حديث الرسول ﷺ English الإجازة تواصل معنا
الحديث النبوي

من أحدث حدثا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين - صحيح البخاري

صحيح البخاري | كتاب فضائل المدينة باب حرم المدينة (حديث رقم: 1867 )


1867- عن أنس رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: المدينة حرم من كذا إلى كذا، لا يقطع شجرها، ولا يحدث فيها حدث، من أحدث حدثا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين "

أخرجه البخاري


أخرجه مسلم في الحج باب فضل المدينة ودعاء النبي صلى الله عليه وسلم فيها بالبركة رقم 1366 (حرم) محرمة.
(من كذا إلى كذا) من عير إلى أحد وعير جبل بقرب المدينة.
(حدث) عمل مخالف للكتاب والسنة

شرح حديث (من أحدث حدثا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين)

فتح الباري شرح صحيح البخاري: ابن حجر العسقلاني - أحمد بن علي بن حجر العسقلاني

‏ ‏قَوْله : ( عَنْ أَنَس ) ‏ ‏فِي رِوَايَة عَبْد الْوَاحِد عَنْ عَاصِم " قُلْت لِأَنَسٍ " وَسَيَأْتِي فِي الِاعْتِصَام , وَلِيَزِيدَ بْنِ هَارُون عَنْ عَاصِم " سَأَلْت أَنَسًا " أَخْرَجَهُ مُسْلِم.
‏ ‏قَوْله : ( الْمَدِينَة حَرَم مِنْ كَذَا إِلَى كَذَا ) ‏ ‏هَكَذَا جَاءَ مُبْهَمًا , وَسَيَأْتِي فِي حَدِيث عَلِيٍّ رَابِع أَحَادِيث الْبَاب " مَا بَيْن عَائِر إِلَى كَذَا " فَعَيَّنَ الْأَوَّل وَهُوَ بِمُهْمَلَةٍ وَزْن فَاعِل , وَذَكَرَهُ فِي الْجِزْيَة وَغَيْرهَا بِلَفْظِ " عَيْر " بِسُكُونِ التَّحْتَانِيَّة , وَهُوَ جَبَل بِالْمَدِينَةِ كَمَا سَنُوَضِّحُهُ.
وَاتَّفَقَتْ رِوَايَات الْبُخَارِيّ كُلّهَا عَلَى إِبْهَام الثَّانِي.
وَوَقَعَ عِنْد مُسْلِم " إِلَى ثَوْر " فَقِيلَ إِنَّ الْبُخَارِيّ أَبْهَمَهُ عَمْدًا لَمَّا وَقَعَ عِنْده أَنَّهُ وَهْم , وَقَالَ صَاحِب " الْمَشَارِق " و " الْمَطَالِع " : أَكْثَر رُوَاة الْبُخَارِيّ ذَكَرُوا عَيْرًا , وَأَمَّا ثَوْر فَمِنْهُمْ مَنْ كَنَّى عَنْهُ بِكَذَا وَمِنْهُمْ مَنْ تَرَكَ مَكَانه بَيَاضًا , وَالْأَصْل فِي هَذَا التَّوَقُّف قَوْل مُصْعَب الزُّبَيْرِيّ : لَيْسَ بِالْمَدِينَةِ عَيْر وَلَا ثَوْر.
وَأَثْبَتَ غَيْره عَيْرًا وَوَافَقَهُ عَلَى إِنْكَار ثَوْر , قَالَ أَبُو عُبَيْد : قَوْله " مَا بَيْن عَيْر إِلَى ثَوْر " هَذِهِ رِوَايَة أَهْل الْعِرَاق , وَأَمَّا أَهْل الْمَدِينَة فَلَا يَعْرِفُونَ جَبَلًا عِنْدهمْ يُقَال لَهُ ثَوْر وَإِنَّمَا ثَوْر بِمَكَّة , وَنَرَى أَنَّ أَصْل الْحَدِيث " مَا بَيْن عَيْر إِلَى أُحُد ".
