968-
عن يحيى بن سعيد، أن أبا بكر الصديق بعث جيوشا إلى الشام.
فخرج يمشي مع يزيد بن أبي سفيان وكان أمير ربع من تلك الأرباع.
فزعموا أن يزيد قال لأبي بكر: إما أن تركب، وإما أن أنزل.
فقال أبو بكر «ما أنت بنازل، وما أنا براكب.
إني أحتسب خطاي هذه في سبيل الله».
ثم قال له: «إنك ستجد قوما زعموا أنهم حبسوا أنفسهم لله.
فذرهم وما زعموا أنهم حبسوا أنفسهم له.
وستجد قوما فحصوا عن أوساط رءوسهم من الشعر.
فاضرب ما فحصوا عنه بالسيف».
وإني موصيك بعشر: «لا تقتلن امرأة، ولا صبيا، ولا كبيرا هرما، ولا تقطعن شجرا مثمرا، ولا تخربن عامرا، ولا تعقرن شاة، ولا بعيرا، إلا لمأكلة.
ولا تحرقن نحلا، ولا تغرقنه، ولا تغلل ولا تجبن»
فيه إنقطاع، لأن يحيى بن سعيد لم يدرك أبا بكر
المنتقى شرح الموطإ: أبو الوليد سليمان بن خلف الباجي (المتوفى: 474هـ)
( ش ) : قَوْلُهُ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بَعَثَ جُيُوشًا إِلَى الشَّامِ فَخَرَجَ يَمْشِي مَعَ يَزِيدَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ يُحْتَمَلُ أَنَّهُ خَرَجَ مَعَهُ عَلَى سَبِيلِ الْبِرِّ لَهُ وَالتَّشْيِيعِ فَيَكُونُ ذَلِكَ سُنَّةً فِي تَشْيِيعِ الْخَارِجِ إِلَى الْغَزْوِ وَالْحَجِّ وَسُبُلِ الْبَرِّ وَأَضَافَ مَشْيَهُ إِلَى يَزِيدَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ إمَّا لِأَنَّهُ اخْتَصَّ بِمُمَاشَاتِهِ وَالْقُرْبِ مِنْهُ وَالْمُكَالَمَةِ لَهُ وَإِمَّا لِأَنَّهُ كَانَ خُرُوجُهُ بِسَبَبِهِ فَقَالَ خَرَجَ مَعَ يَزِيدَ يُشَيِّعُهُ بِمَعْنَى أَنَّهُ قَصَدَ بِخُرُوجِهِ تَشْيِيعَهُ وَإِنْ لَمْ يَخْرُجَا مَعًا.
.
( فَصْلٌ ) وَقَوْلُهُ فَزَعَمُوا أَنَّ يَزِيدَ قَالَ لِأَبِي بَكْرٍ : إمَّا أَنْ تَرْكَبَ وَإِمَّا أَنْ أَنْزِلَ عَلَى مَعْنَى الْإِكْرَامِ لِأَبِي بَكْرٍ وَالتَّوَاضُعِ لَهُ لِدِينِهِ وَفَضْلِهِ وَخِلَافَتِهِ لِئَلَّا تَكُونَ حَالُهُ فِي الرُّكُوبِ أَرْفَعَ مِنْ حَالِهِ فِي الْمَشْيِ وَقَوْلُ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَا أَنْتَ بِنَازِلٍ وَمَا أَنَا بِرَاكِبٍ إنِّي احْتَسَبْت خُطَايَ هَذِهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُرِيدُ أَنَّ قَصْدَهُ بِالْمَشْيِ فِي تَشْيِيعِهِمْ وَوَصِيَّتِهِمْ حِسْبَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ تَعَالَى فَلَعَلَّهُ أَرَادَ الرِّفْقَ بِهِ وَالتَّقْوِيَةَ لَهُ لِمَا يَلْقَاهُ مِنْ نَصَبِ الْعَدُوِّ وَتَعَبِ السَّفَرِ وَلِقَاءِ الْعَدُوِّ وَمُقَاوَمَتِهِ وَأَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَا يَلْقَى شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ فَلَمْ يَحْتَجْ مِنْ التَّقْوَى وَالتَّرَفُّهِ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ يَزِيدُ.
.
( فَصْلٌ ) وَقَوْلُهُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إنَّك سَتَجِدُ أَقْوَامًا زَعَمُوا أَنَّهُمْ حَبَسُوا أَنْفُسَهُمْ لِلَّهِ فَدَعْهُمْ وَمَا زَعَمُوا إنَّهُمْ حَبَسُوا أَنْفُسَهُمْ لَهُ يُرِيدُ الرُّهْبَانَ الَّذِينَ حَبَسُوا أَنْفُسَهُمْ عَنْ مُخَالَطَةِ النَّاسِ وَأَقْبَلُوا عَلَى مَا يَدَّعُونَ مِنْ الْعِبَادَةِ وَكَفُّوا عَنْ مُعَاوَنَةِ أَهْلِ مِلَّتِهِمْ بِرَأْيٍ أَوْ مَالٍ أَوْ حَرْبٍ أَوْ إخْبَارٍ بِخَبَرٍ فَهَؤُلَاءِ لَا يُقْتَلُونَ سَوَاءٌ كَانُوا فِي صَوَامِعَ أَوْ دِيَارَاتٍ أَوْ غِيرَانٍ لِأَنَّ هَؤُلَاءِ قَدْ اعْتَزَلُوا الْفَرِيقَيْنِ وَعَفُّوا عَنْ مُعَاوَنَةِ أَحَدِهِمَا.
( مَسْأَلَةٌ ) وَأَمَّا رُهْبَانُ الْكَنَائِسِ فَقَالَ ابْنُ حَبِيبٍ : يُقْتَلُونَ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَعْتَزِلُوا أَهْلَ مِلَّتِهِمْ وَهُمْ مُدَاخِلُونَ لَهُمْ بِحَيْثُ لَا يُمْكِنُ أَنْ تُعْرَفَ سَلَامَتُهُمْ مِنْ مَعُونَتِهِمْ.
