حديث الرسول ﷺ English الإجازة تواصل معنا
الحديث النبوي

إذا استنفرتم فانفروا فإن هذا بلد حرم الله - صحيح البخاري

صحيح البخاري | كتاب جزاء الصيد باب: لا يحل القتال بمكة (حديث رقم: 1834 )


1834- عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم يوم افتتح مكة: «لا هجرة، ولكن جهاد ونية، وإذا استنفرتم، فانفروا، فإن هذا بلد حرم الله يوم خلق السموات والأرض، وهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة، وإنه لم يحل القتال فيه لأحد قبلي، ولم يحل لي إلا ساعة من نهار، فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة، لا يعضد شوكه، ولا ينفر صيده، ولا يلتقط لقطته إلا من عرفها، ولا يختلى خلاها»، قال العباس: يا رسول الله إلا الإذخر فإنه لقينهم ولبيوتهم، قال: قال: «إلا الإذخر»

أخرجه البخاري


أخرجه مسلم في الحج باب تحريم مكة وصيدها وخلاها وشجرها ولقطتها.
وفي الإمارة باب المبايعة بعد فتح مكة على الإسلام.
.
رقم 1353

شرح حديث (إذا استنفرتم فانفروا فإن هذا بلد حرم الله)

فتح الباري شرح صحيح البخاري: ابن حجر العسقلاني - أحمد بن علي بن حجر العسقلاني

‏ ‏قَوْله ( عَنْ مُجَاهِد عَنْ طَاوُسٍ ) ‏ ‏كَذَا رَوَاهُ مَنْصُور مَوْصُولًا , وَخَالَفَهُ الْأَعْمَش فَرَوَاهُ عَنْ مُجَاهِد عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُرْسَلًا أَخْرَجَهُ سَعِيد بْن مَنْصُور عَنْ أَبِي مُعَاوِيَة عَنْهُ , وَأَخْرَجَهُ أَيْضًا عَنْ سُفْيَان عَنْ دَاوُدَ بْن شَابُور عَنْ مُجَاهِد مُرْسَلًا , وَمَنْصُور ثِقَة حَافِظ فَالْحُكْم لِوَصْلِهِ.
‏ ‏قَوْله ( يَوْم اِفْتَتَحَ مَكَّة ) ‏ ‏هُوَ ظَرْف لِلْقَوْلِ الْمَذْكُور.
‏ ‏قَوْله ( لَا هِجْرَة ) ‏ ‏أَيْ بَعْد الْفَتْح , وَأَفْصَحَ بِذَلِكَ فِي رِوَايَة عَلِيّ بْن الْمَدِينِيّ عَنْ جَرِير فِي كِتَاب الْجِهَاد ‏ ‏قَوْله ( وَلَكِنْ جِهَاد وَنِيَّة ) ‏ ‏الْمَعْنَى أَنَّ وُجُوب الْهِجْرَة مِنْ مَكَّة اِنْقَطَعَ بِفَتْحِهَا إِذْ صَارَتْ دَارَ إِسْلَام , وَلَكِنْ بَقِيَ وُجُوب الْجِهَاد عَلَى حَاله عِنْد الِاحْتِيَاج إِلَيْهِ , وَفَسَّرَهُ بِقَوْلِهِ : ( فَإِذَا اُسْتُنْفِرْتُمْ فَانْفِرُوا ) أَيْ إِذَا دُعِيتُمْ إِلَى الْغَزْو فَأَجِيبُوا.
قَالَ الطِّيبِيُّ : قَوْله " وَلَكِنْ جِهَاد " عَطْف عَلَى مَدْخُول " لَا هِجْرَة " أَيْ الْهِجْرَة إِمَّا فِرَارًا مِنْ الْكُفَّار وَإِمَّا إِلَى الْجِهَاد وَإِمَّا إِلَى نَحْو طَلَب الْعِلْم , وَقَدْ اِنْقَطَعَتْ الْأُولَى فَاغْتَنِمُوا الْأَخِيرَتَيْنِ , وَتَضَمَّنَ الْحَدِيث بِشَارَة مِنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنَّ مَكَّة تَسْتَمِرّ دَارَ إِسْلَام , وَسَيَأْتِي الْبَحْث فِي ذَلِكَ مُسْتَوْفًى فِي كِتَاب الْجِهَاد إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى.