قُلْت : وَقَدْ وَقَعَ ذَلِكَ فِي حَدِيث عَبْد اللَّه بْن سَلَام عِنْد أَحْمَد وَالطَّبَرَانِيِّ.
وَقَالَ عِيَاض : لَا مَعْنَى لِإِنْكَارِ عَيْر بِالْمَدِينَةِ فَإِنَّهُ مَعْرُوف , وَقَدْ جَاءَ ذِكْره فِي أَشْعَارهمْ , وَأَنْشَدَ أَبُو عُبَيْد الْبَكْرِيّ فِي ذَلِكَ عِدَّة شَوَاهِد , مِنْهَا قَوْل الْأَحْوَص الْمَدَنِيّ الشَّاعِر الْمَشْهُور : ‏ ‏فَقُلْت لِعَمْرٍو تِلْكَ يَا عَمْرو نَاره ‏ ‏تَشِبّ قَفَا عَيْر فَهَلْ أَنْتَ نَاظِر ‏ ‏وَقَالَ اِبْن السَّيِّد فِي " الْمُثَلَّث " : عَيْر اِسْم جَبَل بِقُرْبِ الْمَدِينَة مَعْرُوف.
وَرَوَى الزُّبَيْر فِي " أَخْبَار الْمَدِينَة " عَنْ عِيسَى بْن مُوسَى قَالَ : قَالَ سَعِيد بْن عَمْرو لِبِشْرِ بْن السَّائِب أَتَدْرِي لِمَ سَكَنَّا الْعَقَبَة ؟ قَالَ : لَا.
قَالَ : لِأَنَّا قَتَلْنَا مِنْكُمْ قَتِيلًا فِي الْجَاهِلِيَّة فَأُخْرِجْنَا إِلَيْهَا.
فَقَالَ : وَدِدْت لَوْ أَنَّكُمْ قَتَلْتُمْ مِنَّا آخَر وَسَكَنْتُمْ وَرَاء عَيْر , يَعْنِي جَبَلًا.
كَذَا فِي نَفْس الْخَبَر.
وَقَدْ سَلَكَ الْعُلَمَاء فِي إِنْكَار مُصْعَب الزُّبَيْرِيّ لِعَيْرٍ وَثَوْر مَسَالِك : مَا مِنْهَا تَقَدَّمَ , وَمِنْهَا قَوْل اِبْن قُدَامَةَ يُحْتَمَل أَنْ يَكُون الْمُرَاد مِقْدَار مَا بَيْن عَيْر وَثَوْر لَا أَنَّهُمَا بِعَيْنِهِمَا فِي الْمَدِينَة , أَوْ سَمَّى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْجَبَلَيْنِ اللَّذَيْنِ بِطَرَفَيْ الْمَدِينَة عَيْرًا وَثَوْرًا اِرْتِجَالًا.
وَحَكَى اِبْن الْأَثِير كَلَام أَبِي عُبَيْد مُخْتَصَرًا ثُمَّ قَالَ : وَقِيلَ إِنَّ عَيْرًا جَبَل بِمَكَّة , فَيَكُون الْمُرَاد أَحْرَمَ مِنْ الْمَدِينَة مِقْدَار مَا بَيْن عَيْر وَثَوْر بِمَكَّة عَلَى حَذْف الْمُضَاف وَوَصْف الْمَصْدَر الْمَحْذُوف.
وَقَالَ النَّوَوِيّ : يُحْتَمَل أَنْ يَكُون ثَوْر كَانَ اِسْم جَبَل هُنَاكَ إِمَّا أُحُد وَإِمَّا غَيْره.
وَقَالَ الْمُحِبّ الطَّبَرِيُّ فِي " الْأَحْكَام " بَعْد حِكَايَة كَلَام أَبِي عُبَيْد وَمَنْ تَبِعَهُ : قَدْ أَخْبَرَنِي الثِّقَة الْعَالِم أَبُو مُحَمَّد عَبْد السَّلَام الْبَصْرِيّ أَنَّ حِذَاء أُحُد عَنْ يَسَاره جَانِحًا إِلَى وَرَائِهِ جَبَل صَغِير يُقَال لَهُ ثَوْر , وَأَخْبَرَ أَنَّهُ تَكَرَّرَ سُؤَاله عَنْهُ لِطَوَائِف مِنْ الْعَرَب - أَيْ الْعَارِفِينَ بِتِلْكَ الْأَرْض وَمَا فِيهَا مِنْ الْجِبَال - فَكُلّ أَخْبَرَ أَنَّ ذَلِكَ الْجَبَل اِسْمه ثَوْر , وَتَوَارَدُوا عَلَى ذَلِكَ.