( مَسْأَلَةٌ ) وَلَا يُسْبَى الرُّهْبَانُ وَلَا يُخْرَجُونَ مِنْ صَوَامِعِهِمْ بَلْ يُتْرَكُونَ عَلَى حَالِهِمْ خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ فِي قَوْلِهِ يُسْبَوْنَ وَيُسْتَرَقُّونَ لِقَوْلِ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَدَعْهُمْ وَمَا زَعَمُوا أَنَّهُمْ حَبَسُوا أَنْفُسَهُمْ لَهُ وَهَذَا يَقْتَضِي إبْقَاءَهُمْ عَلَى حَالِهِمْ فَإِنْ كَانَ لِلرُّهْبَانِ أَمْوَالٌ فَرَوَى ابْنُ نَافِعٍ عَنْ مَالِكٍ فِي الرَّاهِبِ لَهُ الْغَنِيمَةُ وَالزَّرْعُ فِي أَرْضِ الرُّومِ أَنَّهُ لَا يُعْرَضُ لَهُ وَذَلِكَ يَسِيرٌ وَلَا يُعْرَضُ لِبَقَرِهِ وَلَا لِغَنَمِهِ إِذَا عُرِفَ أَنَّهَا لَهُ وَلِذَلِكَ وَجْهٌ يُعْرَفُ وَمَا أَدْرِي كَيْفَ يُعْرَفُ هَذَا وَقَالَ سَحْنُونٌ : إِنَّ مَعْنَى ذَلِكَ مِنْ قَوْلِ مَالِكٍ إِذَا كَانَ قَلِيلًا قَدْرَ عَيْشِهِ وَأَمَّا مَا جَاوَزَ ذَلِكَ فَلَا يُتْرَكُ لَهُ وَجْهُ قَوْلِ سَحْنُونٍ إِنَّ فِي اسْتِئْصَالِ مَالِهِ قَتْلَهُ أَوْ إنْزَالَهُ عَنْ مَوْضِعِهِ وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ ذَلِكَ غَيْرُ جَائِزٍ فَلَا بُدَّ أَنْ يُتْرَكَ لَهُ مَا يَكْفِيهِ وَمَا زَادَ عَلَيْهِ فَلَا حَاجَةَ لَهُ إِلَيْهِ فَلَا يُتْرَكُ لَهُ.
.
( فَصْلٌ ) وَقَوْلُهُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَسَتَجِدُ أَقْوَامًا فَحَصُوا عَنْ أَوْسَاطِ رُؤْسِهِمْ يُرِيدُ حَلَقُوا أَوْسَاطَ رُؤْسِهِمْ قَالَ ابْنُ حَبِيبٍ : يَعْنِي الشَّمَامِسَةَ فَأَمَرَهُ أَنْ يَضْرِبَ مَا فَحَصُوا عَنْهُ بِالسَّيْفِ يُرِيدُ بِذَلِكَ قَتْلَهُمْ وَلَمْ يُرِدْ ضَرْبَ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ خَاصَّةً وَذَلِكَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى إذْ يُوحِي رَبُّك إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي.
فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ وَأَمَّا ضَرْبُ أَوْسَاطِ رُؤْسِهِمْ بِالسَّيْفِ فَلَا يَجُوزُ ذَلِكَ إِلَّا قَبْلَ الْأَسْرِ لَهُمْ فِي نَفْسِ الْحَرْبِ وَأَمَّا بَعْدَ أَسْرِهِمْ وَالتَّمَكُّنِ مِنْهُمْ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُمَثَّلَ بِهِمْ وَلَا يُعْبَثُ فِي قَتْلِهِمْ وَلَكِنْ تُضْرَبُ أَعْنَاقُهُمْ صَبْرًا إِلَّا أَنْ يَكُونُوا قَدْ فَعَلُوا بِالْمُسْلِمِينَ عَلَى وَجْهِ التَّمْثِيلِ فَيُعْمَلُ بِهِمْ مِثْلُهُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ.
.
( فَصْلٌ ) لَمْ يُذْكَرْ فِي هَذَا الْحَدِيثِ تَقْدِيمُ الدَّعْوَةِ وَالْمُشْرِكُونَ فِي ذَلِكَ عَلَى ضَرْبَيْنِ : طَائِفَةٌ قَدْ بَلَغَتْهُمْ الدَّعْوَةُ وَطَائِفَةٌ لَمْ تَبْلُغْهُمْ فَأَمَّا مَنْ بَلَغَتْهُ الدَّعْوَةُ فَرُوِيَ عَنْ مَالِكٍ تُلْتَمَسُ غِرَّتُهُمْ وَيُقَاتَلُونَ دُونَ تَقْدِيمِ دَعْوَةٍ إِلَى الْإِسْلَامِ وَهَذِهِ رِوَايَةُ الْعِرَاقِيِّينَ عَنْ مَالِكٍ وَفِي الْمُدَوَّنَةِ رِوَايَتَانِ عَنْ مَالِكٍ قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ : لَا يُبَيَّتُوا غَزَوْنَاهُمْ نَحْنُ أَوْ أَقْبَلُوا إلَيْنَا غُزَاةً فِي بِلَادِنَا حَتَّى يُدْعَوْا قَالَ : وَقَدْ قَالَ مَالِكٌ أَيْضًا الدَّعْوَةُ سَاقِطَةٌ عَمَّنْ قَارَبَ الدَّارَ لِعِلْمِهِمْ بِمَا يُدْعَوْنَ إِلَيْهِ وَأَمَّا مَنْ شُكَّ فِي أَمْرِهِ فَخِيفَ أَنْ لَا تَبْلُغَهُ الدَّعْوَةُ فَإِنَّ الدَّعْوَةَ أَقْطَعُ لِلشَّكِّ وَأَنْزَهُ لِلْجِهَادِ يُبَلَّغُ بِك وَبِهِمْ مَا بُلِّغَ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : إِنْ بَلَغَتْهُمْ الدَّعْوَةُ فَحَسَنٌ أَنْ يُدْعَوْا قَبْلَ الْقِتَالِ وَإِنْ لَمْ تَبْلُغْهُمْ الدَّعْوَةُ لَمْ يُبْتَدَءُوا بِالْقِتَالِ حَتَّى يُدْعَوْا وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : لَا أَعْلَمُ أَحَدًا مِنْ الْمُشْرِكِينَ لَمْ تَبْلُغْهُ الدَّعْوَةُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ خَلْفَ الَّذِينَ يُقَاتِلُونِ قَوْمٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ خَلْفَ الْخُزْرِ وَالتُّرْكِ لَمْ تَبْلُغْهُمْ الدَّعْوَةُ فَلَا يُقَاتَلُوا حَتَّى يُدْعَوْا إِلَى الْإِيمَانِ وَجْهُ الرِّوَايَةِ الْأُولَى مَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ مُحَمَّدَ بْنَ مَسْلَمَةَ وَأَبَا نَائِلَةَ إِلَى كَعْبِ بْنِ الْأَشْرَفِ وَابْنِ أَبِي الْحُقَيْقِ فَبَيَّتُوهُمَا غَارَّيْنِ وَقَتَلُوهُمَا وَلَمْ يُقَدِّمَا دَعْوَةً حِينَ قَتَلَاهُمَا وَمِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى مَا اُحْتُجَّ بِهِ فِي الْمُدَوَّنَةِ أَنَّهُ قَدْ تَقَدَّمَ عِلْمُهُمْ بِمَا يُدْعَوْنَ إِلَيْهِ وَعَادُوا الدِّينَ وَأَهْلَهُ وَالدَّعْوَةُ لَا تُحْدِثُ لَهُمْ إِلَّا تَحْذِيرًا وَإِنْذَارًا وَهُمْ مَعَ ذَلِكَ يَطْلُبُونَ الْغِرَّاتِ وَالْعَوْرَاتِ فَيَجِبُ أَنْ يُلْتَمَسَ مِنْهُمْ وَيُؤْخَذُوا بِهَا قَالَ الْقَاضِي أَبُو الْحَسَنِ : وَعَلَى كُلِّ حَالٍ فَيُسْتَحَبُّ أَنْ يُدْعَوْا إِلَى الْإِيمَانِ قَبْلَ الْقِتَالِ.
وَوَجْهُ الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ مَا رُوِيَ أَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ قَالَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ خَيْبَرَ : نُقَاتِلُهُمْ حَتَّى يَكُونُوا مِثْلَنَا فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : اُنْفُذْ ثُمَّ اُدْعُهُمْ إِلَى شَهَادَةِ أَنْ لَا إلَهَ إِلَّا اللَّهُ فَوَاَللَّهِ لَأَنْ يَهْدِيَ اللَّهُ بِك رَجُلًا وَاحِدًا خَيْرٌ لَك مِنْ حُمْرِ النَّعَمِ وَمِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى أَنَّ هَذَا حَرْبٌ لِلْمُشْرِكِينَ فَلَزِمَ أَنْ يَتَقَدَّمَ بِالدَّعْوَةِ كَغَيْرِ الْعَالِمِينَ لِأَنَّ تَجْدِيدَ الدَّعْوَةِ قَدْ يَكُونُ فِيهَا مِنْ التَّذْكِيرِ بِاللَّهِ وَالْإِيمَانِ بِهِ مَا لَمْ يَكُنْ فِيمَا تَقَدَّمَ.
( فَرْعٌ ) إِذَا ثَبَتَ ذَلِكَ فَإِنَّ هَذَا حُكْمُ الرُّومِ وَأَمَّا الْقِبْطُ فَقَدْ قَرَنَ مَالِكٌ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الرُّومِ فَقَالَ : لَا يُقَاتَلُوا وَلَا يُبَيَّتُوا حَتَّى يُدْعَوْا وَلَا نَرَى الدَّعْوَةَ بَلَغَتْهُمْ وَكَذَلِكَ الفرازنة قَالَ الْقَاضِي وَهُمْ جِنْسٌ مِنْ الْحَبَشَةِ قَالَ : وَلَمْ يَرَ مَالِكٌ بُلُوغَ الدَّعْوَةِ غِرَّةً فِيهِمْ وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّهُمْ قَدْ اسْتَعْمَلُوا الْكَفَّ عَنْ الْمُسْلِمِينَ وَلَمْ يُعَاجِلُوا بِالْمُحَارَبَةِ وَلَا اسْتَعْمَلُوا طَلَبَ الْغِرَّةِ فَلَمْ يَكُنْ فِي تَقْدِيمِ الدَّعْوَةِ وَجْهُ مَضَرَّةٍ وَكَذَلِكَ إِذَا كَانَ الْمُسْلِمُونَ ظَاهِرِينَ وَلَمْ يَكُنْ فِي تَقْدِيمِ الدَّعْوَةِ لِمَنْ قَدْ بَلَغَتْهُ وَجْهُ مَضَرَّةٍ فَإِنَّ الدَّعْوَةَ ثَابِتَةٌ فِي حَقِّهِمْ وَلِذَلِكَ أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِتَقْدِيمِ الدَّعْوَةِ عَلَى مُحَارَبَةِ أَهْلِ خَيْبَرَ وَقَدْ تَقَدَّمَ عِلْمُهُمْ بِمَا يَدْعُو النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا خِلَافَ فِي ذَلِكَ لِطُولِ الْمُدَّةِ وَقُرْبِ الْمَسَافَةِ.
