِنْتَهَى.
وَمَا نَقَلَهُ عَنْ الْفُقَهَاء لَيْسَ هُوَ قَوْل جَمِيعهمْ ; لَكِنَّ كَلَام الرَّافِعِيّ يُشْعِر بِتَرْجِيحِهِ حَيْثُ حَكَى فِي تَعْرِيف الْكَبِيرَة وَجْهَيْنِ : ‏ ‏أَحَدهمَا هَذَا , ‏ ‏وَالثَّانِي مَا فِيهِ وَعِيد شَدِيد.
قَالَ : وَهُمْ إِلَى الْأَوَّل أَمْيَل.
وَالثَّانِي أَوْفَق لِمَا ذَكَرُوهُ عِنْد تَفْصِيل الْكَبَائِر.
اِنْتَهَى.
وَلَا بُدّ مِنْ حَمْل الْقَوْل الْأَوَّل عَلَى أَنَّ الْمُرَاد بِهِ غَيْر مَا نُصَّ عَلَيْهِ فِي الْأَحَادِيث الصَّحِيحَة ; وَإِلَّا لَزِمَ أَنْ لَا يُعَدّ عُقُوق الْوَالِدَيْنِ وَشَهَادَة الزُّور مِنْ الْكَبَائِر , مَعَ أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَدَّهُمَا مِنْ أَكْبَر الْكَبَائِر.
وَسَيَأْتِي الْكَلَام عَلَى هَذِهِ الْمَسْأَلَة مُسْتَوْفًى فِي أَوَّل كِتَاب الْحُدُود إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى.
وَعُرِفَ بِهَذَا الْجَوَاب عَنْ اِعْتِرَاض الْكَرْمَانِيّ بِأَنَّ النَّمِيمَة قَدْ نُصَّ فِي الصَّحِيح عَلَى أَنَّهَا كَبِيرَة كَمَا تَقَدَّمَ.
‏ ‏قَوْله : ( ثُمَّ دَعَا بِجَرِيدَةٍ ) ‏ ‏, وَلِلْأَعْمَشِ " فَدَعَا بِعَسِيبٍ رَطْب " وَالْعَسِيب بِمُهْمَلَتَيْنِ بِوَزْنِ فَعِيل هِيَ الْجَرِيدَة الَّتِي لَمْ يَنْبُت فِيهَا خُوص , فَإِنْ نَبَتَ فَهِيَ السَّعَفَة.
وَقِيلَ : إِنَّهُ خَصَّ الْجَرِيد بِذَلِكَ لِأَنَّهُ بَطِيء الْجَفَاف.
وَرَوَى النَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيث أَبِي رَافِع بِسَنَدٍ ضَعِيف أَنَّ الَّذِي أَتَاهُ بِالْجَرِيدَةِ بِلَال , وَلَفْظه " كُنَّا مَعَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي جِنَازَة إِذْ سَمِعَ شَيْئًا فِي قَبْر فَقَالَ لِبِلَالٍ : اِئْتِنِي بِجَرِيدَةٍ خَضْرَاء " الْحَدِيث.
‏ ‏قَوْله : ( فَكَسَرَهَا ) ‏ ‏أَيْ : فَأَتَى بِهَا فَكَسَرَهَا , وَفِي حَدِيث أَبِي بَكْرَة عِنْد أَحْمَد وَالطَّبَرَانِيّ أَنَّهُ الَّذِي أَتَى بِهَا إِلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , وَأَمَّا مَا رَوَاهُ مُسْلِم فِي حَدِيث جَابِر الطَّوِيل الْمَذْكُور فِي أَوَاخِر الْكِتَاب أَنَّهُ الَّذِي قَطَعَ الْغُصْنَيْنِ , فَهُوَ فِي قِصَّة أُخْرَى غَيْر هَذِهِ , فَالْمُغَايَرَة بَيْنهمَا مِنْ أَوْجُه : مِنْهَا أَنَّ هَذِهِ كَانَتْ فِي الْمَدِينَة وَكَانَ مَعَهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَمَاعَة , وَقِصَّة جَابِر كَانَتْ فِي السَّفَر وَكَانَ خَرَجَ لِحَاجَتِهِ فَتَبِعَهُ جَابِر وَحْده.
