2111- عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: «المتبايعان كل واحد منهما بالخيار على صاحبه ما لم يتفرقا، إلا بيع الخيار»
فتح الباري شرح صحيح البخاري: ابن حجر العسقلاني - أحمد بن علي بن حجر العسقلاني
قَوْله : ( إِلَّا بَيْعَ الْخِيَارِ ) أَيْ فَلَا يَحْتَاج إِلَى التَّفَرُّقِ كَمَا سَيَأْتِي شَرْحُهُ فِي الْبَاب الَّذِي يَلِيهِ.
وَفِي رِوَايَةِ أَيُّوبَ عَنْ نَافِعٍ فِي الْبَاب الَّذِي قَبْلَهُ " مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا أَوْ يَقُلْ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ اِخْتَرْ " وَهُوَ ظَاهِرٌ فِي حَصْرِ لُزُومِ الْبَيْعِ بِهَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ , وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى إِثْبَات خِيَارِ الْمَجْلِسِ وَقَدْ مَضَى قَبْلُ بِبَابٍ أَنَّ اِبْنِ عُمَر حَمَلَهُ عَلَى التَّفَرُّق بِالْأَبْدَانِ , وَكَذَلِكَ أَبُو بَرْزَةَ الْأَسْلَمِيّ , وَلَا يُعْرَف لَهُمَا مُخَالِفٌ مِنْ الصَّحَابَة.
وَخَالَفَ فِي ذَلِكَ إِبْرَاهِيم النَّخَعِيُّ فَرَوَى اِبْنُ أَبِي شَيْبَةَ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنْهُ قَالَ " الْبَيْعُ جَائِزٌ وَإِنْ لَمْ يَتَفَرَّقَا " وَرَوَاهُ سَعِيد بْن مَنْصُور عَنْهُ بِلَفْظِ " إِذَا وَجَبَتْ الصَّفْقَةُ فَلَا خِيَارَ " وَبِذَلِكَ قَالَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَّا اِبْنَ حَبِيبٍ وَالْحَنَفِيَّة كُلّهمْ , قَالَ اِبْنِ حَزْم : لَا نَعْلَمُ لَهُمْ سَلَفًا إِلَّا إِبْرَاهِيمَ وَحْدَهُ , وَقَدْ ذَهَبُوا فِي الْجَوَابِ عَنْ حَدِيثَيْ الْبَاب فَرْقًا : فَمِنْهُمْ مَنْ رَدَّهُ لِكَوْنِهِ مُعَارِضًا لِمَا هُوَ أَقْوَى مِنْهُ , وَمِنْهُمْ مَنْ صَحَّحَهُ وَلَكِنْ أَوَّلَهُ عَلَى غَيْر ظَاهِرِهِ , فَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ : هُوَ مَنْسُوخٌ بِحَدِيثِ " الْمُسْلِمُونَ عَلَى شُرُوطِهِمْ " وَالْخِيَارُ بَعْدَ لُزُومِ الْعَقْدِ يُفْسِدُ الشَّرْطَ , وَبِحَدِيثِ التَّحَالُفِ عِنْد اِخْتِلَاف الْمُتَبَايِعَيْنِ لِأَنَّهُ يَقْتَضِي الْحَاجَةَ إِلَى الْيَمِينِ وَذَلِكَ يَسْتَلْزِمُ لُزُومَ الْعَقْدِ وَلَوْ ثَبَتَ الْخِيَارُ لَكَانَ كَافِيًا فِي رَفْعِ الْعَقْدِ , وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى ( وَأُشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ ) وَالْإِشْهَاد إِنْ وَقَعَ بَعْد التَّفَرُّق لَمْ يُطَابِق الْأَمْر وَإِنْ وَقَعَ قَبْلَ التَّفَرُّقِ لَمْ يُصَادِفْ مَحَلًّا , وَلَا حُجَّةَ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ لِأَنَّ النَّسْخَ لَا يَثْبُتُ بِالِاحْتِمَالِ , وَالْجَمْعُ بَيْن الدَّلِيلَيْنِ مَهْمَا أَمْكَنَ لَا يُصَارُ مَعَهُ إِلَى التَّرْجِيحِ , وَالْجَمْعُ هُنَا مُمْكِنٌ بَيْن الْأَدِلَّةِ الْمَذْكُورَةِ بِغَيْرِ تَعَسُّفٍ وَلَا تَكَلُّفٍ.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ هُوَ مِنْ رِوَايَة مَالِكٍ وَقَدْ عَمِلَ بِخِلَافِهِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ عَارَضَهُ مَا هُوَ أَقْوَى مِنْهُ , وَالرَّاوِي إِذَا عَمِلَ بِخِلَافِ مَا رَوَى دَلَّ عَلَى وَهْنِ الْمَرْوِيِّ عِنْدَهُ.
وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ مَالِكًا لَمْ يَتَفَرَّدْ بِهِ , فَقَدْ رَوَاهُ غَيْره وَعَمِلَ بِهِ وَهُمْ أَكْثَرُ عَدَدًا رِوَايَةً وَعَمَلًا , وَقَدْ خَصَّ كَثِيرٌ مِنْ مُحَقِّقِي أَهْلِ الْأُصُولِ الْخِلَافَ الْمَشْهُورَ - فِيمَا إِذَا عَمِلَ الرَّاوِي بِخِلَافِ مَا رَوَى - بِالصَّحَابَةِ دُونَ مَا جَاءَ بَعْدَهُمْ , وَمِنْ قَاعِدَتِهِمْ أَنَّ الرَّاوِيَ أَعْلَمُ بِمَا رَوَى , وَابْنُ عُمَرَ هُوَ رَاوِي الْخَبَرِ وَكَانَ يُفَارِقُ إِذَا بَاعَ بِبَدَنِهِ فَاتِّبَاعُهُ أَوْلَى مِنْ غَيْرِهِ.
وَقَالَتْ طَائِفَةٌ هُوَ مُعَارَضٌ بِعَمَلِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ , وَنَقَلَ اِبْنُ التِّينِ عَنْ أَشْهَبَ بِأَنَّهُ مُخَالِفٌ لِعَمَلِ أَهْلِ مَكَّةَ أَيْضًا.
وَتُعُقِّبَ بِأَنَّهُ قَالَ بِهِ اِبْنُ عُمَرَ ثُمَّ سَعِيدُ بْن الْمُسَيِّبِ ثُمَّ الزُّهْرِيُّ ثُمَّ اِبْنُ أَبِي ذِئْبٍ كَمَا مَضَى , وَهَؤُلَاءِ مِنْ أَكَابِرِ عُلَمَاءِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ فِي أَعْصَارِهِمْ وَلَا يُحْفَظُ عَنْ أَحَدٍ مِنْ عُلَمَاءِ الْمَدِينَةِ الْقَوْلُ بِخِلَافِهِ سِوَى عَنْ رَبِيعَةَ.
وَأَمَّا أَهْلُ مَكَّةَ فَلَا يَعْرِفُ أَحَدٌ مِنْهُمْ الْقَوْلَ بِخِلَافِهِ , فَقَدْ سَبَقَ عَنْ عَطَاءٍ وَطَاوُسٍ وَغَيْرهمَا مِنْ أَهْل مَكَّةَ , وَقَدْ اِشْتَدَّ إِنْكَارُ اِبْنِ عَبْد الْبَرّ وَابْنِ الْعَرَبِيِّ عَلَى مَنْ زَعَمَ مِنْ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّ مَالِكًا تَرَكَ الْعَمَلَ بِهِ لِكَوْنِ عَمَلِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ عَلَى خِلَافِهِ , قَالَ اِبْنُ الْعَرَبِيّ : إِنَّمَا لَمْ يَأْخُذْ بِهِ مَالِكٌ لِأَنَّ وَقْتَ التَّفَرُّقِ غَيْرُ مَعْلُومٍ فَأَشْبَهَ بُيُوعَ الْغَرَرِ كَالْمُلَامَسَةِ , وَتُعُقِّبَ بِأَنَّهُ يَقُولُ بِخِيَارِ الشَّرْطِ وَلَا يَحُدُّهُ بِوَقْتٍ مُعَيَّنٍ , وَمَا اِدَّعَاهُ مِنْ الْغَرَرِ مَوْجُودٌ فِيهِ وَبِأَنَّ الْغَرَرَ فِي خِيَارِ الْمَجْلِسِ مَعْدُومٌ لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا مُتَمَكِّنٌ مِنْ إِمْضَاءِ الْبَيْعِ أَوْ فَسْخه بِالْقَوْلِ أَوْ بِالْفِعْلِ فَلَا غَرَرَ , وَقَالَتْ طَائِفَةٌ هُوَ خَبَرُ وَاحِدٍ فَلَا يُعْمَلُ بِهِ إِلَّا فِيمَا تَعُمُّ بِهِ الْبَلْوَى , وَرُدَّ بِأَنَّهُ مَشْهُورٌ فَيُعْمَلُ بِهِ كَمَا اِدَّعَوْا نَظِير ذَلِكَ فِي خَبَرِ الْقَهْقَهَةِ فِي الصَّلَاةِ وَإِيجَاب الْوِتْر.
وَقَالَ آخَرُونَ : هُوَ مُخَالِفٌ لِلْقِيَاسِ الْجَلِيّ فِي إِلْحَاق مَا قَبْل التَّفَرُّق بِمَا بَعْده , وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ الْقِيَاسَ مَعَ النَّصِّ فَاسِدُ الِاعْتِبَارِ.
وَقَالَ آخَرُونَ : التَّفَرُّقُ بِالْأَبْدَانِ مَحْمُولٌ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ تَحْسِينًا لِلْمُعَامَلَةِ مَعَ الْمُسْلِم لَا عَلَى الْوُجُوب , وَقَالَ آخَرُونَ : هُوَ مَحْمُولٌ عَلَى الِاحْتِيَاطِ لِلْخُرُوجِ مِنْ الْخِلَافِ وَكِلَاهُمَا عَلَى خِلَاف الظَّاهِرِ.
وَقَالَتْ طَائِفَةٌ : الْمُرَاد بِالتَّفَرُّقِ فِي الْحَدِيث التَّفَرُّقُ بِالْكَلَامِ كَمَا فِي عَقْدِ النِّكَاحِ وَالْإِجَارَة وَالْعِتْق , وَتُعُقِّبَ بِأَنَّهُ قِيَاسٌ مَعَ ظُهُورِ الْفَارِقِ لِأَنَّ الْبَيْعَ يُنْقَلُ فِيهِ مِلْكُ رَقَبَةِ الْمَبِيعِ وَمَنْفَعَتُهُ بِخِلَافِ مَا ذُكِرَ , وَقَالَ اِبْنِ حَزْمٍ : سَوَاءٌ قُلْنَا التَّفَرُّق بِالْكَلَامِ أَوْ بِالْأَبْدَانِ فَإِنَّ خِيَار الْمَجْلِس بِهَذَا الْحَدِيث ثَابِتٌ , أَمَّا حَيْثُ قُلْنَا التَّفَرُّق بِالْأَبْدَانِ فَوَاضِحٌ , وَحَيْثُ قُلْنَا بِالْكَلَامِ فَوَاضِح أَيْضًا , لِأَنَّ قَوْل أَحَد الْمُتَبَايِعَيْنِ مَثَلًا بِعْتُكَهُ بِعَشْرَةٍ وَقَوْل الْآخَر بَلْ بِعِشْرِينَ مَثَلًا اِفْتِرَاقٌ فِي الْكَلَامِ بِلَا شَكٍّ , بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ اِشْتَرَيْته بِعَشْرَةٍ فَإِنَّهُمَا حِينَئِذٍ مُتَوَافِقَانِ فَيَتَعَيَّنُ ثُبُوتُ الْخِيَارِ لَهُمَا حِينَ يَتَّفِقَانِ لَا حِينَ يَتَفَرَّقَانِ وَهُوَ الْمُدَّعَى.
وَفِيل الْمُرَاد بِالْمُتَبَايِعَيْنِ الْمُتَسَاوِمَانِ , وَرُدَّ بِأَنَّهُ مَجَازٌ وَالْحَمْلُ عَلَى الْحَقِيقَة أَوْ مَا يَقْرُبُ مِنْهَا أَوْلَى.
