2787- عن أبي هريرة، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «مثل المجاهد في سبيل الله، والله أعلم بمن يجاهد في سبيله، كمثل الصائم القائم، وتوكل الله للمجاهد في سبيله، بأن يتوفاه أن يدخله الجنة، أو يرجعه سالما مع أجر أو غنيمة»
(أعلم بمن يجاهد في سبيله) الله أعلم بنيته إن كانت خالصة لإعلاء كلمته.
(كمثل الصائم القائم) من حيث الأجر والمنزلة لأنه مثله في حبس نفسه عن شهواتها.
(توكل) ضمن وتكفل على وجه التفضل منه سبحانه.
(مع أجر) وحده إذا لم توجد غنيمة.
(أو غنيمة) إن وجدت مع تحقيق الأجر
فتح الباري شرح صحيح البخاري: ابن حجر العسقلاني - أحمد بن علي بن حجر العسقلاني
قَوْله : ( مَثَل الْمُجَاهِد فِي سَبِيل اللَّه وَاَللَّه أَعْلَم بِمَنْ يُجَاهِد فِي سَبِيله ) فِيهِ إِشَارَة إِلَى اِعْتِبَار الْإِخْلَاص , وَسَيَأْتِي بَيَانه فِي حَدِيث أَبِي مُوسَى بَعْد اِثْنَيْ عَشَر بَابًا.
قَوْله : ( كَمَثَلِ الصَّائِم الْقَائِم ) , وَلِمُسْلِمٍ مِنْ طَرِيق أَبِي صَالِح عَنْ أَبِي هُرَيْرَة " كَمَثَلِ الصَّائِم الْقَائِم الْقَانِت بِآيَاتِ اللَّه لَا يَفْتُر مِنْ صَلَاة وَلَا صِيَام , زَادَ النَّسَائِيُّ مِنْ هَذَا الْوَجْه " الْخَاشِع الرَّاكِع السَّاجِد " وَفِي الْمُوَطَّأ وَابْن حِبَّانَ " كَمَثَلِ الصَّائِم الْقَائِم الدَّائِم الَّذِي لَا يَفْتُر مِنْ صِيَام وَلَا صَلَاة حَتَّى يَرْجِع , وَلِأَحْمَد وَالْبَزَّار مِنْ حَدِيث النُّعْمَان بْن بَشِير مَرْفُوعًا " مَثَل الْمُجَاهِد فِي سَبِيل اللَّه كَمَثَلِ الصَّائِم نَهَاره الْقَائِم لَيْله " وَشَبَّهَ حَال الصَّائِم الْقَائِم بِحَالِ الْمُجَاهِد فِي سَبِيل اللَّه فِي نَيْل الثَّوَاب فِي كُلّ حَرَكَة وَسُكُون لِأَنَّ الْمُرَاد مِنْ الصَّائِم الْقَائِم مِنْ لَا يَفْتُر سَاعَة عَنْ الْعِبَادَة فَأَجْره مُسْتَمِرّ , وَكَذَلِكَ الْمُجَاهِد لَا تَضِيع سَاعَة مِنْ سَاعَاته بِغَيْرِ ثَوَاب لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ حَدِيث " أَنَّ الْمُجَاهِد لَتَسْتَنّ فَرَسه فَيُكْتَب لَهُ حَسَنَات " وَأَصْرَح مِنْهُ قَوْله تَعَالَى ( ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبهُمْ ظَمَأ وَلَا نَصَب ) الْآيَتَيْنِ.
قَوْله : ( وَتَوَكَّلَ اللَّه إِلَخْ ) تَقَدَّمَ مَعْنَاهُ مُفْرَدًا فِي كِتَاب الْإِيمَان مِنْ طَرِيق أَبِي زُرْعَة عَنْ أَبِي هُرَيْرَة وَسِيَاقه أَتَمّ , وَلَفْظه " اِنْتَدَبَ اللَّه " , وَلِمُسْلِمٍ مِنْ هَذَا الْوَجْه بِلَفْظِ " تَضَمَّنَ اللَّه لِمَنْ خَرَجَ فِي سَبِيله لَا يُخْرِجهُ إِلَّا إِيمَان بِي " وَفِيهِ اِلْتِفَات وَإِنَّ فِيهِ اِنْتِقَالًا مِنْ ضَمِير الْحُضُور إِلَى ضَمِير الْغَيْبَة.