‏ ‏وَمِنْهَا أَنَّ فِي هَذِهِ الْقِصَّة أَنَّهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَرَسَ الْجَرِيدَة بَعْد أَنْ شَقَّهَا نِصْفَيْنِ كَمَا فِي الْبَاب الَّذِي بَعْد هَذَا مِنْ رِوَايَة الْأَعْمَش , وَفِي حَدِيث جَابِر أَنَّهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ جَابِرًا بِقَطْعِ غُصْنَيْنِ مِنْ شَجَرَتَيْنِ كَانَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اِسْتَتَرَ بِهِمَا عِنْد قَضَاء حَاجَته , ثُمَّ أَمَرَ جَابِرًا فَأَلْقَى الْغُصْنَيْنِ عَنْ يَمِينه وَعَنْ يَسَاره حَيْثُ كَانَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَالِسًا , وَأَنَّ جَابِرًا سَأَلَهُ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ " إِنِّي مَرَرْت بِقَبْرَيْنِ يُعَذَّبَانِ فَأَحْبَبْت بِشَفَاعَتِي أَنْ يُرْفَع عَنْهُمَا مَا دَامَ الْغُصْنَانِ رَطْبَيْنِ " وَلَمْ يُذْكَر فِي قِصَّة جَابِر أَيْضًا السَّبَب الَّذِي كَانَا يُعَذَّبَانِ بِهِ , وَلَا التَّرَجِّي الْآتِي فِي قَوْله " لَعَلَّهُ " , فَبَانَ تَغَايُر حَدِيث اِبْن عَبَّاس وَحَدِيث جَابِر وَأَنَّهُمَا كَانَا فِي قِصَّتَيْنِ مُخْتَلِفَتَيْنِ , وَلَا يَبْعُد تَعَدُّد ذَلِكَ.
وَقَدْ رَوَى اِبْن حِبَّان فِي صَحِيحه مِنْ حَدِيث أَبِي هُرَيْرَة " أَنَّهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّ بِقَبْرٍ فَوَقَفَ عَلَيْهِ فَقَالَ : اِئْتُونِي بِجَرِيدَتَيْنِ , فَجَعَلَ إِحْدَاهُمَا عِنْد رَأْسه وَالْأُخْرَى عِنْد رِجْلَيْهِ " فَيَحْتَمِل أَنْ تَكُون هَذِهِ قِصَّة ثَالِثَة , وَيُؤَيِّدهُ أَنَّ فِي حَدِيث أَبِي رَافِع كَمَا تَقَدَّمَ " فَسَمِعَ شَيْئًا فِي قَبْر " وَفِيهِ " فَكَسَرَهَا بِاثْنَيْنِ تَرَكَ نِصْفهَا عِنْد رَأْسه وَنِصْفهَا عِنْد رِجْلَيْهِ " وَفِي قِصَّة الْوَاحِد حَمَلَ نِصْفهَا عِنْد رَأْسه وَنِصْفهَا عِنْد رِجْلَيْهِ , وَفِي قِصَّة الِاثْنَيْنِ " جَعَلَ عَلَى كُلّ قَبْر جَرِيدَة ".
‏ ‏( كِسْرَتَيْنِ ) ‏ ‏بِكَسْرِ الْكَاف , وَالْكِسْرَة الْقِطْعَة مِنْ الشَّيْء الْمَكْسُور , وَقَدْ تَبَيَّنَ مِنْ رِوَايَة الْأَعْمَش أَنَّهَا كَانَتْ نِصْفًا.