قَالَ فَعَلِمْنَا أَنَّ ذِكْر ثَوْر فِي الْحَدِيث صَحِيح , وَأَنَّ عَدَم عِلْم أَكَابِر الْعُلَمَاء بِهِ لِعَدَمِ شُهْرَته وَعَدَم بَحْثهمْ عَنْهُ.
قَالَ وَهَذِهِ فَائِدَة جَلِيلَة.
اِنْتَهِي.
وَقَرَأْت بِخَطِّ شَيْخ شُيُوخنَا الْقُطْب الْحَلَبِيّ فِي شَرْحه : حَكَى لَنَا شَيْخنَا الْإِمَام أَبُو مُحَمَّد عَبْد السَّلَام بْن مَزْرُوع الْبَصْرِيّ أَنَّهُ خَرَجَ رَسُولًا إِلَى الْعِرَاق فَلَمَّا رَجَعَ إِلَى الْمَدِينَة كَانَ مَعَهُ دَلِيل وَكَانَ يَذْكُر لَهُ الْأَمَاكِن وَالْجِبَال , قَالَ : فَلَمَّا وَصَلْنَا إِلَى أُحُد إِذَا بِقُرْبِهِ جَبَل صَغِير , فَسَأَلْته عَنْهُ فَقَالَ : هَذَا يُسَمَّى ثَوْرًا.
قَالَ فَعَلِمْت صِحَّة الرِّوَايَة.
قُلْت : وَكَأَنَّ هَذَا كَانَ مَبْدَأ سُؤَاله عَنْ ذَلِكَ.
وَذَكَرَ شَيْخنَا أَبُو بَكْر بْن حُسَيْن الْمَرَاغِي نَزِيل الْمَدِينَة فِي مُخْتَصَره لِأَخْبَارِ الْمَدِينَة أَنَّ خَلْفَ أَهْل الْمَدِينَة يَنْقُلُونَ عَنْ سَلَفهمْ أَنَّ خَلْف أُحُد مِنْ جِهَة الشِّمَال جَبَلًا صَغِيرًا إِلَى الْحُمْرَة بِتَدْوِيرٍ يُسَمَّى ثَوْرًا , قَالَ وَقَدْ تَحَقَّقْته بِالْمُشَاهَدَةِ.
وَأَمَّا قَوْل اِبْن التِّين أَنَّ الْبُخَارِيّ أَبْهَمَ اِسْم الْجَبَل عَمْدًا لِأَنَّهُ غَلَط فَهُوَ غَلَط مِنْهُ , بَلْ إِبْهَامه مِنْ بَعْض رُوَاته , فَقَدْ أَخْرَجَهُ فِي الْجِزْيَة فَسَمَّاهُ , وَاللَّه أَعْلَم.
وَمِمَّا يَدُلّ عَلَى أَنَّ الْمُرَاد بِقَوْلِهِ فِي حَدِيث أَنَس مِنْ " كَذَا إِلَى كَذَا جَبَلَانِ " مَا وَقَعَ عِنْد مُسْلِم مِنْ طَرِيق إِسْمَاعِيل بْن جَعْفَر عَنْ عَمْرو بْن أَبِي عَمْرو عَنْ أَنَس مَرْفُوعًا " اللَّهُمَّ إِنِّي أُحَرِّم مَا بَيْن جَبَلَيْهَا " لَكِنْ عِنْد الْمُصَنِّف فِي الْجِهَاد وَغَيْره مِنْ طَرِيق مُحَمَّد بْن جَعْفَر وَيَعْقُوب بْن عَبْد الرَّحْمَن وَمَالك كُلّهمْ عَنْ عَمْرو بِلَفْظِ " مَا بَيْن لَابَتَيْهَا " وَكَذَا فِي حَدِيث أَبِي هُرَيْرَة ثَالِث أَحَادِيث الْبَاب , وَسَيَأْتِي بَعْد أَبْوَاب مِنْ وَجْه آخَر , وَكَذَا فِي حَدِيث رَافِع بْن خَدِيج وَأَبِي سَعِيد وَسَعْد وَجَابِر وَكُلّهَا عِنْد مُسْلِم , وَكَذَا رَوَاهُ أَحْمَد مِنْ حَدِيث عُبَادَةَ الزَّرَقِيّ وَالْبَيْهَقِيُّ مِنْ حَدِيث عَبْد الرَّحْمَن بْن عَوْف وَالطَّبَرَانِيُّ مِنْ حَدِيث أَبِي الْيَسَر وَأَبِي حُسَيْن وَكَعْب اِبْن مَالِك كُلّهمْ بِلَفْظِ " مَا بَيْن لَابَتَيْهَا " وَاللَّابَتَانِ جَمْع لَابَة بِتَخْفِيفِ الْمُوَحَّدَة وَهِيَ الْحَرَّة وَهِيَ الْحِجَارَة السُّود , وَقَدْ تَكَرَّرَ ذِكْرهَا فِي الْحَدِيث.