وَقَالَ اِبْن مَالِك : فِيهِ حَذْف الْقَوْل وَالِاكْتِفَاء بِالْمَقُولِ , وَهُوَ سَائِغ شَائِع سَوَاء كَانَ حَالًا أَوْ غَيْر حَال , فَمِنْ الْحَال قَوْله تَعَالَى ( وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبّنَا وَسِعْت ) أَيْ قَائِلِينَ رَبّنَا , وَهَذَا مِثْله أَيْ قَائِلًا لَا يُخْرِجهُ إِلَخْ , وَقَدْ اِخْتَلَفَتْ الطُّرُق عَنْ أَبِي هُرَيْرَة فِي سِيَاقه , فَرَوَاهُ مُسْلِم مِنْ طَرِيق الْأَعْرَج عَنْهُ بِلَفْظِ " تَكَفَّلَ اللَّه لِمَنْ جَاهَدَ فِي سَبِيله لَا يُخْرِجهُ مِنْ بَيْته إِلَّا جِهَاد فِي سَبِيله وَتَصْدِيق كَلِمَته " وَسَيَأْتِي كَذَلِكَ مِنْ طَرِيق أَبِي الزِّنَاد فِي كِتَاب الْخُمُس , وَكَذَلِكَ أَخْرَجَهُ مَالِك فِي الْمُوَطَّأ عَنْ أَبِي الزِّنَاد فِي كِتَاب الْخُمُس , وَأَخْرَجَهُ الدَّارِمِيُّ مِنْ وَجْه آخَر عَنْ أَبِي الزِّنَاد بِلَفْظِ " لَا يُخْرِجهُ إِلَّا الْجِهَاد فِي سَبِيل اللَّه وَتَصْدِيق كَلِمَاته " , نَعَمْ أَخْرَجَهُ أَحْمَد وَالنَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيث اِبْن عُمَر , فَوَقَعَ فِي رِوَايَته التَّصْرِيح بِأَنَّهُ مِنْ الْأَحَادِيث الْإِلَهِيَّة , وَلَفْظه " عَنْ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا يَحْكِي عَنْ رَبّه قَالَ : أَيّمَا عَبْد مِنْ عِبَادِي خَرَجَ مُجَاهِدًا فِي سَبِيل اِبْتِغَاء مَرْضَاتِي ضَمِنْت لَهُ إِنْ رَجَعْته أَنْ أَرْجِعهُ بِمَا أَصَابَ مِنْ أَجْر أَوْ غَنِيمَة " الْحَدِيث رِجَاله ثِقَات , وَأَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيّ مِنْ حَدِيث عُبَادَةَ بِلَفْظِ " يَقُول اللَّه عَزَّ وَجَلَّ : الْمُجَاهِد فِي سَبِيلِي هُوَ عَلَيَّ ضَامِن إِنْ رَجَّعْته رَجَّعْته بِأَجْرٍ أَوْ غَنِيمَة " الْحَدِيث وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيّ , وَقَوْله " تَضَمَّنَ اللَّه وَتَكَفَّلَ اللَّه وَانْتَدَبَ اللَّه " بِمَعْنًى وَاحِد , وَمُحَصِّله تَحْقِيق الْوَعْد الْمَذْكُور فِي قَوْله تَعَالَى ( إِنَّ اللَّه اِشْتَرَى مِنْ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسهمْ وَأَمْوَالهمْ بِأَنَّ لَهُمْ الْجَنَّة ) وَذَلِكَ التَّحْقِيق عَلَى وَجْه الْفَضْل مِنْهُ سُبْحَانه وَتَعَالَى , وَقَدْ عَبَّرَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ اللَّه سُبْحَانه وَتَعَالَى بِتَفْضِيلِهِ بِالثَّوَابِ بِلَفْظِ الضَّمَان وَنَحْوه مِمَّا جَرَتْ بِهِ عَادَة الْمُخَاطَبِينَ فِيمَا تَطْمَئِنّ بِهِ نُفُوسهمْ , وَقَوْله " لَا يُخْرِجهُ إِلَّا الْجِهَاد " نَصَّ عَلَى اِشْتِرَاط خُلُوص النِّيَّة فِي الْجِهَاد , وَسَيَأْتِي بَسْط الْقَوْل فِيهِ بَعْد أَحَد عَشَر بَابًا , وَقَوْله " فَهُوَ عَلَيَّ ضَامِن " أَيْ مَضْمُون , أَوْ مَعْنَاهُ أَنَّهُ ذُو ضَمَان.
