1402-
عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن، أنه قال: قدم على عمر بن الخطاب رجل من أهل العراق، فقال: لقد جئتك لأمر، ما له رأس، ولا ذنب، فقال عمر: «ما هو»؟ قال: شهادات الزور ظهرت بأرضنا، فقال عمر: «أو قد كان ذلك»؟ قال: نعم، فقال عمر: «والله لا يؤسر رجل في الإسلام بغير العدول»
2107- وحدثني مالك، أن عمر بن الخطاب قال: «لا تجوز شهادة خصم ولا ظنين»
(1) إسناده منقطع (2) هذا موقوف معضل
المنتقى شرح الموطإ: أبو الوليد سليمان بن خلف الباجي (المتوفى: 474هـ)
( ش ) : قَوْلُهُ جِئْتُك بِأَمْرٍ مَا لَهُ رَأْسٌ وَلَا ذَنَبٌ مَعْنَاهُ لَيْسَ لَهُ أَوَّلٌ وَلَا آخِرٌ هَذَا مِمَّا تَسْتَعْمِلُهُ الْعَرَبُ عَلَى وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا يُرِيدُونَ بِهِ الْكَثْرَةَ فَيَقُولُ هَذَا جِنْسٌ لَا أَوَّلَ لَهُ وَلَا آخِرَ إِذَا أَخْبَرْت عَنْ كَثْرَتِهِ وَالْوَجْهُ الثَّانِي يُرِيدُ بِهِ الْأَمْرَ الْمُبْهَمَ الَّذِي لَا يُعْرَفُ وَجْهُهُ وَلَا يُهْتَدَى لِإِصْلَاحِهِ فَيُقَالُ لَيْسَ لِهَذَا الْأَمْرِ أَوَّلٌ وَلَا آخِرُ بِمَعْنَى أَنَّهُ مُبْهَمٌ لَيْسَ لَهُ وَجْهٌ يُتَنَاوَلُ مِنْهُ وَهَذَا الْحَدِيثُ يَحْتَمِلُ الْوَجْهَيْنِ جَمِيعًا فَيَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ بِهِ الْكَثْرَةَ فِي كَثْرَةِ شُهُودِ الزُّورِ , وَأَنْ يُرِيدَ بِهِ عِظَمَ الْفَسَادِ بِهَذَا الْأَمْرِ حَتَّى لَا يُهْتَدَى لِإِصْلَاحِهِ.
.
( فَصْلٌ ) وَقَوْلُهُ شَهَادَةُ الزُّورِ ظَهَرَتْ بِأَرْضِنَا يُرِيدُ الشَّهَادَةَ بِالْبَاطِلِ ظَهَرَتْ بِأَرْضِهِمْ بَعْدَ أَنْ لَمْ تَكُنْ وَلَوْ كَانَتْ بِأَرْضِهِمْ قَدِيمًا لَمْ يَصِفْهَا الْآنَ بِالظُّهُورِ , وَإِنَّمَا كَانَ يَصِفُهَا بِالدَّوَامِ أَوْ بِالْبَقَاءِ وَالتَّزَايُدِ وَشَهَادَةُ الزُّورِ مِنْ الْكَبَائِرِ وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعالَى وَاَلَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ , وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا وَمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ أَلَا أُنَبِّئُكُمْ بِأَكْبَرِ الْكَبَائِرِ ثَلَاثًا قَالُوا بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ الْإِشْرَاكُ بِاللَّهِ وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ وَجَلَسَ وَكَانَ مُتَّكِئًا أَلَا وَقَوْلُ الزُّورِ فَمَا زَالَ يُكَرِّرُهَا حَتَّى قُلْنَا لَيْتَهُ سَكَتَ.
.
( فَصْلٌ ) وَقَوْلُ عُمَرَ أَوَ قَدْ كَانَ ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ أَمْرٌ لَمْ يَتَقَدَّمْ عِلْمُهُ بِهِ وَلَا عَهْدُهُ بِذَلِكَ الْبَلَدِ قَبْلَ إخْبَارِ هَذَا الْمُخْبِرِ وَذَلِكَ أَنَّ جَمِيعَ الصَّحَابَةِ وَمَنْ آمَنَ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي زَمَنِهِ وَرَآهُ وَكَانُوا عُدُولًا بِتَعْدِيلِ اللَّهِ إيَّاهُمْ وَإِخْبَارِهِ أَنَّهُمْ خَيْرُ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ وَقَوْلُهُ تَعَالَى مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَاَلَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ الْآيَةَ وَبِهَذَا كَانَ التَّعْدِيلُ فِي حَيَاةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُبَيِّنُ ذَلِكَ مَا رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ قَالَ سَمِعْت عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ يَقُولُ إِنَّ نَاسًا كَانُوا يَأْخُذُونَ بِالْوَحْيِ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِنَّ الْوَحْيَ قَدْ انْقَطَعَ , وَإِنَّمَا نُؤَاخِذُكُمْ الْآنَ بِمَا ظَهَرَ لَنَا مِنْ أَعْمَالِكُمْ فَمَنْ أَظْهَرَ لَنَا خَيْرًا أَمَّنَّاهُ وَقَرَّبْنَاهُ وَلَيْسَ لَنَا مِنْ سَرِيرَتِهِ شَيْءٌ اللَّهُ يُحَاسِبُهُ فِي سَرِيرَتِهِ , وَمَنْ أَظْهَرَ لَنَا شَرًّا لَمْ نُؤَمِّنْهُ وَلَمْ نُصَدِّقْهُ , وَإِنْ كَانَتْ سَرِيرَتُهُ حَسَنَةً فَلَمَّا كَانَ هَذَا حُكْمَ الصَّحَابَةِ كَانَ الْأَمْرُ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبِي بَكْرٍ وَصَدْرًا مِنْ زَمَنِ عُمَرَ عَلَى أَنَّ كُلَّ مُسْلِمٍ عَدْلٍ ; لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي الْمُسْلِمِينَ غَيْرُ صَحَابِيٍّ وَهُمْ عُدُولٌ فَلَمَّا أُخْبِرَ عُمَرُ بِمَا أُحْدِثَ مِنْ ذَلِكَ قَالَ أَوَ قَدْ كَانَ ذَلِكَ ; لِأَنَّهُ قَدْ كَانَ يَظُنُّ الْأَمْرَ عَلَى مَا عَهِدَ فَلَمَّا أُخْبِرَ أَنَّهُ قَدْ كَانَ قَالَ وَاَللَّهِ لَا يُؤْسَرُ رَجُلٌ فِي الْإِسْلَامِ بِغَيْرِ الْعُدُولِ.
( مَسْأَلَةٌ ) إِذَا ثَبَتَ ذَلِكَ فَإِنْ ثَبَتَ عَلَى شَاهِدٍ أَنَّهُ شَهِدَ بِزُورٍ فَإِنْ كَانَ لِنِسْيَانٍ وَغَفْلَةٍ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ وَمَنْ كَثُرَ مِنْهُ ذَلِكَ رُدَّتْ شَهَادَتُهُ وَلَمْ يُحْكَمْ بِهَا لِفِسْقِهِ , فَأَمَّا مَنْ ثَبَتَ عَلَيْهِ أَنَّهُ تَعَمَّدَ ذَلِكَ فَإِنَّهُ عَلَى ضَرْبَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنْ يُقِرَّ بِتَعَمُّدِ ذَلِكَ , وَالثَّانِي أَنْ يَرْجِعَ عَنْ شَهَادَتِهِ بَعْدَ أَدَائِهَا , فَأَمَّا إِنْ أَقَرَّ بِتَعَمُّدِ شَهَادَةِ الزُّورِ فَإِنَّهُ يُعَاقَبُ , وَرَوَى ابْنُ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ يُجْلَدُ.
قَالَ ابْنُ الْمَاجِشُونِ يُضْرَبُ بِالسَّوْطِ.
قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ يَضْرِبُهُ الْقَاضِي قَدْرَ مَا يَرَى , وَقَالَ ابْنُ كِنَانَةَ يُكْشَفُ عَنْ ظَهْرِهِ.
قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ يُضْرَبُ ضَرْبًا مُوجِعًا.
( فَرْعٌ ) وَرَوَى ابْنُ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ يُطَافُ بِهِ وَيُشْهَرُ , وَقَالَ ابْنُ الْمَاجِشُونِ يُطَافُ بِهِ فِي الْأَسْوَاقِ وَالْجَمَاعَاتِ , وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ يُشْهَرُ فِي الْمَسَاجِدِ وَالْحِلَقِ.
قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ فِي مَجَالِسِ الْمَسْجِدِ الْأَعْظَمِ , وَرَوَى ابْنُ الْمَوَّازِ وَغَيْرُهُ عَنْ مَالِكٍ يُسْجَنُ , وَرَوَى مُطَرِّفٌ عَنْ مَالِكٍ وَلَا أَرَى الْحَلْقَ وَالتَّسْخِيمَ.
( فَرْعٌ ) وَهَلْ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ إِذَا تَابَ , وَرَوَى ابْنُ الْمَوَّازِ عَنْ أَشْهَبَ عَنْ مَالِكٍ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ أَبَدًا زَادَ عَنْهُ ابْنُ نَافِعٍ , وَإِنْ تَابَ وَهِيَ رِوَايَةُ ابْنِ الْقَاسِمِ فِي الْمُدَوَّنَةِ , وَرَوَى عَلِيٌّ عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ فِي الْمَوَّازِيَّةِ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ إِذَا تَابَ وَأَظُنُّهُ لِمَالِكٍ.
وَجْهُ رِوَايَةِ أَشْهَبَ وَابْنِ نَافِعٍ أَنَّهُ مِمَّا يُسَرُّ وَلَا طَرِيقَ إِلَى مَعْرِفَةِ صَلَاحِ حَالِهِ , وَوَجْهُ الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ أَنَّ هَذَا نَوْعُ فِسْقٍ فَلَا يَمْنَعُ قَبُولَ الشَّهَادَةِ بَعْدَ التَّوْبَةِ كَالْقَذْفِ.
( فَرْعٌ ) فَإِذَا قُلْنَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ إِذَا تَابَ فَبِأَيِّ شَيْءٍ تُعْرَفُ تَوْبَتُهُ قَالَ ابْنُ الْمَوَّازِ بِالصَّلَاحِ وَالدَّءُوبِ فِي الْخَيْرِ , وَقَدْ أَشَارَ إِلَيْهِ ابْنُ الْمَاجِشُونِ , وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ حَالَهُ الْأُولَى كَانَتْ حَالَ عَدَالَةٍ فِي الظَّاهِرِ , وَقَدْ وَقَعَ مِنْهُ مَعَهَا مَا دَلَّ عَلَى أَنَّهَا غَيْرُ عَدَالَةٍ فَلَا تَثْبُتُ لَهُ تَوْبَةٌ إِلَّا بِزِيَادَةِ خَيْرٍ مَا كَانَ عَلَيْهِ عِنْدَ وُجُودِ شَهَادَةِ الزُّورِ مِنْهُ كَالْقَاذِفِ إِذَا كَانَ عَدْلًا حِينَ قَذَفَهُ.
.
( فَصْلٌ ) وَقَوْلُ عُمَرَ وَاَللَّهِ لَا يُؤْسَرُ رَجُلٌ فِي الْإِسْلَامِ بِغَيْرِ الْعُدُولِ قِيلَ مَعْنَاهُ لَا يُحْبَسُ , وَالْأَسْرُ الْحَبْسُ , وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ بِهِ لَا يُمْلَكُ مِلْكَ الْأَسْرِ لِإِقَامَةِ الْحُقُوقِ عَلَيْهِ إِلَّا بِالصَّحَابَةِ الَّذِينَ جَمِيعُهُمْ عُدُولٌ أَوْ بِالْعَدْلِ مِنْ غَيْرِهِمْ فَمَنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ الصَّحَابَةِ وَلَمْ تُعْرَفْ عَدَالَتُهُ لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَتُهُ وَهَذَا مَذْهَبُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ , وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ مُجَرَّدُ الْإِسْلَامِ يَقْتَضِي الْعَدَالَةَ فَكُلُّ مَنْ أَظْهَرَ الْإِسْلَامَ حُكِمَ لَهُ بِالْعَدَالَةِ وَقُبِلَتْ شَهَادَتُهُ حَتَّى يُعْرَفَ فِسْقُهُ وَحَكَى عَنْهُ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيُّ أَنَّ ذَلِكَ إِلَى زَمَنِ أَبِي حَنِيفَةَ ; لِأَنَّ الْقَرْنَ الثَّالِثَ آخِرُ الْقُرُونِ الَّتِي أَثْنَى عَلَيْهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , وَأَمَّا مَنْ بَعْدَ الْقَرْنِ الثَّالِثِ فَلَا يَكْفِي فِي عَدَالَتِهِمْ مُجَرَّدُ الْإِسْلَامِ , وَالدَّلِيلُ عَلَى مَا نَقُولُهُ قَوْلُهُ تَعالَى وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنْ الشُّهَدَاءِ , وَقَالَ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَهَذَا شَرْطُ اعْتِبَارِ الرِّضَى وَالْعَدَالَةِ وَذَلِكَ مَعْنًى يَزِيدُ عَلَى الْإِسْلَامِ أَوْ عَلَى إظْهَارِهِ , وَدَلِيلُنَا مِنْ جِهَةِ الْقِيَاسِ أَنَّ الْعَدَالَةَ لَمَّا كَانَتْ شَرْطًا فِي صِحَّةِ الشَّهَادَةِ كَانَ الْجَهْلُ بِوُجُودِهَا مِثْلَ الْعِلْمِ بِعَدَمِهَا كَالْإِسْلَامِ , وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّهُ كَتَبَ إِلَى أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ عُدُولٌ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يَبْلُغَهُ مَا بَلَغَ , وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى ذَلِكَ أَنَّ الْإِسْلَامَ شَرْطٌ فِي الْعَدَالَةِ وَأَنَّهُ لَا يُقْبَلُ أَحَدٌ غَيْرُهُمْ ; لِأَنَّهُ مُحَالٌ أَنْ يُرِيدَ بِهِ قَبُولَ شَهَادَةِ مُسْلِمٍ عُلِمَ مِنْهُ فِسْقٌ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
( مَسْأَلَةٌ ) وَلِلشَّاهِدِ صِفَاتٌ لَا يَجُوزُ أَنْ يُعَرَّى مِنْهَا : أَنْ يَكُونَ بَالِغًا حُرًّا عَاقِلًا مُسْلِمًا عَدْلًا عَارِفًا بِالشَّهَادَةِ وَصِفَةِ تَحَمُّلِهَا الَّتِي يَجُوزُ مَعَهَا إقَامَتُهَا مُتَحَرِّزًا فِيهَا , وَإِنَّمَا شَرَطْنَا الْبُلُوغَ لِقَوْلِهِ قَوْلُهُ تَعالَى وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا وَقَوْلُهُ تَعَالَى وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَهَذِهِ صِفَةُ الْبَالِغِ الْمُكَلَّفِ ; لِأَنَّ الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ لَا يَتَوَجَّهُ إِلَّا إِلَيْهِ وَمِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى أَنَّ الشَّاهِدَ إنَّمَا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مِمَّنْ يَخَافُ وَيَتَحَرَّجُ مِنْ الْإِثْمِ فَيَشْهَدُ بِالْحَقِّ وَيَتَوَقَّى الْبَاطِلَ وَالصَّغِيرُ لَا يَأْثَمُ بِشَيْءٍ وَلَا يَخَافُ عُقُوبَةً فَلَا شَيْءَ يَرْدَعُهُ مِنْ كِتْمَانِ الْحَقِّ وَالشَّهَادَةِ بِالْبَاطِلِ , وَإِنَّمَا شَرَطْنَا الْعَقْلَ ; لِأَنَّ عَدَمَهُ مَعْنًى يُنَافِي التَّكْلِيفَ كَالصِّغَرِ.