وَوَقَعَ فِي حَدِيث جَابِر عِنْد أَحْمَد " وَأَنَا أُحَرِّم الْمَدِينَة مَا بَيْن حَرَّتَيْهَا " فَادَّعَى بَعْض الْحَنَفِيَّة أَنَّ الْحَدِيث مُضْطَرِب لِأَنَّهُ وَقَعَ فِي رِوَايَة مَا بَيْن جَبَلَيْهَا وَفِي رِوَايَة مَا بَيْن لَابَتَيْهَا وَفِي رِوَايَة مَأْزِمَيْهَا , وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ الْجَمْع بَيْنهمَا وَاضِح وَبِمِثْلِ هَذَا لَا تُرَدّ الْأَحَادِيث الصَّحِيحَة , فَإِنَّ الْجَمْع لَوْ تَعَذَّرَ أَمْكَنَ التَّرْجِيح , وَلَا شَكَّ أَنَّ رِوَايَة " مَا بَيْن لَابَتَيْهَا " أَرْجَح لِتَوَارُدِ الرُّوَاة عَلَيْهَا , وَرِوَايَة جَبَلَيْهَا لَا تُنَافِيهَا فَيَكُون عِنْد كُلّ لَابَة جَبَل , أَوْ لَابَتَيْهَا مِنْ جِهَة الْجَنُوب وَالشِّمَال وَجَبَلَيْهَا مِنْ جِهَة الشَّرْق وَالْغَرْب , وَتَسْمِيَة الْجَبَلَيْنِ فِي رِوَايَة أُخْرَى لَا تَضُرّ , وَأَمَّا رِوَايَة " مَأْزِمَيْهَا " فَهِيَ فِي بَعْض طُرُق حَدِيث أَبِي سَعِيد , وَالْمَأْزِم بِكَسْرِ الزَّاي الْمَضِيق بَيْن الْجَبَلَيْنِ وَقَدْ يُطْلَق عَلَى الْجَبَل نَفْسه.
وَاحْتَجَّ الطَّحَاوِيُّ بِحَدِيثِ أَنَس فِي قِصَّة أَبِي عُمَيْر مَا فَعَلَ النُّغَيْر قَالَ : لَوْ كَانَ صَيْدهَا حَرَامًا مَا جَازَ حَبْس الطَّيْر , وَأُجِيب بِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُون مِنْ صَيْد الْحِلّ.
قَالَ أَحْمَد : مَنْ صَادَ مِنْ الْحِلّ ثُمَّ أَدْخَلَهُ الْمَدِينَة لَمْ يَلْزَمهُ إِرْسَاله لِحَدِيثِ أَبِي عُمَيْر , وَهَذَا قَوْل الْجُمْهُور.
لَكِنْ لَا يُرَدّ ذَلِكَ عَلَى الْحَنَفِيَّة , لِأَنَّ صَيْد الْحِلّ عِنْدهمْ إِذَا دَخَلَ الْحَرَم كَانَ لَهُ حُكْم الْحَرَم , وَيُحْتَمَل أَنْ تَكُون قِصَّة أَبِي عُمَيْر كَانَتْ قَبْل التَّحْرِيم , وَاحْتَجَّ بَعْضهمْ بِحَدِيثِ أَنَس فِي قِصَّة قَطْع النَّخْل لِبِنَاءِ الْمَسْجِد , وَلَوْ كَانَ قَطْع شَجَرهَا حَرَامًا مَا فَعَلَهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي أَوَّل الْهِجْرَة كَمَا سَيَأْتِي وَاضِحًا فِي أَوَّل الْمَغَازِي , وَحَدِيث تَحْرِيم الْمَدِينَة كَانَ بَعْد رُجُوعه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ خَيْبَر كَمَا سَيَأْتِي فِي حَدِيث عَمْرو بْن أَبِي عَمْرو عَنْ أَنَس فِي الْجِهَاد