قَوْله : ( بِأَنْ يَتَوَفَّاهُ أَنْ يُدْخِلهُ الْجَنَّة ) أَيْ بِأَنْ يُدْخِلهُ الْجَنَّة إِنْ تَوَفَّاهُ , فِي رِوَايَة أَبِي زُرْعَة الدِّمَشْقِيّ عَنْ أَبِي الْيَمَان " أَنْ تَوَفَّاهُ " بِالشَّرْطِيَّةِ وَالْفِعْل الْمَاضِي أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ وَهُوَ أَوْضَح.
قَوْله : ( أَنْ يُدْخِلهُ الْجَنَّة ) أَيْ بِغَيْرِ حِسَاب وَلَا عَذَاب , أَوْ الْمُرَاد أَنْ يُدْخِلهُ الْجَنَّة سَاعَة مَوْته , كَمَا وَرَدَ " أَنَّ أَرْوَاح الشُّهَدَاء تَسْرَح فِي الْجَنَّة " وَبِهَذَا التَّقْرِير يَنْدَفِع إِيرَاد مَنْ قَالَ : ظَاهِر الْحَدِيث التَّسْوِيَة بَيْن الشَّهِيد وَالرَّاجِع سَالِمًا لِأَنَّ حُصُول الْأَجْر يَسْتَلْزِم دُخُول الْجَنَّة , وَمُحَصَّل الْجَوَاب أَنَّ الْمُرَاد بِدُخُولِ الْجَنَّة دُخُول خَاصّ.
قَوْله : ( أَوْ يَرْجِعهُ ) بِفَتْحِ أَوَّله , وَهُوَ مَنْصُوب بِالْعَطْفِ عَلَى يَتَوَفَّاهُ.
قَوْله : ( مَعَ أَجْر أَوْ غَنِيمَة ) أَيْ مَعَ أَجْر خَالِص إِنْ لَمْ يَغْنَم شَيْئًا أَوْ مَعَ غَنِيمَة خَالِصَة مَعَهَا أَجْر , وَكَأَنَّهُ سَكَتَ عَنْ الْأَجْر الثَّانِي الَّذِي مَعَ الْغَنِيمَة لِنَقْصِهِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْأَجْر الَّذِي بِلَا غَنِيمَة , وَالْحَامِل عَلَى هَذَا التَّأْوِيل أَنَّ ظَاهِر الْحَدِيث أَنَّهُ إِذَا غَنِمَ لَا يَحْصُل لَهُ أَجْر , وَلَيْسَ ذَلِكَ مُرَادًا بَلْ الْمُرَاد أَوْ غَنِيمَة مَعَهَا أَجْر أَنْقَص مِنْ أَجْر مَنْ لَمْ يَغْنَم , لِأَنَّ الْقَوَاعِد تَقْتَضِي أَنَّهُ عِنْد عَدَم الْغَنِيمَة أَفْضَل مِنْهُ وَأَتَمّ أَجْرًا عِنْد وُجُودهَا , فَالْحَدِيث صَرِيح فِي نَفْي الْحِرْمَان وَلَيْسَ صَرِيحًا فِي نَفْي الْجَمْع.
وَقَالَ الْكَرْمَانِيُّ : مَعْنَى الْحَدِيث أَنَّ الْمُجَاهِد إِمَّا يَسْتَشْهِد أَوْ لَا , وَالثَّانِي لَا يَنْفَكّ مِنْ أَجْر أَوْ غَنِيمَة ثُمَّ إِمْكَان اِجْتِمَاعهمَا , فَهِيَ قَضِيَّة مَانِعَة الْخُلُوّ لَا الْجَمْع , وَقَدْ قِيلَ فِي الْجَوَاب عَنْ هَذَا الْإِشْكَال : إِنَّ أَوْ بِمَعْنَى الْوَاو , وَبِهِ جَزَمَ اِبْن عَبْد الْبَرّ وَالْقُرْطُبِيّ وَرَجَّحَهَا التُّورْبَشْتِيُّ , وَالتَّقْدِير بِأَجْرٍ وَغَنِيمَة.