( فَرْعٌ ) إِذَا ثَبَتَ ذَلِكَ فَقَدْ رَوَى أَبُو زَيْدٍ عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ فِي الْعُتْبِيَّةِ فِي ابْنِ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً لَمْ يَحْتَلِمْ لَا تَجُوزُ شَهَادَتُهُ إِلَّا أَنْ يَحْتَلِمَ أَوْ يَبْلُغَ ثَمَانِ عَشْرَةَ سَنَةً فَتَجُوزُ شَهَادَتُهُ , وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ تَجُوزُ شَهَادَةُ ابْنِ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً , وَإِنْ لَمْ يَحْتَلِمْ.
وَجْهُ قَوْلِ ابْنِ الْقَاسِمِ أَنَّ هَذَا لَمْ يَحْتَلِمْ وَلَا بَلَغَ السِّنَّ الَّذِي لَا يَبْلُغُهُ غَالِبًا إِلَّا مُحْتَلِمٌ فَأَشْبَهَ ابْنَ عَشَرَةِ أَعْوَامٍ ; لِأَنَّ الْخَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً قَدْ يَبْلُغُهَا مَنْ لَا يَحْتَلِمُ وَاحْتَجَّ ابْنُ وَهْبٍ فِي ذَلِكَ بِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَجَازَ ابْنَ عُمَرَ وَهُوَ ابْنُ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً.
قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ وَغَيْرُهُ فِي غَيْرِ الْعُتْبِيَّةِ إنَّمَا أَجَازَهُ لَمَّا رَآهُ مُطِيقًا لِلْقِتَالِ وَلَمْ يَسْأَلْهُ عَنْ سِنِّهِ وَلَيْسَ فِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ حَدٌّ لِلْبُلُوغِ.
( مَسْأَلَةٌ ) وَإِنَّمَا شَرَطْنَا الْحُرِّيَّةَ خِلَافًا لِمَنْ قَالَ شَهَادَةُ الْعَبْدِ مَقْبُولَةٌ ; لِأَنَّ الرِّقَّ نَقْصٌ يَمْنَعُ الْمِيرَاثَ فَنَافَى الشَّهَادَةَ كَالْكُفْرِ.
( مَسْأَلَةٌ ) وَإِنَّمَا شَرَطْنَا الْإِسْلَامَ خِلَافًا لِمَنْ جَوَّزَ شَهَادَةَ الْكُفَّارِ عَلَى الْمُسْلِمِ فِي الْوَصِيَّةِ حَالَ السَّفَرِ , وَإِنْ كَانُوا مَجُوسًا لِقَوْلُهُ تَعالَى مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنْ الشُّهَدَاءِ وَلِقَوْلِهِ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَلَمْ يَخُصَّ سَفَرًا مِنْ حَضَرٍ , وَالدَّلِيلُ عَلَى مَا نَقُولُهُ أَنَّ هَذِهِ حَالَةٌ مِنْ أَحْوَالِ الْإِنْسَانِ فَلَمْ تَجُزْ فِيهَا شَهَادَةُ الذِّمِّيِّ عَلَى الْمُسْلِمِ كَحَالِ الْإِمَامَةِ , وَأَمَّا تَعَلُّقُهُمْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلَاةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنْ ارْتَبْتُمْ لَا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلَا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ إنَّا إذًا لَمِنْ الْآثِمِينَ فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إثْمًا فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا مِنْ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيَانِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا وَمَا اعْتَدَيْنَا إنَّا إذًا لَمِنْ الظَّالِمِينَ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا أَوْ يَخَافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ.
قَالُوا فَوَجْهُ الدَّلِيلِ مِنْ ذَلِكَ مَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ خَرَجَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي سَهْمٍ مَعَ تَمِيمٍ الدَّارِيِّ وَعَدِيِّ بْنِ بِدَاءٍ فَمَاتَ السَّهْمِيُّ بِأَرْضٍ بِيَدٍ لَيْسَ فِيهَا مُسْلِمٌ فَلَمَّا قَدِمَا فَقَدُوا جَامًا مِنْ فِضَّةٍ مُخَوَّصًا بِذَهَبٍ فَأَحْلَفَهُمَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ وَجَدُوا الْجَامَ بِمَكَّةَ فَقَالُوا ابْتَعْنَاهُ مِنْ تَمِيمٍ وَعَدِيٍّ فَقَامَ رَجُلَانِ مِنْ أَوْلِيَائِهِ فَحَلَفَا لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا وَأَنَّ الْجَامَ لِصَاحِبِهِمْ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَفِيهِمْ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ وَالْجَوَابُ أَنَّ الْآيَةَ لَا تَتَضَمَّنُ شَيْئًا مِمَّا ذَكَرْتُمْ , وَقَدْ قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ إِنَّ مَعْنَى قَوْلُهُ تَعالَى ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ يُرِيدُونَ قَبِيلَكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ يُرِيدُ مِنْ غَيْرِ الْإِسْلَامِ فَلَا يَكُونَانِ شَهِيدَيْنِ وَيَكُونُ حُكْمُهُمَا مَا تَضَمَّنَتْهُ الْآيَةُ مِنْ اسْتِحْلَافِهِمَا.
وَجَوَابٌ ثَالِثٌ وَهُوَ أَنَّ سَبَبَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ وَمَا ذُكِرَ فِي ذَلِكَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ يُنَافِي الشَّهَادَةَ , وَلِذَلِكَ اُسْتُحْلِفُوا وَلَوْ كَانُوا شُهُودًا لَمْ يُسْتَحْلَفُوا ; لِأَنَّهُ لَا خِلَافَ فِي أَنَّ الشَّاهِدَ لَا تَجِبُ عَلَيْهِ يَمِينٌ , وَإِنَّمَا يُسْتَحْلَفُ مَنْ اُدُّعِيَ عَلَيْهِ حَقٌّ , وَلِذَلِكَ رُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّهُ قَالَ مَعْنَى الْآيَةِ أَنْ يَمُوتَ الرَّجُلُ فَيَحْضُرَ مَوْتَهُ مُسْلِمَانِ أَوْ كَافِرَانِ لَا يَحْضُرُهُ غَيْرُهُمَا , فَإِنْ رَضِيَ وَرَثَتُهُ مَا غَابَ عَلَيْهِ مِنْ التَّرِكَةِ فَذَلِكَ وَيَحْلِفُ الشَّاهِدَانِ إنَّهُمَا لَصَادِقَانِ , فَإِنْ غُيِّرَا وَوُجِدَ لَطْخٌ أَوْ لَبْسٌ أَوْ شَبَهٌ حَلَفَ الْأَوْلَيَانِ مِنْ الْوَرَثَةِ وَاسْتَحَقَّا وَأَبْطَلَا أَيْمَانَ الشَّاهِدَيْنِ , وَقَدْ يُسَمَّى الْحَالِفُ شَاهِدًا وَيَقُولُ الْحَالِفُ أَشْهَدُ بِاللَّهِ , وَلِذَلِكَ رُوِيَ عَنْ النَّخَعِيِّ كَانُوا يَضْرِبُونَنَا عَلَى الشَّهَادَةِ وَالْعَهْدِ يَعْنِي عَلَى الْيَمِينِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ.
( فَرْعٌ ) وَلَا تَجُوزُ شَهَادَةُ الذِّمِّيِّ عَلَى ذِمِّيٍّ خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ فِي قَوْلِهِ إِنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ , وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعالَى وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَالْعَدَالَةُ تُنَافِي الْكُفْرَ وَدَلِيلُنَا مِنْ جِهَةِ الْقِيَاسِ أَنَّ مَنْ لَا تَجُوزُ شَهَادَتُهُ عَلَى مُسْلِمٍ لَمْ تَجُزْ شَهَادَتُهُ عَلَى كَافِرٍ كَالْمَجُوسِيِّ وَالْحَرْبِيِّ.
( مَسْأَلَةٌ ) وَلَا تَجُوزُ شَهَادَةُ الْفَاسِقِ ; لِأَنَّ مِنْ شَرْطِ الشَّهَادَةِ الْعَدَالَةُ لِمَا تَقَدَّمَ , وَإِنَّمَا يُرَاعَى فِي هَذِهِ الصِّفَاتِ وَقْتُ الْأَدَاءِ لَا وَقْتُ التَّحَمُّلِ فَلَوْ تَحَمَّلَ الشَّهَادَةَ وَهُوَ صَغِيرٌ عَبْدٌ كَافِرٌ ثُمَّ أَدَّاهَا بَعْدَ أَنْ أَسْلَمَ وَبَلَغَ وَأُعْتِقَ وَكَمُلَتْ لَهُ صِفَاتُ الشَّهَادَةِ قُبِلَتْ شَهَادَتُهُ , وَلَوْ تَحَمَّلَهَا فِي حَالِ عَدَالَةٍ ثُمَّ أَدَّاهَا فِي حَالِ فِسْقٍ لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَتُهُ وَكَذَلِكَ لَوْ أَشْهَدُوا عَلَى شَهَادَتِهِ فِي حَالِ فِسْقِهِ ثُمَّ أَدَّاهَا مَنْ عَلِمَهَا عَنْهُ بَعْدَ أَنْ بَلَغَ الْعَدَالَةَ لَمْ تَصِحَّ شَهَادَتُهُمْ ; لِأَنَّ الِاعْتِبَارَ فِي ذَلِكَ بِصِفَاتِهِمْ وَقْتَ إشْهَادِهِ عَلَى شَهَادَتِهِ قَالَ ذَلِكَ سَحْنُونٌ قَالَ وَهُوَ قِيَاسُ قَوْلِ مَالِكٍ وَأَصْحَابِهِ.
( فَرْعٌ ) وَلَوْ شَهِدَ الشَّاهِدَانِ بِهَا عِنْدَ الْحُكْمِ فَرَدَّهَا لِمَعْنًى مِنْ هَذِهِ الْمَعَانِي ثُمَّ زَالَ مِنْ ذَلِكَ الْمَعْنَى لَمْ يَصِحَّ أَدَاؤُهَا لَهُمَا , وَلَوْ أَدَّيَاهَا لَمْ يَجُزْ لِلْحَاكِمِ الْحُكْمُ بِهَا , هَذَا قَوْلُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ , وَقَالَ الْحَكَمُ بْنُ عُيَيْنَةَ إِنْ رُدَّتْ شَهَادَتُهُ لِصِغَرٍ أَوْ رِقٍّ أَوْ كُفْرٍ قُبِلَتْ بَعْدَ ذَلِكَ , وَإِنْ رُدَّتْ لِفِسْقٍ أَوْ تُهْمَةٍ لَمْ تُقْبَلْ بَعْدَ ذَلِكَ مِثْلُ أَنْ يَشْهَدَ لِزَوْجَتِهِ بِشَهَادَةٍ فَتُرَدُّ ثُمَّ يُطَلِّقُهَا فَإِنَّهُ لَا يُقْبَلُ لَهَا فِي تِلْكَ الشَّهَادَةِ وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ , وَالدَّلِيلُ عَلَى مَا نَقُولُهُ أَنَّ هَذَا رُدَّتْ شَهَادَتُهُ لِمَعْنًى فِيهِ أَوْجَبَ رَدَّهَا فَلَمْ يَجُزْ قَبُولُهُ فِيهَا , وَإِنْ زَالَ ذَلِكَ الْمَعْنَى كَالْفِسْقِ.