وَفِي رِوَايَة جَرِير عَنْهُ " بِاثْنَتَيْنِ " قَالَ النَّوَوِيّ : الْبَاء زَائِدَة لِلتَّوْكِيدِ وَالنَّصْب عَلَى الْحَال.
‏ ‏قَوْله : ( فَوَضَعَ ) ‏ ‏وَفِي رِوَايَة الْأَعْمَش الْآتِيَة " فَغَرَزَ " وَهِيَ أَخَصّ مِنْ الْأُولَى.
‏ ‏قَوْله : ( فَوَضَعَ عَلَى كُلّ قَبْر مِنْهُمَا كِسْرَة ) ‏ ‏وَقَعَ فِي مُسْنَد عَبْد بْن حُمَيْدٍ مِنْ طَرِيق عَبْد الْوَاحِد بْن زِيَاد عَنْ الْأَعْمَش , ثُمَّ غَرَزَ عِنْد رَأْس كُلّ وَاحِد مِنْهُمَا قِطْعَة.
‏ ‏قَوْله : ( فَقِيلَ لَهُ ) ‏ ‏لِلْأَعْمَشِ " قَالُوا " أَيْ : الصَّحَابَة , وَلَمْ نَقِف عَلَى تَعْيِين السَّائِل مِنْهُمْ.
‏ ‏قَوْله : ( لَعَلَّهُ ) ‏ ‏قَالَ اِبْن مَالِك : يَجُوز أَنْ تَكُون الْهَاء ضَمِير الشَّأْن , وَجَازَ تَفْسِيره بِأَنْ وَصِلَتهَا لِأَنَّهَا فِي حُكْم جُمْلَة لِاشْتِمَالِهَا عَلَى مُسْنَد وَمُسْنَد إِلَيْهِ.
قَالَ : وَيَحْتَمِل أَنْ تَكُون " أَنْ " زَائِدَة مَعَ كَوْنهَا نَاصِبَة كَزِيَادَةِ الْبَاء مَعَ كَوْنِهَا جَارَّة.
اِنْتَهَى.
وَقَدْ ثَبَتَ فِي الرِّوَايَة الْآتِيَة بِحَذْفِ " أَنْ " فَقَوَّى الِاحْتِمَال الثَّانِي.
وَقَالَ الْكَرْمَانِيُّ : شَبَّهَ لَعَلَّ بِعَسَى فَأَتَى بِأَنْ فِي خَبَره.
‏ ‏قَوْله : ( يُخَفَّف ) ‏ ‏بِالضَّمِّ وَفَتْح الْفَاء , أَيْ : الْعَذَاب عَنْ الْمَقْبُورَيْنِ.
‏ ‏قَوْله : ( مَا لَمْ تَيْبَسَا ) ‏ ‏كَذَا فِي أَكْثَر الرِّوَايَات بِالْمُثَنَّاةِ الْفَوْقَانِيَّة أَيْ : الْكِسْرَتَانِ , ولِلْكُشْمِيهَنِيّ " إِلَّا أَنْ تَيْبَسَا " بِحَرْفِ الِاسْتِثْنَاء , وَلِلْمُسْتَمْلِيّ " إِلَى أَنْ يَيْبَسَا " بِإِلَى الَّتِي لِلْغَايَةِ وَالْيَاء التَّحْتَانِيَّة أَيْ : الْعُودَانِ , قَالَ الْمَازِرِيّ : يَحْتَمِل أَنْ يَكُون أُوحِيَ إِلَيْهِ أَنَّ الْعَذَاب يُخَفَّف عَنْهُمَا هَذِهِ الْمُدَّة.
اِنْتَهَى.
وَعَلَى هَذَا فَلَعَلَّ هُنَا لِلتَّعْلِيلِ , قَالَ : وَلَا يَظْهَر لَهُ وَجْه غَيْر هَذَا.
وَتَعَقَّبَهُ الْقُرْطُبِيّ بِأَنَّهُ لَوْ حَصَلَ الْوَحْي لَمَا أَتَى بِحَرْفِ التَّرَجِّي , كَذَا قَالَ.
وَلَا يَرِد عَلَيْهِ ذَلِكَ إِذَا حَمَلْنَاهَا عَلَى التَّعْلِيل , قَالَ الْقُرْطُبِيّ : وَقِيلَ إِنَّهُ شَفَعَ لَهُمَا هَذِهِ الْمُدَّة كَمَا صُرِّحَ بِهِ فِي حَدِيث جَابِر ; لِأَنَّ الظَّاهِر أَنَّ الْقِصَّة وَاحِدَة.