( فَرْعٌ ) فَإِنْ عُوجِلَ أَحَدٌ مِمَّنْ لَمْ تَبْلُغْهُ الدَّعْوَةُ فَقُتِلَ قَبْلَ أَنْ يُدْعَى إِلَى الْإِيمَانِ فَقَدْ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا دِيَةَ فِيهِ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : الدِّيَةُ عَلَى عَاقِلَةِ الْقَاتِلِ قَالَ الْقَاضِي أَبُو الْحَسَنِ : وَلَسْت أَعْرِفُ لِمَالِكٍ فِيهِ نَصًّا وَالْأَظْهَرُ عِنْدِي قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ قَالَ : وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ مِنْ أَصْلِنَا أَنَّ الْمُسْلِمَ إِذَا أَقَامَ بِدَارِ الْحَرْبِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْخُرُوجِ ثُمَّ قُتِلَ خَطَأً لَمْ تَكُنْ فِيهِ دِيَةٌ فَالْكَافِرُ مِنْهُمْ أَوْلَى إِلَّا أَنْ تَكُونَ فِيهِ دِيَةٌ قَالَ : وَأَيْضًا فَإِنَّهُ لَيْسَ فِيهِ أَكْثَرُ مِنْ أَنَّنَا مَمْنُوعُونَ مِنْ قَتْلِهِ وَذَلِكَ لَا يُوجِبُ فِيهِ دِيَةً لِكَوْنِهِ فِي دَارِ الْحَرْبِ كَقَتْلِ نِسَائِهِمْ وَذَرَارِيِّهِمْ وَكَذَلِكَ الرُّهْبَانُ وَالشَّيْخُ الْفَانِي.
.
( فَصْلٌ ) وَقَوْلُهُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إنِّي مُوصِيك بِعَشْرِ خِلَالٍ لَا تَقْتُلَنَّ امْرَأَةً وَلَا صَبِيًّا عَلَى حَسْبِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ الْمَنْعِ مِنْ قَتْلِ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ وَأَنَّ الصَّبِيَّ هُوَ الَّذِي لَمْ يَحْتَلِمْ وَلَمْ يُنْبِتْ فَإِنْ أَنْبَتَ وَلَمْ يَحْتَلِمْ فَهَلْ يُقْتَلُ أَمْ لَا ؟ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي ذَلِكَ فَقَالَ أَكْثَرُهُمْ : يُقْتَلُ وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ : لَا يُقْتَلُ حَتَّى يَحْتَلِمَ وَجْهُ الْقَوْلِ بِالْقَتْلِ مَا رُوِيَ عَنْ عَطِيَّةَ الْقُرَظِيِّ أَنَّهُ قَالَ : عُرِضْنَا عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ قُرَيْظَةَ فَكَانَ مَنْ أَنْبَتَ مِنَّا قُتِلَ وَمَنْ لَمْ يُنْبِتْ خُلِّيَ سَبِيلُهُ فَكُنْت فِيمَنْ لَمْ يُنْبِتْ فَخُلِّيَ سَبِيلِي وَمِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى أَنَّ الِاحْتِلَامَ إنَّمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ حُقُوقُ الْبَارِّي تَعَالَى وَأَمَّا حُقُوقُ الْآدَمِيِّينَ فَالْأَحْكَامُ الَّتِي تَنْفُذُ بَيْنَ النَّاسِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ تَتَعَلَّقَ بِالِاحْتِلَامِ لِأَنَّهُ أَمْرٌ لَا يُدْرَى وَيُمْكِنُ كِتْمَانُهُ وَادِّعَاؤُهُ وَإِنَّمَا يَجِبُ أَنْ يُعَلَّقَ ذَلِكَ بِأَمْرٍ يَظْهَرُ وَتُمْكِنُ مَعْرِفَتُهُ بِالنَّظَرِ إِلَيْهِ وَهُوَ الْإِنْبَاتُ عَلَى أَنَّهُ فِي الْأَغْلَبِ لَا يَتَأَخَّرُ عَنْ الِاحْتِلَامِ وَلَا يَتَقَدَّمُ عَلَيْهِ بِكَثِيرِ مُدَّةٍ وَأَكْثَرُ مَا يَكُونُ مُقَارِنًا لَهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
.
( فَصْلٌ ) وَقَوْلُهُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَلَا كَبِيرًا هَرِمًا يُرِيدُ الشَّيْخَ الْهَرِمَ الَّذِي بَلَغَ مِنْ السِّنِّ مَا لَا يُطِيقُ الْقِتَالَ وَلَا يُنْتَفَعُ بِهِ فِي رَأْيٍ وَلَا مُدَافَعَةٍ فَهَذَا مَذْهَبُ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ إِلَّا أَنَّهُ لَا يُقْتَلُ وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَلِلشَّافِعَيَّ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا مِثْلُ قَوْلِ الْجَمَاعَة وَالثَّانِي يُقْتَلُ هُوَ وَالرَّاهِبُ وَالدَّلِيلُ عَلَى مَا يَقُولُهُ قَوْلُ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ هَذَا لِيَزِيدَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ وَلَا مُخَالِفَ لَهُ فَثَبَتَ أَنَّهُ إجْمَاعٌ وَمِنْ جِهَةِ الْقِيَاسِ أَنَّ هَذَا مِمَّنْ لَا يُقَاتِلُ وَلَا يُعِينُ الْعَدُوَّ بِمَنْعٍ دَائِمٍ فَلَا يَجُوزُ قَتْلُهُ كَالْمَرْأَةِ.