( مَسْأَلَةٌ ) وَإِنَّمَا شَرَطْنَا أَنْ يَكُونَ عَالِمًا بِتَحَمُّلِ الشَّهَادَةِ ; لِأَنَّهُ مَنْ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ عِلْمٌ لِتَحَمُّلِهَا لَمْ يُؤْمَنْ عَلَيْهِ الْغَلَطُ فِيهَا وَتَرْكُ مَا هُوَ شَرْطٌ فِي صِحَّتِهَا , وَإِنَّمَا شَرَطْنَا أَنْ يَكُونَ مُتَحَرِّزًا فِيهَا ; لِأَنَّ مَنْ لَمْ يَكُنْ مُتَحَرِّزًا لَمْ يُؤْمَنْ عَلَيْهِ التَّخَيُّلُ مِنْ أَهْلِ التَّخْيِيلِ فَيَشْهَدُ بِالْبَاطِلِ وَلَمْ يَعْلَمْ.
( مَسْأَلَةٌ ) وَهَلْ مِنْ شَرْطِهِ أَنْ لَا يَكُونَ مُوَلًّى عَلَيْهِ ؟ رَوَى أَشْهَبُ عَنْ مَالِكٍ فِي الْعُتْبِيَّةِ وَالْمَجْمُوعَةِ أَنَّ شَهَادَةَ الْمُوَلَّى عَلَيْهِ تَجُوزُ إِنْ كَانَ عَدْلًا قَالَ ابْنُ الْمَوَّازِ وَهَذِهِ رِوَايَةُ ابْنِ عَبْدِ الْحَكَمِ , وَقَالَ أَشْهَبُ لَا تَجُوزُ شَهَادَتُهُ , وَإِنْ كَانَ مِثْلُهُ لَوْ طَلَبَ مَالَهُ أَخَذَهُ قَالَ ابْنُ الْمَوَّازِ وَهُوَ أَحَبُّ إلَيَّ قَالَ وَلَا تَجُوزُ شَهَادَةُ الْبِكْرِ فِي الْمَالِ حَتَّى تُعَنِّسَ , وَإِنْ كَانَتْ مِنْ أَهْلِ الْعَدْلِ.
وَجْهُ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ قَوْلُهُ تَعالَى وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ الْمَوْلَى وَغَيْرِهِ , وَإِنَّمَا الْوِلَايَةُ عَلَيْهِ لِقِلَّةِ مَعْرِفَتِهِ بِحِفْظِ الْمَالِ وَتَثْمِيرِهِ وَذَلِكَ لَا يَمْنَعُ قَبُولَ شَهَادَتِهِ مَعَ الْعَدَالَةِ , وَوَجْهُ الْقَوْلِ الثَّانِي أَنَّ مِنْ شَرْطِ الشَّاهِدِ أَنْ يَعْرِفَ التَّحَرُّزَ فَإِذَا لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِ التَّحَرُّزِ فِي حِفْظِ مَالِهِ وَلَا يَوْثُقُ بِهِ فِي ذَلِكَ فَبِأَنْ لَا يَوْثُقُ بِهِ فِي أَدَاءِ شَهَادَتِهِ أَوْلَى.
.
( فَصْلٌ ) إِذَا ثَبَتَ ذَلِكَ فَالشُّهُودُ عَلَى ثَلَاثَةِ : أَقْسَامٍ قِسْمٌ يَعْرِفُ الْحَاكِمُ عَدَالَتَهُ وَقِسْمٌ يَعْرِفُ فِسْقَهُ وَقِسْمٌ يَجْهَلُ أَمْرَهُ , فَأَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ وَهُوَ مَنْ يَعْرِفُ عَدَالَتَهُ فَيَجِبُ عَلَى الْحَاكِمِ الْحُكْمُ بِشَهَادَتِهِ إِنْ لَمْ يَكُنْ لِلْمَحْكُومِ عَلَيْهِ مَدْفَعٌ فِيهَا قَالَ سَحْنُونٌ فِي الْعُتْبِيَّةِ وَذَلِكَ مِثْلُ الرَّجُلِ الْمَشْهُورِ بِالْعَدَالَةِ , وَعِنْدَ الْحَاكِمِ مَنْ مَعْرِفَتُهُ مِثْلُ مَا عِنْدَ مَنْ يُعَدِّلُهُ فَهَذَا الَّذِي عَلَى الْحَاكِمِ أَنْ يَقْبَلَهُ , وَرَوَى يَحْيَى عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ إِذَا كَانَ الْقَاضِي يَعْرِفُ الرَّجُلَ وَكَانَ يُزَكِّيهِ عِنْدَ غَيْرِهِ لَوْ لَمْ يَكُنْ قَاضِيًا فَهَذَا الَّذِي يَسَعُهُ قَبُولُ شَهَادَتِهِ , وَأَمَّا الضَّرْبُ الثَّانِي وَهُوَ مَنْ يَعْرِفُ فِسْقَهُ فَلَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَحْكُمَ بِشَهَادَتِهِ بَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ رَدُّهَا وَذَلِكَ عَلَى ضَرْبَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنْ يَعْرِفَ الْحَاكِمُ فِسْقَهُ وَالثَّانِي أَنْ يُجْرَحَ عِنْدَهُ بِأَنَّهُ يَرْتَكِبُ مَحْظُورًا كَالزِّنَا وَالسَّرِقَةِ وَشُرْبِ الْخَمْرِ وَالْعَمَلِ بِالرِّبَا.
قَالَ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ وَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ أَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ , وَإِنْ كَانَ لَا يَدْعُو إِلَى بِدْعَتِهِ وَتُقْبَلُ شَهَادَةُ الْقُرَّاءِ فِي جَمِيعِ الْأَشْيَاءِ إِلَّا شَهَادَةَ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ فَإِنَّهُمْ يَتَحَاسَدُونَ كَالضَّرَائِرِ , وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي شَهَادَةِ الْقُرَّاءِ بِالْأَلْحَانِ وَأَحَبُّ إلَيَّ أَنْ لَا تَجُوزَ , وَالْبَخِيلُ الَّذِي ذَمَّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ هُوَ الَّذِي لَا يُؤَدِّي الزَّكَاةَ فَمَنْ أَدَّى زَكَاةَ مَالِهِ فَلَيْسَ بِبَخِيلٍ وَلَا تُرَدُّ شَهَادَتُهُ , وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا إِنَّ شَهَادَةَ الْبَخِيلِ مَرْدُودَةٌ , وَإِنْ كَانَ مَرْضِيَّ الْحَالِ يُؤَدِّي زَكَاةَ مَالِهِ ; لِأَنَّهُ سَاقِطُ الْمُرُوءَةِ وَذَلِكَ يَمْنَعُ قَبُولَ الشَّهَادَةِ.
وَكَذَلِكَ تُرَدُّ شَهَادَةُ مَنْ يَتْرُكُ وَاجِبًا كَتَرْكِ الصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ حَتَّى يَخْرُجَ الْوَقْتُ الْمَشْرُوعُ لَهَا , وَأَمَّا تَرْكُ الْجُمُعَةِ فَجُرْحَةٌ فِي الْجُمْلَةِ وَاخْتُلِفَ فِي تَرْكِهَا مَرَّةً وَاحِدَةً فَقَالَ أَصْبَغُ هِيَ جُرْحَةٌ كَالصَّلَاةِ مِنْ الْفَرِيضَةِ فَتَرْكُهَا مَرَّةً وَاحِدَةً فَيُؤَخِّرُهَا عَنْ وَقْتِهَا وَهَذَا ظَاهِرُ مَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ فِي الْعُتْبِيَّةِ , وَقَالَ سَحْنُونٌ لَا يَكُونُ جُرْحَةً حَتَّى يَتْرُكَهَا ثَلَاثَةً مُتَوَالِيَةً وَمِثْلُهُ رَوَى ابْنُ حَبِيبٍ عَنْ مُطَرِّفٍ وَابْنِ الْمَاجِشُونِ عَنْ مَالِكٍ.
( مَسْأَلَةٌ ) وَهَذَا مَا كَانَ مِنْ الْعِبَادَاتِ عَلَى الْفَوْرِ , وَأَمَّا مَا كَانَ عَلَى التَّرَاخِي فَإِنَّهَا لَا تُبْطِلُ شَهَادَتَهُ حَتَّى يَتْرُكَ ذَلِكَ الْمُدَّةَ الطَّوِيلَةَ الَّتِي يَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ تَهَاوُنُهُ بِهَا مَعَ تَمَكُّنِهِ مِنْ أَدَائِهَا.
قَالَ سَحْنُونٌ فَمَنْ كَانَ صَحِيحَ الْبَدَنِ مُتَّصِلَ الْوَفْرِ قَدْ بَلَغَ عِشْرِينَ سَنَةً إِلَى أَنْ بَلَغَ سِتِّينَ سَنَةً فَلَا شَهَادَةَ لَهُ , وَإِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْأَنْدَلُسِ يُرِيدُ إِذَا تَرَكَ الْحَجَّ.
( مَسْأَلَةٌ ) وَأَمَّا تَرْكُ الْمَنْدُوبِ إِلَيْهِ بِمَا كَانَ مِنْهُ يَتَكَرَّرُ وَيَتَأَكَّدُ كَالْوِتْرِ وَرَكْعَتَيْ الْفَجْرِ وَتَحِيَّةِ الْمَسْجِدِ وَمَا قَدْ وَاظَبَ عَلَيْهِ النَّاسُ فَإِنْ أَخَلَّ أَحَدٌ بِفِعْلِهِ مَرَّةً أَوْ مِرَارًا لِعُذْرٍ أَوْ غَيْرِ عُذْرٍ فَلَا يَسْقُطُ بِذَلِكَ عَدَالَتُهُ , وَأَمَّا مَنْ أَقْسَمَ أَنْ لَا يَفْعَلَ أَوْ تَرَكَهُ جُمْلَةً فَإِنَّ ذَلِكَ يُسْقِطُ شَهَادَتَهُ وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعالَى وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ سَمِعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَوْتَ خُصُومٍ بِالْبَابِ عَالِيَةٌ أَصْوَاتُهُمَا فَإِذَا أَحَدُهُمَا يَسْتَوْضِعُ الْآخَرَ وَيَسْتَرْفِقُهُ فِي شَيْءٍ وَهُوَ يَقُولُ وَاَللَّهِ لَا أَفْعَلُ فَخَرَجَ عَلَيْهِمَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ أَيْنَ الْمُتَأَلِّي أَنْ لَا يَفْعَلَ الْمَعْرُوفَ فَقَالَ أَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ فَلَهُ أَيُّ ذَلِكَ أَحَبَّ فَوَجْهُ الدَّلِيلِ فِيهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْكَرَ عَلَيْهِ يَمِينَهُ بِذَلِكَ إنْكَارًا اقْتَضَى إقْلَاعَهُ عَنْهُ وَتَوْبَتَهُ مِنْهُ فَمَنْ أَصَرَّ عَلَى مِثْلِ ذَلِكَ وَجَبَ رَدُّ شَهَادَتِهِ , وَأَمَّا الَّذِي قَالَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ أَخْبَرَهُ بِالْفَرَائِضِ وَاَللَّهِ لَا أَزِيدُ عَلَى هَذَا وَلَا أُنْقِصُ مِنْهُ فَإِنَّهُ لَمْ يَحْلِفْ عَلَى أَنْ لَا يَأْتِيَ بِنَافِلَةٍ وَلَا يَعْمَلَ شَيْئًا مِنْ الْخَيْرِ وَلَكِنَّهُ أَقْسَمَ أَنْ لَا يَفْعَلَ عَلَى وَجْهِ الْوُجُوبِ عِنْدَمَا أَخْبَرَهُ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ وُجُوبِهِ , وَإِنْ أَجَازَ أَنْ يَفْعَلَ غَيْرَ ذَلِكَ مِنْ جِنْسِهِ عَلَى وَجْهِ النَّفْلِ وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ بِذَلِكَ أَنَّهُ لَا يَزِيدُ عَلَيْهِ زِيَادَةً تُفْسِدُهُ , فَلَا يَزِيدُ عَلَى رَكَعَاتِ الصَّلَاةِ فَيُصَلِّيهَا خَمْسًا وَلَا يُنْقِصُ مِنْهَا فَيُصَلِّيهَا ثَلَاثًا , وَإِنْ جَازَ أَنْ يَزِيدَ فِيهَا وَيُنْقِصَ مِنْهَا مَا لَا يُخِلُّ بِصِحَّتِهَا.
.
( فَصْلٌ ) وَأَمَّا مَنْ جَهِلَ الْحَاكِمُ أَمْرَهُ فَلَا يَعْرِفُهُ بِعَدَالَةٍ وَلَا فِسْقٍ فَلَا يَخْلُو أَنْ يَتَنَاوَلَ شَهَادَةَ مَا يُعْدَمُ شَهَادَةُ أَهْلِ الْعَدْلِ فِيهِ فِي الْأَغْلَبِ أَوْ مَا لَا يُعْدَمُ ذَلِكَ مِنْهُ , فَأَمَّا مَا يُعْدِمُ ذَلِكَ فِيهِ غَالِبًا مِثْلُ شَهَادَةِ أَهْلِ الرُّفْقَةِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ فِيمَا يَخْتَصُّ بِمُعَامَلَاتِ السَّفَرِ مِنْ بَيْعٍ أَوْ شِرَاءٍ أَوْ قَرْضٍ أَوْ كِرَاءٍ أَوْ قَضَاءٍ وَمَا جَرَى مَجْرَى ذَلِكَ , فَأَمَّا بَيْعُ الْعَقَارِ وَالْأَمْوَالِ الَّتِي لَمْ تَجْرِ الْعَادَةُ بِبَيْعِهَا فِي السَّفَرِ فَلَا يُقْبَلُ فِيهَا إِلَّا الْعُدُولُ وَكَذَلِكَ مَا شَهِدَ بِهِ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ فِيمَا يُوجِبُ الْحَدَّ أَوْ الضَّرْبَ كَالسَّرِقَةِ وَالتَّلَصُّصِ وَالزِّنَا وَالْغَصْبِ الْمُوجِبِ لِلضَّرْبِ فَلَا يُقْبَلُ فِي ذَلِكَ إِلَّا أَهْلُ الْعَدَالَةِ , وَإِنَّمَا تَجُوزُ شَهَادَةُ التَّوَسُّمِ فِي الْأَمْوَالِ لِصَلَاحِ السَّفَرِ وَاتِّصَالِ السُّبُلِ , وَرَوَى ذَلِكَ ابْنُ حَبِيبٍ عَنْ مُطَرِّفٍ وَابْنِ الْمَاجِشُونِ , وَوَجْهُ ذَلِكَ مَا احْتَجَّ بِهِ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ مِنْ قَوْلُهُ تَعالَى وَاسْأَلْ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا وَإِنَّا لَصَادِقُونَ , وَمِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى مَا تَدْعُو إِلَيْهِ الضَّرُورَةُ فِي السَّفَرِ مِنْ قَبُولِ أَهْلِ الرُّفْقَةِ وَمَنْ لَا يَكَادُ يُوجَدُ فِيهَا غَيْرُهُمْ.