وَاحْتَجَّ الطَّحَاوِيُّ بِآيَاتٍ وَأَحَادِيثَ اُسْتُعْمِلَ فِيهَا الْمَجَازُ وَقَالَ : مَنْ أَنْكَرَ اِسْتِعْمَالَ لَفْظِ الْبَائِعِ فِي السَّائِمِ فَقَدْ غَفَلَ عَنْ اِتِّسَاعِ اللُّغَةِ : وَتُعُقِّبَ بِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ اِسْتِعْمَالِ الْمَجَازِ فِي مَوْضِعٍ طَرْدُهُ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ , فَالْأَصْلُ مِنْ الْإِطْلَاقِ الْحَقِيقَة حَتَّى يَقُوم الدَّلِيل عَلَى خِلَافِهِ.
وَقَالُوا أَيْضًا : وَقْت التَّفَرُّق فِي الْحَدِيث هُوَ مَا بَيْن قَوْل الْبَائِع بِعْتُك هَذَا بِكَذَا وَبَيْن قَوْلِ الْمُشْتَرِي اِشْتَرَيْت , قَالُوا فَالْمُشْتَرِي بِالْخِيَارِ فِي قَوْله اِشْتَرَيْت أَوْ تَرَكَهُ وَالْبَائِع بِالْخِيَارِ إِلَى أَنْ يُوجِبَ الْمُشْتَرِي , وَهَكَذَا حَكَاهُ الطَّحَاوِيُّ عَنْ عِيسَى بْن أَبَانَ مِنْهُمْ , وَحَكَاهُ اِبْنِ خُوَيْزَمِنْدَادٍ عَنْ مَالِكٍ , قَالَ عِيسَى بْن أَبَانَ : وَفَائِدَته تَظْهَرُ فِيمَا لَوْ تَفَرَّقَا قَبْل الْقَبُولِ فَإِنَّ الْقَبُولَ يَتَعَذَّر , وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ تَسْمِيَتَهُمَا مُتَبَايِعَيْنِ قَبْلَ تَمَامِ الْعَقْدِ مَجَازٌ أَيْضًا , فَأُجِيبَ بِأَنَّ تَسْمِيَتَهُمَا مُتَبَايِعَيْنِ بَعْد تَمَام الْعَقْدِ مَجَازٌ أَيْضًا , لِأَنَّ اِسْمَ الْفَاعِلِ فِي الْحَالِ حَقِيقَةٌ وَفِيمَا عَدَاهُ مَجَازٌ , فَلَوْ كَانَ الْخِيَارُ بَعْدَ اِنْعِقَادِ الْبَيْعِ لَكَانَ لِغَيْرِ الْبَيِّعَيْنِ وَالْحَدِيث يَرُدُّهُ فَتَعَيَّنَ حَمْلُ التَّفَرُّقِ عَلَى الْكَلَامِ , وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ إِذَا تَعَذَّرَ الْحَمْلُ عَلَى الْحَقِيقَة تَعَيَّنَ الْمَجَازُ , وَإِذَا تَعَارَضَ الْمُجَازَانِ فَالْأَقْرَبُ إِلَى الْحَقِيقَةِ أَوْلَى.
وَأَيْضًا فَالْمُتَبَايِعَانِ لَا يَكُونَانِ مُتَبَايِعَيْنِ حَقِيقَةً إِلَّا فِي حِينَ تَعَاقُدِهِمَا , لَكِنَّ عَقْدَهُمَا لَا يَتِمُّ إِلَّا بِأَحَدِ أَمْرَيْنِ إِمَّا بِإِبْرَامِ الْعَقْدِ أَوْ التَّفَرُّق عَلَى ظَاهِرِ الْخَبَر فَصَحَّ أَنَّهُمَا مُتَعَاقِدَانِ مَا دَامَا فِي مَجْلِس الْعَقْد , فَعَلَى هَذَا تَسْمِيَتُهُمَا مُتَبَايِعَيْنِ حَقِيقَةٌ بِخِلَافِ حَمْلِ الْمُتَبَايِعَيْنِ عَلَى الْمُتَسَاوِمَيْنِ فَإِنَّهُ مَجَازٌ بِاتِّفَاقٍ.