( مَسْأَلَةٌ ) إِذَا ثَبَتَ ذَلِكَ فَإِنَّ الْمُشْرِكِينَ عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا مَنْ لَا يُخَافُ مِنْهُ مَضَرَّةٌ وَلَا مَعُونَةٌ بِرَأْيٍ وَلَا مَالٍ كَالرَّاهِبِ وَالشَّيْخِ الْفَانِي فَهَذَا قَدْ تَقَدَّمَ حُكْمُهُ وَالضَّرْبُ الثَّانِي أَنْ يَكُونَ مِمَّنْ تُخْشَى مَضَرَّتُهُ فَيَكُونُ فِيهِ الْمَعُونَةُ بِالْحَرْبِ أَوْ الرَّأْيِ أَوْ الْمَالِ فَهَذَا إِذَا أُسِرَ يَكُونُ الْإِمَامُ مُخَيَّرًا فِيهِ بَيْنَ خَمْسَةِ أَشْيَاءَ : أَنْ يَقْتُلَهُ أَوْ يُفَادِيَ بِهِ أَوْ يَمُنَّ عَلَيْهِ أَوْ يَسْتَرِقَّهُ أَوْ يَعْقِدَ لَهُ الذِّمَّةَ عَلَى أَدَاءِ الْجِزْيَةِ فَأَمَّا الِاسْتِرْقَاقُ وَعَقْدُ الذِّمَّةِ فَلَا خِلَافَ نَعْلَمُهُ فِي جَوَازِهِمَا وَأَمَّا الْقَتْلُ فَحَكَى الْقَاضِي أَبُو الْحَسَنِ أَنَّهُ لَا خِلَافَ فِي جَوَازِهِ وَحَكَى الْقَاضِي أَبُو مُحَمَّدٍ عَنْ الْحَسَنِ الْمَنْعَ مِنْ ذَلِكَ وَأَنَّهُ قَالَ : أَصْنَعُ كَمَا صَنَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَسَارَى بَدْرٍ يَمُنُّ عَلَيْهِ أَوْ يُفَادِيهِ وَالدَّلِيلُ عَلَى جَوَازِ ذَلِكَ قوله تعالى مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ وَدَلِيلُنَا مِنْ جِهَةِ السُّنَّةِ تَوَاتُرُ الْأَخْبَارِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَتْلِ عُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ وَالنَّضْرِ بْنِ الْحَارِثِ مِنْ أَسَارَى بَدْرٍ وَمِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْأَسْرِ حَقْنٌ لِلدَّمِ وَإِنَّمَا يُحْقَنُ الدَّمُ بِعَقْدِ الْأَمَانِ.
( مَسْأَلَةٌ ) وَأَمَّا الْمَنُّ أَوْ الْمُفَادَاةُ فَإِنَّهُ جَائِزٌ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا يَجُوزُ الْمَنُّ وَلَا الْمُفَادَاةُ وَحُكِيَ هَذَا الْقَوْلُ عَنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ غَيْرَ أَنَّهُمْ قَالُوا لَا يُفَادَى بِمَالٍ وَهَذَا الْقَوْلُ فِي الْمُفَادَاةِ إنَّمَا هُوَ لِسَحْنُونٍ وَالدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ جَوَازِ الْمَنِّ وَالْمُفَادَاةِ قوله تعالى فَإِذَا لَقِيتُمْ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا وَدَلِيلُنَا مِنْ جِهَةِ السُّنَّةِ مَا تَظَافَرَتْ الْأَخْبَارُ بِهِ مِنْ مُفَادَةِ أَهْلِ بَدْرٍ وَدَلِيلُنَا مِنْ جِهَةِ الْقِيَاسِ أَنَّ هَذَا قَتْلٌ يَجُوزُ تَرْكُهُ إِلَى غَيْرِ بَدَلٍ فَجَازَ تَرْكُهُ إِلَى بَدَلٍ كَالْقِصَاصِ.
( مَسْأَلَةٌ ) إِذَا ثَبَتَ ذَلِكَ فَإِنَّ الْإِمَامَ يَجِبُ أَنْ يَنْظُرَ فِي ذَلِكَ بِحَسْبِ الِاجْتِهَادِ فَمَنْ عُلِمَتْ شَجَاعَتُهُ وَإِقْدَامُهُ أَوْ رَأْيُهُ وَتَدْبِيرُهُ فَالْأَوْلَى قَتْلُهُ , وَمَنْ لَمْ يَكُنْ بِهَذِهِ الصِّفَةِ وَكَانَ صَانِعًا أَوْ عَسِيفًا فَالْأَفْضَلُ اسْتِبْقَاؤُهُ , وَمَنْ رُجِيَ إسْلَامُهُ وَالِانْتِفَاعُ بِهِ فَالْأَوْلَى أَنْ يُمَنَّ عَلَيْهِ , وَمَنْ كَانَ غَنَاؤُهُ عَنْهُمْ قَلِيلًا وَأُخِذَ عَنْهُ عِوَضٌ نَافِعٌ مِنْ مَالٍ أَوْ أَسِيرٍ مِنْ أَسْرَى الْمُسْلِمِينَ فُودِيَ.
.
( فَصْلٌ ) وَقَوْلُهُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَلَا تَقْطَعَنَّ شَجَرًا مُثْمِرًا وَلَا تُخْرِبَنَّ عَامِرًا هَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَمَّا مَا كَانَ مِنْ الْبِلَادِ مِمَّا يُرْجَى أَنْ يَظْهَرَ عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ فَإِنَّهُ لَا يُقْطَعُ شَجَرُهُ الْمُثْمِرُ وَلَا يُخْرَبُ عَامِرُهُ لِمَا يُرْجَى مِنْ اسْتِيلَاء الْإِسْلَامِ عَلَيْهِ وَانْتِفَاعِهِمْ بِهِ وَمَا كَانَ بِحَيْثُ لَا يُرْجَى مَقَامُ الْمُسْلِمِينَ بِهِ لِبُعْدِهِ وَتَوَغُّلِهِ فِي بِلَادِ الْكُفْرِ فَإِنَّهُ يُخْرَبُ عَامِرُهُ وَيُقْطَعُ شَجَرُهُ الْمُثْمِرُ وَغَيْرُهُ لِأَنَّ فِي ذَلِكَ إضْعَافًا لَهُمْ وَتَوْهِينًا وَإِتْلَافًا لِمَا يَتَقَوَّوْنَ بِهِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ قَالَ ابْنُ حَبِيبٍ قَالَ مَالِكٌ وَأَصْحَابُهُ : إنَّمَا نَهَى الصِّدِّيقُ عَنْ إخْرَابِ الشَّامِ لِأَنَّهُ عَلِمَ مَصِيرَهَا لِلْمُسْلِمِينَ وَأَمَّا مَا لَا يُرْجَى ظُهُورُهُمْ عَلَيْهِ فَخَرَابُ ذَلِكَ مِمَّا يَنْبَغِي قَالَ ابْنُ حَبِيبٍ : هُوَ الصَّحِيحُ وَقَدْ حَرَقَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَخْلَ بَنِي النَّضِيرِ.