وَقَدْ وَقَعَ كَذَلِكَ فِي رِوَايَة لِمُسْلِمٍ مِنْ طَرِيق الْأَعْرَج عَنْ أَبِي هُرَيْرَة رَوَاهُ كَذَلِكَ عَنْ يَحْيَى بْن يَحْيَى عَنْ مُغِيرَة بْن عَبْد الرَّحْمَن عَنْ أَبِي الزِّنَاد , وَقَدْ رَوَاهُ جَعْفَر الْفِرْيَابِيّ وَجَمَاعَة عَنْ يَحْيَى بْن يَحْيَى فَقَالُوا : أَجْر أَوْ غَنِيمَة بِصِيغَةِ أَوْ , وَقَدْ رَوَاهُ مَالِك فِي الْمُوَطَّأ بِلَفْظِ " أَوْ غَنِيمَة " وَلَمْ يُخْتَلَف عَلَيْهِ إِلَّا فِي رِوَايَة يَحْيَى بْن بُكَيْرٍ عَنْهُ فَوَقَعَ فِيهِ بِلَفْظِ " وَغَنِيمَة " وَرِوَايَة يَحْيَى بْن بُكَيْرٍ عَنْ مَالِك فِيهَا مَقَال.
وَوَقَعَ عِنْد النَّسَائِيِّ مِنْ طَرِيق الزُّهْرِيِّ عَنْ سَعِيد بْن الْمُسَيِّب عَنْ أَبِي هُرَيْرَة بِالْوَاوِ أَيْضًا وَكَذَا مِنْ طَرِيق عَطَاء بْن مِينَاء عَنْ أَبِي هُرَيْرَة وَكَذَلِكَ أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ بِإِسْنَادٍ صَحِيح عَنْ أَبِي أُمَامَةَ بِلَفْظِ : " بِمَا نَالَ مِنْ أَجْر وَغَنِيمَة " فَإِنْ كَانَتْ هَذِهِ الرِّوَايَات مَحْفُوظَة تَعَيَّنَ الْقَوْل بِأَنَّ " أَوْ " فِي هَذَا الْحَدِيث بِمَعْنَى الْوَاو كَمَا هُوَ مَذْهَب نُحَاة الْكُوفِيِّينَ , لَكِنْ فِيهِ إِشْكَال صَعْب لِأَنَّهُ يَقْتَضِي مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى أَنْ يَكُون الضَّمَان وَقَعَ بِمَجْمُوعِ الْأَمْرَيْنِ لِكُلِّ مَنْ رَجَعَ , وَقَدْ لَا يَتَّفِق ذَلِكَ فَإِنَّ كَثِيرًا مِنْ الْغُزَاة يَرْجِع بِغَيْرِ غَنِيمَة , فَمَا فَرَّ مِنْهُ الَّذِي اِدَّعَى أَنَّ " أَوْ " بِمَعْنَى الْوَاو وَقَعَ فِي نَظِيره لِأَنَّهُ يَلْزَم عَلَى ظَاهِرهَا أَنَّ مَنْ رَجَعَ بِغَنِيمَةٍ بِغَيْرِ أَجْر , كَمَا يَلْزَم عَلَى أَنَّهَا بِمَعْنَى الْوَاو أَنَّ كُلّ غَازٍ يُجْمَع لَهُ بَيْن الْأَجْر وَالْغَنِيمَة مَعًا , وَقَدْ رَوَى مُسْلِم مِنْ حَدِيث عَبْد اللَّه بْن عَمْرو بْن الْعَاصِ مَرْفُوعًا " مَا مِنْ غَازِيَة تَغْزُو فِي سَبِيل اللَّه فَيُصِيبُونَ الْغَنِيمَة إِلَّا تَعَجَّلُوا ثُلُثَيْ أَجْرهمْ مِنْ الْآخِرَة وَيَبْقَى لَهُمْ الثُّلُث , فَإِنْ لَمْ يُصِيبُوا غَنِيمَة تَمَّ لَهُمْ أَجْرهمْ " وَهَذَا يُؤَيِّد التَّأْوِيل الْأَوَّل وَأَنَّ الَّذِي يَغْنَم يَرْجِع بِأَجْرٍ لَكِنَّهُ أَنْقَص مِنْ أَجْر مَنْ لَمْ يَغْنَم , فَتَكُون الْغَنِيمَة فِي مُقَابَلَة جُزْء مِنْ أَجْر الْغَزْو , فَإِذَا قُوبِلَ أَجْر الْغَانِم بِمَا حَصَلَ لَهُ مِنْ الدُّنْيَا وَتَمَتُّعه بِأَجْرِ مَنْ لَمْ يَغْنَم مَعَ اِشْتِرَاكهمَا فِي التَّعَب وَالْمَشَقَّة كَانَ أَجْر مَنْ غَنِمَ دُون أَجْر مَنْ لَمْ يَغْنَم , وَهَذَا مُوَافِق لِقَوْلِ خَبَّاب فِي الْحَدِيث الصَّحِيح الْآتِي " فَمِنَّا مَنْ مَاتَ وَلَمْ يَأْكُل مِنْ أَجْره شَيْئًا " الْحَدِيث.