( مَسْأَلَةٌ ) وَإِنَّمَا يُقْبَلُونَ عَلَى التَّوَسُّمِ وَذَلِكَ أَنْ يَتَوَسَّمَ فِيهِمْ الْحَاكِمُ الْحُرِّيَّةَ وَالْإِسْلَامَ.
زَادَ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ وَالْمُرُوءَةَ وَالْعَدَالَةَ وَلَا يُمَكَّنُ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ مِنْ تَجْرِيحِهِمْ ; لِأَنَّ مَنْ اجْتَرَأَ عَلَى غَيْرِ الْعَدَالَةِ لَا يُمَكَّنُ مِنْ تَجْرِيحِهِ كَالصِّبْيَانِ , وَإِنْ ارْتَابَ السُّلْطَانُ رِيبَةً قَبْلَ الْحُكْمِ فَإِنْ كَانَ سَبَبُ الرِّيبَةِ قَطْعَ يَدٍ أَوْ رِجْلٍ أَوْ جَلْدَ ظَهْرٍ فَلْيَتَوَقَّفْ وَيَتَثَبَّتْ فِي تَوَسُّمِهِ فَإِنْ ظَهْرَ لَهُ نَفْيُ تِلْكَ الرِّيبَةِ وَإِلَّا أَسْقَطَهُمْ , وَلَوْ شَهِدَ مِنْهُمْ وَاحِدٌ أَوْ امْرَأَةٌ أَوْ عَدَدٌ لَا تَوَسُّمَ إِنَّ الَّذِينَ قُبِلُوا بِالتَّوَسُّمِ عَبِيدٌ أَوْ مَسْخُوطُونَ وَذَلِكَ قَبْلَ الْحُكْمِ فَإِنَّ السُّلْطَانَ يَتَثَبَّتُ فِيهِمْ وَيَكْشِفُ عَنْهُمْ فَإِنْ ظَهَرَ لَهُ بَعْضُ مَا قِيلَ أَمْسَكَ عَنْ إمْضَاءِ شَهَادَتِهِمْ , وَإِنْ لَمْ يَظْهَرْ لَهُ ذَلِكَ حَكَمَ بِهَا , وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ بَعْدَ الْحُكْمِ بِشَهَادَتِهِمْ فَلَا تَرَدُّدَ بِشَيْءٍ مِمَّا ذَكَرْنَاهُ قَبْلَ هَذَا إِلَّا أَنْ يَشْهَدَ عَدْلَانِ أَنَّهُمَا أَوْ أَحَدُهُمَا عَلَى صِفَةٍ تَمْنَعُ قَبُولَ الشَّهَادَةِ.
(الْبَابُ الْأَوَّلُ فِي عَدَدِ الْمُزَكِّينَ ) ( مَسْأَلَةٌ ) وَأَمَّا إِذَا تَنَاوَلَتْ شَهَادَةُ الشَّاهِدَيْنِ مَا لَا يُعْدَمُ شَهَادَةُ أَهْلِ الْعَدْلِ فِيهِ غَالِبًا فَإِنَّهُ لَا يُقْبَلُ شَهَادَتُهُمَا إِلَّا بَعْدَ التَّزْكِيَةِ رَوَى ابْنُ حَبِيبٍ عَنْ مُطَرِّفٍ وَابْنِ الْمَاجِشُونِ لَيْسَ تَعْدِيلُ الشُّهَدَاءِ إِلَى الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ , وَإِنَّمَا ذَلِكَ إِلَى الْحَاكِمِ يَنْظُرُ فِي ذَلِكَ لِنَفْسِهِ سُمِّيَ لَهُ ذَلِكَ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ أَوْ لَمْ يُسَمَّ.
وَفِي ذَلِكَ خَمْسَةُ أَبْوَابٍ الْبَابُ الْأَوَّلُ فِي عَدَدِ الْمُزَكِّينَ وَالْبَابُ الثَّانِي فِي صِفَةِ الْمُزَكَّى وَالْبَابُ الثَّالِثُ فِي مَعْنَى الْعَدَالَةِ وَمَا يَلْزَمُ الْمُزَكَّى مِنْ مَعْرِفَةِ ذَلِكَ وَالْبَابُ الرَّابِعُ فِي لَفْظِ التَّزْكِيَةِ وَالْبَابُ الْخَامِسُ فِي تَكْرَارِ التَّعْدِيلِ وَمَا يَلْزَمُ مِنْهُ.
( الْبَابُ الْأَوَّلُ فِي عَدَدِ الْمُزَكِّينَ ) وَذَلِكَ عَلَى وَجْهَيْنِ تَزْكِيَةٌ عَلَانِيَةٌ وَتَزْكِيَةٌ سِرِّيَّةٌ , فَأَمَّا تَزْكِيَةُ الْعَلَانِيَةِ فَفِي الْمَجْمُوعَةِ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ لَا يُجْزِئُ فِي التَّزْكِيَةِ أَقَلُّ مِنْ اثْنَيْنِ , وَوَجْهُ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعالَى وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ وَهَذَا فِي كُلِّ شَيْءٍ إِلَّا فِي تَزْكِيَةِ شُهُودِ الزِّنَا فَقَدْ رَوَى ابْنُ حَبِيبٍ عَنْ مُطَرِّفٍ عَنْ مَالِكٍ لَا يَعْدِلُ كُلُّ وَاحِدٍ إِلَّا بِأَرْبَعَةٍ , وَقَالَ ابْنُ الْمَاجِشُونِ يَجُوزُ فِي تَعْدِيلِهِمْ مَا يَجُوزُ فِي تَعْدِيلِ غَيْرِهِمْ اثْنَانِ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ أَوْ أَرْبَعَةٌ لِجَمِيعِهِمْ.
( مَسْأَلَةٌ ) وَأَمَّا تَزْكِيَةُ السِّرِّ فَقَدْ رَوَى ابْنُ حَبِيبٍ عَنْ مُطَرِّفٍ وَابْنِ الْمَاجِشُونِ وَأَصْبَغَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ لِلْحَاكِمِ رَجُلٌ عَرَفَ دِينَهُ وَفَضْلَهُ وَمَيَّزَهُ وَتَحَرُّزَهُ لَا يَعْرِفُهُ أَحَدٌ سِوَى الْحَاكِمِ فَيَبْحَثُ عَنْ أَحْوَالِ النَّاسِ وَيَكْتَتِمُ بِذَلِكَ , فَإِذَا كَلَّفَهُ الْقَاضِي أَنْ يَتَعَرَّفَ لَهُ حَالَ شَاهِدٍ تَسَبَّبَ إِلَى ذَلِكَ بِالْبَحْثِ وَالسُّؤَالِ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُ بِهِ أَحَدٌ ثُمَّ يُعْلِمُ الْحَاكِمَ بِمَا عِنْدَهُ مِنْ ذَلِكَ فَهَذِهِ تَزْكِيَةُ السِّرِّ.
( فَرْعٌ ) وَكَمْ عَدَدُ الْمُزَكِّينَ فِي السِّرِّ فِي الْمَجْمُوعَةِ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ يَكْفِي فِي ذَلِكَ الرَّجُلُ الْوَاحِدُ الْعَدْلُ , وَفِي الْعُتْبِيَّةِ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ لَا أُحِبُّ أَنْ يُسْأَلَ فِي السِّرِّ أَقَلُّ مِنْ اثْنَيْنِ , وَقَالَ سَحْنُونٌ لَا يُقْبَلُ فِي السِّرِّ إِلَّا اثْنَانِ.
وَجْهُ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ أَنَّهُ نَائِبٌ عَنْ الْحَاكِمِ فَاقْتَضَى ذَلِكَ انْفِرَادَهُ , وَوَجْهُ الْقَوْلِ الثَّانِي أَنَّهَا شَهَادَةٌ فِي تَعْدِيلٍ كَتَزْكِيَةِ الْعَلَانِيَةِ.
( مَسْأَلَةٌ ) وَالْأَفْضَلُ فِي التَّعْدِيلِ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ السِّرِّ وَالْعَلَانِيَةِ , وَقَالَ ابْنُ حَبِيبٍ عَنْ مُطَرِّفٍ وَابْنِ الْمَاجِشُونِ وَأَصْبَغَ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُكْتَفَى بِتَعْدِيلِ الْعَلَانِيَةِ دُونَ تَعْدِيلِ السِّرِّ , وَقَدْ يُجْزِي تَعْدِيلُ السِّرِّ عَنْ تَعْدِيلِ الْعَلَانِيَةِ , وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ تَعْدِيلَ السِّرِّ لَا يَجْتَزِي فِي ذَلِكَ السَّائِلُ إِلَّا بِالْخَبَرِ الْفَاشِي الْمُتَكَرِّرِ الْمُتَحَقِّقِ الَّذِي يَقَعُ بِهِ الْعِلْمُ لِلْمُسْتَخْبِرِ , وَلِذَلِكَ لَا يُعْذَرُ فِيهِ إِلَى أَحَدٍ , وَأَمَّا تَعْدِيلُ الْعَلَانِيَةِ فَيُقْبَلُ فِي ذَلِكَ شَاهِدَانِ فَلَا يَقْوَى قُوَّةَ مَا يَقَعُ بِهِ الْعِلْمُ , وَلِذَلِكَ يُعْذَرُ فِيهِ إِلَى الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ فَإِذَا أَمْكَنَ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ فَهُوَ أَوْلَى لِيَسْتَوِيَ فِي تَعْدِيلِهِ السِّرُّ وَالْجَهْرُ , وَإِنْ اقْتَصَرَ فِي الرَّجُلِ الْمَشْهُورِ الْفَضْلِ بِتَزْكِيَةِ السِّرِّ فَلَا بَأْسَ بِذَلِكَ لِمَا عَلَيْهِ مِنْ الْغَضَاضَةِ بِمُطَالَبَتِهِ بِالتَّزْكِيَةِ وَالتَّوَقُّفِ فِي قَبُولِ شَهَادَتِهِ حَتَّى يُزَكَّى فَإِنْ لَمْ تُعْلَمْ حَالَتُهُ بِالسُّؤَالِ فِي السِّرِّ عَنْ أَمْرِهِ وَلَمْ يُوجَدْ مَنْ يُخْبِرُ بِذَلِكَ عَنْهُ إِلَّا الرَّجُلَانِ وَالثَّلَاثَةُ اُضْطُرَّ فِي أَمْرِهِ إِلَى تَزْكِيَةِ الْعَلَانِيَةِ وَاجْتُزِئَ بِهَا فِي الَّذِي لَمْ تُشْتَهَرْ عَيْنُهُ.
وَفِي الْمُدَوَّنَةِ يَكْفِي فِي ذَلِكَ أَنْ يُزَكَّى فِي السِّرِّ أَوْ الْعَلَانِيَةِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ وَأَحْكَمُ.
( الْبَابُ الثَّانِي فِي صِفَةِ الْمُزَكَّى ) رَوَى ابْنُ حَبِيبٍ عَنْ مُطَرِّفٍ وَابْنِ الْمَاجِشُونِ وَابْنِ عَبْدِ الْحَكَمِ وَأَصْبَغَ لَا يَجُوزُ تَعْدِيلُ الرَّجُلِ , وَإِنْ كَانَ عَدْلًا حَتَّى يُعْرَفَ وَجْهُ التَّعْدِيلِ وَرَوَاهُ مُطَرِّفٌ عَنْ مَالِكٍ , وَقَالَ سَحْنُونٌ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِهِ عَنْهُ لَا تُقْبَلُ تَزْكِيَةُ الْأَبْلَهِ مِنْ النَّاسِ , وَقَالَ سَحْنُونٌ وَلَيْسَ كُلُّ مَنْ تَجُوزُ شَهَادَتُهُ يَجُوزُ تَعْدِيلُهُ وَلَا يَجُوزُ فِي التَّعْدِيلِ إِلَّا الْمُبَرَّزُ النَّافِذُ الْفَطِنُ الَّذِي لَا يُخْدَعُ فِي عَقْلِهِ وَلَا يُسْتَزَلُّ فِي رَأْيِهِ , وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ مَعْرِفَةَ أَحْوَالِ النَّاسِ وَمَعْرِفَةَ الْجَائِزِ مِنْهَا مِنْ غَيْرِهِ مِمَّا يَخْفَى وَلَا يَعْلَمُهُ إِلَّا آحَادُ النَّاسِ وَأَهْلُ الْمَيْزِ وَالْحِذْقِ مِنْهُمْ , وَأَمَّا دَفْعُ عَقْدٍ إِلَى شَاهِدٍ يَشْهَدُ فِيهِ بِمَا يُشْهِدُهُ عَلَيْهِ الْمُتَعَاقِدَانِ فِي بَيْعٍ أَوْ غَيْرِهِ فَذَلِكَ أَمْرٌ ظَاهِرٌ يَبْعُدُ مِنْ الْخَطَأِ وَالْمُخَادَعَةِ لِمَنْ لَهُ أَقَلُّ مَعْرِفَةٍ وَأَيْسَرُ جُزْءٍ مِنْ التَّحَرُّزِ.