.
( فَصْلٌ ) وَقَوْلُهُ وَلَا تَعْقِرَنَّ شَاةً وَلَا بَعِيرًا إِلَّا لِمَأْكَلَةٍ وَهَذَا أَيْضًا عَلَى ضَرْبَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنْ يَكُونَ الْإِبِلَ وَالْغَنَمَ فَيَسْتَطِيعَ الْمُسْلِمُونَ أَنْ يَخْرُجُوا بِهَا ويتمولوها فَلَا تُعْقَرُ إِلَّا لِحَاجَةٍ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ بِالْعَقْرِ الذَّبْحَ وَالنَّحْرَ فَيَقُولَ : لَا يُسْرَعُ بِذَبْحِهَا وَنَحْرِ إبِلِهَا إِلَّا لِحَاجَتِهِمْ إِلَى أَكْلِهَا فَأَمَّا عَلَى وَجْهِ السَّرَفِ وَالْإِفْسَادِ أَوْ عَلَى وَجْهِ التَّمَوُّلِ وَالْإِخْرَاجِ لِلْبَيْعِ إِلَى بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ فَلَا , وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ بِالْعَقْرِ الْحَبْسَ لِمَا شَرَدَ مِنْهَا بِالْعَقْرِ الَّذِي يَحْبِسُ مَا نَدَّ وَشَرَدَ وَلَا تَبْلُغُ مَبْلَغَ الْقَتْلِ فَيَقُولُ مَا شَرَدَ عَلَيْكُمْ فَلَا يُمْكِنُكُمْ رُكُوبُهُ وَاسْتِعْمَالُهُ فَلَا تَرْمُوهُ وَلَا تَعْقِرُوهُ وَلْيَكُنْ فِي جُمْلَةِ مَا يُسَاقُ مِنْ الْإِبِلِ وَلَا تَعْقِرُوهُ عَلَى الْوَجْهِ الْمَذْكُورِ إِلَّا لِحَاجَتِكُمْ إِلَى أَكْلِهِ فَاحْبِسُوهُ بِالْعَقْرِ ثُمَّ ذَكُّوهُ بَعْدَ التَّمَكُّنِ مِنْهُ بِالنَّحْرِ.
( مَسْأَلَةٌ ) وَالضَّرْبُ الثَّانِي مِنْ الْإِبِلِ وَالْغَنَمِ مَا يَعْجِزُ الْمُسْلِمُونَ عَنْ إخْرَاجِهِ فَإِنَّهُ يُقْتَلُ أَوْ يُعْقَرُ وَهُوَ الَّذِي عَنَاهُ بِقَوْلِهِ الْمَرْوِيِّ عَنْهُ فِي كِتَابِ ابْنِ الْمَوَّازِ وَلَا بَأْسَ أَنْ يُعْقَرَ غَنَمُهُمْ وَبَقَرُهُمْ وَإِنْ لَمْ يُحْتَجْ إِلَى ذَلِكَ لِأَنَّ فِي تَرْكِ ذَلِكَ تَقْوِيَةً لِلْعَدُوِّ وَفِي إتْلَافِهِ إضْعَافًا لَهُمْ فَإِنْ كَانُوا مِمَّنْ يَأْكُلُ الْمِيتَةَ فَالصَّوَابُ أَنْ تُحْرَقَ بَعْدَ الْعَقْرِ إِنْ أَمْكَنَ ذَلِكَ لِيَبْطُلَ انْتِفَاعُهُمْ بِهَا وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ فَعَلَى هَذَا يُحْمَلُ قَوْلُ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَلَى مَا يُمْكِنُ إخْرَاجُهُ وَحَمَلَهُ ابْنُ وَهْبٍ عَلَى عُمُومِهِ فَقَالَ : لَا يَجُوزُ قَتْلُ شَيْءٍ مِنْ الْحَيَوَانِ إِلَّا لِمَأْكَلَةٍ.
( مَسْأَلَةٌ ) وَأَمَّا دَوَابُّهُمْ وَخَيْلُهُمْ وَبِغَالُهُمْ وَحُمُرُهُمْ فَإِنَّهَا تُعْقَرُ إِذَا عُجِزَ عَنْ إخْرَاجِهَا وَالِانْتِفَاعِ بِهَا لَمْ يَخْتَلِفْ فِي ذَلِكَ أَصْحَابُنَا غَيْرَ ابْنِ وَهْبٍ وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : لَا يَجُوزُ عَقْرُهَا وَبِهِ قَالَ ابْنُ وَهْبٍ مِنْ أَصْحَابِنَا وَلَكِنْ تُخَلَّى وَالدَّلِيلُ عَلَى مَا نَقُولُهُ : إِنَّ هَذِهِ أَمْوَالٌ بَاقِيَةٌ يَتَقَوَّى بِهَا الْعَدُوُّ فَجَازَ إتْلَافُهَا عَلَيْهِمْ كَالزَّرْعِ الْقَائِمِ وَالشَّجَرِ الْمُثْمِرِ.