وَاسْتَشْكَلَ بَعْضهمْ نَقْص ثَوَاب الْمُجَاهِد بِأَخْذِهِ الْغَنِيمَة , وَهُوَ مُخَالِف لِمَا يَدُلّ عَلَيْهِ أَكْثَر الْأَحَادِيث , وَقَدْ اِشْتَهَرَ تَمَدُّح النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِحِلِّ الْغَنِيمَة وَجَعَلَهَا مِنْ فَضَائِل أُمَّته , فَلَوْ كَانَتْ تُنْقِص الْأَجْر مَا وَقَعَ التَّمَدُّح بِهَا.
وَأَيْضًا فَإِنَّ ذَلِكَ يَسْتَلْزِم أَنْ يَكُون أَجْر أَهْل بَدْر أَنْقَص مِنْ أَجْر أَهْل أُحُد مَثَلًا مَعَ أَنَّ أَهْل بَدْر أَفْضَل بِالِاتِّفَاقِ.
وَسَبَقَ إِلَى هَذَا الْإِشْكَال اِبْن عَبْد الْبَرّ , وَحَكَاهُ عِيَاض وَذَكَرَ أَنَّ بَعْضهمْ أَجَابَ عَنْهُ بِأَنَّهُ ضَعَّفَ حَدِيث عَبْد اللَّه بْن عَمْرو لِأَنَّهُ مِنْ رِوَايَة حُمَيْدٍ بْن هَانِئ وَلَيْسَ بِمَشْهُورٍ , وَهَذَا مَرْدُود لِأَنَّهُ ثِقَة يُحْتَجّ بِهِ عِنْد مُسْلِم , وَقَدْ وَثَّقَهُ النَّسَائِيُّ وَابْن يُونُس وَغَيْرهمَا وَلَا يُعْرَف فِيهِ تَجْرِيح لِأَحَدٍ.
وَمِنْهُمْ مَنْ حَمَلَ نَقْص الْأَجْر عَلَى غَنِيمَة أُخِذَتْ عَلَى غَيْر وَجْههَا , وَظُهُور فَسَاد هَذَا الْوَجْه يُغْنِي عَنْ الْإِطْنَاب فِي رَدّه , إِذْ لَوْ كَانَ الْأَمْر كَذَلِكَ لَمْ يَبْقَ لَهُمْ ثُلُث الْأَجْر وَلَا أَقَلّ مِنْهُ , وَمِنْهُمْ مَنْ حَمَلَ نَقْص الْأَجْر عَلَى مَنْ قَصَدَ الْغَنِيمَة فِي اِبْتِدَاء جِهَاده وَحَمَلَ تَمَامه عَلَى مَنْ قَصَدَ الْجِهَاد مَحْضًا , وَفِيهِ نَظَر لِأَنَّ صَدْر الْحَدِيث مُصَرِّح بِأَنَّ الْمُقْسِم رَاجِع إِلَى مَنْ أَخْلَصَ لِقَوْلِهِ فِي أَوَّله " لَا يُخْرِجهُ إِلَّا إِيمَان بِي وَتَصْدِيق بِرُسُلِي ".