( فَرْعٌ ) وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُعَدَّلَانِ غَيْرَ مَعْرُوفَيْنِ عِنْدَ الْحَاكِمِ فَيُزَكَّيَانِ عِنْدَهُ إِذَا كَانَ شَاهِدُ الْأَصْلِ مِنْ أَهْلِ الْبَلَدِ , وَإِنْ كَانَ غَرِيبًا جَازَ ذَلِكَ قَالَهُ مَالِكٌ فِي الْمُدَوَّنَةِ وَغَيْرِهَا , وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ الْغَرِيبَ قَدْ يَكُونُ مَجْهُولَ الْحَالِ فِي الْبَلَدِ فَلَا يَعْرِفُ عَدَالَتَهُ إِلَّا مَنْ يَعْرِفُ الْحُكْمَ فَيَحْتَاجُ أَنْ يُعْرَفَ بِهِ , وَأَمَّا الْمُسَاكِنُ بِالْبَلَدِ فَحَالُهُ فِي الْأَغْلَبِ مَعْلُومَةٌ كَحَالِ الْمُزَكَّى لَهُ فَلَا يُقْبَلُ فِي تَزْكِيَتِهِ إِلَّا أَهْلُ الْعَدَالَةِ عَلَى مَا وَصَفْنَا قَبْلَ هَذَا.
( الْبَابُ الثَّالِثُ فِي مَعْنَى الْعَدَالَةِ وَمَا يَلْزَمُ الْمُزَكَّى مِنْ مَعْرِفَةِ ذَلِكَ ) مَنْ لَا يَعْرِفُهُ الْحَاكِمُ بِهَذِهِ الصِّفَةِ يَطْلُبُ فِيهِ التَّزْكِيَةَ قَالَ سَحْنُونٌ يُزَكِّيهِ عِنْدَهُ مَنْ يَعْرِفُ بَاطِنَهُ كَمَا يَعْرِفُ ظَاهِرَهُ , مَنْ صَحِبَهُ الصُّحْبَةَ الطَّوِيلَةَ وَعَامَلَهُ بِالْأَخْذِ وَالْإِعْطَاءِ قَالَ ابْنُ سَحْنُونٍ عَنْ أَبِيهِ فِي الْحَضَرِ وَالسَّفَرِ قَالَ مَالِكٌ كَانَ يُقَالُ لِمَنْ مَدَحَ رَجُلًا أَصَحِبْته فِي سَفَرٍ أَخَالَطْته فِي مَالٍ قَالَ مَالِكٌ فِي الرَّجُلِ يَصْحَبُ الرَّجُلَ شَهْرًا فَلَا يَعْلَمُ مِنْهُ إِلَّا خَيْرًا لَا يُزَكِّيهِ بِهَذَا وَهُوَ كَبَعْضِ مَنْ يُجَالِسُك وَلَيْسَ هَذَا بِاخْتِبَارٍ , وَقَالَ يَحْيَى بْنُ يَحْيَى عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ فِي الشَّاهِدِ لَا يَعْرِفُهُ الْقَاضِي بِعَدَالَةٍ وَلَا فَسَادٍ إِلَّا أَنَّهُ مِمَّنْ يَحْضُرُ الصَّلَوَاتِ فِي الْمَسَاجِدِ قَالَ سَحْنُونٌ يَعْرِفُهُ بِظَاهِرٍ جَمِيلٍ مِنْ أَهْلِ الْمَسَاجِدِ وَالْجِهَادِ قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ لَا يَقْبَلُ شَهَادَتَهُ وَيَطْلُبُ فِيهِ التَّزْكِيَةَ قَالَ سَحْنُونٌ لَا يُزَكِّيهِ بِذَلِكَ.
( مَسْأَلَةٌ ) إِذَا ثَبَتَ أَنَّ التَّزْكِيَةَ تَفْتَقِرُ إِلَى أَنْ يَعْرِفَ الْمُزَكَّى مِنْ حَالِ الشَّاهِدِ مَا ذَكَرْنَاهُ فَفِي الْعُتْبِيَّةِ عَنْ سَحْنُونٍ مَا مَعْنَاهُ أَنَّهُ لَا يُؤَثِّرُ فِي ذَلِكَ أَنْ يُقَارِفَ بَعْضَ الذَّنْبِ كَالْأَمْرِ الْخَفِيفِ مِنْ الزَّلَّةِ وَالْفَلْتَةِ فَمِثْلُ هَذَا لَا يَمْنَعُ مِنْ عَدَالَتِهِ قَالَ مَالِكٌ مِنْ النَّاسِ مَنْ لَا تُذْكَرُ عُيُوبُهُمْ يَكُونُ عَيْبُهُ خَفِيفًا وَالْأَمْرُ كُلُّهُ حَسَنٌ وَلَا يُعْصَمُ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الصَّلَاحِ , وَتُقْبَلُ شَهَادَةُ اللَّاعِبِ بِالشِّطْرَنْجِ , وَلَوْ لَمْ تُقْبَلْ إِلَّا مِمَّنْ لَا يُقَارِفُ شَيْئًا مِنْ الْعُيُوبِ مَا قُبِلَتْ لِأَحَدٍ شَهَادَةٌ.
( مَسْأَلَةٌ ) وَيُزَكَّى الشَّاهِدُ وَهُوَ غَائِبٌ عَنْ الْقَاضِي قَالَهُ ابْنُ الْقَاسِمِ فِي الْمُدَوَّنَةِ مَعْنَاهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ أَنَّهُ مَشْهُورُ الْعَيْنِ وَالِاسْمِ عِنْدَ الْقَاضِي وَالْمُزَكَّى مَعْرُوفُ الْعَيْنِ , وَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ فَلَا يُزَكَّى إِلَّا عَيْنُهُ , وَقَدْ رَوَى ابْنُ سَحْنُونٍ عَنْ أَبِيهِ يَصِحُّ أَنْ يُزَكِّيَ الْمُزَكِّي رَجُلًا لَا يَعْرِفُ اسْمَهُ , وَقَالَهُ ابْنُ كِنَانَةَ قَالَ الْقَاضِي أَبُو الْوَلِيدِ رَضَىِ اللَّهُ عَنْهُوَمَعْنَى ذَلِكَ عِنْدِي أَنَّهُ زَكَّاهُ عَلَى عَيْنِهِ وَأَنَّ هَذَا أَمْرٌ يَقِلُّ وَيَنْدُرُ إِذَا كَانَ لَا يَصِحُّ تَزْكِيَتُهُ لَهُ إِلَّا بَعْدَ الْمُدَاخَلَةِ فِي السَّفَرِ وَالْحَضَرِ وَالْمُعَامَلَةِ الطَّوِيلَةِ بِالْأَخْذِ وَالْإِعْطَاءِ وَيَكُونُ مَعَ ذَلِكَ لَا يَعْرِفُ اسْمَهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَشْهُورًا بِكُنْيَةٍ كَأَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَرْثِ بْنِ هِشَامٍ وَأَبِي بَكْرِ بْنِ عَبَّاسٍ أَوْ يَغْلِبُ عَلَيْهِ لَقَبٌ قَدْ رَضِيَهُ كَأَشْهَبَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَاسْمُهُ مِسْكِينٌ وَكُنْيَتُهُ أَبُو عَمْرٍو وَأَشْهَبُ لَقَبٌ , وَكَذَلِكَ سَحْنُونٌ اسْمُهُ عَبْدُ السَّلَامِ وَكُنْيَتُهُ أَبُو سَعِيدٍ وَسَحْنُونٌ لَقَبٌ فَمِثْلُ هَذَا يُمْكِنُ فِيهِ مَا قَالَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَمَعَ ذَلِكَ فَإِنِّي أَقُولُ إِنَّ الْجَهْلَ بِاسْمِهِ يُؤَثِّرُ فِي تَزْكِيَتِهِ , وَإِنَّمَا يَقِلُّ مَعَ مَا شُرِطَ مِنْ سَبَبِ مَعْرِفَتِهِ.
( الْبَابُ الرَّابِعُ فِي لَفْظِ التَّزْكِيَةِ وَحُكْمِهَا ) قَدْ قَالَ مَالِكٌ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ وَهْبٍ عَنْهُ فِي المزكى يَقُولُ لَا أَعْلَمُ إِلَّا خَيْرًا قَالَ مَالِكٌ وَيَلْقَاهُ فِي الطَّرِيقِ وَلَا يَعْلَمُ مِنْهُ إِلَّا خَيْرًا وَلَا يَجُوزُ هَذَا.
قَالَ سَحْنُونٌ وَلَا يُجْزِئُهُ أَنْ يَقُولَ هُوَ صَالِحٌ , وَرَوَى ابْنُ حَبِيبٍ عَنْ مُطَرِّفٍ وَابْنِ الْمَاجِشُونِ وَأَصْبَغَ يُجْزِئُهُ فِي ذَلِكَ لَفْظُ الْعَدْلِ وَالرِّضَى , وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ كُلُّ لَفْظٍ كُنِّيَ بِهِ عَنْ الْعَدْلِ وَالرِّضَى فَإِنَّهُ يُجْزِئُ , وَإِنَّمَا اُخْتِيرَ لَفْظُ الْعَدْلِ وَالرِّضَى لِأَنَّهُ الَّذِي وَرَدَ بِهِ الْقُرْآنُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ , وَقَالَ عَزَّ مَنْ قَائِلٌ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنْ الشُّهَدَاءِ قَالَ الشَّيْخُ أَبُو الْقَاسِمِ وَلَا يَقْتَصِرُ عَلَى أَحَدِ الْوَصْفَيْنِ مِنْ الْعَدْلِ وَالرِّضَى حَتَّى يَجْمَعَهُمَا.
( فَرْعٌ ) إِذَا ثَبَتَ أَنَّ الِاعْتِبَارَ بِمَعْنَى الْعَدَالَةِ وَأَنَّ الِاخْتِيَارَ لَفْظُ الْعَدَالَةِ وَالرِّضَى فَقَالَ مُطَرِّفٌ وَابْنُ الْمَاجِشُونِ وَابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ وَأَصْبَغُ يُجْزِئُهُ أَنْ يَقُولَ أَرَاهُ عَدْلًا رِضًى وَلَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يَقُولَ وَأَعْلَمُهُ عَدْلًا رِضًى جَائِزَ الشَّهَادَةِ وَلَا يُقْبَلُ مِنْهُ إِذَا قَالَ لَا أَعْلَمُهُ إِلَّا عَدْلًا رِضًى قَالَ سَحْنُونٌ وَلَا يُقْبَلُ مِنْهُ حَتَّى يَقُولَ إنَّهُ عَدْلٌ رِضًى.
وَجْهُ الرِّوَايَةِ الْأُولَى أَنَّ التَّعْدِيلَ إخْبَارٌ عَمَّا يُعْتَقَدُ فِيهِ مِنْ الصِّدْقِ لِمَا ظَهَرَ إِلَيْهِ مِنْ الْأَحْوَالِ الْمَرْضِيَّةِ وَلَا يَصِحُّ أَنْ يُقْطَعَ عَلَى مَغِيبِهِ.
وَجْهُ الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ التَّزْكِيَةُ وَأَنَّ الرِّضَى وَالْعَدَالَةَ مُتَعَلِّقَةٌ بِمَا ظَهَرَ إِلَيْهِ مِنْ أَحْوَالِهِ وَذَلِكَ مَقْطُوعٌ بِهِ.
( الْبَابُ الْخَامِسُ فِي تَكْرِيرِ التَّعْدِيلِ وَمَا يَلْزَمُ مِنْهُ ) قَدْ رَوَى فِي الْمَجْمُوعَةِ أَشْهَبُ عَنْ مَالِكٍ فِي الرَّجُلِ يَشْهَدُ فَيُزَكَّى ثُمَّ يَشْهَدُ ثَانِيَةً قَالَ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ بِالتَّزْكِيَةِ الْأُولَى وَلَيْسَ النَّاسُ كُلُّهُمْ سَوَاءً مِنْهُمْ الْمَشْهُورُونَ بِالْعَدَالَةِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَغْمِصُ مِنْهُ النَّاسُ.
قَالَ ابْنُ كِنَانَةَ أَمَّا الَّذِي لَيْسَ بِمَعْرُوفٍ فَإِنَّهُ يُؤْتَنَفُ فِيهِ تَعْدِيلٌ ثَانٍ , وَأَمَّا الْمَشْهُورُ بِالْعَدَالَةِ فَالتَّعْدِيلُ الْأَوَّلُ يُجْزِئُ فِيهِ حَتَّى يُجْرَحَ بِأَمْرَيْنِ , وَرَوَى ابْنُ حَبِيبٍ عَنْ مَالِكٍ وَمُطَرِّفٍ وَابْنِ الْمَاجِشُونِ لَيْسَ عَلَيْهِ ائْتِنَافُ تَعْدِيلٍ إِلَّا أَنْ يَغْمِزَ فِيهِ بِشَيْءٍ أَوْ يَرْتَابَ مِنْهُ وَلَا يَزِيدُهُ طُولُ ذَلِكَ إِلَّا خَيْرًا.