‏ ‏قَوْله : ( فَإِنَّ هَذَا بَلَد حَرَّمَ ) ‏ ‏الْفَاء جَوَاب بِشَرْطٍ مَحْذُوف تَقْدِيره إِذَا عَلِمْتُمْ ذَلِكَ فَاعْلَمُوا أَنَّ هَذَا بَلَد حَرَام , وَكَأَنَّ وَجْه الْمُنَاسَبَة أَنَّهُ لَمَّا كَانَ نَصْب الْقِتَال عَلَيْهِ حَرَامًا كَانَ التَّنْفِير يَقَع مِنْهُ لَا إِلَيْهِ , وَلَمَّا رَوَى مُسْلِم هَذَا الْحَدِيث عَنْ إِسْحَاق عَنْ جَرِير فَصَلَ الْكَلَام الْأَوَّل مِنْ الثَّانِي بِقَوْلِهِ " وَقَالَ يَوْم الْفَتْح إِنَّ اللَّه حَرَّمَ إِلَخْ " فَجَعَلَهُ حَدِيثًا آخَر مُسْتَقِلًّا , وَهُوَ مُقْتَضَى صَنِيع مَنْ اِقْتَصَرَ عَلَى الْكَلَام الْأَوَّل كَعَلِيِّ بْن الْمَدِينِيّ عَنْ جَرِير كَمَا سَيَأْتِي فِي الْجِهَاد.
‏ ‏قَوْله ( حَرَّمَهُ اللَّه ) سَبَقَ مَشْرُوحًا فِي حَدِيث أَبِي شُرَيْح , وَوَقَعَ فِي رِوَايَة غَيْر الكُشْمِيهَنِيّ " حَرَّمَ اللَّه " بِحَذْفِ الْهَاء.
‏ ‏قَوْله ( وَهُوَ حَرَام بِحُرْمَةِ اللَّه ) ‏ ‏أَيْ بِتَحْرِيمِهِ , وَقِيلَ الْحُرْمَة الْحَقّ أَيْ حَرَام بِالْحَقِّ الْمَانِع مِنْ تَحْلِيله , وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى تَحْرِيم الْقَتْل وَالْقِتَال بِالْحَرَمِ , فَأَمَّا الْقَتْل فَنَقَلَ بَعْضهمْ الِاتِّفَاق عَلَى جَوَاز إِقَامَة حَدّ الْقَتْل فِيهَا عَلَى مَنْ أَوْقَعَهُ فِيهَا , وَخَصَّ الْخِلَاف بِمِنْ قَتَلَ فِي الْحِلّ ثُمَّ لَجَأَ إِلَى الْحَرَم , وَمِمَّنْ نَقَلَ الْإِجْمَاع عَلَى ذَلِكَ اِبْن الْجَوْزِيّ , وَاحْتَجَّ بَعْضهمْ بِقَتْلِ اِبْن خَطَل بِهَا , وَلَا حُجَّة فِيهِ لِأَنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي الْوَقْت الَّذِي أُحِلَّتْ فِيهِ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا تَقَدَّمَ , وَزَعَمَ اِبْن حَزْم أَنَّ مُقْتَضَى قَوْل اِبْن عُمَر وَابْن عَبَّاس وَغَيْرهمَا أَنَّهُ لَا يَجُوز الْقَتْل فِيهَا مُطْلَقًا , وَنَقَلَ التَّفْصِيل عَنْ مُجَاهِد وَعَطَاء.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَة : لَا يُقْتَل فِي الْحَرَم حَتَّى يَخْرُج إِلَى الْحِلّ بِاخْتِيَارِهِ , لَكِنْ لَا يُجَالَس وَلَا يُكَلَّم , وَيُوعَظ وَيُذَكَّر حَتَّى يَخْرُج.
