6983- عن أنس بن مالك : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «الرؤيا الحسنة، من الرجل الصالح، جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة.»
(الحسنة) باعتبار حسن ظاهرها أو حسن تأويلها.
(الرجل) أي الإنسان رجلا أو امرأة.
(من النبوة) لأن الأنبياء يخبرون بما سيكون والرؤيا تدل على ما يكون.
وقيل هذا في حق رؤيا الأنبياء دون غيرهم وكان الأنبياء يوحى إليهم في منامهم كما يوحى إليهم في اليقظة
فتح الباري شرح صحيح البخاري: ابن حجر العسقلاني - أحمد بن علي بن حجر العسقلاني
قَوْله ( عَنْ أَنَس بْن مَالِك أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ ) سَيَأْتِي بَعْد بَاب مِنْ وَجْه آخَر " عَنْ أَنَس عَنْ عُبَادَةَ بْن الصَّامِت " وَيَأْتِي بَيَانه هُنَاكَ.
قَوْله ( الرُّؤْيَا الْحَسَنَة مِنْ الرَّجُل الصَّالِح ) هَذَا يُقَيِّد مَا أُطْلِقَ فِي غَيْر هَذِهِ الرِّوَايَة كَقَوْلِهِ " رُؤْيَا الْمُؤْمِن جُزْء " وَلَمْ يُقَيِّدهَا بِكَوْنِهَا حَسَنَة وَلَا بِأَنَّ رَائِيهَا صَالِح , وَوَقَعَ فِي حَدِيث أَبِي سَعِيد " الرُّؤْيَا الصَّالِحَة " وَهُوَ تَفْسِير الْمُرَاد بِالْحَسَنَةِ هُنَا , قَالَ الْمُهَلَّب : الْمُرَاد غَالِب رُؤْيَا الصَّالِحِينَ , وَإِلَّا فَالصَّالِح قَدْ يَرَى الْأَضْغَاث وَلَكِنَّهُ نَادِر لِقِلَّةِ تَمَكُّن الشَّيْطَان مِنْهُمْ , بِخِلَافِ عَكْسهمْ فَإِنَّ الصِّدْق فِيهَا نَادِر لِغَلَبَةِ تَسَلُّط الشَّيْطَان عَلَيْهِمْ , قَالَ : فَالنَّاس عَلَى هَذَا ثَلَاث دَرَجَات : الْأَنْبِيَاء وَرُؤْيَاهُمْ كُلّهَا صِدْق وَقَدْ يَقَع فِيهَا مَا يَحْتَاج إِلَى تَعْبِير , وَالصَّالِحُونَ وَالْأَغْلَب عَلَى رُؤْيَاهُمْ الصِّدْق وَقَدْ يَقَع فِيهَا مَا لَا يَحْتَاج إِلَى تَعْبِير , وَمَنْ عَدَاهُمْ يَقَع فِي رُؤْيَاهُمْ الصِّدْق وَالْأَضْغَاث وَهِيَ ثَلَاثَة أَقْسَام : مَسْتُورُونَ فَالْغَالِب اِسْتِوَاء الْحَال فِي حَقّهمْ , وَفَسَقَةٌ وَالْغَالِب عَلَى رُؤْيَاهُمْ الْأَضْغَاث وَيَقِلُّ فِيهَا الصِّدْق , وَكُفَّار وَيَنْدُر فِي رُؤْيَاهُمْ الصِّدْق جِدًّا وَيُشِير إِلَى ذَلِكَ قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " وَأَصْدَقُهُمْ رُؤْيَا أَصْدَقُهُمْ حَدِيثًا " أَخْرَجَهُ مُسْلِم مِنْ حَدِيث أَبِي هُرَيْرَة , وَسَتَأْتِي الْإِشَارَة إِلَيْهِ فِي " بَاب الْقَيْد فِي الْمَنَام " إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى.
وَقَدْ وَقَعَتْ الرُّؤْيَا الصَّادِقَة مِنْ بَعْض الْكُفَّار كَمَا فِي رُؤْيَا صَاحِبَيْ السِّجْن مَعَ يُوسُف عَلَيْهِ السَّلَام وَرُؤْيَا مَلِكهمَا وَغَيْر ذَلِكَ , وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْر بْن الْعَرَبِيّ : رُؤْيَا الْمُؤْمِن الصَّالِح هِيَ الَّتِي تُنْسَب إِلَى أَجْزَاء النُّبُوَّة , وَمَعْنَى صَلَاحهَا اِسْتِقَامَتهَا وَانْتِظَامهَا , قَالَ : وَعِنْدِي أَنَّ رُؤْيَا الْفَاسِق لَا تُعَدّ فِي أَجْزَاء النُّبُوَّة , وَقِيلَ تُعَدّ مِنْ أَقْصَى الْأَجْزَاء , وَأَمَّا رُؤْيَا الْكَافِر فَلَا تُعَدّ أَصْلًا.
وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ : الْمُسْلِم الصَّادِق الصَّالِح هُوَ الَّذِي يُنَاسِب حَالُهُ حَالَ الْأَنْبِيَاء فَأُكْرِمَ بِنَوْعٍ مِمَّا أُكْرِمَ بِهِ الْأَنْبِيَاء وَهُوَ الِاطِّلَاع عَلَى الْغَيْب , وَأَمَّا الْكَافِر وَالْفَاسِق وَالْمُخَلِّط فَلَا , وَلَوْ صَدَقَتْ رُؤْيَاهُمْ أَحْيَانًا فَذَاكَ كَمَا قَدْ يَصْدُق الْكَذُوب وَلَيْسَ كُلّ مَنْ حَدَّثَ عَنْ غَيْب يَكُون خَبَره مِنْ أَجْزَاء النُّبُوَّة كَالْكَاهِنِ وَالْمُنَجِّم.
وَقَوْله " مِنْ الرَّجُل " ذُكِرَ لِلْغَالِبِ فَلَا مَفْهُوم لَهُ فَإِنَّ الْمَرْأَة الصَّالِحَة كَذَلِكَ قَالَهُ اِبْن عَبْد الْبَرّ.
قَوْله ( جُزْء مِنْ سِتَّة وَأَرْبَعِينَ جُزْءًا مِنْ النُّبُوَّة ) كَذَا وَقَعَ فِي أَكْثَرِ الْأَحَادِيث , وَلِمُسْلِمٍ مِنْ حَدِيث أَبِي هُرَيْرَة " جُزْء مِنْ خَمْسَة وَأَرْبَعِينَ " أَخْرَجَهُ مِنْ طَرِيق أَيُّوب عَنْ مُحَمَّد بْن سِيرِينَ عَنْهُ , وَسَيَأْتِي لِلْمُصَنِّفِ مِنْ طَرِيق عَوْف عَنْ مُحَمَّد بِلَفْظِ " سِتَّة " كَالْجَادَّةِ , وَوَقَعَ عِنْد مُسْلِم أَيْضًا مِنْ حَدِيث اِبْن عُمَر " جُزْء مِنْ سَبْعِينَ جُزْءًا " وَكَذَا أَخْرَجَهُ اِبْن أَبِي شَيْبَة عَنْ اِبْن مَسْعُود مَوْقُوفًا , وَأَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ مِنْ وَجْه آخَر عَنْهُ مَرْفُوعًا , وَلَهُ مِنْ وَجْه آخَر عَنْهُ " جُزْء مِنْ سِتَّة وَسَبْعِينَ " وَسَنَدهَا ضَعِيف , وَأَخْرَجَهُ اِبْن أَبِي شَيْبَة أَيْضًا مِنْ رِوَايَة حُصَيْنٍ عَنْ أَبِي صَالِح عَنْ أَبِي هُرَيْرَة مَوْقُوفًا كَذَلِكَ , وَأَخْرَجَهُ أَحْمَدُ مَرْفُوعًا , لَكِنْ أَخْرَجَهُ مُسْلِم مِنْ رِوَايَة الْأَعْمَش عَنْ أَبِي صَالِح كَالْجَادَّةِ , وَلِابْنِ مَاجَهْ مِثْل حَدِيث اِبْن عُمَر مَرْفُوعًا وَسَنَده لَيِّن , وَعِنْد أَحْمَدَ وَالْبَزَّار عَنْ اِبْن عَبَّاس بِمِثْلِهِ وَسَنَده جَيِّد , وَأَخْرَجَ اِبْن عَبْد الْبَرّ مِنْ طَرِيق عَبْد الْعَزِيز بْن الْمُخْتَار عَنْ ثَابِت عَنْ أَنَس مَرْفُوعًا " جُزْء مِنْ سِتَّة وَعِشْرِينَ " وَالْمَحْفُوظ مِنْ هَذَا الْوَجْه كَالْجَادَّةِ , وَسَيَأْتِي لِلْبُخَارِيِّ قَرِيبًا , وَمِثْله لِمُسْلِمٍ مِنْ رِوَايَة شُعْبَة عَنْ ثَابِت , وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ وَأَبُو يَعْلَى وَالطَّبَرِيّ فِي " تَهْذِيب الْآثَار " مِنْ طَرِيق الْأَعْرَج عَنْ سُلَيْمَان بْن عَرِيب بِمُهْمَلَةٍ وَزْن عَظِيم مِنْ أَبِي هُرَيْرَة كَالْجَادَّةِ , قَالَ سُلَيْمَان : فَذَكَرْته لِابْنِ عَبَّاس فَقَالَ " جُزْء مِنْ خَمْسِينَ " فَقُلْت لَهُ إِنِّي سَمِعْت أَبَا هُرَيْرَة فَقَالَ اِبْن عَبَّاس : فَإِنِّي سَمِعْت الْعَبَّاس بْن عَبْد الْمُطَّلِب يَقُول " سَمِعْت رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول الرُّؤْيَا الصَّالِحَة مِنْ الْمُؤْمِن جُزْء مِنْ خَمْسِينَ جُزْءًا مِنْ النُّبُوَّة " وَلِلتِّرْمِذِيِّ وَالطَّبَرِيّ مِنْ حَدِيث أَبِي رَزِين الْعُقَيْلِيّ " جُزْء مِنْ أَرْبَعِينَ " وَأَخْرَجَ التِّرْمِذِيّ مِنْ وَجْه آخَرَ كَالْجَادَّةِ , وَأَخْرَجَهُ الطَّبَرِيُّ مِنْ وَجْه آخَرَ عَنْ اِبْن عَبَّاس " أَرْبَعِينَ " وَلِلطَّبَرِيِّ مِنْ حَدِيث عُبَادَةَ " جُزْء مِنْ أَرْبَعَة وَأَرْبَعِينَ " وَالْمَحْفُوظ عَنْ عُبَادَةَ كَالْجَادَّةِ كَمَا سَيَأْتِي بَعْد بَاب وَأَخْرَجَ الطَّبَرِيُّ وَأَحْمَدُ مِنْ حَدِيث عَبْد اللَّه بْن عَمْرو بْن الْعَاصِ " جُزْء مِنْ تِسْعَة وَأَرْبَعِينَ " وَذَكَرَهُ الْقُرْطُبِيّ فِي " الْمُفْهِم " بِلَفْظِ " سَبْعَة " بِتَقْدِيمِ السِّين , فَحَصَلْنَا مِنْ هَذِهِ الرِّوَايَات عَلَى عَشَرَة أَوْجُهٍ أَقَلُّهَا جُزْء مِنْ سِتَّة وَعِشْرِينَ وَأَكْثَرُهَا مِنْ سِتَّة وَسَبْعِينَ وَبَيْن ذَلِكَ أَرْبَعِينَ وَأَرْبَعَة وَأَرْبَعِينَ وَخَمْسَة وَأَرْبَعِينَ وَسِتَّة وَأَرْبَعِينَ وَسَبْعَة وَأَرْبَعِينَ وَتِسْعَة وَأَرْبَعِينَ وَخَمْسِينَ وَسَبْعِينَ , أَصَحُّهَا مُطْلَقًا الْأَوَّل وَيَلِيهِ السَّبْعِينَ , وَوَقَعَ فِي شَرْح النَّوَوِيّ وَفِي رِوَايَة عُبَادَةَ أَرْبَعَة وَعِشْرِينَ , وَفِي رِوَايَة اِبْن عُمَر سِتَّة وَعِشْرِينَ وَهَاتَانِ الرِّوَايَتَانِ لَا أَعْرِف مَنْ أَخْرَجَهُمَا إِلَّا أَنَّ بَعْضهمْ نَسَبَ رِوَايَة اِبْن عُمَر هَذِهِ لِتَخْرِيجِ الطَّبَرِيّ , وَوَقَعَ فِي كَلَام اِبْن أَبِي جَمْرَة أَنَّهُ وَرَدَ بِأَلْفَاظٍ مُخْتَلِفَة فَذَكَرَ بَعْض مَا تَقَدَّمَ وَزَادَ فِي رِوَايَة اِثْنَيْنِ وَسَبْعِينَ , وَفِي أُخْرَى اِثْنَيْنِ وَأَرْبَعِينَ وَفِي أُخْرَى سَبْعَة وَعِشْرِينَ وَفِي أُخْرَى خَمْسَة وَعِشْرِينَ فَبَلَغَتْ عَلَى هَذَا خَمْسَة عَشَرَ لَفْظًا.
وَقَدْ اُسْتُشْكِلَ كَوْن الرُّؤْيَا جُزْءًا مِنْ النُّبُوَّة مَعَ أَنَّ النُّبُوَّة اِنْقَطَعَتْ بِمَوْتِ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , فَقِيلَ فِي الْجَوَاب إِنْ وَقَعَتْ الرُّؤْيَا مِنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهِيَ جُزْء مِنْ أَجْزَاء النُّبُوَّة حَقِيقَة وَإِنْ وَقَعَتْ مِنْ غَيْر النَّبِيّ فَهِيَ جُزْء مِنْ أَجْزَاء النُّبُوَّة عَلَى سَبِيل الْمَجَاز.
وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ قِيلَ : مَعْنَاهُ أَنَّ الرُّؤْيَا تَجِيء عَلَى مُوَافَقَة النُّبُوَّة لَا أَنَّهَا جُزْء بَاقٍ مِنْ النُّبُوَّة , وَقِيلَ الْمَعْنَى أَنَّهَا جُزْء مِنْ عِلْم النُّبُوَّة لِأَنَّ النُّبُوَّة وَإِنْ اِنْقَطَعَتْ فَعِلْمهَا بَاقٍ , وَتُعُقِّبَ بِقَوْلِ مَالِك فِيمَا حَكَاهُ اِبْن عَبْد الْبَرّ أَنَّهُ سُئِلَ : أَيَعْبُرُ الرُّؤْيَا كُلُّ أَحَد ؟ فَقَالَ أَبِالنُّبُوَّةِ يُلْعَب ؟ ثُمَّ قَالَ : الرُّؤْيَا جُزْء مِنْ النُّبُوَّة فَلَا يُلْعَب بِالنُّبُوَّةِ.
وَالْجَوَاب أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ أَنَّهَا نُبُوَّة بَاقِيَة وَإِنَّمَا أَرَادَ أَنَّهَا لَمَّا أَشْبَهَتْ النُّبُوَّة مِنْ جِهَة الِاطِّلَاع عَلَى بَعْض الْغَيْب لَا يَنْبَغِي أَنْ يُتَكَلَّم فِيهَا بِغَيْرِ عِلْم.
وَقَالَ اِبْن بَطَّال : كَوْن الرُّؤْيَا جُزْءًا مِنْ أَجْزَاء النُّبُوَّة مِمَّا يُسْتَعْظَم وَلَوْ كَانَتْ جُزْءًا مِنْ أَلْف جُزْء , فَيُمْكِن أَنْ يُقَال إِنَّ لَفْظ النُّبُوَّة مَأْخُوذ مِنْ الْإِنْبَاء وَهُوَ الْإِعْلَام لُغَة , فَعَلَى هَذَا فَالْمَعْنَى أَنَّ الرُّؤْيَا خَبَر صَادِق مِنْ اللَّه لَا كَذِب فِيهِ كَمَا أَنَّ مَعْنَى النُّبُوَّة نَبَأ صَادِق مِنْ اللَّه لَا يَجُوز عَلَيْهِ الْكَذِب فَشَابَهَتْ الرُّؤْيَا النُّبُوَّةَ فِي صِدْق الْخَبَر.
وَقَالَ الْمَازِرِيّ : يَحْتَمِل أَنْ يُرَاد بِالنُّبُوَّةِ فِي هَذَا الْحَدِيث الْخَبَر بِالْغَيْبِ لَا غَيْر وَإِنْ كَانَ يَتْبَع ذَاكَ إِنْذَار أَوْ تَبْشِير فَالْخَبَر بِالْغَيْبِ أَحَد ثَمَرَات النُّبُوَّة , وَهُوَ غَيْر مَقْصُود لِذَاتِهِ لِأَنَّهُ يَصِحّ أَنْ يُبْعَث نَبِيّ يُقَرِّر الشَّرْع وَيُبَيِّن الْأَحْكَام وَإِنْ لَمْ يُخْبِرْ فِي طُول عُمْره بِغَيْبٍ وَلَا يَكُون ذَلِكَ قَادِحًا فِي نُبُوَّته وَلَا مُبْطِلًا لِلْمَقْصُودِ مِنْهَا , وَالْخَبَر بِالْغَيْبِ مِنْ النَّبِيّ لَا يَكُون إِلَّا صِدْقًا وَلَا يَقَع إِلَّا حَقًّا , وَأَمَّا خُصُوص الْعَدَد فَهُوَ مِمَّا أَطْلَعَ اللَّهُ عَلَيْهِ نَبِيَّهُ لِأَنَّهُ يَعْلَم مِنْ حَقَائِق النُّبُوَّة مَا لَا يَعْلَمهُ غَيْره , قَالَ : وَقَدْ سَبَقَ بِهَذَا الْجَوَاب جَمَاعَة لَكِنَّهُمْ لَمْ يَكْشِفُوهُ وَلَمْ يُحَقِّقُوهُ.
وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْر بْن الْعَرَبِيّ : أَجْزَاء النُّبُوَّة لَا يَعْلَم حَقِيقَتهَا إِلَّا مَلَك أَوْ نَبِيٌّ , وَإِنَّمَا الْقَدْر الَّذِي أَرَادَهُ النَّبِيّ أَنْ يُبَيِّن أَنَّ الرُّؤْيَا جُزْء مِنْ أَجْزَاء النُّبُوَّة فِي الْجُمْلَة لِأَنَّ فِيهَا اِطِّلَاعًا عَلَى الْغَيْب مِنْ وَجْه مَا , وَأَمَّا تَفْصِيل النِّسْبَة فَيَخْتَصّ بِمَعْرِفَتِهِ دَرَجَة النُّبُوَّة.
وَقَالَ الْمَازِرِيّ : لَا يَلْزَم الْعَالِم أَنْ يَعْرِف كُلّ شَيْء جُمْلَة وَتَفْصِيلًا , فَقَدْ جَعَلَ اللَّه لِلْعَالِمِ حَدًّا يَقِف عِنْده , فَمِنْهُ مَا يَعْلَم الْمُرَادَ بِهِ جُمْلَة وَتَفْصِيلًا , وَمِنْهُ مَا يَعْلَمهُ جُمْلَة لَا تَفْصِيلًا , وَهَذَا مِنْ هَذَا الْقَبِيل.
وَقَدْ تَكَلَّمَ بَعْضهمْ عَلَى الرِّوَايَة الْمَشْهُورَة وَأَبْدَى لَهَا مُنَاسَبَة فَنَقَلَ اِبْن بَطَّال عَنْ أَبِي سَعِيد السَّفَاقِسِيّ أَنَّ بَعْض أَهْل الْعِلْم ذَكَرَ أَنَّ اللَّه أَوْحَى إِلَى نَبِيّه فِي الْمَنَام سِتَّة أَشْهُر , ثُمَّ أَوْحَى إِلَيْهِ بَعْد ذَلِكَ فِي الْيَقَظَة بَقِيَّة مُدَّة حَيَاته , وَنِسْبَتهَا مِنْ الْوَحْي فِي الْمَنَام جُزْء مِنْ سِتَّة وَأَرْبَعِينَ جُزْءًا لِأَنَّهُ عَاشَ بَعْد النُّبُوَّة ثَلَاثًا وَعِشْرِينَ سَنَة عَلَى الصَّحِيح , قَالَ اِبْن بَطَّال : هَذَا التَّأْوِيل يَفْسُد مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدهمَا أَنَّهُ قَدْ اُخْتُلِفَ فِي قَدْر الْمُدَّة الَّتِي بَعْد بَعْثَة النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى مَوْته , وَالثَّانِي أَنَّهُ يَبْقَى حَدِيث السَّبْعِينَ جُزْءًا بِغَيْرِ مَعْنًى.
قُلْت : وَيُضَاف إِلَيْهِ بَقِيَّة الْأَعْدَاد الْوَاقِعَة.
وَقَدْ سَبَقَهُ الْخَطَّابِيُّ إِلَى إِنْكَار هَذِهِ الْمُنَاسَبَة فَقَالَ : كَانَ بَعْض أَهْل الْعِلْم يَقُول فِي تَأْوِيل هَذَا الْعَدَد قَوْلًا لَا يَكَاد يَتَحَقَّق , وَذَلِكَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَقَامَ بَعْد الْوَحْي ثَلَاثًا وَعِشْرِينَ سَنَة وَكَانَ يُوحَى إِلَيْهِ فِي مَنَامه سِتَّة أَشْهُر وَهِيَ نِصْف سَنَة فَهِيَ جُزْء مِنْ سِتَّة وَأَرْبَعِينَ جُزْءًا مِنْ النُّبُوَّة , قَالَ الْخَطَّابِيُّ : وَهَذَا وَإِنْ كَانَ وَجْهًا تَحْتَمِلهُ قِسْمَة الْحِسَاب وَالْعَدَد فَأَوَّل مَا يَجِب عَلَى مَنْ قَالَهُ أَنْ يُثْبِت بِمَا اِدَّعَاهُ خَبَرًا , وَلَمْ يُسْمَع فِيهِ أَثَرٌ وَلَا ذَكَرَ مُدَّعِيهِ فِي ذَلِكَ خَبَرًا , فَكَأَنَّهُ قَالَهُ عَلَى سَبِيل الظَّنّ وَالظَّنّ لَا يُغْنِي مِنْ الْحَقّ شَيْئًا , وَلَئِنْ كَانَتْ هَذِهِ الْمُدَّة مَحْسُوبَة مِنْ أَجْزَاء النُّبُوَّة عَلَى مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ فَلْيُلْحَقْ بِهَا سَائِر الْأَوْقَات الَّتِي كَانَ يُوحَى إِلَيْهِ فِيهَا فِي مَنَامه فِي طُول الْمُدَّة كَمَا ثَبَتَ ذَلِكَ عَنْهُ فِي أَحَادِيث كَثِيرَة جَلِيلَة الْقَدْر , وَالرُّؤْيَا فِي أُحُد وَفِي دُخُول مَكَّة فَإِنَّهُ يَتَلَفَّق مِنْ ذَلِكَ مُدَّة أُخْرَى وَتُزَاد فِي الْحِسَاب فَتَبْطُل الْقِسْمَة الَّتِي ذَكَرَهَا , قَالَ : فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى ضَعْف مَا تَأَوَّلَهُ الْمَذْكُور , وَلَيْسَ كُلّ مَا خَفِيَ عَلَيْنَا عِلْمُهُ لَا يَلْزَمُنَا حُجَّتُهُ كَأَعْدَادِ الرَّكَعَات وَأَيَّام الصِّيَام وَرَمْي الْجِمَار فَإِنَّا لَا نَصِل مِنْ عِلْمهَا إِلَى أَمْر يُوجِب حَصْرهَا تَحْت أَعْدَادهَا , وَلَمْ يَقْدَحْ ذَلِكَ فِي مُوجَب اِعْتِقَادنَا لِلُزُومِهَا , وَهُوَ كَقَوْلِهِ فِي حَدِيث آخَر " الْهَدْي الصَّالِح وَالسَّمْت الصَّالِح جُزْء مِنْ خَمْسَة وَعِشْرِينَ جُزْءًا مِنْ النُّبُوَّة " فَإِنَّ تَفْصِيل هَذَا الْعَدَد وَحَصْر النُّبُوَّة مُتَعَذِّر وَإِنَّمَا فِيهِ أَنَّ هَاتَيْنِ الْخَصْلَتَيْنِ مِنْ جُمْلَة هَدْيِ الْأَنْبِيَاء وَسَمْتهمْ , فَكَذَلِكَ مَعْنَى حَدِيث الْبَاب الْمُرَاد بِهِ تَحْقِيق أَمْر الرُّؤْيَا وَأَنَّهَا مِمَّا كَانَ الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِ وَأَنَّهَا جُزْء مِنْ أَجْزَاء الْعِلْم الَّذِي كَانَ يَأْتِيهِمْ وَالْأَنْبَاء الَّتِي كَانَ يَنْزِل بِهَا الْوَحْي عَلَيْهِمْ , وَقَدْ قَبِلَ جَمَاعَة مِنْ الْأَئِمَّة الْمُنَاسَبَة الْمَذْكُورَة وَأَجَابُوا عَمَّا أَوْرَدَهُ الْخَطَّابِيُّ , أَمَّا الدَّلِيل عَلَى كَوْن الرُّؤْيَا كَانَتْ سِتَّة أَشْهُر فَهُوَ أَنَّ اِبْتِدَاء الْوَحْي كَانَ عَلَى رَأْس الْأَرْبَعِينَ مِنْ عُمْره صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا جَزَمَ بِهِ اِبْن إِسْحَاق وَغَيْره وَذَلِكَ فِي رَبِيع الْأَوَّل وَنُزُول جِبْرِيل إِلَيْهِ وَهُوَ بِغَارِ حِرَاء كَانَ فِي رَمَضَان وَبَيْنهمَا سِتَّة أَشْهُر , وَفِي هَذَا الْجَوَاب نَظَر لِأَنَّهُ عَلَى تَقْدِير تَسْلِيمه لَيْسَ فِيهِ تَصْرِيح بِالرُّؤْيَا , وَقَدْ قَالَ النَّوَوِيّ : لَمْ يَثْبُت أَنَّ زَمَن الرُّؤْيَا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ سِتَّة أَشْهُر وَأَمَّا مَا أَلْزَمَهُ بِهِ مِنْ تَلْفِيق أَوْقَات الْمَرَائِي وَضَمّهَا إِلَى الْمُدَّة فَإِنَّ الْمُرَاد وَحْي الْمَنَام الْمُتَتَابِع , وَأَمَّا مَا وَقَعَ مِنْهُ فِي غُضُون وَحْي الْيَقَظَة فَهُوَ يَسِير بِالنِّسْبَةِ إِلَى وَحْي الْيَقَظَة فَهُوَ مَغْمُور فِي جَانِب وَحْي الْيَقَظَة فَلَمْ يُعْتَبَر بِمُدَّتِهِ , وَهُوَ نَظِير مَا اِعْتَمَدُوهُ فِي نُزُول الْوَحْي , وَقَدْ أَطْبَقُوا عَلَى تَقْسِيم النُّزُول إِلَى مَكِّيّ وَمَدَنِيّ قَطْعًا فَالْمَكِّيّ مَا نَزَلَ قَبْل الْهِجْرَة وَلَوْ وَقَعَ بِغَيْرِهَا مَثَلًا كَالطَّائِفِ وَنَخْلَةَ وَالْمَدَنِيّ مَا نَزَلَ بَعْد الْهِجْرَة وَلَوْ وَقَعَ وَهُوَ بِغَيْرِهَا كَمَا فِي الْغَزَوَات وَسَفَر الْحَجّ وَالْعُمْرَة حَتَّى مَكَّة.