وَفِي غَزْوَة أُحُد مِنْ الْمَغَازِي وَاضِحًا , وَقَالَ الطَّحَاوِيُّ : يُحْتَمَل أَنْ يَكُون سَبَب النَّهْي عَنْ صَيْد الْمَدِينَة وَقَطْع شَجَرهَا كَوْن الْهِجْرَة كَانَتْ إِلَيْهَا فَكَانَ بَقَاء الصَّيْد وَالشَّجَر مِمَّا يَزِيد فِي زِينَتهَا وَيَدْعُو إِلَى أُلْفَتهَا كَمَا رَوَى اِبْن عُمَر " أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ هَدْم آطَام الْمَدِينَة " فَإِنَّهَا مِنْ زِينَة الْمَدِينَة فَلَمَّا اِنْقَطَعَتْ الْهِجْرَة زَالَ ذَلِكَ , وَمَا قَالَهُ لَيْسَ بِوَاضِحٍ لِأَنَّ النَّسْخ لَا يَثْبُت إِلَّا بِدَلِيلٍ , وَقَدْ ثَبَتَ عَلَى الْفَتْوَى بِتَحْرِيمِهَا سَعْد وَزَيْد بْن ثَابِت وَأَبُو سَعِيد وَغَيْرهمْ كَمَا أَخْرَجَهُ مُسْلِم , وَقَالَ اِبْن قُدَامَةَ : يَحْرُم صَيْد الْمَدِينَة وَقَطْع شَجَرهَا وَبِهِ قَالَ مَالِك وَالشَّافِعِيّ وَأَكْثَر أَهْل الْعِلْم , وَقَالَ أَبُو حَنِيفَة لَا يَحْرُم , ثُمَّ مَنْ فَعَلَ مِمَّا حَرُمَ عَلَيْهِ فِيهِ شَيْئًا أَثِمَ وَلَا جَزَاء عَلَيْهِ فِي رِوَايَة لِأَحْمَد , وَهُوَ قَوْل مَالِك وَالشَّافِعِيّ فِي الْجَدِيد وَأَكْثَر أَهْل الْعِلْم , وَفِي رِوَايَة لِأَحْمَد وَهُوَ قَوْل الشَّافِعِيّ فِي الْقَدِيم وَابْن أَبِي ذِئْب وَاخْتَارَهُ اِبْن الْمُنْذِر وَابْن نَافِع مِنْ أَصْحَاب مَالِك , وَقَالَ الْقَاضِي عَبْد الْوَهَّاب إِنَّهُ الْأَقْيَس وَاخْتَارَهُ جَمَاعَة بَعْدهمْ فِيهِ الْجَزَاء وَهُوَ كَمَا فِي حَرَم مَكَّة , وَقِيلَ الْجَزَاء فِي حَرَم الْمَدِينَة أَخْذ السَّلَب لِحَدِيثٍ صَحَّحَهُ مُسْلِم عَنْ سَعْد بْن أَبِي وَقَّاص , وَفِي رِوَايَة لِأَبِي دَاوُدَ " مَنْ وَجَدَ أَحَدًا يَصِيد فِي حَرَم الْمَدِينَة فَلْيَسْلُبْهُ ".
قَالَ الْقَاضِي عِيَاض : لَمْ يَقُلْ بِهَذَا بَعْد الصَّحَابَة إِلَّا الشَّافِعِيّ فِي الْقَدِيم.
قُلْت : وَاخْتَارَهُ جَمَاعَة مَعَهُ وَبَعْده لِصِحَّةِ الْخَبَر فِيهِ , وَلِمَنْ قَالَ بِهِ اِخْتِلَاف فِي كَيْفِيَّته وَمَصْرِفه , وَالَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ صَنِيع سَعْد عِنْد مُسْلِم وَغَيْره أَنَّهُ كَسَلْبِ الْقَتِيل وَأَنَّهُ لِلسَّالِبِ لَكِنَّهُ لَا يُخَمَّس , وَأَغْرَبَ بَعْض الْحَنَفِيَّة فَادَّعَى الْإِجْمَاع عَلَى تَرْك الْأَخْذ بِحَدِيثِ السَّلْب , ثُمَّ اِسْتَدَلَّ بِذَلِكَ عَلَى نَسْخ أَحَادِيث تَحْرِيم الْمَدِينَة , وَدَعْوَى الْإِجْمَاع مَرْدُودَة فَبَطَلَ مَا تَرَتَّبَ عَلَيْهَا.