وَقَالَ عِيَاض : الْوَجْه عِنْدِي إِجْرَاء الْحَدِيثَيْنِ عَلَى ظَاهِرهمَا وَاسْتِعْمَالهمَا عَلَى وَجْههمَا.
وَلَمْ يُجِبْ عَنْ الْإِشْكَال الْمُتَعَلِّق بِأَهْلِ بَدْر.
وَقَالَ اِبْن دَقِيق الْعِيد : لَا تَعَارُض بَيْن الْحَدِيثَيْنِ , بَلْ الْحُكْم فِيهِمَا جَارٍ عَلَى الْقِيَاس لِأَنَّ الْأُجُور تَتَفَاوَت بِحَسَبِ زِيَادَة الْمَشَقَّة فِيمَا كَانَ أَجْره بِحَسَبِ مَشَقَّته , إِذْ لِلْمَشَقَّةِ دُخُول فِي الْأَجْر , وَإِنَّمَا الْمُشْكِل الْعَمَل الْمُتَّصِل بِأَخْذِ الْغَنَائِم , يَعْنِي فَلَوْ كَانَتْ تُنْقِص الْأَجْر لَمَا كَانَ السَّلَف الصَّالِح يُثَابِرُونَ عَلَيْهَا , فَيُمْكِن أَنْ يُجَاب بِأَنَّ أَخْذهَا مِنْ جِهَة تَقْدِيم بَعْض الْمَصَالِح الْجُزْئِيَّة عَلَى بَعْض لِأَنَّ أَخْذ الْغَنَائِم أَوَّل مَا شَرَعَ كَانَ عَوْنًا عَلَى الدِّين وَقُوَّة لِضُعَفَاء الْمُسْلِمِينَ , وَهِيَ مَصْلَحَة عُظْمَى يُغْتَفَر لَهَا بَعْض النَّقْص فِي الْأَجْر مِنْ حَيْثُ هُوَ.
وَأَمَّا الْجَوَاب عَمَّنْ اِسْتَشْكَلَ ذَلِكَ بِحَالِ أَهْل بَدْر فَاَلَّذِي يَنْبَغِي أَنْ يَكُون التَّقَابُل بَيْن كَمَالِ الْأَجْر وَنُقْصَانه لِمَنْ يَغْزُو بِنَفْسِهِ إِذَا لَمْ يَغْنَم أَوْ يَغْزُو فَيَغْنَم , فَغَايَته أَنَّ حَال أَهْل بَدْر مَثَلًا عِنْد عَدَم الْغَنِيمَة أَفْضَل مِنْهُ عِنْد وُجُودهَا وَلَا يَنْفِي ذَلِكَ أَنْ يَكُون حَالهمْ أَفْضَل مِنْ حَال غَيْرهمْ مِنْ جِهَة أُخْرَى , وَلَمْ يَرِد فِيهِمْ نَصّ أَنَّهُمْ لَوْ لَمْ يَغْنَمُوا كَانَ أَجْرهمْ بِحَالِهِ مِنْ غَيْر زِيَادَة , وَلَا يَلْزَم مِنْ كَوْنه مَغْفُورًا لَهُمْ وَأَنَّهُمْ أَفْضَل الْمُجَاهِدِينَ أَنْ لَا يَكُون وَرَاءَهُمْ مَرْتَبَة أُخْرَى.