وَجْهُ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ الَّذِي لَيْسَ بِمَشْهُورِ الْعَيْنِ وَلَا مَشْهُورِ الْعَدَالَةِ فَإِنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ فِيهِ أَحْوَالٌ خَفِيَتْ عَنْ الْمُعَدِّلِينَ وَرُبَّمَا يَتَعَذَّرُ تَجْرِيحُهُ عَلَى الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ لِخَفَاءِ عَيْنِهِ وَقِلَّةِ الْعِلْمِ بِهِ فَيُؤْتَنَفُ فِيهِ التَّعْدِيلُ لِيُحَقَّقَ أَمْرُهُ وَيُسْتَبْرَأَ حَالُهُ , وَوَجْهُ الْقَوْلِ الثَّانِي أَنَّ الْحُكْمَ الْأَوَّلَ بِتَعْدِيلِهِ بَاقٍ لَا يَنْقُضُهُ التَّجْرِيحُ وَالِارْتِيَابُ فَلَا يَلْزَمُ تَجْدِيدُ حُكْمٍ آخَرَ فِيهِ.
( فَرْعٌ ) فَإِذَا قُلْنَا إنَّهُ يُؤْتَنَفُ فِيهِ التَّعْدِيلُ فَقَدْ قَالَ أَشْهَبُ فِي الْمَجْمُوعَةِ إِنْ شَهِدَ مَرَّةً ثَانِيَةً بَعْدَ زَمَانِ الْخَمْسِ سِنِينَ وَنَحْوِهَا فَلْيُسْأَلْ عَنْهُ الْمُعَدِّلُ الْأَوَّلُ فَإِنْ كَانَ قَدْ مَاتَ عُدِّلَ مَرَّةً أُخْرَى وَإِلَّا لَمْ يَفْعَلْ , وَرَوَى عِيسَى عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ فِي الْعُتْبِيَّةِ إِنْ كَانَتْ الشَّهَادَةُ الثَّانِيَةُ قَرِيبَةً مِنْ الْأَشْهُرِ وَشِبْهِهَا وَلَمْ يَطُلْ جِدًّا لَمْ يُكَلَّفْ تَزْكِيَةً , وَإِنْ كَانَ قَدْ طَالَ فَلْيَكْشِفْ عَنْهُ ثَانِيَةً طَلَبَ ذَلِكَ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ أَوْ لَمْ يَطْلُبْ وَالسَّنَةُ كَثِيرٌ.
( مَسْأَلَةٌ ) وَمَنْ الَّذِي يُكَلَّفُ تَعْدِيلَهُ ؟ فِي الْعُتْبِيَّةِ مِنْ رِوَايَةِ يَحْيَى بْنِ يَحْيَى عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ أَنَّهُ يَسْأَلُهُ مَنْ يُعَدِّلُهُ فَإِنْ لَمْ يَأْتِهِ بِذَلِكَ فَلَا يَقْبَلُهُ قَالَ سَحْنُونٌ وَلَا يَطْلُبُ التَّزْكِيَةَ مِنْ الشَّاهِدِ وَذَلِكَ عَلَى الْخَصْمِ , وَإِنَّمَا عَلَيْهِ أَنْ يُجِيزَ الْحُكْمَ مِمَّنْ يَعْرِفُهُ وَمَنْ يُعَدِّلُهُ قَالَ الْقَاضِي أَبُو الْوَلِيدِ رَضَىِ اللَّهُ عَنْهُوَهَذَا هُوَ الْأَظْهَرُ عِنْدِي فَإِذَا قُلْنَا بِذَلِكَ فَإِنَّ الْحَاكِمَ يُكَلِّفُ مَنْ يَشْهَدُ لَهُ يُزَكِّيهِ مَنْ لَا يَعْرِفُهُ فَإِنْ زَكَّاهُ وَإِلَّا رَدَّ شَهَادَتَهُ لِقَوْلُهُ تَعالَى مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنْ الشُّهَدَاءِ وَإِذَا لَمْ يَعْرِفْ عَدَالَتَهُ لَمْ يَرْضَهُ.
( ش ) : قَوْلُهُ لَا تَجُوزُ شَهَادَةُ خَصْمٍ وَلَا ظَنِينٍ قَالَ ابْنُ كِنَانَةَ فِي الْمَجْمُوعَةِ الْخَصْمُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ الرَّجُلُ يُخَاصِمُ الرَّجُلَ فِي الْأَمْرِ الْجَسِيمِ مِثْلُهُ يُورِثُ الْعَدَاوَةَ وَالْحِقْدَ فَمِثْلُ هَذَا لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ عَلَى خَصْمِهِ فِي ذَلِكَ الْأَمْرِ وَفِي غَيْرِهِ , وَإِنْ خَاصَمَهُ فِيمَا لَا خَطْبَ لَهُ كَثَوْبٍ قَلِيلِ الثَّمَنِ وَنَحْوِهِ مِمَّا لَا يُوجِبُ عَدَاوَةً فَإِنَّ شَهَادَتَهُ عَلَيْهِ فِي غَيْرِ مَا يُخَاصِمُهُ فِيهِ جَائِزَةٌ , وَقَالَ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْخَصْمُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ الْوَكِيلُ , وَقَالَهُ ابْنُ وَهْبٍ قَالَ الْقَاضِي أَبُو الْوَلِيدِ رَضَىِ اللَّهُ عَنْهُوَالْوَجْهَانِ عِنْدِي مُحْتَمَلَانِ فَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ بِهِ الْعَدُوَّ الْمُخَاصِمَ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ بِهِ الْوَكِيلَ عَلَى خُصُومَتِهِ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ عَلَى مَا يُخَاصِمُ فِيهِ.
( مَسْأَلَةٌ ) , وَكَذَلِكَ إِذَا كَانَ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى فَقَامَ بِهِ أَحَدٌ يَطْلُبُهُ وَيُخَاصِمُ فِيهِ فَإِنَّهُ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ فِيهِ قَالَهُ ابْنُ الْقَاسِمِ فِي الْعُتْبِيَّةِ , وَرَوَى ابْنُ حَبِيبٍ عَنْ مُطَرِّفٍ أَنَّ شَهَادَتَهُ جَائِزَةٌ.
وَجْهُ قَوْلِ ابْنِ الْقَاسِمِ أَنَّ النَّاسَ قَدْ جُبِلُوا عَلَى أَنَّ مَنْ خَاصَمَ فِي شَيْءٍ أَنَّ لَهُ إتْمَامَهُ وَالنَّفَاذَ فِيهِ فَلَا يُؤْمَنُ عَلَى هَذَا الْمُخَاصِمِ أَنْ يَزِيدَ فِي شَهَادَتِهِ مَا يَنْفُذُ بِهِ فِيمَا يُحَاوِلُهُ , وَوَجْهُ قَوْلِ مُطَرِّفٍ أَنَّ هَذَا حَقٌّ لِلَّهِ تَعَالَى فَلَا يُتَّهَمُ أَحَدٌ فِيهِ ; لِأَنَّ الْوَاجِبَ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ الْقِيَامُ بِهِ , وَلَوْ لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَةُ قَائِمٍ بِهِ لَمَا قُبِلَتْ شَهَادَةُ أَحَدٍ ; لِأَنَّ كُلَّ أَحَدٍ يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ الْقِيَامُ بِهِ وَالْقَائِمُ بِهِ لَا يَجُرُّ بِهِ مَنْفَعَةً إِلَى نَفْسِهِ فَلَا يَمْنَعُ ذَلِكَ مِنْ قَبُولِ شَهَادَتِهِ.
( مَسْأَلَةٌ ) إِذَا ثَبَتَ ذَلِكَ فَإِنَّ خُصُومَتَهُمَا مُعْتَبَرَةٌ بِالتُّهْمَةِ فِي أَدَاءِ الشَّهَادَةِ فَإِنْ أَدَّاهَا قَبْلَ الْخُصُومَةِ ثُمَّ حَدَثَتْ الْخُصُومَةُ قَبْلَ الْحُكْمِ قَالَ الْقَاضِي أَبُو الْوَلِيدِ فَالصَّوَابُ عِنْدِي الْحُكْمُ بِهَا , وَإِنْ تَحَمَّلَهَا قَبْلَ الْخُصُومَةِ ثُمَّ حَدَثَتْ الْخُصُومَةُ فَإِنْ كَانَ أَشْهَدَ بِهَا قَبْلَ الْخُصُومَةِ ثُمَّ أَدَّاهَا بَعْدَ الْخُصُومَةِ فَهِيَ جَائِزَةٌ.
حَكَاهُ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ فِي نَوَادِرِهِ عَنْ ابْنِ الْمَاجِشُونِ , وَإِنْ لَمْ يَشْهَدْ بِهَا وَأَدَّاهَا فِي حَالِ الْخُصُومَةِ أَوْ بَعْدَهَا بِالْقُرْبِ مِنْهَا فَهِيَ غَيْرُ جَائِزَةٍ , وَإِنْ كَانَ بَعْدَهَا مُدَّةٌ لَا تَلْحَقُ فِي مِثْلِهَا التُّهْمَةُ جَازَتْ الشَّهَادَةُ , وَإِنْ أَدَّاهَا قَبْلَ الْعَدَاوَةِ ثُمَّ حَدَثَتْ الْعَدَاوَةُ قَبْلَ الْحُكْمِ بِهَا فَقَدْ قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ وَأَشْهَبُ إِنَّ الشَّهَادَةَ مَاضِيَةٌ يَجِبُ الْحُكْمُ بِهَا.
( فَرْعٌ ) وَقَوْلُهُ وَلَا تَجُوزُ شَهَادَةُ خَصْمٍ وَلَا ظَنِينٍ يُرِيدُ لَا يَجُوزُ أَدَاؤُهَا , وَأَمَّا تَحَمُّلُهَا فَمُعْتَبَرٌ بِوَقْتِ أَدَائِهَا.
( الْبَابُ الْأَوَّلُ فِي تَحَمُّلِ الشَّهَادَةِ ) وَلِلشَّهَادَةِ حَالَانِ : حَالُ تَحَمُّلٍ وَحَالُ أَدَاءً وَإِنِّي أُفْرِدُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَابًا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
( الْبَابُ الْأَوَّلُ فِي تَحَمُّلِ الشَّهَادَةِ ) أَمَّا تَحَمُّلُ الشَّهَادَةِ فَعَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ : أَحَدُهَا تَحَمُّلُ نَقْلِهَا مِنْ الْأَصْلِ , وَالثَّانِي تَحَمُّلُ نَقْلِهَا عَنْ الشُّهُودِ , وَالثَّالِثُ تَحَمُّلُ نَقْلِ حُكْمِهَا عِنْدَ الْحَاكِمِ , فَأَمَّا تَحَمُّلُ نَقْلِهَا مِنْ الْأَصْلِ فَعَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا أَنْ يَسْمَعَ لَفْظَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ بِالشَّهَادَةِ لَهُ أَوْ إقْرَارَهُ , وَالضَّرْبُ الثَّانِي أَنْ يَشْهَدَ عَلَى مَا تَقَيَّدَ فِي كِتَابٍ , فَأَمَّا الضَّرْبُ الْأَوَّلُ وَهُوَ أَنْ يَسْمَعَ مَا يَشْهَدُ بِهِ فَهُوَ إِذَا وَعَاهُ جَازَ لَهُ أَنْ يَشْهَدَ بِهِ وَيَلْزَمُهُ ذَلِكَ إِذَا لَمْ يَقُمْ بِالشَّهَادَةِ غَيْرُهُ وَتَجُوزُ عَلَى هَذَا شَهَادَةُ الْأَعْمَى خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ فِي قَوْلِهِ لَا تَجُوزُ مَا تَحَمَّلَ حَالَ الْعَمَى وَلِلشَّافِعِيِّ فِي قَوْلٍ وَلَا تَجُوزُ شَهَادَتُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ الْمَشْهُودُ لَهُ وَالْمَشْهُودُ عَلَيْهِ فِي يَدَيْهِ إِلَى أَنْ تُؤَدَّى الشَّهَادَةُ بِالْإِشَارَةِ إِلَيْهِمَا , وَالدَّلِيلُ عَلَى مَا نَقُولُهُ أَنَّ كُلَّ مَنْ صَحَّ مِنْهُ مَعْرِفَةُ الْمُقِرِّ وَالْمُقَرِّ لَهُ جَازَ أَنْ تُقْبَلَ شَهَادَتُهُ بَيْنَهُمَا مَعَ الْعَدَالَةِ كَالْمُبْصِرِ وَالْأَعْمَى يَعْرِفُ ذَلِكَ بِمَعْرِفَةِ الصَّوْتِ.
يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ مَا احْتَجَّ بِهِ سَحْنُونٌ مِنْ أَنَّهُ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَطَأَ امْرَأَتَهُ بِمَعْرِفَةِ صَوْتِهَا وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ أَنَّهُ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَحْلِفَ عَلَى حَقِّهِ بِمَعْرِفَةِ صَوْتِ مُبَايِعِهِ وَالْمُقْتَرِضِ مِنْهُ.
قَالَ الْمُغِيرَةُ وَابْنُ نَافِعٍ وَسَحْنُونٌ سَوَاءٌ وُلِدَ أَعْمَى أَوْ عَمِيَ بَعْدَ ذَلِكَ.
( مَسْأَلَةٌ ) وَأَمَّا إِذَا لَمْ يَعِ جَمِيعَ مَا شَهِدَ بِهِ فَإِنْ كَانَ نَسِيَ مِنْهُ مَا لَا يُخِلُّ بِمَا حَفِظَ فَلْيَشْهَدْ بِمَا حَفِظَ وَتَيَقَّنَهُ دُونَ مَا يَشُكُّ فِيهِ , وَإِنْ كَانَ نَسِيَ مَا يَخَافُ أَنْ يَكُونَ مُؤَثِّرًا لِمَا حَفِظَ وَمُغَيِّرًا لِحُكْمِهِ فَلَا يَشْهَدُ بِهِ وَهَذَا حُكْمُ الْإِقْرَارِ فِيمَنْ سَمِعَ رَجُلًا يُحَدِّثُ غَيْرَهُ بِمَا فِيهِ إِقْرَارٌ فَفِي الْمُدَوَّنَةِ عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ قَالَ مَالِكٌ فِي الرَّجُلِ يَمُرُّ بِالرَّجُلَيْنِ يَتَكَلَّمَانِ وَلَمْ يُشْهِدَاهُ فَيَدْعُوهُ أَحَدُهُمَا إِلَى الشَّهَادَةِ أَنَّهُ لَا يَشْهَدُ.
قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ إِلَّا أَنْ يَسْتَوْعِبَ كَلَامَهُمَا قَالَ الْقَاضِي أَبُو الْوَلِيدِ رَضَىِ اللَّهُ عَنْهُوَذَلِكَ عِنْدِي عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا أَنْ يَكُونَ لِمَالِكٍ فِي ذَلِكَ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا أَنَّهُ لَا يَشْهَدُ بِهِ عَلَى الْإِطْلَاقِ مَخَافَةَ الِاسْتِغْفَالِ وَالتَّحَيُّلِ عَلَى الْمُقِرِّ , وَالثَّانِي أَنَّهُ يَلْزَمُهُ أَدَاءُ الشَّهَادَةِ إِذَا اسْتَوْعَبَ الْكَلَامَ وَلَمْ يَفُتْهُ مَا يَخَافُ أَنْ يُخِلَّ بِالْمَعْنَى , وَالْوَجْهُ الثَّانِي أَنْ يَكُونَ مَا قَالَهُ ابْنُ الْقَاسِمِ تَفْسِيرًا لِقَوْلِ مَالِكٍ وَالْوَجْهُ الْأَوَّلُ أَظْهَرُ لِقَوْلِ ابْنِ الْقَاسِمِ قَوْلُ مَالِكٍ الْأَوَّلُ لَا يَشْهَدُ , وَفِي الْمَوَّازِيَّةِ عَنْ مَالِكٍ مَا يُقَوِّي هَذَا التَّأْوِيلَ فِيمَنْ سَمِعَ رَجُلَيْنِ يَتَنَازَعَانِ فَأَقَرَّ أَحَدُهُمَا لِلْآخَرِ وَلَمْ يَشْهَدْ السَّامِعُ لَا يَشْهَدُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ قَاذِفًا , وَقَالَ أَشْهَبُ هَذِهِ رِوَايَةٌ فِيهَا وَهْمٌ وَلْيَشْهَدْ بِمَا سَمِعَ مِنْ إقْرَارِهِ , وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ الْمُقِرُّ فَلْيُعْلِمْهُ.
وَقَدْ اخْتَلَفَ قَوْلُ مَالِكٍ وَأَقْوَالُ أَصْحَابِهِ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِهَذَا الْمَعْنَى وَيَرْجِعُ إِلَيْهِ فَفِي الْعُتْبِيَّةِ مِنْ رِوَايَةِ عِيسَى عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ فِي شَهَادَةِ الْمُخْتَفِي عَلَى الْإِقْرَارِ إِذَا كَانَ الْمُقِرُّ مِمَّنْ يَخَافُ أَنْ يُخْدَعَ أَوْ يُسْتَضْعَفَ لَمْ يَلْزَمْهُ ذَلِكَ وَيَحْلِفُ أَنَّهُ مَا أَقَرَّ إِلَّا لِمَا يُذْكَرُ مِنْ ذَلِكَ , وَأَمَّا مَنْ لَا يُخَافُ عَلَيْهِ ذَلِكَ وَهُوَ فِي الْخَلْوَةِ يُقِرُّ وَيَجْحَدُ عِنْدَ الْبَيِّنَةِ فَعَسَى أَنْ يَلْزَمَهُ ذَلِكَ , وَرَوَاهُ ابْنُ الْمَوَّازِ عَنْ مَالِكٍ قَالَ عِيسَى بْنُ دِينَارٍ أَرَى ذَلِكَ ثَابِتًا وَسُئِلَ سَحْنُونٌ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ أَنَّ الشَّعْبِيَّ وَشُرَيْحًا كَانَا لَا يُجِيزَانِ ذَلِكَ فَظَاهِرُ مَا جَاوَبَ بِهِ مِنْ الرِّوَايَةِ الْأَخْذُ بِهَا فِي الْمَنْعِ وَاخْتَلَفَ قَوْلُ مَالِكٍ فِي الرَّجُلَيْنِ يَتَحَاسَبَانِ بِحَضْرَةِ رَجُلَيْنِ وَيَشْتَرِطَانِ عَلَيْهِمَا أَنْ لَا يَشْهَدَا بِمَا يُقِرَّانِ بِهِ فَيُقِرُّ أَحَدُهُمَا فَيَطْلُبُهُمَا الْآخَرُ بِالشَّهَادَةِ فَرَوَى ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ يَمْتَنِعَانِ مِنْ الشَّهَادَةِ وَلَا يُعَجِّلَا فَإِنْ اصْطَلَحَ الْمُتَدَاعِيَانِ وَإِلَّا فَلْيُؤَدِّيَا الشَّهَادَةَ , وَرَوَى عَنْهُ ابْنُ نَافِعٍ لَا أَرَى بِامْتِنَاعِهِمَا مِنْ الشَّهَادَةِ بَيْنَهُمَا بَأْسًا , وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ لَا تَجُوزُ شَهَادَةُ الْحَاكِمِ بِمَا سَمِعَ مِنْ الْخُصُومِ , وَكَذَلِكَ شَهَادَةُ مَنْ تَوَسَّطَ بَيْنَ اثْنَيْنِ.
( مَسْأَلَةٌ ) إِذَا سَأَلَ الْمُسْتَفْتِي فَقِيهًا عَنْ أَمْرٍ يُنَوَّى فِيهِ , وَلَوْ أَقَرَّ عِنْدَ الْحَاكِمِ أَوْ أَسَرَّ بِهِ بَيِّنَةً لَمْ يُنَوَّ وَفُرِّقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ امْرَأَتِهِ فَأَتَتْهُ الزَّوْجَةُ تَسْأَلُهُ عَنْ الشَّهَادَةِ فَفِي الْعُتْبِيَّةِ مِنْ رِوَايَةِ عِيسَى عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ لَا يَشْهَدُ عَلَيْهِ زَادَ ابْنُ الْمَوَّازِ , وَلَوْ شَهِدَ لَمْ يَنْفَعْهَا ; لِأَنَّ إقْرَارَهُ عَلَى غَيْرِ الْإِشْهَادِ وَمَا أَقَرَّ بِهِ مِنْ طَلَاقٍ أَوْ حَدٍّ مِمَّا لَا رُجُوعَ لَهُ عَنْهُ ثُمَّ أَنْكَرَ فَلْيَشْهَدْ بِهِ عَلَيْهِ , وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ وَلَا تَجُوزُ شَهَادَةُ الْفَقِيهِ بِمَا يُسْأَلُ عَنْهُ.
.
( فَصْلٌ ) وَأَمَّا إِذَا شَهِدَ عَلَى مَا تَقَيَّدَ فِي كِتَابٍ فَلَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ غَيْرَ مَخْتُومٍ أَوْ مَخْتُومًا فَإِنْ كَانَ غَيْرَ مَخْتُومٍ فَعِنْدِي أَنَّهُ يَلْزَمُهُ أَنْ يَقْرَأَ مَا تَقَيَّدَتْ بِهِ الشَّهَادَةُ فِي آخِرِ الْعَقْدِ إِنْ كَانَ يَقْرَأُ أَوْ يُقْرَأُ لَهُ إِنْ كَانَ أُمِّيًّا أَوْ أَعْمَى لِيُعْلَمَ بِذَلِكَ مُوَافَقَةَ تَقْيِيدِ الشَّهَادَةِ لِمَا شَهِدَ بِهِ , وَإِنْ كَانَ الْكِتَابُ مَخْتُومًا فَفِي الْمَعُونَةِ لِلْقَاضِي أَبِي مُحَمَّدٍ اخْتَلَفَ قَوْلُ مَالِكٍ فِيمَنْ دَفَعَ إِلَى شُهُودٍ كِتَابًا مَطْوِيًّا , وَقَالَ اشْهَدُوا عَلَيَّ بِمَا فِيهِ هَلْ يَصِحُّ تَحَمُّلُهُمْ لِلشَّهَادَةِ أَمْ لَا , وَكَذَلِكَ الْحَاكِمُ إِذَا كَتَبَ كِتَابًا إِلَى حَاكِمٍ وَخَتَمَهُ وَأَشْهَدَ الشُّهُودَ بِأَنَّهُ كِتَابُهُ وَلَمْ يَقْرَأْ عَلَيْهِمْ فَعَنْهُ فِي ذَلِكَ رِوَايَتَانِ إحْدَاهُمَا أَنَّ الشَّهَادَةَ جَائِزَةٌ وَالْأُخْرَى أَنَّهُمْ لَا يَشْهَدُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَقْرَؤُهُ وَقْتَ تَحَمُّلِ الشَّهَادَةِ , فَوَجْهُ الْجَوَازِ أَنَّهُ أَشْهَدَهُمْ عَلَى إقْرَارِهِ بِمَا فِي كِتَابٍ عَرَفُوهُ فَصَحَّ تَحَمُّلُهُمْ لِلشَّهَادَةِ وَأَصْلُهُ إِذَا قَرَأَهُ عَلَيْهِمْ وَاسْتَدَلَّ الْقَاضِي أَبُو إِسْحَاقَ لِذَلِكَ بِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَفَعَ كِتَابًا إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَحْشٍ وَأَمَرَهُ أَنْ يَسِيرَ لَيْلَتَيْنِ ثُمَّ يَقْرَأَ الْكِتَابَ فَيَتَّبِعَ مَا فِيهِ قَالَ وَوَجْهُ الْمَنْعِ قَوْلُهُ تَعالَى وَمَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا , وَإِذَا لَمْ يَقْرَءُوا الْكِتَابَ لَمْ يَعْلَمُوا مَا يَشْهَدُونَ بِهِ فَلَمْ تَجُزْ شَهَادَتُهُمْ.
( الْبَابُ الثَّانِي فِي حَالِ أَدَاءِ الشَّهَادَةِ ) أَمَّا حَالُ الْأَدَاءِ فَإِنْ كَانَ يُؤَدِّي شَهَادَةً حَفِظَهَا فَحُكْمُهُ أَنْ يَكُونَ حَافِظًا لَهَا حِينَ الْأَدَاءِ إمَّا لِأَنَّهُ اسْتَدَامَ حِفْظَهَا وَإِمَّا لِأَنَّهُ قَيَّدَهَا فِي كِتَابٍ يَذْكُرُهَا مِنْهُ حَالَ الْأَدَاءِ عَلَى وَجْهٍ لَا يَشُكُّ فِي صِحَّتِهِ , وَقَدْ يَكُونُ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ يَتَفَقَّدُهُ عِنْدَ نَفْسِهِ , وَقَدْ يَكُونُ فِي كِتَابٍ عَقَدَ الْمَشْهُودُ لَهُ بِهِ عَقْدًا بِمَا عُلِمَ فِي الشَّاهِدِ مِنْ ذَلِكَ , وَهَذَا يُسَمِّيهِ أَصْحَابُ الْوَثَائِقِ عَقْدَ اسْتِرْعَاءٍ , وَصِفَتُهُ أَنْ يَكْتُبَ شَهِدَ مَنْ تَسَمَّى فِي هَذَا الْكِتَابِ مِنْ الشُّهَدَاءِ أَنَّهُمْ يَعْرِفُونَ كَذَا ثُمَّ يَكْتُبُ الشَّاهِدُ شَهَادَتَهُ وَيُسَلِّمُ الْعَقْدَ إِلَى صَاحِبِهِ الْمَشْهُودِ لَهُ , فَإِذَا احْتَاجَ إِلَيْهِ وَدُعِيَ الشَّاهِدُ إِلَى الشَّهَادَةِ لَزِمَ الشَّاهِدَ أَنْ يَنْظُرَ فِيهِ فَإِنْ كَانَ ذَاكِرًا لِجَمِيعِهِ وَيَذْكُرُ ذَلِكَ بِقِرَاءَتِهِ أَدَّى الشَّهَادَةَ عَلَى عُمُومِهَا , وَإِنْ ذَكَرَ بَعْضَهُ شَهِدَ بِمَا ذُكِرَ مِنْهُ , وَإِنْ لَمْ يَذْكُرْ شَيْئًا مِنْهُ فَلَا يَشْهَدُ.