وَقَالَ أَبُو يُوسُف : يَخْرُج مُضْطَرًّا إِلَى الْحِلّ , وَفَعَلَهُ اِبْن الزُّبَيْر , وَرَوَى اِبْن أَبِي شَيْبَة مِنْ طَرِيق طَاوُسٍ عَنْ اِبْن عَبَّاس " مَنْ أَصَابَ حَدًّا ثُمَّ دَخَلَ الْحَرَم لَمْ يُجَالَس وَلَمْ يُبَايَع " وَعَنْ مَالِك وَالشَّافِعِيّ : يَجُوز إِقَامَة الْحَدّ مُطْلَقًا فِيهَا , لِأَنَّ الْعَاصِيَ هَتَكَ حُرْمَة نَفْسه فَأَبْطَلَ مَا جَعَلَ اللَّه لَهُ مِنْ الْأَمْن , وَأَمَّا الْقِتَال فَقَالَ الْمَاوَرْدِيّ : مِنْ خَصَائِص مَكَّة أَنْ لَا يُحَارَب أَهْلهَا , فَلَوْ بَغَوْا عَلَى أَهْل الْعَدْل فَإِنْ أَمْكَنَ رَدّهمْ بِغَيْرِ قِتَال لَمْ يَجُزْ , وَإِنْ لَمْ يُمْكِن إِلَّا بِالْقِتَالِ فَقَالَ الْجُمْهُور يُقَاتَلُونَ لِأَنَّ قِتَال الْبُغَاة مِنْ حُقُوق اللَّه تَعَالَى فَلَا يَجُوز إِضَاعَتهَا.
وَقَالَ آخَرُونَ : لَا يَجُوز قِتَالهمْ بَلْ يُضَيَّق عَلَيْهِمْ إِلَى أَنْ يَرْجِعُوا إِلَى الطَّاعَة.
قَالَ النَّوَوِيّ : وَالْأَوَّل نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيّ , وَأَجَابَ أَصْحَابه عَنْ الْحَدِيث بِحَمْلِهِ عَلَى تَحْرِيم نَصْب الْقِتَال بِمَا يَعُمّ أَذَاهُ كَالْمَنْجَنِيقِ , بِخِلَافِ مَا لَوْ تَحَصَّنَ الْكُفَّار فِي بَلَد فَإِنَّهُ يَجُوز قِتَالهمْ عَلَى كُلّ وَجْه.
وَعَنْ الشَّافِعِيّ قَوْل آخَر بِالتَّحْرِيمِ اِخْتَارَهُ الْقَفَّال وَجَزَمَ بِهِ فِي " شَرَحَ التَّلْخِيص " وَقَالَ بِهِ جَمَاعَة مِنْ عُلَمَاء الشَّافِعِيَّة وَالْمَالِكِيَّة.
قَالَ الطَّبَرِيُّ : مَنْ أَتَى حَدًّا فِي الْحِلّ وَاسْتَجَارَ بِالْحَرَمِ فَلِلْإِمَامِ إِلْجَاؤُهُ إِلَى الْخُرُوج مِنْهُ , وَلَيْسَ لِلْإِمَامِ أَنْ يَنْصِب عَلَيْهِ الْحَرْب بَلْ يُحَاصِرهُ وَيُضَيِّق عَلَيْهِ حَتَّى يُذْعِن لِلطَّاعَةِ , لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " وَإِنَّمَا أُحِلَّتْ لِي سَاعَة مِنْ نَهَار , وَقَدْ عَادَتْ حُرْمَتهَا الْيَوْم كَحُرْمَتِهَا بِالْأَمْسِ " فَعُلِمَ أَنَّهَا لَا تَحِلّ لِأَحَدٍ بَعْده بِالْمَعْنَى الَّذِي حَلَّتْ لَهُ بِهِ وَهُوَ مُحَارَبَة أَهْلهَا وَالْقَتْل فِيهَا.
وَمَال اِبْن الْعَرَبِيّ إِلَى هَذَا , وَقَالَ اِبْن الْمُنِير : قَدْ أَكَّدَ النَّبِيّ التَّحْرِيم بِقَوْلِهِ " حَرَّمَهُ اللَّه " ثُمَّ قَالَ " فَهُوَ حَرَام بِحُرْمَةِ اللَّه " ثُمَّ قَالَ " وَلَمْ تَحِلّ لِي إِلَّا سَاعَة مِنْ نَهَار " وَكَانَ إِذَا أَرَادَ التَّأْكِيد ذِكْر الشَّيْء ثَلَاثًا.
قَالَ فَهَذَا نَصّ لَا يَحْتَمِل التَّأْوِيل.
وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ : ظَاهِر الْحَدِيث يَقْتَضِي تَخْصِيصه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْقِتَالِ لِاعْتِذَارِهِ عَمَّا أُبِيحَ لَهُ مِنْ ذَلِكَ مَعَ أَنَّ أَهْل مَكَّة كَانُوا إِذْ ذَاكَ مُسْتَحَقِّينَ لِلْقِتَالِ وَالْقَتْل لِصَدِّهِمْ عَنْ الْمَسْجِد الْحَرَام وَإِخْرَاجهمْ أَهْله مِنْهُ وَكُفْرهمْ , وَهَذَا الَّذِي فَهِمَهُ أَبُو شُرَيْح كَمَا تَقَدَّمَ , وَقَالَ بِهِ غَيْر وَاحِد مِنْ أَهْل الْعِلْم.
وَقَالَ اِبْن دَقِيق الْعِيد : يَتَأَكَّد الْقَوْل بِالتَّحْرِيمِ بِأَنَّ الْحَدِيث دَال عَلَى أَنَّ الْمَأْذُون لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهِ لَمْ يُؤْذَن لِغَيْرِهِ فِيهِ , وَالَّذِي وَقَعَ لَهُ إِنَّمَا هُوَ مُطْلَق الْقِتَال لَا الْقِتَال الْخَاصّ بِمَا يَعُمّ كَالْمَنْجَنِيقِ فَكَيْف يَسُوغ التَّأْوِيل الْمَذْكُور ؟ وَأَيْضًا فَسِيَاق الْحَدِيث يَدُلّ عَلَى أَنَّ التَّحْرِيم لِإِظْهَارِ حُرْمَة الْبُقْعَة بِتَحْرِيمِ سَفْك الدِّمَاء فِيهَا , وَذَلِكَ لَا يَخْتَصّ بِمَا يُسْتَأْصَل , وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى اِشْتِرَاط الْإِحْرَام عَلَى مَنْ دَخَلَ الْحَرَم.
قَالَ الْقُرْطُبِيّ : مَعْنَى قَوْله حَرَّمَهُ اللَّه أَيْ يَحْرُم عَلَى غَيْر الْمُحْرِم دُخُوله حَتَّى يُحْرِم , وَيَجْرِي هَذَا مَجْرَى قَوْله تَعَالَى ( حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ ) أَيْ وَطْؤُهُنَّ , و ( حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ الْمَيِّتَةُ ) أَيْ أَكْلهَا , فَعُرْف الِاسْتِعْمَال يَدُلّ عَلَى تَعْيِين الْمَحْذُوف.
قَالَ : وَقَدْ دَلَّ عَلَى صِحَّة هَذَا الْمَعْنَى اِعْتِذَاره عَنْ دُخُوله مَكَّة غَيْر مُحْرِم مُقَاتِلًا بِقَوْلِهِ " لَمْ تَحِلّ لِي إِلَّا سَاعَة مِنْ نَهَار " الْحَدِيث.
قَالَ : وَبِهَذَا أَخَذَ مَالِك وَالشَّافِعِيّ فِي أَحَد قَوْلَيْهِمَا وَمَنْ تَبِعَهُمَا فِي ذَلِكَ فَقَالُوا : لَا يَجُوز لِأَحَدٍ أَنْ يَدْخُل مَكَّة إِلَّا مُحْرِمًا , إِلَّا إِذَا كَانَ مِمَّنْ يُكْثِر التَّكْرَار.
قُلْت : وَسَيَأْتِي بَسْط الْقَوْل فِي ذَلِكَ بَعْد سَبْعَة أَبْوَاب.
‏ ‏قَوْله : ( وَأَنَّهُ لَا يَحِلّ الْقِتَال ) الْهَاء فِي " أَنَّهُ " ضَمِير الشَّأْن , وَوَقَعَ فِي رِوَايَة الْكُشْمِيهَنِيّ " لَمْ يَحِلّ " بِلَفْظِ " لَمْ " بَدَل " لَا " وَهِيَ أَشْبَه لِقَوْلِهِ قَبْلِي.
‏ ‏قَوْله : ( لَا يُعْضَد شَوْكه ) ‏ ‏تَقَدَّمَ الْبَحْث فِيهِ فِي حَدِيث أَبِي شُرَيْح.