وَقَالَتْ طَائِفَةٌ التَّفَرُّقُ يَقَع بِالْأَقْوَالِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى ( وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ ) , وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ سَيِّئٌ بِذَلِكَ لِكَوْنِهِ يُفْضِي إِلَى التَّفَرُّقِ بِالْأَبْدَانِ , قَالَ الْبَيْضَاوِيُّ : وَمَنْ نَفَى خِيَار الْمَجْلِس اِرْتَكَبَ مُجَازَيْنِ بِحَمْلِهِ التَّفَرُّقَ عَلَى الْأَقْوَالِ وَحَمْلِهِ الْمُتَبَايِعَيْنِ عَلَى الْمُتَسَاوِمَيْنِ , وَأَيْضًا فَكَلَامُ الشَّارِعِ يُصَانُ عَنْ الْحَمْلِ عَلَيْهِ , لِأَنَّهُ يَصِيرُ تَقْدِيرُهُ إِنَّ الْمُتَسَاوِمَيْنِ إِنْ شَاءَا عَقَدَا الْبَيْعَ , وَإِنْ شَاءَا لَمْ يَعْقِدَاهُ وَهُوَ تَحْصِيلُ الْحَاصِلِ لِأَنَّ كُلَّ أَحَد يَعْرِف ذَلِكَ , وَيُقَال لِمَنْ زَعَمَ أَنَّ التَّفَرُّقَ بِالْكَلَامِ : مَا هُوَ الْكَلَامُ الَّذِي يَقَع بِهِ التَّفَرُّق , أَهُوَ الْكَلَامُ الَّذِي وَقَعَ بِهِ الْعَقْدُ أَمْ غَيْره ؟ فَإِنْ كَانَ غَيْرَهُ فَمَا هُوَ , فَلَيْسَ بَيْن الْمُتَعَاقِدَيْنِ كَلَامٌ غَيْرُهُ ؟ وَإِنْ كَانَ هُوَ ذَلِكَ الْكَلَام بِعَيْنِهِ لَزِمَ أَنْ يَكُونَ الْكَلَامُ الَّذِي اِتَّفَقَا عَلَيْهِ وَتَمَّ بَيْعُهُمَا بِهِ هُوَ الْكَلَامُ الَّذِي اِفْتَرَقَا بِهِ وَانْفَسَخَ بَيْعُهُمَا بِهِ وَهَذَا فِي غَايَةِ الْفَسَادِ.
وَقَالَ آخَرُونَ الْعَمَلُ بِظَاهِرِ الْحَدِيثِ مُتَعَذِّرٌ فَيَتَعَيَّنُ تَأْوِيلُهُ , وَبَيَانُ تَعَذُّرِهِ أَنَّ الْمُتَبَايِعَيْنِ إِنْ اِتَّفَقَا فِي الْفَسْخِ أَوْ الْإِمْضَاء لَمْ يَثْبُت لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى الْآخَر خِيَارٌ , وَإِنْ اِخْتَلَفَا فَالْجَمْع بَيْنَ الْفَسْخِ وَالْإِمْضَاءِ جَمْعٌ بَيْنَ النِّقْضَيْنِ وَهُوَ مُسْتَحِيلٌ.
وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْمُرَادَ أَنَّ لِكُلٍّ مِنْهُمَا الْخِيَارَ فِي الْفَسْخِ , وَأَمَّا الْإِمْضَاءُ فَلَا اِحْتِيَاجَ إِلَى اِخْتِيَارِهِ فَإِنَّهُ مُقْتَضَى الْعَقْدِ وَالْحَال يُفْضِي إِلَيْهِ مَعَ السُّكُوت بِخِلَافِ الْفَسْخ.