وَكَذَا رَجَّحَ النَّوَوِيّ كَوْن الْقِصَّة وَاحِدَة , وَفِيهِ نَظَر لِمَا أَوْضَحْنَا مِنْ الْمُغَايَرَة بَيْنهمَا.
وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ : هُوَ مَحْمُول عَلَى أَنَّهُ دَعَا لَهُمَا بِالتَّخْفِيفِ مُدَّة بَقَاء النَّدَاوَة , لَا أَنَّ فِي الْجَرِيدَة مَعْنًى يَخُصّهُ , وَلَا أَنَّ فِي الرَّطْب مَعْنًى لَيْسَ فِي الْيَابِس.
قَالَ : وَقَدْ قِيلَ : إِنَّ الْمَعْنَى فِيهِ أَنَّهُ يُسَبِّح مَا دَامَ رَطْبًا فَيَحْصُل التَّخْفِيف بِبَرَكَةِ التَّسْبِيح , وَعَلَى هَذَا فَيَطَّرِد فِي كُلّ مَا فِيهِ رُطُوبَة مِنْ الْأَشْجَار وَغَيْرهَا ; وَكَذَلِكَ فِيمَا فِيهِ بَرَكَة الذِّكْر وَتِلَاوَة الْقُرْآن مِنْ بَاب الْأَوْلَى.
وَقَالَ الطِّيبِيّ : الْحِكْمَة فِي كَوْنهمَا مَا دَامَتَا رَطْبَتَيْنِ تَمْنَعَانِ الْعَذَاب يَحْتَمِل أَنْ تَكُون غَيْر مَعْلُومَة لَنَا كَعَدَدِ الزَّبَانِيَة.
وَقَدْ اِسْتَنْكَرَ الْخَطَّابِيُّ وَمَنْ تَبِعَهُ وَضْعَ النَّاس الْجَرِيد وَنَحْوه فِي الْقَبْر عَمَلًا بِهَذَا الْحَدِيث.
قَالَ الطُّرْطُوشِيّ : لِأَنَّ ذَلِكَ خَاصّ بِبَرَكَةِ يَده.
وَقَالَ الْقَاضِي عِيَاض : لِأَنَّهُ عَلَّلَ غَرْزهمَا عَلَى الْقَبْر بِأَمْرٍ مُغَيَّب وَهُوَ قَوْله " لَيُعَذَّبَانِ ".
قُلْت : لَا يَلْزَم مِنْ كَوْننَا لَا نَعْلَم أَيُعَذَّبُ أَمْ لَا أَنْ لَا نَتَسَبَّب لَهُ فِي أَمْر يُخَفِّف عَنْهُ الْعَذَاب أَنْ لَوْ عُذِّبَ , كَمَا لَا يَمْنَع كَوْننَا لَا نَدْرِي أَرُحِمَ أَمْ لَا أَنْ لَا نَدْعُوَ لَهُ بِالرَّحْمَةِ.
وَلَيْسَ فِي السِّيَاق مَا يَقْطَع عَلَى أَنَّهُ بَاشَرَ الْوَضْع بِيَدِهِ الْكَرِيمَة , بَلْ يَحْتَمِل أَنْ يَكُون أَمَرَ بِهِ.
‏ ‏وَقَدْ تَأَسَّى بُرَيْدَة بْن الْحُصَيْب الصَّحَابِيّ بِذَلِكَ فَأَوْصَى أَنْ يُوضَع عَلَى قَبْره جَرِيدَتَانِ كَمَا سَيَأْتِي فِي الْجَنَائِز مِنْ هَذَا الْكِتَاب , وَهُوَ أَوْلَى أَنْ يُتَّبَع مِنْ غَيْره.
‏ ‏( تَنْبِيه ) : ‏ ‏لَمْ يُعْرَف اِسْم الْمَقْبُورَيْنِ وَلَا أَحَدهمَا , وَالظَّاهِر أَنَّ ذَلِكَ كَانَ عَلَى عَمْد مِنْ الرُّوَاة لِقَصْدِ السَّتْر عَلَيْهِمَا , وَهُوَ عَمَل مُسْتَحْسَن.
وَيَنْبَغِي أَنْ لَا يُبَالَغ فِي الْفَحْص عَنْ تَسْمِيَة مَنْ وَقَعَ فِي حَقّه مَا يُذَمّ بِهِ.