‏ ‏قَوْله ( وَلَا يَلْتَقِط لُقَطَتَهُ إِلَّا مَنْ عَرَّفَهَا ) ‏ ‏سَيَأْتِي الْبَحْث فِيهِ فِي كِتَاب اللُّقَطَة إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى.
‏ ‏قَوْله ( وَلَا يُخْتَلَى خَلَاهَا ) ‏ ‏بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَة , وَالْخَلَا مَقْصُور , وَذَكَر اِبْن التِّين أَنَّهُ وَقَعَ فِي رِوَايَة الْقَابِسِيّ بِالْمَدِّ وَهُوَ الرَّطْب مِنْ النَّبَات وَاخْتِلَاؤُهُ قَطْعه وَاحْتِشَاشه , وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى تَحْرِيم رَعْيه لِكَوْنِهِ أَشَدّ مِنْ الِاحْتِشَاش , وَبِهِ قَالَ مَالِك وَالْكُوفِيُّونَ وَاخْتَارَهُ الطَّبَرِيُّ.
وَقَالَ الشَّافِعِيّ : لَا بَأْس بِالرَّعْيِ لِمَصْلَحَةِ الْبَهَائِم وَهُوَ عَمَل النَّاس , بِخِلَافِ الِاحْتِشَاش فَإِنَّهُ الْمَنْهِيّ عَنْهُ فَلَا يُتَعَدَّى ذَلِكَ إِلَى غَيْره.
وَفِي تَخْصِيص التَّحْرِيم بِالرَّطْبِ إِشَارَة إِلَى جَوَاز رَعْي الْيَابِس وَاخْتِلَائِهِ , وَهُوَ أَصَحّ الْوَجْهَيْنِ لِلشَّافِعِيَّةِ لِأَنَّ النَّبْت الْيَابِس كَالصَّيْدِ الْمَيِّت.
قَالَ اِبْن قُدَامَةَ : لَكِنْ فِي اِسْتِثْنَاء الْإِذْخِر إِشَارَة إِلَى تَحْرِيم الْيَابِس مِنْ الْحَشِيش , وَيَدُلّ عَلَيْهِ أَنَّ فِي بَعْض طُرُق حَدِيث أَبَى هُرَيْرَة " وَلَا يُحْتَشّ حَشِيشهَا " قَالَ وَأَجْمَعُوا عَلَى إِبَاحَة أَخْذ مَا اِسْتَنْبَتَهُ النَّاس فِي الْحَرَم مِنْ بَقْل وَزَرْع وَمَشْمُوم فَلَا بَأْس بِرَعْيِهِ وَاخْتِلَائِهِ.
‏ ‏قَوْله : ( فَقَالَ الْعَبَّاس ) ‏ ‏أَيْ اِبْن عَبْد الْمُطَّلِب كَمَا وَقَعَ مُبَيَّنًا فِي الْمَغَازِي مِنْ وَجْه آخَر.
‏ ‏قَوْله : ( إِلَّا الْإِذْخِر ) ‏ ‏يَجُوز فِيهِ الرَّفْع وَالنَّصْب , أَمَّا الرَّفْع فَعَلَى الْبَدَل مِمَّا قَبْله , وَأَمَّا النَّصْب فَلِكَوْنِهِ اِسْتِثْنَاء وَاقِعًا بَعْد النَّفْي.
وَقَالَ اِبْن مَالِك : الْمُخْتَار النَّصْب لِكَوْنِ الِاسْتِثْنَاء وَقَعَ مُتَرَاخِيًا عَنْ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ فَبَعُدَتْ الْمُشَاكَلَة بِالْبَدَلِيَّةِ , وَلِكَوْنِ الِاسْتِثْنَاء أَيْضًا عَرَضَ فِي آخِر الْكَلَام وَلَمْ يَكُنْ مَقْصُودًا.
وَالْإِذْخِر : نَبْت مَعْرُوف عِنْد أَهْل مَكَّة طَيِّب الرِّيح لَهُ أَصْل مُنْدَفِن وَقُضْبَان دِقَاق يَنْبُت فِي السَّهْل وَالْحَزَن , وَبِالْمَغْرِبِ صِنْف مِنْهُ فِيمَا قَالَهُ اِبْن الْبَيْطَار , قَالَ : وَالَّذِي بِمَكَّة أَجْوَده , وَأَهْل مَكَّة يَسْقُفُونَ بِهِ الْبُيُوت بَيْن الْخَشَب وَيَسُدُّونَ بِهِ الْخَلَل بَيْن اللَّبِنَات فِي الْقُبُور وَيَسْتَعْمِلُونَهُ بَدَلًا مِنْ الْحَلْفَاء فِي الْوَقُود , وَلِهَذَا قَالَ الْعَبَّاس " فَإِنَّهُ لِقَيْنِهِمْ " وَهُوَ بِفَتْحِ الْقَاف وَسُكُون التَّحْتَانِيَّة بَعْدهَا نُون أَيْ الْحَدَّاد.