قَالَ اِبْن عَبْد الْبَرّ : لَوْ صَحَّ حَدِيث سَعْد لَمْ يَكُنْ فِي نَسْخ أَخْذ السَّلْب مَا يُسْقِط الْأَحَادِيث الصَّحِيحَة.
وَيَجُوز أَخْذ الْعَلَف لِحَدِيثِ أَبِي سَعِيد فِي مُسْلِم " وَلَا يُخْبَط فِيهَا شَجَرَة إِلَّا لِعَلَفٍ " وَلِأَبِي دَاوُدَ مِنْ طَرِيق أَبِي حَسَّان عَنْ عَلِيّ نَحْوه , وَقَالَ الْمُهَلَّب : فِي حَدِيث أَنَس دَلَالَة عَلَى أَنَّ الْمَنْهِيّ عَنْهُ فِي الْحَدِيث الْمَاضِي مَقْصُور عَلَى الْقَطْع الَّذِي يَحْصُل بِهِ الْإِفْسَاد , فَأَمَّا مَنْ يَقْصِد الْإِصْلَاح كَمَنْ يَغْرِس بُسْتَانًا مَثَلًا فَلَا يَمْتَنِع عَلَيْهِ قَطْع مَا كَانَ بِتِلْكَ الْأَرْض مِنْ شَجَر يَضُرّ بَقَاؤُهُ.
قَالَ : وَقِيلَ بَلْ فِيهِ دَلَالَة عَلَى أَنَّ النَّهْي إِنَّمَا يَتَوَجَّه إِلَى مَا أَنْبَتَهُ اللَّه مِنْ الشَّجَر مِمَّا لَا صُنْع لِلْآدَمِيِّ فِيهِ , كَمَا حُمِلَ عَلَيْهِ النَّهْي عَنْ قَطْع شَجَر مَكَّة.
وَعَلَى هَذَا يُحْمَل قَطْعُهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النَّخْل وَجَعْله قِبْلَة الْمَسْجِد وَلَا يَلْزَم مِنْهُ النَّسْخ الْمَذْكُور.
‏ ‏قَوْله : ( لَا يُقْطَع شَجَرهَا ) ‏ ‏فِي رِوَايَة يَزِيد بْن هَارُون " لَا يُخْتَلَى خَلَاهَا " وَفِي حَدِيث جَابِر عِنْد مُسْلِم " لَا يُقْطَع عِضَاههَا وَلَا يُصَاد صَيْدهَا " وَنَحْوه عِنْده عَنْ سَعْد.
‏ ‏قَوْله : ( مَنْ أَحْدَثَ فِيهَا حَدَثًا ) ‏ ‏زَادَ شُعْبَة وَحَمَّاد بْن سَلَمَة عَنْ عَاصِم عِنْد أَبِي عَوَانَة " أَوْ آوَى مُحْدِثًا " وَهَذِهِ الزِّيَادَة صَحِيحَة إِلَّا أَنَّ عَاصِمًا لَمْ يَسْمَعهَا مِنْ أَنَس كَمَا سَيَأْتِي بَيَان ذَلِكَ فِي كِتَاب الِاعْتِصَام ‏ ‏قَوْله : ( فَعَلَيْهِ لَعْنَة اللَّه ) ‏ ‏فِيهِ جَوَاز لَعَنْ أَهْل الْمَعَاصِي وَالْفَسَاد , لَكِنْ لَا دَلَالَة فِيهِ عَلَى لَعَنْ الْفَاسِق الْمُعَيَّن.
وَفِيهِ أَنَّ الْمُحْدِث وَالْمُؤْوِي لِلْمُحْدِثِ فِي الْإِثْم سَوَاء.
وَالْمُرَاد بِالْحَدَثِ وَالْمُحْدِث الظُّلْم وَالظَّالِم عَلَى مَا قِيلَ , أَوْ مَا هُوَ أَعَمّ مِنْ ذَلِكَ.
قَالَ عِيَاض : وَاسْتُدِلَّ بِهَذَا عَلَى أَنَّ الْحَدَث فِي الْمَدِينَة مِنْ الْكَبَائِر , وَالْمُرَاد بِلَعْنَةِ الْمَلَائِكَة وَالنَّاس الْمُبَالَغَة فِي الْإِبْعَاد عَنْ رَحْمَة اللَّه.
قَالَ : وَالْمُرَاد بِاللَّعْنِ هُنَا الْعَذَاب الَّذِي يَسْتَحِقّهُ عَلَى ذَنْبه فِي أَوَّل الْأَمْر , وَلَيْسَ هُوَ كَلَعْنِ الْكَافِر.