قُلْت : وَهُوَ اِعْتِذَار مَقْبُول , وَيُمْكِن الْجَوَاب عَنْ اِخْتِلَاف الْأَعْدَاد أَنَّهُ وَقَعَ بِحَسَبِ الْوَقْت الَّذِي حَدَّثَ فِيهِ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَلِكَ كَأَنْ يَكُون لَمَّا أَكْمَلَ ثَلَاث عَشْرَة سَنَة بَعْد مَجِيء الْوَحْي إِلَيْهِ حَدَّثَ بِأَنَّ الرُّؤْيَا جُزْء مِنْ سِتَّة وَعِشْرِينَ إِنْ ثَبَتَ الْخَبَر بِذَلِكَ وَذَلِكَ وَقْت الْهِجْرَة , وَلَمَّا أَكْمَلَ اِثْنَيْنِ وَعِشْرِينَ حَدَّثَ بِأَرْبَعَةٍ وَأَرْبَعِينَ ثُمَّ بَعْدهَا بِخَمْسَةٍ وَأَرْبَعِينَ ثُمَّ حَدَّثَ بِسِتَّةٍ وَأَرْبَعِينَ فِي آخِر حَيَاته , وَأَمَّا مَا عَدَا ذَلِكَ مِنْ الرُّؤْيَات بَعْد الْأَرْبَعِينَ فَضَعِيف وَرِوَايَة الْخَمْسِينَ يَحْتَمِل أَنْ تَكُون لِجَبْرِ الْكَسْر وَرِوَايَة السَّبْعِينَ لِلْمُبَالَغَةِ وَمَا عَدَا ذَلِكَ لَمْ يَثْبُت , وَهَذِهِ مُنَاسَبَة لَمْ أَرَ مَنْ تَعَرَّضَ لَهَا , وَوَقَعَ فِي بَعْض الشُّرُوح مُنَاسَبَة لِلسَّبْعِينَ ظَاهِرَة التَّكَلُّف وَهِيَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فِي الْحَدِيث الَّذِي أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَغَيْره " أَنَا بِشَارَة عِيسَى وَدَعْوَة إِبْرَاهِيم وَرَأَتْ أُمِّي نُورًا , فَهَذِهِ ثَلَاثَة أَشْيَاء تُضْرَبُ فِي مُدَّة نُبُوَّته وَهِيَ ثَلَاثَة وَعِشْرُونَ سَنَة تُضَاف إِلَى أَصْل الرُّؤْيَا فَتَبْلُغ سَبْعِينَ.
قُلْت : وَيَبْقَى فِي أَصْل الْمُنَاسَبَة إِشْكَال آخَر وَهُوَ الْمُتَبَادَر مِنْ الْحَدِيث إِرَادَة تَعْظِيم رُؤْيَا الْمُؤْمِن الصَّالِح , وَالْمُنَاسَبَة الْمَذْكُورَة تَقْتَضِي قَصْر الْخَبَر عَلَى صُورَة مَا اِتَّفَقَ لِنَبِيِّنَا صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَأَنَّهُ قِيلَ كَانَتْ الْمُدَّة الَّتِي أَوْحَى اللَّه إِلَى نَبِيّنَا فِيهَا فِي الْمَنَام جُزْءًا مِنْ سِتَّة وَأَرْبَعِينَ جُزْءًا مِنْ الْمُدَّة الَّتِي أَوْحَى اللَّه إِلَيْهِ فِيهَا فِي الْيَقَظَة , وَلَا يَلْزَم مِنْ ذَلِكَ أَنَّ كُلّ رُؤْيَا لِكُلِّ صَالِح تَكُون كَذَلِكَ , وَيُؤَيِّد إِرَادَة التَّعْمِيم الْحَدِيث الَّذِي ذَكَرَهُ الْخَطَّابِيُّ فِي الْهَدْي وَالسَّمْت فَإِنَّهُ لَيْسَ خَاصًّا بِنُبُوَّةِ نَبِيّنَا صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَصْلًا , وَقَدْ أَنْكَرَ الشَّيْخ أَبُو مُحَمَّد بْن أَبِي جَمْرَة التَّأْوِيلَ الْمَذْكُورَ فَقَالَ لَيْسَ فِيهِ كَبِير فَائِدَة وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُحْمَل كَلَام الْمُؤَيِّد بِالْفَصَاحَةِ وَالْبَلَاغَة عَلَى هَذَا الْمَعْنَى , وَلَعَلَّ قَائِله أَرَادَ أَنْ يَجْعَل بَيْن النُّبُوَّة وَالرُّؤْيَا نَوْعَ مُنَاسَبَةٍ فَقَطْ , وَيُعَكِّر عَلَيْهِ الِاخْتِلَافُ فِي عَدَد الْأَجْزَاء.
( تَنْبِيه ) : حَدِيث الْهَدْي الصَّالِح الَّذِي ذَكَرَهُ الْخَطَّابِيُّ أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيّ وَالطَّبَرَانِيُّ مِنْ حَدِيث عَبْد اللَّه بْن سَرَخْس لَكِنْ بِلَفْظِ أَرْبَعَة وَعِشْرِينَ جُزْءًا وَقَدْ ذَكَرَهُ الْقُرْطُبِيّ فِي " الْمُفْهِم " بِلَفْظِ مِنْ سِتَّة وَعِشْرِينَ اِنْتَهَى.
وَقَدْ أَبْدَى غَيْر الْخَطَّابِيّ الْمُنَاسَبَة بِاخْتِلَافِ الرِّوَايَات فِي الْعَدَد الْمَذْكُور , وَقَدْ جَمَعَ بَيْنهَا جَمَاعَة أَوَّلهمْ الطَّبَرِيُّ فَقَالَ : رِوَايَة السَّبْعِينَ عَامَّة فِي كُلّ رُؤْيَا صَادِقَة مِنْ كُلّ مُسْلِم , وَرِوَايَة الْأَرْبَعِينَ خَاصَّة بِالْمُؤْمِنِ الصَّادِق الصَّالِح , وَأَمَّا مَا بَيْن ذَلِكَ فَبِالنِّسْبَةِ لِأَحْوَالِ الْمُؤْمِنِينَ.