وَقَالَ الطَّبَرِيُّ : الْقَيْن عِنْد الْعَرَب كُلّ ذِي صِنَاعَة يُعَالِجهَا بِنَفْسِهِ , وَوَقَعَ فِي رِوَايَة الْمَغَازِي " فَإِنَّهُ لَا بُدّ مِنْهُ لِلْقَيْنِ وَالْبُيُوت " وَفِي الرِّوَايَة الَّتِي فِي الْبَاب قَبْله " فَإِنَّهُ لِصَاغَتِنَا وَقُبُورنَا " وَوَقَعَ فِي مُرْسَل مُجَاهِد عِنْد عُمَر بْن شَبَّة الْجَمْع بَيْن الثَّلَاثَة , وَوَقَعَ عِنْده أَيْضًا " فَقَالَ الْعَبَّاس : يَا رَسُول اللَّه , إِنَّ أَهْل مَكَّة لَا صَبْر لَهُمْ عَنْ الْإِذْخِر لِقَيْنِهِمْ وَبُيُوتهمْ " وَهَذَا يَدُلّ عَلَى أَنَّ الِاسْتِثْنَاء فِي حَدِيث الْبَاب لَمْ يُرَدْ بِهِ أَنْ يَسْتَثْنِي هُوَ وَإِنَّمَا أَرَادَ بِهِ أَنْ يُلَقِّنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الِاسْتِثْنَاء , وَقَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي جَوَابه " إِلَّا الْإِذْخِر " هُوَ اِسْتِثْنَاء بَعْض مِنْ كُلّ لِدُخُولِ الْإِذْخِر فِي عُمُوم مَا يُخْتَلَى.
وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى جَوَاز النَّسْخ قَبْل الْفِعْل وَلَيْسَ بِوَاضِحٍ , وَعَلَى جَوَاز الْفَصْل بَيْن الْمُسْتَثْنَى وَالْمُسْتَثْنَى مِنْهُ , وَمَذْهَب الْجُمْهُور اِشْتِرَاط الِاتِّصَال إِمَّا لَفْظًا وَإِمَّا حُكْمًا لِجَوَازِ الْفَصْل بِالتَّنَفُّسِ مَثَلًا , وَقَدْ اُشْتُهِرَ عَنْ اِبْن عَبَّاس الْجَوَاز مُطْلَقًا , وَيُمْكِن أَنْ يُحْتَجّ لَهُ بِظَاهِرِ هَذِهِ الْقِصَّة.
وَأَجَابُوا عَنْ ذَلِكَ بِأَنَّ هَذَا الِاسْتِثْنَاء فِي حُكْم الْمُتَّصِل لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُون صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرَادَ أَنْ يَقُول إِلَّا الْإِذْخِر فَشَغَلَهُ الْعَبَّاس بِكَلَامِهِ فَوَصَلَ كَلَامه بِكَلَامِ نَفْسه فَقَالَ : إِلَّا الْإِذْخِر , وَقَدْ قَالَ اِبْن مَالِك : يَجُوز الْفَصْل مَعَ إِضْمَار الِاسْتِثْنَاء مُتَّصِلًا بِالْمُسْتَثْنَى مِنْهُ , وَاخْتَلَفُوا هَلْ كَانَ قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " إِلَّا الْإِذْخِر " بِاجْتِهَادٍ أَوْ وَحْي ؟ وَقِيلَ كَأَنَ اللَّه فَوَّضَ لَهُ الْحُكْم فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَة مُطْلَقًا , وَقِيلَ أَوْحَى إِلَيْهِ قَبْل ذَلِكَ أَنَّهُ إِنْ طَلَبَ أَحَد اِسْتِثْنَاء شَيْء مِنْ ذَلِكَ فَأَجِبْ سُؤَاله.