وَقَالَ آخَرُونَ : حَدِيث اِبْن عُمَر هَذَا وَحَكِيم بْن حِزَام مُعَارَضٌ بِحَدِيثِ عَبْد اللَّه بْن عَمْرو , وَذَلِكَ فِيمَا أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ وَغَيْرُهُ مِنْ طَرِيق عَمْرو بْن شُعَيْب عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ مَرْفُوعًا " الْبَيِّعَانِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا إِلَّا أَنْ تَكُونَ صَفْقَةَ خِيَارٍ , وَلَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يُفَارِقَ صَاحِبَهُ خَشْيَة أَنْ يَسْتَقِيلَهُ " قَالَ اِبْنِ الْعَرَبِيِّ : ظَاهِرُ هَذِهِ الزِّيَادَةِ مُخَالِفٌ لِأَوَّلِ الْحَدِيثِ فِي الظَّاهِرِ , فَإِنْ تَأَوَّلُوا الِاسْتِقَالَةَ فِيهِ عَلَى الْفَسْخِ تَأَوَّلْنَا الْخِيَارَ فِيهِ عَلَى الِاسْتِقَالَةِ وَإِذَا تَعَارَضَ التَّأْوِيلَانِ فُزِعَ إِلَى التَّرْجِيحِ , وَالْقِيَاسُ فِي جَانِبِنَا وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ حَمْلَ الِاسْتِقَالَةِ عَلَى الْفَسْخِ أَوْضَحُ مِنْ حَمْلِ الْخِيَارِ عَلَى الِاسْتِقَالَةِ , لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ الْمُرَاد حَقِيقَة الِاسْتِقَالَة لَمْ تَمْنَعهُ مِنْ الْمُفَارَقَة لِأَنَّهَا لَا تَخْتَصّ بِمَجْلِسِ الْعَقْد , وَقَدْ أَثْبَتّ فِي أَوَّلِ الْحَدِيث الْخِيَار وَمَدَّهُ إِلَى غَايَةِ التَّفَرُّقِ , وَمِنْ الْمَعْلُوم أَنَّ مَنْ لَهُ الْخِيَار لَا يَحْتَاج إِلَى الِاسْتِقَالَةِ فَتَعَيَّنَ حَمْلُهَا عَلَى الْفَسْخ , وَعَلَى ذَلِكَ حَمَلَهُ التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ مِنْ الْعُلَمَاء فَقَالُوا : مَعْنَاهُ لَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يُفَارِقَهُ بَعْد الْبَيْعِ خَشْيَةَ أَنْ يَخْتَارَ فَسْخ الْبَيْعِ لِأَنَّ الْعَرَبَ تَقُولُ اِسْتَقَلْت مَا فَاتَ عَنِّي إِذَا اِسْتَدْرَكَهُ , فَالْمُرَاد بِالِاسْتِقَالَةِ فَسْخُ النَّادِم مِنْهُمَا لِلْبَيْعِ.
وَحَمَلُوا نَفْيَ الْحِلِّ عَلَى الْكَرَاهَةِ لِأَنَّهُ لَا يَلِيق بِالْمُرُوءَةِ وَحُسْن مُعَاشَرَةِ الْمُسْلِمِ , إِلَّا أَنَّ اِخْتِيَارَ الْفَسْخِ حَرَامٌ , قَالَ اِبْنِ حَزْمٍ : اِحْتِجَاجُهُمْ بِحَدِيثِ عَمْرو بْن شُعَيْبٍ عَلَى التَّفَرُّقِ بِالْكَلَامِ لِقَوْلِهِ فِيهِ " خَشْيَةَ أَنْ يَسْتَقِيلَهُ " لِكَوْنِ الِاسْتِقَالَةِ لَا تَكُونُ إِلَّا بَعْدَ تَمَامِ الْبَيْعِ , وَصِحَّة اِنْتِقَالِ الْمِلْك تَسْتَلْزِمُ أَنْ يَكُونُ الْخَبَر الْمَذْكُور لَا فَائِدَة لَهُ لِأَنَّهُ يَلْزَم مِنْ حَمْل التَّفَرُّقِ عَلَى الْقَوْل إِبَاحَةُ الْمُفَارَقَة , خَشِيَ أَنْ يَسْتَقِيلَهُ أَوْ لَمْ يَخْشَ.
وَقَالَ بَعْضهمْ التَّفَرُّق بِالْأَبْدَانِ فِي الصَّرْف قَبْل الْقَبْض يُبْطِل الْعَقْد فَكَيْف يُثْبِتُ الْعَقْدَ مَا يُبْطِلُهُ ؟ وَتُعُقِّبَ بِاخْتِلَافِ الْجِهَةِ وَبِالْمُعَارَضَةِ بِنَظِيرِهِ , وَذَلِكَ أَنَّ النَّقْدَ وَتَرْكَ الْأَجَلِ شَرْطٌ لِصِحَّةِ الصَّرْف وَهُوَ يُفْسِدُ السَّلَمَ عِنْدَهُمْ.