وَقَالَ اِبْن بَطَّال : أَمَّا الِاخْتِلَاف فِي الْعَدَد قِلَّةً وَكَثْرَةً فَأَصَحُّ مَا وَرَدَ فِيهَا مِنْ سِتَّة وَأَرْبَعِينَ وَمِنْ سَبْعِينَ وَمَا بَيْن ذَلِكَ مِنْ أَحَادِيث الشُّيُوخ , وَقَدْ وَجَدْنَا الرُّؤْيَا تَنْقَسِم قِسْمَيْنِ : جَلِيَّة ظَاهِرَة كَمَنْ رَأَى فِي الْمَنَام أَنَّهُ يُعْطَى تَمْرًا فَأُعْطِيَ تَمْرًا مِثْله فِي الْيَقَظَة فَهَذَا الْقِسْم لَا إِغْرَاب فِي تَأْوِيلهَا وَلَا رَمْز فِي تَفْسِيرهَا , وَمَرْمُوزَةٌ بَعِيدَةُ الْمَرَامِ فَهَذَا الْقِسْم لَا يَقُوم بِهِ حَتَّى يَعْبُرهُ إِلَّا حَاذِق لِبُعْدِ ضَرْب الْمَثَل فِيهِ , فَيُمْكِن أَنَّ هَذَا مِنْ السَّبْعِينَ وَالْأَوَّل مِنْ السِّتَّة وَالْأَرْبَعِينَ لِأَنَّهُ إِذَا قَلَّتْ الْأَجْزَاء كَانَتْ الرُّؤْيَا أَقْرَبَ إِلَى الصِّدْق وَأَسْلَمَ مِنْ وُقُوع الْغَلَط فِي تَأْوِيلهَا , بِخِلَافِ مَا إِذَا كَثُرَتْ.
قَالَ : وَقَدْ عَرَضْت هَذَا الْجَوَاب عَلَى جَمَاعَة فَحَسَّنُوهُ وَزَادَنِي بَعْضهمْ فِيهِ أَنَّ النُّبُوَّة عَلَى مِثْل هَذَيْنِ الْوَصْفَيْنِ تَلَقَّاهَا الشَّارِع عَنْ جِبْرِيل , فَقَدْ أَخْبَرَ أَنَّهُ كَانَ يَأْتِيهِ الْوَحْي مَرَّة فَيُكَلِّمهُ بِكَلَامٍ فَيَعِيه بِغَيْرِ كُلْفَة وَمَرَّة يُلْقِي إِلَيْهِ جُمَلًا وَجَوَامِع يَشْتَدّ عَلَيْهِ حَمْلُهَا حَتَّى تَأْخُذهُ الرَّمْضَاء وَيَتَحَدَّر مِنْهُ الْعَرَق ثُمَّ يُطْلِعهُ اللَّه عَلَى بَيَان مَا أَلْقَى عَلَيْهِ مِنْهَا.
وَلَخَّصَهُ الْمَازِرِيّ فَقَالَ : قِيلَ إِنَّ الْمَنَامَات دَلَالَات , وَالدَّلَالَات مِنْهَا مَا هُوَ جَلِيّ وَمِنْهَا مَا هُوَ خَفِيّ , فَالْأَقَلّ فِي الْعَدَد هُوَ الْجَلِيّ وَالْأَكْثَر فِي الْعَدَد هُوَ الْخَفِيّ وَمَا بَيْن ذَلِكَ.
وَقَالَ الشَّيْخ أَبُو مُحَمَّد بْن أَبِي جَمْرَة مَا حَاصِله : إِنَّ النُّبُوَّة جَاءَتْ بِالْأُمُورِ الْوَاضِحَة , وَفِي بَعْضهَا مَا يَكُون فِيهِ إِجْمَال مَعَ كَوْنه مُبَيَّنًا فِي مَوْضِع آخَر , وَكَذَلِكَ الْمَرَائِي مِنْهَا مَا هُوَ صَرِيح لَا يَحْتَاج إِلَى تَأْوِيل وَمِنْهَا مَا يَحْتَاج فَاَلَّذِي يَفْهَمُهُ الْعَارِف مِنْ الْحَقّ الَّذِي يَعْرُج عَلَيْهِ مِنْهَا جُزْء مِنْ أَجْزَاء النُّبُوَّة , وَذَلِكَ الْجُزْء يَكْثُر مَرَّة وَيَقِلّ أُخْرَى بِحَسَبِ فَهْمه , فَأَعْلَاهُمْ مَنْ يَكُون بَيْنه وَبَيْن دَرَجَة النُّبُوَّة أَقَلُّ مَا وَرَدَ مِنْ الْعَدَد , وَأَدْنَاهُمْ الْأَكْثَرُ مِنْ الْعَدَد , وَمَنْ عَدَاهُمَا مَا بَيْن ذَلِكَ.
وَقَالَ الْقَاضِي عِيَاض : وَيَحْتَمِل أَنْ تَكُون هَذِهِ التَّجْزِئَة فِي طُرُق الْوَحْي , إِذْ مِنْهُ مَا سُمِعَ مِنْ اللَّه بِلَا وَاسِطَة , وَمِنْهُ مَا جَاءَ بِوَاسِطَةِ الْمَلَك , وَمِنْهُ مَا أُلْقِيَ فِي الْقَلْب مِنْ الْإِلْهَام , وَمِنْهُ مَا جَاءَ بِهِ الْمَلَك وَهُوَ عَلَى صُورَته أَوْ عَلَى صُورَة آدَمِيّ مَعْرُوف أَوْ غَيْر مَعْرُوف , وَمِنْهُ مَا أَتَاهُ بِهِ فِي النَّوْم , وَمِنْهُ مَا أَتَاهُ بِهِ فِي صَلْصَلَة الْجَرَس , وَمِنْهُ مَا يُلْقِيه رُوح الْقُدُس فِي رَوْعه , إِلَى غَيْر ذَلِكَ مِمَّا وَقَفْنَا عَلَيْهِ وَمِمَّا لَمْ نَقِف عَلَيْهِ , فَتَكُون تِلْكَ الْحَالَات إِذَا عُدِّدَتْ اِنْتَهَتْ إِلَى الْعَدَد الْمَذْكُور.
قَالَ الْقُرْطُبِيّ فِي " الْمُفْهِم " : وَلَا يَخْفَى مَا فِيهِ مِنْ التَّكَلُّف وَالتَّسَاهُل , فَإِنَّ تِلْكَ الْأَعْدَاد إِنَّمَا هِيَ أَجْزَاء النُّبُوَّة , وَأَكْثَرُ الَّذِي ذَكَرَهُ إِنَّمَا هِيَ أَحْوَالٌ لِغَيْرِ النُّبُوَّة لِكَوْنِهِ يَعْرِف الْمَلَك أَوْ لَا يَعْرِفهُ أَوْ يَأْتِيه عَلَى صُورَته أَوْ عَلَى صُورَة آدَمِيّ ثُمَّ مَعَ هَذَا التَّكَلُّف لَمْ يَبْلُغ عَدَد مَا ذَكَرَ عِشْرِينَ فَضْلًا عَنْ سَبْعِينَ.