وَقَالَ الطَّبَرِيُّ : سَاغَ لِلْعَبَّاسِ أَنْ يَسْتَثْنِي الْإِذْخِر لِأَنَّهُ اِحْتَمَلَ عِنْده أَنْ يَكُون الْمُرَاد بِتَحْرِيمِ مَكَّة تَحْرِيم الْقِتَال دُون مَا ذُكِرَ مِنْ تَحْرِيم الِاخْتِلَاء فَإِنَّهُ مِنْ تَحْرِيم الرَّسُول بِاجْتِهَادِهِ فَسَاغَ لَهُ أَنْ يَسْأَلهُ اِسْتِثْنَاء الْإِذْخِر , وَهَذَا مَبْنِيّ عَلَى أَنَّ الرَّسُول كَانَ لَهُ أَنْ يَجْتَهِد فِي الْأَحْكَام , وَلَيْسَ مَا قَالَهُ بِلَازِمٍ بَلْ فِي تَقْرِيره صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْعَبَّاسِ عَلَى ذَلِكَ دَلِيل عَلَى جَوَاز تَخْصِيص الْعَامّ , وَحَكَى اِبْن بَطَّال عَنْ الْمُهَلَّب أَنَّ الِاسْتِثْنَاء هُنَا لِلضَّرُورَةِ كَتَحْلِيلِ أَكْل الْمَيْتَة عِنْد الضَّرُورَة , وَقَدْ بَيَّنَ الْعَبَّاس ذَلِكَ بِأَنَّ الْإِذْخِر لَا غِنَى لِأَهْلِ مَكَّة عَنْهُ.
وَتَعَقَّبَهُ اِبْن الْمُنِير بِأَنَّ الَّذِي يُبَاح لِلضَّرُورَةِ يُشْتَرَط حُصُولهَا فِيهِ , فَلَوْ كَانَ الْإِذْخِر مِثْل الْمَيْتَة لَامْتَنَعَ اِسْتِعْمَاله إِلَّا فِيمَنْ تَحَقَّقَتْ ضَرُورَته إِلَيْهِ , وَالْإِجْمَاع عَلَى أَنَّهُ مُبَاح مُطْلَقًا بِغَيْرِ قَيْد الضَّرُورَة.
اِنْتَهَى.
وَيُحْتَمَل أَنْ يَكُونَ مُرَاد الْمُهَلَّب بِأَنَّ أَصْل إِبَاحَته كَانَتْ لِلضَّرُورَةِ وَسَبَبهَا , لَا أَنَّهُ يُرِيد أَنَّهُ مُقَيَّد بِهَا.
قَالَ اِبْن الْمُنِير : وَالْحَقّ أَنَّ سُؤَال الْعَبَّاس كَانَ عَلَى مَعْنَى الضَّرَاعَة , وَتَرْخِيص النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ تَبْلِيغًا عَنْ اللَّه إِمَّا بِطَرِيقِ الْإِلْهَام أَوْ بِطَرِيقِ الْوَحْي , وَمَنْ اِدَّعَى أَنَّ نُزُول الْوَحْي يَحْتَاج إِلَى أَمَد مُتَّسِع فَقَدْ وَهَمَ وَفِي الْحَدِيث بَيَان خُصُوصِيَّة النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَا ذُكِرَ فِي الْحَدِيث , وَجَوَاز مُرَاجَعَة الْعَالِم فِي الْمَصَالِح الشَّرْعِيَّة , وَالْمُبَادَرَة إِلَى ذَلِكَ فِي الْمَجَامِع وَالْمَشَاهِد , وَعَظِيم مَنْزِلَة الْعَبَّاس عِنْد النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , وَعِنَايَته بِأَمْرِ مَكَّة لِكَوْنِهِ كَانَ بِهَا أَصْله وَمُنْشَؤُهُ , وَفِيهِ رَفْع وُجُوب الْهِجْرَة عَنْ مَكَّة إِلَى الْمَدِينَة , وَإِبْقَاء حُكْمهَا مِنْ بِلَاد الْكُفْر إِلَى يَوْم الْقِيَامَة , وَأَنَّ الْجِهَاد يُشْتَرَط أَنْ يُقْصَد بِهِ الْإِخْلَاص وَوُجُوب النَّفِير مَعَ الْأَئِمَّة.