وَأَمَّا الِاعْتِرَاض بِحِلِّ الْغَنَائِم فَغَيْر وَارِد , إِذْ لَا يَلْزَم مِنْ الْحِلّ ثُبُوت وَفَاء الْأَجْر لِكُلِّ غَازٍ , وَالْمُبَاح فِي الْأَصْل لَا يَسْتَلْزِم الثَّوَاب بِنَفْسِهِ , لَكِنْ ثَبَتَ أَنَّ أَخْذ الْغَنِيمَة وَاسْتِيلَاءَهَا مِنْ الْكُفَّار يَحْصُل الثَّوَاب , وَمَعَ ذَلِكَ فَمَعَ صِحَّة ثُبُوت الْفَضْل فِي أَخْذ الْغَنِيمَة وَصِحَّة التَّمَدُّح بِأَخْذِهَا لَا يَلْزَم مِنْ ذَلِكَ أَنَّ كُلّ غَازٍ يَحْصُل لَهُ مِنْ أَجْر غَزَاته نَظِير مَنْ لَمْ يَغْنَم شَيْئًا الْبَتَّة قُلْت : وَاَلَّذِي مَثَّلَ بِأَهْلِ بَدْر أَرَادَ التَّهْوِيل , وَإِلَّا فَالْأَمْر عَلَى مَا تَقَرَّرَ آخِرًا بِأَنَّهُ لَا يَلْزَم مِنْ كَوْنهمْ مَعَ أَخْذ الْغَنِيمَة أَنْقَص أَجْرًا مِمَّا لَوْ لَمْ يَحْصُل لَهُمْ أَجْر الْغَنِيمَة أَنْ يَكُونُوا فِي حَال أَخْذهمْ الْغَنِيمَة مَفْضُولِينَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَنْ بَعْدهمْ كَمَنْ شَهِدَ أُحُدًا لِكَوْنِهِمْ لَمْ يَغْنَمُوا شَيْئًا بَلْ أَجْر الْبَدْرِيّ فِي الْأَصْل أَضْعَاف أَجْر مَنْ بَعْده , مِثَال ذَلِكَ أَنْ يَكُون لَوْ فُرِضَ أَنَّ أَجْر الْبَدْرِيّ بِغَيْرِ غَنِيمَة سَتّمَائَةٍ وَأَجْر الْأُحُدِيّ مَثَلًا بِغَيْرِ غَنِيمَة مِائَة فَإِذَا نَسَبنَا ذَلِكَ بِاعْتِبَارِ حَدِيث عَبْد اللَّه بْن عَمْرو كَانَ لِلْبَدْرِيِّ لِكَوْنِهِ أَخَذَ الْغَنِيمَة مِائَتَانِ وَهِيَ ثُلُث السِّتّمِائَةِ فَيَكُون أَكْثَر أَجْرًا مِنْ الْأُحُدِيّ , وَإِنَّمَا اِمْتَازَ أَهْل بَدْر بِذَلِكَ لِكَوْنِهَا أَوَّل غَزْوَة شَهِدَهَا النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قِتَال الْكُفَّار وَكَانَ مَبْدَأ اِشْتِهَار الْإِسْلَام وَقُوَّة أَهْله , فَكَانَ لِمَنْ شَهِدَهَا مِثْل أَجْر مَنْ شَهِدَ الْمَغَازِي الَّتِي بَعْدهَا جَمِيعًا , فَصَارَتْ لَا يُوَازِيهَا شَيْء فِي الْفَضْل وَاَللَّه أَعْلَم.
وَاخْتَارَ اِبْن عَبْد الْبَرّ أَنَّ الْمُرَاد بِنَقْصِ أَجْر مَنْ غَنِمَ أَنَّ الَّذِي لَا يَغْنَم يَزْدَاد أَجْره لِحُزْنِهِ عَلَى مَا فَاتَهُ مِنْ الْغَنِيمَة , كَمَا يُؤْجَر مَنْ أُصِيبَ بِمَا لَهُ فَكَانَ الْأَجْر لِمَا نَقَصَ عَنْ الْمُضَاعَفَة بِسَبَبِ الْغَنِيمَة عِنْد ذَلِكَ كَالنَّقْصِ مِنْ أَصْل الْأَجْر , وَلَا يَخْفَى مُبَايَنَة هَذَا التَّأْوِيل لِسِيَاقِ حَدِيث عَبْد اللَّه بْن عَمْرو الَّذِي تَقَدَّمَ ذِكْره.