قُلْت : وَاَلَّذِي نَحَاهُ الْقَاضِي سَبَقَهُ إِلَيْهِ الْحَلِيمِيّ " فَقَرَأْت فِي مُخْتَصَره لِلشَّيْخِ عَلَاء الدِّين الْقُونَوِيِّ بِخَطِّهِ مَا نَصُّهُ : ثُمَّ إِنَّ الْأَنْبِيَاء يَخْتَصُّونَ بِآيَاتٍ يُؤَيَّدُونَ بِهَا لِيَتَمَيَّزُوا بِهَا عَمَّنْ لَيْسَ مِثْلهمْ , كَمَا تَمَيَّزُوا بِالْعِلْمِ الَّذِي أُوتُوهُ " فَيَكُون لَهُمْ الْخُصُوص مِنْ وَجْهَيْنِ : فَمَا هُوَ فِي حَيِّز التَّعْلِيم هُوَ النُّبُوَّة , وَمَا هُوَ فِي حَيِّز التَّأْبِيد هُوَ حُجَّة النُّبُوَّة , قَالَ : وَقَدْ قَصَدَ الْحَلِيمِيّ فِي هَذَا الْمَوْضِع بَيَان كَوْن الرُّؤْيَا الصَّالِحَة جُزْءًا مِنْ سِتَّة وَأَرْبَعِينَ جُزْءًا مِنْ النُّبُوَّة فَذَكَرَ وُجُوهًا مِنْ الْخَصَائِص الْعِلْمِيَّة لِلْأَنْبِيَاءِ تَكَلَّفَ فِي بَعْضهَا حَتَّى أَنْهَاهَا إِلَى الْعَدَد الْمَذْكُور , فَتَكُون الرُّؤْيَا وَاحِدًا مِنْ تِلْكَ الْوُجُوه , فَأَعْلَاهَا تَكْلِيمُ اللَّه بِغَيْرِ وَاسِطَة , ثَانِيهَا الْإِلْهَام بِلَا كَلَام بَلْ يَجِد عِلْم شَيْء فِي نَفْسه مِنْ غَيْر تَقَدُّم مَا يُوصِل إِلَيْهِ بِحِسٍّ أَوْ اِسْتِدْلَال , ثَالِثهَا الْوَحْي عَلَى لِسَان مَلَك يَرَاهُ فَيُكَلِّمهُ , رَابِعهَا نَفْث الْمَلَك فِي رَوْعه وَهُوَ الْوَحْي الَّذِي يَخُصّ بِهِ الْقَلْب دُون السَّمْع , قَالَ : وَقَدْ يَنْفُث الْمَلَك فِي رَوْع بَعْض أَهْل الصَّلَاح لَكِنْ بِنَحْوِ الْإِطْمَاع فِي الظَّفَر بِالْعَدُوِّ وَالتَّرْغِيب فِي الشَّيْء وَالتَّرْهِيب مِنْ الشَّيْء فَيَزُول عَنْهُ بِذَلِكَ وَسْوَسَة الشَّيْطَان بِحُضُورِ الْمَلَك لَا بِنَحْوِ نَفْي عِلْم الْأَحْكَام وَالْوَعْد وَالْوَعِيد فَإِنَّهُ مِنْ خَصَائِص النُّبُوَّة , خَامِسهَا إِكْمَال عَقْله فَلَا يَعْرِض لَهُ فِيهِ عَارِض أَصْلًا , سَادِسهَا قُوَّة حِفْظه حَتَّى يَسْمَع السُّورَة الطَّوِيلَة فَيَحْفَظهَا مِنْ مَرَّة وَلَا يَنْسَى مِنْهَا حَرْفًا , سَابِعهَا عِصْمَته مِنْ الْخَطَأ فِي اِجْتِهَاده , ثَامِنهَا ذَكَاء فَهْمه حَتَّى يَتَّسِع لِضُرُوبٍ مِنْ الِاسْتِنْبَاط , تَاسِعهَا ذَكَاء بَصَره حَتَّى يَكَاد يُبْصِر الشَّيْء مِنْ أَقْصَى الْأَرْض , عَاشِرهَا ذَكَاء سَمْعه حَتَّى يَسْمَع مِنْ أَقْصَى الْأَرْض مَا لَا يَسْمَعُهُ غَيْره , حَادِي عَشَرَهَا ذَكَاء شَمّه كَمَا وَقَعَ لِيَعْقُوب فِي قَمِيص يُوسُف , ثَانِي عَشَرَهَا تَقْوِيَة جَسَده حَتَّى سَارَ فِي لَيْلَةٍ مَسِيرَةَ ثَلَاثِينَ لَيْلَةً , ثَالِث عَشَرَهَا عُرُوجُهُ إِلَى السَّمَاوَات , رَابِع عَشَرَهَا مَجِيء الْوَحْي لَهُ فِي مِثْل صَلْصَلَة الْجَرَس , خَامِس عَشَرَهَا تَكْلِيم الشَّاة , سَادِس عَشَرَهَا إِنْطَاق النَّبَات , سَابِع عَشَرَهَا إِنْطَاق الْجِذْع , ثَامِن عَشَرَهَا إِنْطَاق الْحَجَر , تَاسِع عَشَرَهَا إِفْهَامه عُوَاء الذِّئْب أَنْ يَفْرِض لَهُ رِزْقًا , الْعِشْرُونَ إِفْهَامه رُغَاء الْبَعِير , الْحَادِي وَالْعِشْرُونَ أَنْ يَسْمَع الصَّوْت وَلَا يَرَى الْمُتَكَلِّم , الثَّانِيَة وَالْعِشْرُونَ تَمْكِينه مِنْ مُشَاهَدَة الْجِنّ , الثَّالِثَة وَالْعِشْرُونَ تَمْثِيل الْأَشْيَاء الْمُغَيَّبَة لَهُ كَمَا مُثِّلَ لَهُ بَيْت الْمَقْدِس صَبِيحَة الْإِسْرَاء , الرَّابِعَة وَالْعِشْرُونَ حُدُوث أَمْر يَعْلَم بِهِ الْعَاقِبَة كَمَا قَالَ فِي النَّاقَة لَمَّا بَرَكَتْ فِي الْحُدَيْبِيَة " حَبَسَهَا حَابِس الْفِيل " الْخَامِسَة وَالْعِشْرُونَ اِسْتِدْلَاله بِاسْمٍ عَلَى أَمْر كَمَا قَالَ لَمَّا جَاءَهُمْ سُهَيْل بْن عَمْرو " قَدْ سَهُلَ لَكُمْ الْأَمْر " , السَّادِسَة وَالْعِشْرُونَ أَنْ يَنْظُر شَيْئًا عُلْوِيًّا فَيَسْتَدِلّ بِهِ عَلَى أَمْر يَقَع فِي الْأَرْض كَمَا قَالَ " إِنَّ هَذِهِ السَّحَابَة لَتَسْتَهِلّ بِنَصْرِ بَنِي كَعْب " , السَّابِعَة وَالْعِشْرُونَ رُؤْيَته مِنْ وَرَائِهِ , الثَّامِنَة وَالْعِشْرُونَ اِطِّلَاعه عَلَى أَمْر وَقَعَ لِمَنْ مَاتَ قَبْل أَنْ يَمُوت كَمَا قَالَ فِي حَنْظَلَة " رَأَيْت الْمَلَائِكَة تُغَسِّلهُ " وَكَانَ قُتِلَ وَهُوَ جُنُب , التَّاسِعَة وَالْعِشْرُونَ أَنْ يَظْهَر لَهُ مَا يَسْتَدِلّ بِهِ عَلَى فُتُوح مُسْتَقْبَل كَمَا جَاءَ ذَلِكَ يَوْم الْخَنْدَق , الثَّلَاثُونَ اِطِّلَاعه عَلَى الْجَنَّة وَالنَّار فِي الدُّنْيَا , الْحَادِيَة وَالثَّلَاثُونَ الْفِرَاسَة , الثَّانِيَة وَالثَّلَاثُونَ طَوَاعِيَة الشَّجَرَة حَتَّى اِنْتَقَلَتْ بِعُرُوقِهَا وَغُصُونهَا مِنْ مَكَان إِلَى مَكَان ثُمَّ رَجَعَتْ , الثَّالِثَة وَالثَّلَاثُونَ قِصَّة الظَّبْيَة وَشَكْوَاهَا لَهُ ضَرُورَة خِشْفِهَا الصَّغِيرِ , الرَّابِعَة وَالثَّلَاثُونَ تَأْوِيل الرُّؤْيَا بِحَيْثُ لَا تُخْطِئ , الْخَامِسَة وَالثَّلَاثُونَ الْحَزْر فِي الرُّطَب وَهُوَ عَلَى النَّخْل أَنَّهُ يَجِيء كَذَا وَكَذَا وَسْقًا مِنْ التَّمْر فَجَاءَ كَمَا قَالَ , السَّادِسَة وَالثَّلَاثُونَ الْهِدَايَة إِلَى الْأَحْكَام , السَّابِعَة وَالثَّلَاثُونَ الْهِدَايَة إِلَى سِيَاسَة الدِّين وَالدُّنْيَا , الثَّامِنَة وَالثَّلَاثُونَ الْهِدَايَة إِلَى هَيْئَة الْعَالَم وَتَرْكِيبه , التَّاسِعَة وَالثَّلَاثُونَ الْهِدَايَة إِلَى مَصَالِح الْبَدَن بِأَنْوَاعِ الطِّبّ , الْأَرْبَعُونَ الْهِدَايَة إِلَى وُجُوه الْقُرُبَات , الْحَادِيَة وَالْأَرْبَعُونَ الْهِدَايَة إِلَى الصِّنَاعَات النَّافِعَة , الثَّانِيَة وَالْأَرْبَعُونَ الِاطِّلَاع عَلَى مَا سَيَكُونُ , الثَّالِثَة وَالْأَرْبَعُونَ الِاطِّلَاع عَلَى مَا كَانَ مِمَّا لَمْ يَنْقُلهُ أَحَد قَبْله , الرَّابِعَة وَالْأَرْبَعُونَ التَّوْقِيف عَلَى أَسْرَار النَّاس وَمُخَبَّآتهمْ , الْخَامِسَة وَالْأَرْبَعُونَ تَعْلِيم طُرُق الِاسْتِدْلَال , السَّادِسَة وَالْأَرْبَعُونَ الِاطِّلَاع عَلَى طَرِيق التَّلَطُّف فِي الْمُعَاشَرَة , قَالَ : فَقَدْ بَلَغَتْ خَصَائِص النُّبُوَّة فِيمَا مَرْجِعه الْعِلْم سِتَّة وَأَرْبَعِينَ وَجْهًا لَيْسَ مِنْهَا وَجْه إِلَّا وَهُوَ يَصْلُح أَنْ يَكُون مُقَارِبًا لِلرُّؤْيَا الصَّالِحَة الَّتِي أَخْبَرَ أَنَّهَا جُزْء مِنْ سِتَّة وَأَرْبَعِينَ جُزْءًا مِنْ النُّبُوَّة , وَالْكَثِير مِنْهَا وَإِنْ كَانَ قَدْ يَقَع لِغَيْرِ النَّبِيّ لَكِنَّهُ لِلنَّبِيِّ لَا يُخْطِئ أَصْلًا وَلِغَيْرِهِ قَدْ يَقَع فِيهِ الْخَطَأ وَاَللَّه أَعْلَمُ.