حديث لا هجرة ولكن جهاد ونية وإذا استنفرتم فانفروا فإن هذا بلد حرم الله يوم خلق

الحديث بالسند الكامل مع التشكيل

‏ ‏حَدَّثَنَا ‏ ‏عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ ‏ ‏حَدَّثَنَا ‏ ‏جَرِيرٌ ‏ ‏عَنْ ‏ ‏مَنْصُورٍ ‏ ‏عَنْ ‏ ‏مُجَاهِدٍ ‏ ‏عَنْ ‏ ‏طَاوُسٍ ‏ ‏عَنْ ‏ ‏ابْنِ عَبَّاسٍ ‏ ‏رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا, ‏ ‏قَالَ: ‏ ‏قَالَ النَّبِيُّ ‏ ‏صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ‏ ‏يَوْمَ افْتَتَحَ ‏ ‏مَكَّةَ ‏ ‏لَا هِجْرَةَ وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ وَإِذَا اسْتُنْفِرْتُمْ فَانْفِرُوا فَإِنَّ هَذَا بَلَدٌ حَرَّمَ اللَّهُ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَهُوَ حَرَامٌ بِحُرْمَةِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَإِنَّهُ لَمْ يَحِلَّ الْقِتَالُ فِيهِ لِأَحَدٍ قَبْلِي وَلَمْ يَحِلَّ لِي إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ فَهُوَ حَرَامٌ بِحُرْمَةِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا ‏ ‏يُعْضَدُ ‏ ‏شَوْكُهُ وَلَا يُنَفَّرُ صَيْدُهُ وَلَا يَلْتَقِطُ لُقَطَتَهُ إِلَّا مَنْ عَرَّفَهَا وَلَا يُخْتَلَى خَلَاهَا قَالَ ‏ ‏الْعَبَّاسُ ‏ ‏يَا رَسُولَ اللَّهِ إِلَّا ‏ ‏الْإِذْخِرَ ‏ ‏فَإِنَّهُ لِقَيْنِهِمْ وَلِبُيُوتِهِمْ قَالَ قَالَ إِلَّا ‏ ‏الْإِذْخِرَ ‏

كتب الحديث النبوي الشريف

المزيد من أحاديث صحيح البخاري

احتجم رسول الله ﷺ وهو محرم

سفيان، قال: قال لنا عمرو: أول شيء سمعت عطاء يقول: سمعت ابن عباس رضي الله عنهما يقول: «احتجم رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو محرم»، ثم سمعته يقول: حد...

احتجم النبي ﷺ وهو محرم بلحي جمل في وسط رأسه

عن ابن بحينة رضي الله عنه، قال: «احتجم النبي صلى الله عليه وسلم، وهو محرم بلحي جمل في وسط رأسه»

أن النبي ﷺ تزوج ميمونة وهو محرم

عن ابن عباس رضي الله عنهما، «أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوج ميمونة وهو محرم»

لا تلبسوا القميص ولا السراويلات ولا العمائم

عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، قال: قام رجل فقال: يا رسول الله ماذا تأمرنا أن نلبس من الثياب في الإحرام؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تلبسو...

اغسلوه وكفنوه ولا تغطوا رأسه ولا تقربوه طيبا فإنه...

عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: وقصت برجل محرم ناقته، فقتلته، فأتي به رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: « اغسلوه، وكفنوه، ولا تغطوا رأسه، ولا تقربوه...

يغسل المحرم رأسه وقال المسور لا يغسل المحرم رأسه

عن إبراهيم بن عبد الله بن حنين، عن أبيه، أن عبد الله بن العباس، والمسور بن مخرمة، اختلفا بالأبواء فقال: عبد الله بن عباس يغسل المحرم رأسه، وقال المسو...

من لم يجد النعلين فليلبس الخفين

عن جابر بن زيد، سمعت ابن عباس رضي الله عنهما، قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يخطب بعرفات: «من لم يجد النعلين فليلبس الخفين، ومن لم يجد إزارا فليلب...

سئل رسول الله ﷺ ما يلبس المحرم من الثياب

عن سالم، عن عبد الله رضي الله عنه، سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما يلبس المحرم من الثياب؟ فقال: «لا يلبس القميص، ولا العمائم، ولا السراويلات، ولا...

من لم يجد الإزار فليلبس السراويل ومن لم يجد النعلي...

عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: خطبنا النبي صلى الله عليه وسلم بعرفات، فقال: «من لم يجد الإزار فليلبس السراويل، ومن لم يجد النعلين فليلبس الخفين»