وَمَا حَكَاهُ الْقُرْطُبِيّ فِي التَّذْكِرَة وَضَعَّفَهُ عَنْ بَعْضهمْ أَنَّ أَحَدهمَا سَعْد بْن مُعَاذ فَهُوَ قَوْل بَاطِل لَا يَنْبَغِي ذِكْره إِلَّا مَقْرُونًا بِبَيَانِهِ.
وَمِمَّا يَدُلّ عَلَى بُطْلَان الْحِكَايَة الْمَذْكُورَة أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَضَرَ دَفْن سَعْد بْن مُعَاذ كَمَا ثَبَتَ فِي الْحَدِيث الصَّحِيح , وَأَمَّا قِصَّة الْمَقْبُورَيْنِ فَفِي حَدِيث أَبِي أُمَامَةَ عِنْد أَحْمَد أَنَّهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهُمْ " مَنْ دَفَنْتُمْ الْيَوْم هَاهُنَا ؟ " فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَحْضُرهُمَا , وَإِنَّمَا ذَكَرْت هَذَا ذَبًّا عَنْ هَذَا السَّيِّد الَّذِي سَمَّاهُ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " سَيِّدًا " وَقَالَ لِأَصْحَابِهِ " قُومُوا إِلَى سَيِّدكُمْ " وَقَالَ " إِنَّ حُكْمه قَدْ وَافَقَ حُكْم اللَّه " وَقَالَ " إِنَّ عَرْش الرَّحْمَن اِهْتَزَّ لِمَوْتِهِ " إِلَى غَيْر ذَلِكَ مِنْ مَنَاقِبه الْجَلِيلَة , خَشْيَة أَنْ يَغْتَرّ نَاقِص الْعِلْم بِمَا ذَكَرَهُ الْقُرْطُبِيّ فَيَعْتَقِدَ صِحَّة ذَلِكَ وَهُوَ بَاطِل.
وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي الْمَقْبُورَيْنِ فَقِيلَ كَانَا كَافِرَيْنِ , وَبِهِ جَزَمَ أَبُو مُوسَى الْمَدِينِيّ , وَاحْتَجَّ بِمَا رَوَاهُ مِنْ حَدِيث جَابِر بِسَنَدٍ فِيهِ اِبْن لَهِيعَة " أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّ عَلَى قَبْرَيْنِ مِنْ بَنِي النَّجَّار هَلَكَا فِي الْجَاهِلِيَّة , فَسَمِعَهُمَا يُعَذَّبَانِ فِي الْبَوْل وَالنَّمِيمَة " قَالَ أَبُو مُوسَى : هَذَا وَإِنْ كَانَ لَيْسَ بِقَوِيٍّ لَكِنَّ مَعْنَاهُ صَحِيح ; لِأَنَّهُمَا لَوْ كَانَا مُسْلِمَيْنِ لَمَا كَانَ لِشَفَاعَتِهِ إِلَى أَنْ تَيْبَس الْجَرِيدَتَانِ مَعْنًى ; وَلَكِنَّهُ لَمَّا رَآهُمَا يُعَذَّبَانِ لَمْ يَسْتَجِزْ لِلُطْفِهِ وَعَطْفه حِرْمَانهمَا مِنْ إِحْسَانه فَشَفَعَ لَهُمَا إِلَى الْمُدَّة الْمَذْكُورَة , وَجَزَمَ اِبْن الْعَطَّار فِي شَرْح الْعُمْدَة بِأَنَّهُمَا كَانَا مُسْلِمَيْنِ وَقَالَ : لَا يَجُوز أَنْ يُقَال إِنَّهُمَا كَانَا كَافِرَيْنِ لِأَنَّهُمَا لَوْ كَانَا كَافِرَيْنِ لَمْ يَدْعُ لَهُمَا بِتَخْفِيفِ الْعَذَاب وَلَا تَرَجَّاهُ لَهُمَا , وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ مِنْ خَصَائِصه لَبَيَّنَهُ , يَعْنِي كَمَا فِي قِصَّة أَبِي طَالِب.