وَذَكَرَ بَعْض الْمُتَأَخِّرِينَ لِلتَّعْبِيرِ بِثُلُثَيْ الْأَجْر فِي حَدِيث عَبْد اللَّه اِبْن عَمْرو حِكْمَة لَطِيفَة بَالِغَة وَذَلِكَ أَنَّ اللَّه أَعَدَّ لِلْمُجَاهِدِينَ ثَلَاث كَرَامَات : دُنْيَوِيَّتَانِ وَأُخْرَوِيَّة , فَالدُّنْيَوِيَّتَانِ السَّلَامَة وَالْغَنِيمَة وَالْأُخْرَوِيَّة دُخُول الْجَنَّة , فَإِذَا رَجَعَ سَالِمًا غَانِمًا فَقَدْ حَصَلَ لَهُ ثُلُثَا مَا أَعَدَّ اللَّه لَهُ وَبَقِيَ لَهُ عِنْد اللَّه الثُّلُث , وَإِنْ رَجَعَ بِغَيْرِ غَنِيمَة عَوَّضَهُ اللَّه عَنْ ذَلِكَ ثَوَابًا فِي مُقَابَلَة مَا فَاتَهُ , وَكَأَنَّ مَعْنَى الْحَدِيث أَنَّهُ يُقَال لِلْمُجَاهِدِ : إِذَا فَاتَ عَلَيْك شَيْء مِنْ أَمْر الدُّنْيَا عَوَّضْتُك عَنْهُ ثَوَابًا.
وَأَمَّا الثَّوَاب الْمُخْتَصّ بِالْجِهَادِ فَهُوَ حَاصِل لِلْفَرِيقَيْنِ مَعًا , قَالَ : وَغَايَة مَا فِيهِ عَدّ مَا يَتَعَلَّق بِالنِّعْمَتَيْنِ الدُّنْيَوِيَّتَيْنِ أَجْرًا بِطَرِيقِ الْمَجَاز وَاَللَّه أَعْلَم.
وَفِي الْحَدِيث أَنَّ الْفَضَائِل لَا تُدْرَك دَائِمًا بِالْقِيَاسِ , بَلْ هِيَ بِفَضْلِ اللَّه.
وَفِيهِ اِسْتِعْمَال التَّمْثِيل فِي الْأَحْكَام , وَأَنَّ الْأَعْمَال الصَّالِحَة لَا تَسْتَلْزِم الثَّوَاب لِأَعْيَانِهَا , وَإِنَّمَا تَحْصُل بِالنِّيَّةِ الْخَالِصَة إِجْمَالًا وَتَفْصِيلًا , وَاَللَّه أَعْلَم.
حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ أَخْبَرَنِي سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ مَثَلُ الْمُجَاهِدِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَنْ يُجَاهِدُ فِي سَبِيلِهِ كَمَثَلِ الصَّائِمِ الْقَائِمِ وَتَوَكَّلَ اللَّهُ لِلْمُجَاهِدِ فِي سَبِيلِهِ بِأَنْ يَتَوَفَّاهُ أَنْ يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ أَوْ يَرْجِعَهُ سَالِمًا مَعَ أَجْرٍ أَوْ غَنِيمَةٍ
عن أنس بن مالك رضي الله عنه، أنه سمعه يقول: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدخل على أم حرام بنت ملحان فتطعمه - وكانت أم حرام تحت عبادة بن الصامت - ف...
عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من آمن بالله وبرسوله، وأقام الصلاة، وصام رمضان كان حقا على الله أن يدخله الجنة، جاه...
عن سمرة، قال النبي صلى الله عليه وسلم: " رأيت الليلة رجلين أتياني، فصعدا بي الشجرة فأدخلاني دارا هي أحسن وأفضل، لم أر قط أحسن منها، قالا: أما هذه الدا...
عن أنس بن مالك رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لغدوة في سبيل الله أو روحة، خير من الدنيا وما فيها»
عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لقاب قوس في الجنة، خير مما تطلع عليه الشمس وتغرب»
عن سهل بن سعد رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الروحة والغدوة في سبيل الله أفضل من الدنيا وما فيها»
عن أنس بن مالك رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما من عبد يموت، له عند الله خير، يسره أن يرجع إلى الدنيا، وأن له الدنيا وما فيها، إلا ا...
عن أنس بن مالك، عن النبي صلى الله عليه وسلم: «لروحة في سبيل الله، أو غدوة، خير من الدنيا وما فيها، ولقاب قوس أحدكم من الجنة، أو موضع قيد - يعني سوطه -...
عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «والذي نفسي بيده لولا أن رجالا من المؤمنين لا تطيب أنفسهم أن يتخلفوا عني، ولا أجد...