وَقَالَ الْغَزَالِيّ فِي كِتَاب الْفَقْر وَالزُّهْد مِنْ " الْإِحْيَاء " , لَمَّا ذَكَرَ حَدِيث يَدْخُل الْفُقَرَاء الْجَنَّة قَبْل الْأَغْنِيَاء بِخَمْسِمِائَةِ عَام " وَفِي رِوَايَة بِأَرْبَعِينَ سَنَة قَالَ : وَهَذَا يَدُلّ عَلَى تَفَاوُت دَرَجَات الْفُقَرَاء فَكَانَ الْفَقِير الْحَرِيص عَلَى جُزْء مِنْ خَمْسَة وَعِشْرِينَ جُزْءًا مِنْ الْفَقِير الزَّاهِد لِأَنَّ هَذِهِ نِسْبَة الْأَرْبَعِينَ إِلَى الْخَمْسمِائَةِ , وَلَا يُظَنّ أَنَّ تَقْدِير النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَجَزَّأ عَلَى لِسَانه كَيْف مَا اِتَّفَقَ بَلْ لَا يَنْطِق إِلَّا بِحَقِيقَةِ الْحَقّ وَهَذَا كَقَوْلِهِ " الرُّؤْيَا الصَّالِحَة مِنْ الرَّجُل الصَّالِح جُزْء مِنْ سِتَّة وَأَرْبَعِينَ جُزْءًا مِنْ النُّبُوَّة " فَإِنَّهُ تَقْدِير تَحْقِيق , لَكِنْ لَيْسَ فِي قُوَّة غَيْره أَنْ يَعْرِف عِلَّة تِلْكَ النِّسْبَة إِلَّا بِتَخْمِينٍ , لِأَنَّ النُّبُوَّة عِبَارَة عَمَّا يَخْتَصّ بِهِ النَّبِيّ وَيُفَارِق بِهِ غَيْره , وَهُوَ يَخْتَصّ بِأَنْوَاعٍ مِنْ الْخَوَاصّ مِنْهَا أَنَّهُ يَعْرِف حِقَاق الْأُمُور الْمُتَعَلِّقَة بِاَللَّهِ وَصِفَاته وَمَلَائِكَته وَالدَّار الْآخِرَة لَا كَمَا يَعْلَمهُ غَيْره بَلْ عِنْده مِنْ كَثْرَة الْمَعْلُومَات وَزِيَادَة الْيَقِين وَالتَّحْقِيق مَا لَيْسَ عِنْد غَيْره , وَلَهُ صِفَة تَتِمّ لَهُ بِهَا الْأَفْعَال الْخَارِقَة لِلْعَادَاتِ كَالصِّفَةِ الَّتِي بِهَا تَتِمّ لِغَيْرِهِ الْحَرَكَاتُ الِاخْتِيَارِيَّةُ , وَلَهُ صِفَة يُبْصِر بِهَا الْمَلَائِكَة وَيُشَاهِد بِهَا الْمَلَكُوتَ كَالصِّفَةِ الَّتِي يُفَارِق بِهَا الْبَصِيرُ الْأَعْمَى , وَلَهُ صِفَة بِهَا يُدْرِك مَا سَيَكُونُ فِي الْغَيْب وَيُطَالِع بِهَا مَا فِي اللَّوْح الْمَحْفُوظ كَالصِّفَةِ الَّتِي يُفَارِق بِهَا الذَّكِيّ الْبَلِيد , فَهَذِهِ صِفَات كَمَالَات ثَابِتَة لِلنَّبِيِّ يُمْكِن اِنْقِسَام كُلّ وَاحِد مِنْهَا إِلَى أَقْسَام بِحَيْثُ يُمْكِننَا أَنْ نَقْسِمهَا إِلَى أَرْبَعِينَ وَإِلَى خَمْسِينَ وَإِلَى أَكْثَرَ , وَكَذَا يُمْكِننَا أَنْ نَقْسِمهَا إِلَى سِتَّة وَأَرْبَعِينَ جُزْءًا بِحَيْثُ تَقَع الرُّؤْيَا الصَّحِيحَة جُزْءًا مِنْ جُمْلَتهَا لَكِنْ لَا يَرْجِع إِلَّا إِلَى ظَنّ وَتَخْمِين لَا أَنَّهُ الَّذِي أَرَادَهُ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَقِيقَة , اِنْتَهَى مُلَخَّصًا.
وَأَظُنّهُ أَشَارَ إِلَى كَلَام الْحَلِيمِيّ فَإِنَّهُ مَعَ تَكَلُّفه لَيْسَ عَلَى يَقِين أَنَّ الَّذِي ذَكَرَهُ هُوَ الْمُرَاد وَاَللَّه أَعْلَمُ.
وَقَالَ اِبْن الْجَوْزِيّ : لَمَّا كَانَتْ النُّبُوَّة تَتَضَمَّن اِطِّلَاعًا عَلَى أُمُور يَظْهَر تَحْقِيقُهَا فِيمَا بَعْدُ وَقَعَ تَشْبِيهُ رُؤْيَا الْمُؤْمِن بِهَا , وَقِيلَ إِنَّ جَمَاعَة مِنْ الْأَنْبِيَاء كَانَتْ نُبُوَّتهمْ وَحْيًا فِي الْمَنَام فَقَطْ , وَأَكْثَرُهُمْ اُبْتُدِئَ بِالْوَحْيِ فِي الْمَنَام ثُمَّ رَقُوا إِلَى الْوَحْي فِي الْيَقَظَة ! فَهَذَا بَيَان مُنَاسَبَة تَشْبِيه الْمَنَام الصَّادِق بِالنُّبُوَّةِ , وَأَمَّا خُصُوص الْعَدَد الْمَذْكُور فَتَكَلَّمَ فِيهِ جَمَاعَة فَذَكَرَ الْمُنَاسَبَة الْأُولَى وَهِيَ أَنَّ مُدَّة وَحْي الْمَنَام إِلَى نَبِيّنَا كَانَتْ سِتَّة أَشْهُر وَقَدْ تَقَدَّمَ مَا فِيهِ , ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّ الْأَحَادِيث اِخْتَلَفَتْ فِي الْعَدَد الْمَذْكُور قَالَ : فَعَلَى هَذَا تَكُون رُؤْيَا الْمُؤْمِن مُخْتَلِفَة بِأَعْلَاهَا سِتَّة وَأَرْبَعُونَ وَأَدْنَاهَا سَبْعُونَ , ثُمَّ ذَكَرَ الْمُنَاسَبَة الَّتِي ذَكَرَهَا الطَّبَرِيُّ.
وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ فِي " الْمُفْهِم " : يَحْتَمِل أَنْ يَكُون الْمُرَاد مِنْ هَذَا الْحَدِيث أَنَّ الْمَنَام الصَّادِق خَصْلَة مِنْ خِصَال النُّبُوَّة كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيث الْآخَر " التُّؤَدَة وَالِاقْتِصَاد وَحُسْن السَّمْت جُزْء مِنْ سِتَّة وَعِشْرِينَ جُزْءًا مِنْ النُّبُوَّة " أَيْ النُّبُوَّة مَجْمُوع خِصَال مَبْلَغ أَجْزَائِهَا ذَلِكَ وَهَذِهِ الثَّلَاثَة جُزْء مِنْهَا , وَعَلَى مُقْتَضَى ذَلِكَ يَكُون كُلّ جُزْء مِنْ السِّتَّة وَالْعِشْرِينَ ثَلَاثَة أَشْيَاء فَإِذَا ضَرَبْنَا ثَلَاثَة فِي سِتَّة وَعِشْرِينَ اِنْتَهَتْ إِلَى ثَمَانِيَة وَسَبْعِينَ فَيَصِحّ لَنَا أَنَّ عَدَد خِصَال النُّبُوَّة مِنْ حَيْثُ آحَادهَا ثَمَانِيَة وَسَبْعُونَ قَالَ : وَيَصِحّ أَنْ يُسَمَّى كُلّ اِثْنَيْنِ مِنْهَا جُزْءًا فَيَكُون الْعَدَد بِهَذَا الِاعْتِبَار تِسْعَة وَثَلَاثِينَ , وَيَصِحّ أَنْ يُسَمَّى كُلّ أَرْبَعَة مِنْهَا جُزْءًا فَتَكُون تِسْعَة عَشَرَ جُزْءًا وَنِصْف جُزْء فَيَكُون اِخْتِلَاف الرِّوَايَات فِي الْعَدَد بِحَسَب اِخْتِلَاف اِعْتِبَار الْأَجْزَاء , وَلَا يَلْزَم مِنْهُ اِضْطِرَاب.