قُلْت : وَمَا قَالَهُ أَخِيرًا هُوَ الْجَوَاب , وَمَا طَالَبَ بِهِ مِنْ الْبَيَان قَدْ حَصَلَ , وَلَا يَلْزَم التَّنْصِيص عَلَى لَفْظ الْخُصُوصِيَّة ; لَكِنَّ الْحَدِيث الَّذِي اِحْتَجَّ بِهِ أَبُو مُوسَى ضَعِيف كَمَا اِعْتَرَفَ بِهِ , وَقَدْ رَوَاهُ أَحْمَد بِإِسْنَادٍ صَحِيح عَلَى شَرْط مُسْلِم وَلَيْسَ فِيهِ سَبَب التَّعْذِيب , فَهُوَ مِنْ تَخْلِيط اِبْن لَهِيعَة , وَهُوَ مُطَابِق لِحَدِيثِ جَابِر الطَّوِيل الَّذِي قَدَّمْنَا أَنَّ مُسْلِمًا أَخْرَجَهُ , وَاحْتِمَال كَوْنهمَا كَافِرَيْنِ فِيهِ ظَاهِر.
وَأَمَّا حَدِيث الْبَاب فَالظَّاهِر مِنْ مَجْمُوع طُرُقه أَنَّهُمَا كَانَا مُسْلِمَيْنِ , فَفِي رِوَايَة اِبْن مَاجَهْ " مَرَّ بِقَبْرَيْنِ جَدِيدَيْنِ " فَانْتَفَى كَوْنهمَا فِي الْجَاهِلِيَّة , وَفِي حَدِيث أَبِي أُمَامَةَ عِنْد أَحْمَد " أَنَّهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّ بِالْبَقِيعِ فَقَالَ : مَنْ دَفَنْتُمْ الْيَوْم هَاهُنَا ؟ " فَهَذَا يَدُلّ عَلَى أَنَّهُمَا كَانَا مُسْلِمَيْنِ ; لِأَنَّ الْبَقِيع مَقْبَرَة الْمُسْلِمِينَ , وَالْخِطَاب لِلْمُسْلِمِينَ مَعَ جَرَيَان الْعَادَة بِأَنَّ كُلّ فَرِيق يَتَوَلَّاهُ مَنْ هُوَ مِنْهُمْ , وَيُقَوِّي كَوْنهمَا كَانَا مُسْلِمَيْنِ رِوَايَة أَبِي بَكْرَة عِنْد أَحْمَد وَالطَّبَرَانِيِّ بِإِسْنَادٍ صَحِيح " يُعَذَّبَانِ , وَمَا يُعَذَّبَانِ فِي كَبِير " وَ " بَلَى وَمَا يُعَذَّبَانِ إِلَّا فِي الْغِيبَة وَالْبَوْل " فَهَذَا الْحَصْر يَنْفِي كَوْنهمَا كَانَا كَافِرَيْنِ ; لِأَنَّ الْكَافِر وَإِنْ عُذِّبَ عَلَى تَرْك أَحْكَام الْإِسْلَام فَإِنَّهُ يُعَذَّب مَعَ ذَلِكَ عَلَى الْكُفْر بِلَا خِلَاف.
وَفِي هَذَا الْحَدِيث مِنْ الْفَوَائِد غَيْر مَا تَقَدَّمَ إِثْبَات عَذَاب الْقَبْر , وَسَيَأْتِي الْكَلَام عَلَيْهِ فِي الْجَنَائِز إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى.
وَفِيهِ التَّحْذِير مِنْ مُلَابَسَة الْبَوْل , وَيَلْتَحِق بِهِ غَيْره مِنْ النَّجَاسَات فِي الْبَدَن وَالثَّوْب , وَيُسْتَدَلّ بِهِ عَلَى وُجُوب إِزَالَة النَّجَاسَة , خِلَافًا لِمَنْ خَصَّ الْوُجُوب بِوَقْتِ إِرَادَة الصَّلَاة , وَاَللَّه أَعْلَم.