حديث

الحديث بالسند الكامل مع التشكيل

‏ ‏حَدَّثَنَا ‏ ‏أَبُو النُّعْمَانِ ‏ ‏حَدَّثَنَا ‏ ‏ثَابِتُ بْنُ يَزِيدَ ‏ ‏حَدَّثَنَا ‏ ‏عَاصِمٌ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْأَحْوَلُ ‏ ‏عَنْ ‏ ‏أَنَسٍ ‏ ‏رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ‏ ‏عَنْ النَّبِيِّ ‏ ‏صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ‏ ‏قَالَ ‏ ‏الْمَدِينَةُ ‏ ‏حَرَمٌ مِنْ كَذَا إِلَى كَذَا لَا يُقْطَعُ شَجَرُهَا وَلَا ‏ ‏يُحْدَثُ ‏ ‏فِيهَا ‏ ‏حَدَثٌ ‏ ‏مَنْ ‏ ‏أَحْدَثَ ‏ ‏حَدَثًا ‏ ‏فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ ‏

كتب الحديث النبوي الشريف

المزيد من أحاديث صحيح البخاري

قدم النبي ﷺ المدينة وأمر ببناء المسجد

عن أنس رضي الله عنه: قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة، وأمر ببناء المسجد، فقال: «يا بني النجار ثامنوني»، فقالوا: لا نطلب ثمنه، إلا إلى الله، فأمر...

حرم ما بين لابتي المدينة على لساني

عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: «حرم ما بين لابتي المدينة على لساني»، قال: وأتى النبي صلى الله عليه وسلم بني حارثة، فقال:...

المدينة حرم ما بين عائر إلى كذا

عن علي رضي الله عنه، قال: ما عندنا شيء إلا كتاب الله، وهذه الصحيفة عن النبي صلى الله عليه وسلم: " المدينة حرم، ما بين عائر إلى كذا، من أحدث فيها حدثا،...

قال رسول الله ﷺ أمرت بقرية تأكل القرى يقولون يثرب

عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أمرت بقرية تأكل القرى، يقولون يثرب، وهي المدينة، تنفي الناس كما ينفي الكير خبث الحد...

أقبلنا مع النبي ﷺ من تبوك حتى أشرفنا على المدينة...

عن أبي حميد رضي الله عنه، أقبلنا مع النبي صلى الله عليه وسلم، من تبوك، حتى أشرفنا على المدينة، فقال: «هذه طابة»

لو رأيت الظباء بالمدينة ترتع ما ذعرتها

عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه كان يقول: لو رأيت الظباء بالمدينة ترتع ما ذعرتها، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما بين لابتيها حرام»

يتركون المدينة على خير ما كانت لا يغشاها إلا العوا...

عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول: «يتركون المدينة على خير ما كانت، لا يغشاها إلا العواف - يريد عوافي السباع وال...

المدينة خير لهم لو كانوا يعلمون

عن سفيان بن أبي زهير رضي الله عنه، أنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول: «تفتح اليمن، فيأتي قوم يبسون، فيتحملون بأهلهم ومن أطاعهم، والمدين...

إن الإيمان ليأرز إلى المدينة كما تأرز الحية إلى جح...

عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: «إن الإيمان ليأرز إلى المدينة كما تأرز الحية إلى جحرها»