( فَرْعٌ ) وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي صِفَةِ الْعَقْرِ فَقَالَ الْمِصْرِيُّونَ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ : تُعَرْقَبُ وَتُذْبَحُ أَوْ يُجْهَزُ عَلَيْهَا وَقَالَ الْمَدَنِيُّونَ مِنْ أَصْحَابِنَا : يُجْهَزُ عَلَيْهَا وَكَرِهُوا أَنْ تُذْبَحَ أَوْ تُعَرْقَبَ قَالَ ابْنُ حَبِيبٍ وَبِهِ أَقُولُ لِأَنَّ الذَّبْحَ مَثُلَةٌ وَالْعَرْقَبَةَ تَعْذِيبٌ وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ ابْنُ حَبِيبٍ لَيْسَ بِبَيِّنٍ لِأَنَّ الذَّبْحَ لَمْ يُكْرَهْ فِي الْخَيْلِ لِأَنَّهُ مُثْلَةٌ وَإِنَّمَا كُرِهَ لِأَنَّهُ ذَرِيعَةٌ إِلَى إبَاحَةِ أَكْلِهَا قَالَ أَصْحَابُنَا : يُضْرَبُ عُنُقُهُ وَتُبْقَرُ بَطْنُهُ فَأَمَّا الْعَرْقَبَةُ فَإِنَّهُ تَعْذِيبٌ عَلَى مَا ذَكَرَهُ وَالصَّوَابُ الْإِجْهَازُ عَلَيْهِ بِوَجْهٍ يَمْنَعُ أَكْلَهُ عِنْدَ مَنْ قَالَ بِذَلِكَ وَوَجْهُ مَا حَكَاهُ عَنْ الْبَصْرِيِّينَ أَنَّهُ رُبَّمَا اُضْطُرَّ إِلَيْهِ أَحَدٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فَيَكُونُ أَوْلَى مِنْ الْمَيْتَةِ وَكَذَلِكَ مَا وُقِفَ مِنْ خَيْلِ الْمُسْلِمِينَ بِبَلَدِ الْعَدُوِّ فَحُكْمُهُ عِنْدَ مَالِكٍ وَأَصْحَابِهِ مَا ذَكَرْنَاهُ فِي خَيْلِ الْعَدُوِّ وَأَمَّا سَائِرُ الْأَمْوَالِ مِمَّا لَيْسَ بِحَيَوَانٍ فَإِنْ عَجَزَ عَنْهُ أُحْرِقَ وَلَمْ يُتْرَكْ طَعَامًا كَانَ أَوْ غَيْرَهُ.
.
( فَصْلٌ ) وَقَوْلُهُ وَلَا تَحْرِقَنَّ نَحْلًا وَلَا تُغْرِقَنَّهُ يُرِيدُ ذُبَابَ النَّحْلِ لَا يُحْرَقُ بِالنَّارِ وَلَا يُغْرَقُ فِي مَاءٍ وَاخْتَلَفَ قَوْلُ مَالِكٍ فِيمَا لَا يُقْدَرُ عَلَى إخْرَاجِهِ مِنْ ذَلِكَ فَرَوَى ابْنُ حَبِيبٍ عَنْ مَالِكٍ يُحْرَقُ وَيُغْرَقُ وَرُوِيَ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ كَرِهَ ذَلِكَ وَجْهُ الرِّوَايَةِ الْأُولَى أَنَّهُ لَا طَرِيقَ إِلَى إتْلَافِهَا إِلَّا بِذَلِكَ وَإِتْلَافُهَا مَأْمُورٌ بِهِ لِأَنَّهَا مِمَّا يَقْوَى بِهِ الْعَدُوُّ فَإِذَا لَمْ يَكُنْ إتْلَافُهَا إِلَّا بِالنَّارِ تُوُصِّلَ إِلَيْهِ بِهَا كَالْفَارِّينَ مِنْ الْعَدُوِّ وَوَجْهُ الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : قَرَصَتْ نَمْلَةٌ نَبِيًّا مِنْ الْأَنْبِيَاءِ فَأَمَرَ بِقَرْيَةٍ مِنْ النَّمْلِ فَأُحْرِقَتْ فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ إِنْ قَرَصَتْك نَمْلَةٌ أَحْرَقْت أُمَّةً مِنْ الْأُمَمِ تُسَبِّحُ وَهَذَا مَا لَمْ تَدْعُ إِلَى ذَلِكَ حَاجَةُ أَكْلٍ فَإِنْ احْتَاجَ إِلَى ذَلِكَ وَلَمْ يُمْكِنْهُ دَفْعُهَا إِلَّا بِتَحْرِيقِهَا أَوْ تَغْرِيقِهَا فَعَلَ مِنْ ذَلِكَ مَا يُتَوَصَّلُ بِهِ إِلَى مَا يُتَنَاوَلُ مَا فِي جباحها وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ.
.
( فَصْلٌ ) وَقَوْلُهُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَا تَغْلُلْ وَلَا تَجْبُنْ الْغُلُولُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ الْغَنِيمَةِ بَعْضُ الْغَانِمِينَ مَا لَمْ تُصِبْهُ الْمَقَاسِمُ وَسَيَأْتِي بَيَانُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَالْجُبْنُ الْجَزَعُ وَالْفِرَارُ عَمَّنْ لَا يَجُوزُ الْفِرَارُ عَنْهُ وَهُوَ مِنْ الْكَبَائِرِ عِنْدَ ابْنِ الْقَاسِمِ وَأَكْثَرِ أَصْحَابِنَا وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ : لَمْ يَكُنْ الْفِرَارُ مِنْ الزَّحْفِ كَبِيرَةً إِلَّا يَوْمَ بَدْرٍ وَالدَّلِيلُ عَلَى مَا نَقُولُهُ قوله تعالى يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ وقوله تعالى يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوهُمْ الْأَدْبَارَ الْآيَةُ.
( مَسْأَلَةٌ ) إِذَا ثَبَتَ ذَلِكَ فَقَدْ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي الْمَعْنَى الْمُرَاعَى فِي جَوَازِ الْفِرَارِ عَنْ الْعَدُوِّ فِي الْحَرْبِ فَاَلَّذِي عَلَيْهِ جُمْهُورُ أَصْحَابِنَا الْعَدَدُ وَبِهِ قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ وَرَوَى ابْنُ الْمَاجِشُونِ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ قَالَ : الْجَلَدُ وَهُوَ السِّلَاحُ وَالْقُوَّةُ , وَجْهُ قَوْلِ ابْنِ الْقَاسِمِ قوله تعالى إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ الْآيَةُ ثُمَّ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاَللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ.