حديث يعذبان وما يعذبان في كبير ثم قال بلى كان أحدهما لا يستتر من بوله وكان

الحديث بالسند الكامل مع التشكيل

‏ ‏حَدَّثَنَا ‏ ‏عُثْمَانُ ‏ ‏قَالَ حَدَّثَنَا ‏ ‏جَرِيرٌ ‏ ‏عَنْ ‏ ‏مَنْصُورٍ ‏ ‏عَنْ ‏ ‏مُجَاهِدٍ ‏ ‏عَنْ ‏ ‏ابْنِ عَبَّاسٍ ‏ ‏قَالَ ‏ ‏مَرَّ النَّبِيُّ ‏ ‏صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ‏ ‏بِحَائِطٍ ‏ ‏مِنْ حِيطَانِ ‏ ‏الْمَدِينَةِ ‏ ‏أَوْ ‏ ‏مَكَّةَ ‏ ‏فَسَمِعَ صَوْتَ إِنْسَانَيْنِ يُعَذَّبَانِ فِي قُبُورِهِمَا فَقَالَ النَّبِيُّ ‏ ‏صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ‏ ‏يُعَذَّبَانِ وَمَا يُعَذَّبَانِ فِي كَبِيرٍ ثُمَّ قَالَ بَلَى كَانَ أَحَدُهُمَا لَا يَسْتَتِرُ مِنْ بَوْلِهِ وَكَانَ الْآخَرُ يَمْشِي ‏ ‏بِالنَّمِيمَةِ ‏ ‏ثُمَّ دَعَا ‏ ‏بِجَرِيدَةٍ ‏ ‏فَكَسَرَهَا كِسْرَتَيْنِ فَوَضَعَ عَلَى كُلِّ قَبْرٍ مِنْهُمَا كِسْرَةً فَقِيلَ لَهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ لِمَ فَعَلْتَ هَذَا قَالَ لَعَلَّهُ أَنْ يُخَفَّفَ عَنْهُمَا مَا لَمْ تَيْبَسَا أَوْ إِلَى أَنْ يَيْبَسَا ‏

كتب الحديث النبوي الشريف

المزيد من أحاديث صحيح البخاري

إذا تبرز لحاجته أتيته بماء فيغسل به

عن أنس بن مالك، قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم «إذا تبرز لحاجته، أتيته بماء فيغسل به»

إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير أما أحدهما فكان ل...

عن ابن عباس قال: مر النبي صلى الله عليه وسلم بقبرين، فقال: «إنهما ليعذبان، وما يعذبان في كبير، أما أحدهما فكان لا يستتر من البول، وأما الآخر فكان يمشي...

دعوه حتى إذا فرغ دعا بماء فصبه عليه

عن أنس بن مالك، أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى أعرابيا يبول في المسجد فقال: «دعوه حتى إذا فرغ دعا بماء فصبه عليه»

دعوه وهريقوا على بوله سجلا من ماء أو ذنوبا من ماء...

عن أبي هريرة، قال: قام أعرابي فبال في المسجد، فتناوله الناس، فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: «دعوه وهريقوا على بوله سجلا من ماء، أو ذنوبا من ماء،...

أمر النبي ﷺ بذنوب من ماء فأهريق عليه

عن أنس بن مالك قال: جاء أعرابي فبال في طائفة المسجد، فزجره الناس، «فنهاهم النبي صلى الله عليه وسلم فلما قضى بوله أمر النبي صلى الله عليه وسلم بذنوب من...

بال على ثوبه فدعا بماء فأتبعه إياه

عن عائشة أم المؤمنين أنها قالت: «أتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بصبي، فبال على ثوبه، فدعا بماء فأتبعه إياه»

فبال على ثوبه فدعا بماء فنضحه ولم يغسله

عن أم قيس بنت محصن، أنها «أتت بابن لها صغير، لم يأكل الطعام، إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأجلسه رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجره، فبال على ث...

بال قائما ثم دعا بماء فجئته بماء فتوضأ

عن حذيفة، قال «أتى النبي صلى الله عليه وسلم سباطة قوم فبال قائما، ثم دعا بماء فجئته بماء فتوضأ»

بال فانتبذت منه فأشار إلي فجئته فقمت عند عقبه حتى...

عن حذيفة، قال: «رأيتني أنا والنبي صلى الله عليه وسلم نتماشى، فأتى سباطة قوم خلف حائط، فقام كما يقوم أحدكم، فبال، فانتبذت منه، فأشار إلي فجئته، فقمت عن...