قَالَ وَهَذَا أَشْبَهُ مَا وَقَعَ لِي فِي ذَلِكَ مَعَ أَنَّهُ لَمْ يَنْشَرِح بِهِ الصَّدْر وَلَا اِطْمَأَنَّتْ إِلَيْهِ النَّفْس.
قُلْت : وَتَمَامه أَنْ يَقُول فِي الثَّمَانِيَة وَالسَّبْعِينَ بِالنِّسْبَةِ لِرِوَايَةِ السَّبْعِينَ أُلْغِيَ فِيهَا الْكَسْر وَفِي التِّسْعَة وَالثَّلَاثِينَ بِالنِّسْبَةِ لِرِوَايَةِ الْأَرْبَعِينَ جَبْر الْكَسْر , وَلَا تَحْتَاج إِلَى الْعَدَد الْأَخِير لِمَا فِيهِ مِنْ ذِكْر النِّصْف , وَمَا عَدَا ذَلِكَ مِنْ الْأَعْدَاد قَدْ أَشَارَ إِلَى أَنَّهُ يُعْتَبَر بِحَسَبِ مَا يُقَدَّرُ مِنْ الْخِصَال , ثُمَّ قَالَ : وَقَدْ ظَهَرَ لِي وَجْه آخَر وَهُوَ أَنَّ النُّبُوَّة مَعْنَاهَا أَنَّ اللَّه يُطْلِع مَنْ يَشَاء مِنْ خَلْقه عَلَى مَا يَشَاء مِنْ أَحْكَامه وَوَحْيه إِمَّا بِالْمُكَالَمَةِ وَإِمَّا بِوَاسِطَةِ الْمَلَك وَإِمَّا بِإِلْقَاءٍ فِي الْقَلْب بِغَيْرِ وَاسِطَة , لَكِنَّ هَذَا الْمَعْنَى الْمُسَمَّى بِالنُّبُوَّةِ لَا يَخُصُّ اللَّهُ بِهِ إِلَّا مَنْ خَصَّهُ بِصِفَاتِ كَمَال نَوْعه مِنْ الْمَعَارِف وَالْعُلُوم وَالْفَضَائِل وَالْآدَاب مَعَ تَنَزُّهه عَنْ النَّقَائِص أُطْلِقَ عَلَى تِلْكَ الْخِصَال نُبُوَّة كَمَا فِي حَدِيث " التُّؤَدَة وَالِاقْتِصَاد " أَيْ تِلْكَ الْخِصَال مِنْ خِصَال الْأَنْبِيَاء , وَالْأَنْبِيَاء مَعَ ذَلِكَ مُتَفَاضِلُونَ فِيهَا كَمَا قَالَ تَعَالَى ( وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْض النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْض ) وَمَعَ ذَلِكَ فَالصِّدْق أَعْظَمُ أَوْصَافهمْ يَقَظَة وَمَنَامًا , فَمَنْ تَأَسَّى بِهِمْ فِي الصِّدْق حَصَلَ مِنْ رُؤْيَاهُ عَلَى الصِّدْق ثُمَّ لَمَّا كَانُوا فِي مَقَامَاتهمْ مُتَفَاوِتِينَ كَانَ أَتْبَاعهمْ مِنْ الصَّالِحِينَ كَذَلِكَ , وَكَانَ أَقَلُّ خِصَالِ الْأَنْبِيَاء مَا إِذَا اُعْتُبِرَ كَانَ سِتَّة وَعِشْرِينَ جُزْءًا وَأَكْثَرُهَا مَا يَبْلُغ سَبْعِينَ , وَبَيْن الْعَدَدَيْنِ مَرَاتِبُ مُخْتَلِفَة بِحَسَبِ مَا اِخْتَلَفَتْ أَلْفَاظ الرِّوَايَات , وَعَلَى هَذَا فَمَنْ كَانَ مِنْ غَيْر الْأَنْبِيَاء فِي صَلَاحه وَصِدْقه عَلَى رُتْبَة تُنَاسِب حَال نَبِيّ مِنْ الْأَنْبِيَاء كَانَتْ رُؤْيَاهُ جُزْءًا مِنْ نُبُوَّة ذَلِكَ النَّبِيّ , وَلَمَّا كَانَتْ كَمَالَاتُهُمْ مُتَفَاوِتَة كَانَتْ نِسْبَة أَجْزَاء مَنَامَات الصَّادِقِينَ مُتَفَاوِتَة عَلَى مَا فَصَّلْنَاهُ , قَالَ : وَبِهَذَا يَنْدَفِع الِاضْطِرَاب إِنْ شَاءَ اللَّه.
وَذَكَرَ الشَّيْخ أَبُو مُحَمَّد بْن أَبِي جَمْرَة وَجْهًا آخَر مُلَخَّصه أَنَّ النُّبُوَّة لَهَا وُجُوه مِنْ الْفَوَائِد الدُّنْيَوِيَّة وَالْأُخْرَوِيَّة خُصُوصًا وَعُمُومًا , مِنْهَا مَا يُعْلَم وَمِنْهَا مَا لَا يُعْلَم , لَيْسَ بَيْن النُّبُوَّة وَالرُّؤْيَا نِسْبَة إِلَّا فِي كَوْنهَا حَقًّا فَيَكُون مَقَام النُّبُوَّة بِالنِّسْبَةِ لِمَقَامِ الرُّؤْيَا بِحَسَب تِلْكَ الْأَعْدَاد رَاجِعَة إِلَى دَرَجَات الْأَنْبِيَاء , فَنِسْبَتهَا مِنْ أَعْلَاهُمْ وَهُوَ مَنْ ضُمَّ لَهُ إِلَى النُّبُوَّة الرِّسَالَةُ أَكْثَرُ مَا وَرَدَ مِنْ الْعَدَد , وَنِسْبَتهَا إِلَى الْأَنْبِيَاء غَيْر الْمُرْسَلِينَ أَقَلُّ مَا وَرَدَ مِنْ الْعَدَد وَمَا بَيْن ذَلِكَ , وَمِنْ ثَمَّ أَطْلَقَ فِي الْخَبَر النُّبُوَّة وَلَمْ يُقَيِّدهَا بِنُبُوَّةِ نَبِيّ بِعَيْنِهِ.
وَرَأَيْت فِي بَعْض الشُّرُوح أَنَّ مَعْنَى الْحَدِيث أَنَّ لِلْمَنَامِ شَبَهًا بِمَا حَصَلَ لِلنَّبِيِّ وَتَمَيَّزَ بِهِ عَنْ غَيْره بِجُزْءٍ مِنْ سِتَّة وَأَرْبَعِينَ جُزْءًا , فَهَذِهِ عِدَّة مُنَاسَبَات لَمْ أَرَ مَنْ جَمَعَهَا فِي مَوْضِعٍ وَاحِد , فَلِلَّهِ الْحَمْد عَلَى مَا أَلْهَمَ وَعَلَّمَ " وَلَمْ أَقِف فِي شَيْء مِنْ الْأَخْبَار عَلَى كَوْن الْإِلْهَام جُزْءًا مِنْ أَجْزَاء النُّبُوَّة مَعَ أَنَّهُ مِنْ أَنْوَاع الْوَحْي إِلَّا أَنَّ اِبْن أَبِي جَمْرَة تَعَرَّضَ لِشَيْءٍ مِنْهُ كَمَا سَأَذْكُرُهُ فِي " بَاب مَنْ رَأَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى.
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ عَنْ مَالِكٍ عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ الرُّؤْيَا الْحَسَنَةُ مِنْ الرَّجُلِ الصَّالِحِ جُزْءٌ مِنْ سِتَّةٍ وَأَرْبَعِينَ جُزْءًا مِنْ النُّبُوَّةِ
عن أبي قتادة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الرؤيا من الله، والحلم من الشيطان.»
عن أبي سعيد الخدري : أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «إذا رأى أحدكم رؤيا يحبها، فإنما هي من الله، فليحمد الله عليها وليحدث بها، وإذا رأى غير ذ...
عن أبي قتادة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الرؤيا الصالحة من الله، والحلم من الشيطان، فإذا حلم فليتعوذ منه، وليبصق عن شماله، فإنها لا تضره» وعن...
عن عبادة بن الصامت، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «رؤيا المؤمن جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة.»
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «رؤيا المؤمن جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة» رواه ثابت، وحميد، وإسحاق بن عبد الله،...
عن أبي سعيد الخدري : أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «الرؤيا الصالحة جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة.»
عن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لم يبق من النبوة إلا المبشرات، قالوا: وما المبشرات؟ قال: الرؤيا الصالحة.»
عن ابن عمر رضي الله عنه: «أن أناسا أروا ليلة القدر في السبع الأواخر، وأن أناسا أروا أنها في العشر الأواخر، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: التمسوها في...
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لو لبثت في السجن ما لبث يوسف، ثم أتاني الداعي لأجبته.»