وَاحْتَجَّ بَعْضُهُمْ بِحَدِيثِ اِبْنِ عُمَر الْآتِي بَعْدَ بَابَيْنِ فِي قِصَّةِ الْبَكْرِ الصَّعْبِ وَسَيَأْتِي تَوَجُّهُهُ وَجَوَابُهُ , وَاحْتَجَّ الطَّحَاوِيُّ بِقَوْلِ اِبْنِ عُمَر : مَا أَدْرَكْت الصَّفْقَةَ حَيًّا مَجْمُوعًا فَهُوَ مِنْ مَالِ الْمُبْتَاعِ : وَتُعُقِّبَ بِأَنَّهُمْ يُخَالِفُونَهُ , أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَقَالُوا : هُوَ مِنْ مَالِ الْبَائِعِ مَا لَمْ يَرَهُ الْمُبْتَاعُ أَوْ يَنْقُلْهُ.
وَالْمَالِكِيَّةُ قَالُوا : إِنْ كَانَ غَائِبًا غِيبَةً بَعِيدَةً فَهُوَ مِنْ الْبَائِعِ وَأَنَّهُ لَا حُجَّةَ فِيهِ لِأَنَّ الصَّفْقَةَ فِيهِ مَحْمُولَةٌ عَلَى الْبَيْع الَّذِي اِنْبَرَمَ لَا عَلَى مَا لَمْ يَنْبَرِم جَمْعًا بَيْن كَلَامَيْهِ , وَقَالَ بَعْضهمْ مَعْنَى قَوْله حَتَّى يَتَفَرَّقَا أَيْ حَتَّى يَتَوَافَقَا يُقَال لِلْقَوْمِ : عَلَى مَاذَا تَفَارَقْتُمْ ؟ أَيْ عَلَى مَاذَا اِتَّفَقْتُمْ ؟ وَتُعُقِّبَ بِمَا وَرَدَ فِي بَقِيَّة حَدِيث اِبْنِ عُمَر فِي جَمِيع طُرُقه وَلَا سِيَّمَا فِي طَرِيق اللَّيْث الْآتِيَة فِي الْبَاب الَّذِي بَعْد هَذَا , وَقَالَ بَعْضهمْ حَدِيث " الْبَيِّعَانِ بِالْخِيَارِ " جَاءَ بِأَلْفَاظٍ مُخْتَلِفَةٍ فَهُوَ مُضْطَرِبٌ لَا يُحْتَجُّ بِهِ , وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَ مَا اِخْتَلَفَ مِنْ أَلْفَاظِهِ مُمْكِنٌ بِغَيْرِ تَكَلُّفٍ وَلَا تَعَسُّفٍ فَلَا يَضُرُّهُ الِاخْتِلَافُ , وَشَرْطُ الْمُضْطَرِبِ أَنْ يَتَعَذَّرَ الْجَمْعُ بَيْن مُخْتَلِف أَلْفَاظِهِ وَلَيْسَ هَذَا الْحَدِيثُ مِنْ ذَلِكَ.
وَقَالَ بَعْضهمْ : لَا يَتَعَيَّنُ حَمْل الْخِيَار فِي هَذَا الْحَدِيث عَلَى خِيَار الْفَسْخ , فَلَعَلَّهُ أُرِيدَ بِهِ خِيَار الشِّرَاء أَوْ خِيَار الزِّيَادَة فِي الثَّمَن أَوْ الْمُثَمَّن , وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْمَعْهُود فِي كَلَامِهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَيْثُ يُطْلِقُ الْخِيَارَ إِرَادَةَ خِيَارِ الْفَسْخِ كَمَا فِي حَدِيث الْمُصَرَّاةِ وَكَمَا فِي حَدِيث الَّذِي يُخْدَعُ فِي الْبُيُوعِ.
وَأَيْضًا فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْمُرَاد بِالْمُتَبَايِعَيْنِ الْمُتَعَاقِدَانِ فَبَعْدَ صُدُورِ الْعَقْدِ لَا خِيَار فِي الشِّرَاءِ وَلَا فِي الثَّمَنِ.
وَقَالَ اِبْنِ عَبْد الْبَرّ : قَدْ أَكْثَرَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَفِيَّةُ مِنْ الِاحْتِجَاجِ لِرَدِّ هَذَا الْحَدِيثِ بِمَا يَطُولُ ذِكْرُهُ , وَأَكْثَرُهُ لَا يَحْصُلُ مِنْهُ شَيْءٌ.