( مَسْأَلَةٌ ) وَهَذَا إِذَا أُمِنَ أَنْ يَكْثُرُوا فَأَمَّا فِي بِلَادِهِمْ وَحَيْثُ يُخَافُ تَكَاثُرُهُمْ فَإِنَّ لِلْعَدُوِّ الْيَسِيرِ أَنْ يُوَلُّوا عَنْ مِثْلِهِمْ لِأَنَّ فِرَارَهُمْ لَيْسَ عَنْ الْعَدَدِ الْيَسِيرِ وَإِنَّمَا هُوَ مَخَافَةَ أَنْ يَكْثُرُوا وَكَذَلِكَ إِنْ فَرَّ عَدَدٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ عَنْ مِثْلِهِمْ مِنْ الْعَدُوِّ بِحَيْثُ لَا يَجُوزُ لَهُمْ الْفِرَارُ وَكَانَ مِنْهُمْ مَنْ لَا يُرِيدُ ذَلِكَ فَإِنَّ لَهُ إِذَا انْهَزَمَ أَصْحَابُهُ وَيَئِسَ مِنْهُمْ أَنْ يُوَلِّيَ حِينَئِذٍ لِأَنَّ تَوَلِّيَهُ إنَّمَا هُوَ عَنْ جَمَاعَةِ الْعَدُوِّ وَانْحِيَازًا إِلَى أَصْحَابِهِ وَقَدْ فَعَلَ ذَلِكَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَنْ ثَبَتَ مَعَهُ يَوْمَ أُحُدٍ حِينَ انْهَزَمَ الْمُسْلِمُونَ وَيَئِسَ مِنْ رَجْعَتِهِمْ انْحَازَ فِي آخِرِهِمْ إِلَى الْمُسْلِمِينَ.
و حَدَّثَنِي عَنْ مَالِك عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ بَعَثَ جُيُوشًا إِلَى الشَّامِ فَخَرَجَ يَمْشِي مَعَ يَزِيدَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ وَكَانَ أَمِيرَ رُبْعٍ مِنْ تِلْكَ الْأَرْبَاعِ فَزَعَمُوا أَنَّ يَزِيدَ قَالَ لِأَبِي بَكْرٍ إِمَّا أَنْ تَرْكَبَ وَإِمَّا أَنْ أَنْزِلَ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ مَا أَنْتَ بِنَازِلٍ وَمَا أَنَا بِرَاكِبٍ إِنِّي أَحْتَسِبُ خُطَايَ هَذِهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قَالَ لَهُ إِنَّكَ سَتَجِدُ قَوْمًا زَعَمُوا أَنَّهُمْ حَبَّسُوا أَنْفُسَهُمْ لِلَّهِ فَذَرْهُمْ وَمَا زَعَمُوا أَنَّهُمْ حَبَّسُوا أَنْفُسَهُمْ لَهُ وَسَتَجِدُ قَوْمًا فَحَصُوا عَنْ أَوْسَاطِ رُءُوسِهِمْ مِنْ الشَّعَرِ فَاضْرِبْ مَا فَحَصُوا عَنْهُ بِالسَّيْفِ وَإِنِّي مُوصِيكَ بِعَشْرٍ لَا تَقْتُلَنَّ امْرَأَةً وَلَا صَبِيًّا وَلَا كَبِيرًا هَرِمًا وَلَا تَقْطَعَنَّ شَجَرًا مُثْمِرًا وَلَا تُخَرِّبَنَّ عَامِرًا وَلَا تَعْقِرَنَّ شَاةً وَلَا بَعِيرًا إِلَّا لِمَأْكَلَةٍ وَلَا تَحْرِقَنَّ نَحْلًا وَلَا تُغَرِّقَنَّهُ وَلَا تَغْلُلْ وَلَا تَجْبُنْ
عن نافع، عن عبد الله بن عمر أنه كان إذا أعطى شيئا في سبيل الله، يقول لصاحبه: «إذا بلغت وادي القرى فشأنك به»
عن يحيى بن سعيد، أن سعيد بن المسيب كان يقول: «إذا أعطي الرجل الشيء في الغزو، فيبلغ به رأس مغزاته، فهو له»
عن عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم «بعث سرية فيها عبد الله بن عمر قبل نجد.<br> فغنموا إبلا كثيرة.<br> فكان سهمانهم اثني عشر بعيرا.<br...
عن يحيى بن سعيد أنه سمع سعيد بن المسيب، يقول: «كان الناس في الغزو، إذا اقتسموا غنائمهم، يعدلون البعير بعشر شياه»
عن عمر بن كثير بن أفلح، عن أبي محمد، مولى أبي قتادة، عن أبي قتادة بن ربعي أنه قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عام حنين.<br> فلما التقينا، ك...
عن القاسم بن محمد أنه قال: سمعت رجلا يسأل عبد الله بن عباس عن الأنفال؟ فقال ابن عباس: «الفرس من النفل.<br> والسلب من النفل».<br> قال: ثم عاد الرجل لمس...
عن سعيد بن المسيب أنه قال: «كان الناس يعطون النفل من الخمس» قال مالك: «وذلك أحسن ما سمعت إلي في ذلك»
عن عمرو بن شعيب، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين صدر من حنين، وهو يريد الجعرانة، سأله الناس، حتى دنت به ناقته من شجرة، فتشبكت بردائه حتى نزعته عن...
عن محمد بن يحيى بن حبان، أن زيد بن خالد الجهني قال: توفي رجل يوم حنين، وإنهم ذكروه لرسول الله صلى الله عليه وسلم.<br> فزعم زيد أن رسول الله صلى الله ع...