وَحَكَى اِبْنُ السَّمْعَانِيّ فِي " الِاصْطِلَاح " عَنْ بَعْض الْحَنَفِيَّة قَالَ : الْبَيْع عَقْدٌ مَشْرُوعٌ بِوَصْفٍ وَحُكْمٍ , فَوَصْفُهُ اللُّزُومُ وَحُكْمُهُ الْمِلْكُ , وَقَدْ تَمَّ الْبَيْعُ بِالْعَقْدِ فَوَجَبَ أَنْ يَتِمَّ بِوَصْفِهِ وَحُكْمِهِ , فَأَمَّا تَأْخِيرُ ذَلِكَ إِلَى أَنْ يَفْتَرِقَا فَلَيْسَ عَلَيْهِ دَلِيل لِأَنَّ السَّبَب إِذَا تَمَّ يُفِيدُ حُكْمَهُ , وَلَا يَنْتَفِي إِلَّا بِعَارِضٍ وَمَنْ اِدَّعَاهُ فَعَلَيْهِ الْبَيَانُ.
وَأَجَابَ أَنَّ الْبَيْعَ سَبَب لِلْإِيقَاعِ فِي النَّدَمِ وَالنَّدَمُ يُحْوِج إِلَى النَّظَر فَأَثْبَتَ الشَّارِعُ خِيَارَ الْمَجْلِسِ نَظَرًا لِلْمُتَعَاقِدَيْنِ لِيَسْلَمَا مِنْ النَّدَمِ , وَدَلِيلُهُ خِيَار الرُّؤْيَة عِنْدهمْ وَخِيَار الشَّرْط عِنْدَنَا.
قَالَ : وَلَوْ لَزِمَ الْعَقْدُ بِوَصْفِهِ وَحُكْمِهِ لَمَا شُرِعَتْ الْإِقَالَةُ , لَكِنَّهَا شُرِعَتْ نَظَرًا لِلْمُتَعَاقِدَيْنِ , إِلَّا أَنَّهَا شُرِعَتْ لِاسْتِدْرَاكِ نَدَمٍ يَنْفَرِدُ بِهِ أَحَدُهُمَا فَلَمْ تَجِبْ , وَخِيَارُ الْمَجْلِسِ شُرِعَ لِاسْتِدْرَاكِ نَدَمٍ يَشْتَرِكَانِ فِيهِ فَوَجَبَ.
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ الْمُتَبَايِعَانِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالْخِيَارِ عَلَى صَاحِبِهِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا إِلَّا بَيْعَ الْخِيَارِ
عن ابن عمر رضي الله عنهما، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنه قال: «إذا تبايع الرجلان، فكل واحد منهما بالخيار ما لم يتفرقا، وكانا جميعا، أو يخير أحد...
عن ابن عمر رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: «كل بيعين لا بيع بينهما حتى يتفرقا، إلا بيع الخيار»
عن حكيم بن حزام رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: «البيعان بالخيار ما لم يتفرقا» قال همام: وجدت في كتابي «يختار - ثلاث مرار -، فإن صدقا...
عن ابن عمر رضي الله عنهما، قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر، فكنت على بكر صعب لعمر، فكان يغلبني، فيتقدم أمام القوم، فيزجره عمر ويرده، ثم يت...
عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: أن رجلا ذكر للنبي صلى الله عليه وسلم، أنه يخدع في البيوع، فقال: «إذا بايعت فقل لا خلابة»
عن عائشة رضي الله عنها، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يغزو جيش الكعبة، فإذا كانوا ببيداء من الأرض، يخسف بأولهم وآخرهم» قالت: قلت: يا رسول ا...
عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " صلاة أحدكم في جماعة، تزيد على صلاته في سوقه وبيته بضعا وعشرين درجة، وذلك بأنه إذا...
عن أنس بن مالك رضي الله عنه، قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم في السوق، فقال رجل: يا أبا القاسم، فالتفت إليه النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: إنما دعو...
عن أنس رضي الله عنه: دعا رجل بالبقيع يا أبا القاسم، فالتفت إليه النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: لم أعنك قال: «سموا باسمي، ولا تكتنوا بكنيتي»