( مَسْأَلَةٌ ) وَأَمَّا إِنْ كَانَ أَشْهَدَ عَلَى عَقْدِ تَبَايُعٍ أَوْ نِكَاحٍ أَوْ هِبَةٍ أَوْ حَبْسٍ أَوْ إقْرَارٍ مِمَّا لَا يَلْزَمُ الشَّاهِدَ حِفْظُهُ وَإِنَّمَا يَلْزَمُهُ مُرَاعَاةُ تَقْيِيدِ الشَّهَادَةِ فِي آخِرِهِ فَإِنْ كَانَ يَذْكُرُ أَنَّهُ أَشْهَدَ عَلَيْهِ وَيَعْرِفُ خَطَّهُ وَلَا يَسْتَرِيبُ بِشَيْءٍ مِنْ الْكِتَابِ فِي مَحْوٍ وَلَا بَشْرٍ وَلَا إلْحَاقٍ فَلْيُؤَدِّ الشَّهَادَةَ وَعَلَى الْحَاكِمِ أَنْ يَعْمَلَ بِهَا , وَإِنْ اسْتَرَابَ بِشَيْءٍ فَلَا يَشْهَدُ ; لِأَنَّهُ شَاكٌّ فِيمَا شَهِدَ عَلَى حَقِّهِ بِمَعْرِفَةِ صَوْتِ مُبَايِعِهِ وَالْمُقْتَرِضِ مِنْهُ , وَإِنْ لَمْ يَذْكُرْ الشَّهَادَةَ فَإِنْ مَيَّزَ خَطَّهُ وَلَمْ يَذْكُرْ أَنَّهُ أُشْهِدَ وَلَا أَنَّهُ كَتَبَهُ فَقَدْ رَوَى ابْنُ حَبِيبٍ عَنْ مُطَرِّفٍ عَنْ مَالِكٍ إِنْ عَرَفَ خَطَّهُ وَلَمْ يَذْكُرْ الشَّهَادَةَ وَلَا شَيْئًا مِنْهَا فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي الْكِتَابِ مَحْوٌ وَلَا رِيبَةٌ فَلْيَشْهَدْ بِهِمَا , وَإِنْ كَانَ فِي الْكِتَابِ مَحْوٌ فَلَا يَشْهَدُ ثُمَّ رَجَعَ فَقَالَ لَا يَشْهَدُ , وَإِنْ عَرَفَ خَطَّهُ ثُمَّ يَذْكُرُ الشَّهَادَةَ أَوْ بَعْضَهَا أَوْ مَا يَدُلُّ مِنْهَا عَلَى أَكْثَرِهَا قَالَ ابْنُ حَبِيبٍ وَبِالْأَوَّلِ أَقُولُ وَلَا بُدَّ لِلنَّاسِ مِنْ ذَلِكَ وَبِهِ قَالَ ابْنُ الْمَاجِشُونِ وَالْمُغِيرَةُ وَابْنُ أَبِي حَازِمٍ وَابْنُ دِينَارٍ وَابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ وَابْنُ وَهْبٍ , وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ وَأَصْبَغُ بِقَوْلِهِ الْآخَرِ.
( مَسْأَلَةٌ ) وَأَمَّا إِذَا ذَكَرَ أَنَّهُ كَتَبَ شَهَادَتَهُ وَعَرَفَ خَطَّهُ إِلَّا أَنَّهُ لَا يَذْكُرُ مَا فِيهِ فَفِي الْمُدَوَّنَةِ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ لَا يَشْهَدُ بِهَا وَلَكِنْ يُؤَدِّيهَا كَمَا عَلِمَ وَلَا يَحْكُمُ بِهَا , وَقَالَ سَحْنُونٌ فِي الْعُتْبِيَّةِ إِذَا عَرَفَ خَطَّهُ فِي كِتَابٍ لَا يَشُكُّ فِيهِ وَلَا يَذْكُرُ كُلَّ مَا فِي الْكِتَابِ فَقَدْ اخْتَلَفَ فِيهِ أَصْحَابُنَا وَقَوْلُهُ إنَّهُ لَمْ يَرَ فِي الْكِتَابِ مَحْوًا وَلَا لَحْقًا وَلَا مَا يَسْتَنْكِرُهُ وَرَأَى الْكِتَابَ خَطًّا وَاحِدًا فَلْيَشْهَدْ بِمَا فِيهِ , وَإِنْ لَمْ يَذْكُرْ مِنْ الْكِتَابِ شَيْئًا وَلَا يَجِدُ النَّاسُ مِنْ هَذَا بُدًّا.
( فَرْعٌ ) إِذَا ثَبَتَ ذَلِكَ فَصِفَةُ أَدَاءِ الشَّهَادَةِ قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ فِي الْمُدَوَّنَةِ لَا يَشْهَدُ بِهَا وَلَكِنْ يُؤَدِّيهَا كَمَا عَلِمَ , فَفَرَّقَ بَيْنَ الْأَدَاءِ وَالشَّهَادَةِ فَكَأَنَّهُ أَشَارَ بِالشَّهَادَةِ إِلَى مَا يَعْتَقِدُ أَنَّهُ كَامِلٌ وَيُورِدُهُ لِيَعْمَلَ بِهِ وَأَشَارَ بِالْأَدَاءِ إِلَى الْإِخْبَارِ بِمَا عِنْدَهُ وَأَنَّهُ غَيْرُ كَامِلٍ فَلَا يَعْمَلُ بِهِ , وَقَالَ أَشْهَبُ عَنْ مَالِكٍ فِي الْعُتْبِيَّةِ فِي شَهَادَةِ مَنْ رَأَى خَطَّهُ فِي كِتَابٍ وَلَا يَذْكُرُهَا يَرْفَعُهَا إِلَى الْإِمَامِ عَلَى وَجْهِهَا وَلْيَقُلْ هَذَا كِتَابٌ شَبِيهُ كِتَابِي وَأَظُنُّهُ إِيَّاهُ وَلَا أَذْكُرُ شَهَادَةً وَلَا أَنِّي كَتَبْتهَا يَحْكِي ذَلِكَ وَلَا يُقْضَى بِهَا , وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي الْكِتَابِ مَحْوٌ وَعَرَفَ خَطَّهُ فَقَدْ يَضْرِبُ عَلَى خَطِّهِ , وَقَالَ ابْنُ الْمَاجِشُونِ فِي الْوَاضِحَةِ يَشْهَدُ الَّذِي لَا يَعْرِفُ إِلَّا خَطَّهُ فَيَقُولُ إِنَّ مَا فِيهِ حَقٌّ وَذَلِكَ لَازِمٌ لَهُ , وَإِنْ ذَكَرَ لِلْحَاكِمِ أَنَّهُ لَا يَعْرِفُ مِنْ الشَّهَادَةِ شَيْئًا , وَقَدْ عَرَفَ خَطَّهُ وَلَمْ يَرْتَبْ فِي شَيْءٍ فَلَا يَقْبَلُهَا.
وَقَالَ سَحْنُونٌ يَقُولُ أَشْهَدُ بِمَا فِي هَذَا الْكِتَابِ وَهَذَا أَمْرٌ لَا يَجِدُ النَّاسُ مِنْهُ بُدًّا , وَلَوْ أَعْلَمَ الْقَاضِيَ بِذَلِكَ رَأَيْت أَنْ يُجِيزَ شَهَادَتَهُ إِذَا عَرَفَ أَنَّ الْكِتَابَ خَطُّ يَدِهِ قَالَ وَجَمِيعُ أَصْحَابِنَا يَقُولُونَ شَهَادَتُهُ جَائِزَةٌ وَهَذَا عِنْدِي هُوَ الْأَظْهَرُ ; لِأَنَّهُ لَا يَشْهَدُ بِذَلِكَ حَتَّى يَعْرِفَ خَطَّهُ مَعْرِفَةً صَحِيحَةً لَا يَشُكُّ فِيهَا , وَقَدْ قَالَ ابْنُ نَافِعٍ إِذَا لَمْ يَعْرِفْ عَدَدَ الْمَالِ فَذَلِكَ إِلَى الْإِمَامِ يُعَرِّفُهُ الشَّاهِدُ بِأَنَّهُ لَا يَعْرِفُ ذَلِكَ وَمَا أَرَى ذَلِكَ يَنْفَعُ , وَقَالَهُ ابْنُ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ فِي الْعُتْبِيَّةِ يَقْضِي الْقَاضِي بِشَهَادَتِهِ , وَإِنْ لَمْ يَشْهَدْ عِنْدَهُ عَلَى عِدَّةِ الْمَالِ , وَرَوَى ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ إِذَا لَمْ يَعْرِفْ عَدَدَ الْمَالِ رُدَّتْ شَهَادَتُهُ , وَإِنْ ذَكَرَ أَنَّهُ قَدْ كَانَ أُشْهِدَ مَعَ مَعْرِفَةِ خَطِّهِ وَهَذَا عِنْدِي إنَّمَا هُوَ الْخِلَافُ فِيمَنْ قَيَّدَ شَهَادَتَهُ بِاسْتِرْعَاءٍ عَلَى مَعْرِفَتِهِ بِمَالٍ وَعَدَدِهِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْحُقُوقِ ثُمَّ نَسِيَ فَهَذَا يَحْتَمِلُ الْخِلَافَ الْمَذْكُورَ ; لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُقَيِّدَ شَهَادَتَهُ إِلَّا عَلَى مَعْلُومٍ عِنْدَ تَقْيِيدِ شَهَادَتِهِ.
فَإِذَا نَسِيَ بَعْدَ ذَلِكَ تَيَقَّنَ مَا تَضَمَّنَهُ الْعَقْدُ أَوْ بَعْضَهُ وَذَكَرَ تَقْيِيدَهُ لِلشَّهَادَةِ وَعَرَفَ أَنَّهُ لَمْ يُوقِعْهَا إِلَّا عَلَى مَعْلُومٍ احْتَمَلَ الْوَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا إجَازَةُ شَهَادَتِهِ لِأَنَّهُ مُتَيَقِّنٌ صِحَّتَهَا , وَالثَّانِي رَدُّ شَهَادَتِهِ لِأَنَّهُ عِنْدَ الْأَدَاءِ غَيْرُ ذَاكِرٍ لَهُ , وَقَدْ قَالَ أَبُو زَيْدٍ عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ إِذَا عَرَفَ خَطَّهُ وَأَثْبَتَ مَنْ أَشْهَدَهُ فِي دَارٍ إِلَّا أَنَّهُ لَا يَذْكُرُ أَنَّهَا الَّتِي فِي هَذَا الْكِتَابِ لَا يَشْهَدُ حَتَّى يَثْبُتَ مَا فِي هَذَا الْكِتَابِ حَرْفًا حَرْفًا وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ عَقْدُ اسْتِرْعَاءٍ , وَأَمَّا مَا شَهِدَ فِيهِ مِنْ الْعُقُودِ فَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ تَصَفُّحُهُ وَلَا قِرَاءَتُهُ وَلَا يَتَصَفَّحُ مِنْهُ إِلَّا مَوْضِعَ التَّقْيِيدِ لِلشَّهَادَةِ , وَلِذَلِكَ شُهِدَ عَلَى الْحُكَّامِ بِالسِّجِلَّاتِ الْمُطَوَّلَةِ الَّتِي فِيهَا الْأَوْرَاقُ وَلَا يُقْرَأُ إِلَّا فِي الْمُدَدِ الطُّوَالِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى ذَلِكَ وَالتَّفَرُّغِ لَهُ وَرُبَّمَا اجْتَمَعَ النَّفَرُ الْكَثِيرُ لِلْإِشْهَادِ مِنْهُ , وَإِنْ لَزِمَ كُلَّ إنْسَانٍ قِرَاءَتُهُ وَتَصَفُّحُهُ وَتَحَفُّظُهُ لَتَعَذَّرَ الْإِشْهَادُ فِيهِ , وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ قِرَاءَتُهُ وَلَا مَعْرِفَةُ مَا فِيهِ حِينَ تَقْيِيدِ شَهَادَتِهِ فَبِأَنْ لَا يَلْزَمَهُ ذَلِكَ حِينَ الْأَدَاءِ أَوْلَى , وَمَا احْتَجَّ بِهِ مِنْ قَوْلِهِ وَمَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا غَيْرُ لَازِمٍ أَنَّهُ إخْبَارٌ عَنْ شَهَادَةٍ مُعَيَّنَةٍ وَلَا يَقُولُ أَحَدٌ إِنَّ الشَّهَادَةَ بِالْمَعْلُومِ غَيْرُ جَائِزَةٍ , وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِي الشَّهَادَةِ بِمَا لَمْ يُعْلَمْ وَالْآيَةُ لَا تَتَضَمَّنُ حُكْمَ هَذَا وَأَيْضًا فَإِنَّا نَقُولُ بِمُوجَبِ ذَلِكَ فَإِنَّ الشَّاهِدَ إنَّمَا يَشْهَدُ بِمَا يَعْلَمُهُ مِنْ صِحَّةِ تَقْيِيدِهِ الشَّهَادَةَ فِي الْعَقْدِ عَلَى الْوَجْهِ اللَّازِمِ فِي ذَلِكَ.
( مَسْأَلَةٌ ) وَمِنْ حُكْمِ أَدَاءِ الشَّهَادَةِ أَنْ يَشْهَدَ بِمَا يَعْلَمُ وَيَقْطَعُ بِهِ فَإِنْ شَكَّ فِي شَيْءٍ لَمْ يَشْهَدْ بِهِ قَالَهُ مَالِكٌ فِي الْمَجْمُوعَةِ , وَأَمَّا مَنْ دُعِيَ إِلَى شَهَادَةٍ فَلَمْ يَذْكُرْهَا زَادَ ابْنُ الْقَاسِمِ فَقَالَ عِنْدَ الْقَاضِي لَا أَذْكُرُهَا ثُمَّ ذَكَرَهَا قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ ثُمَّ عَادَ بَعْدَ أَيَّامٍ فَشَهِدَ فَفِي الْمَوَّازِيَّةِ عَنْ مَالِكٍ يُقْبَلُ مِنْهُ إِنْ كَانَ مُبَرَّزًا لَا يُتَّهَمُ وَلَمْ يَمُرَّ مِنْ طُولِ الزَّمَنِ مَا يُسْتَنْكَرُ.
قَالَ سَحْنُونٌ فِي الْمَجْمُوعَةِ إِنْ قَالَ أَخِّرُونِي لِأَتَفَكَّرَ وَأَنْظُرَ جَازَتْ شَهَادَتُهُ إِنْ كَانَ مُبَرَّزًا , وَإِنْ قَالَ مَا عِنْدِي عِلْمٌ ثُمَّ رَجَعَ فَأَخْبَرَ بِعِلْمِهِ فَقَدْ اُخْتُلِفَ فِيهِ عَنْ مَالِكٍ وَأَجَازَهَا ابْنُ نَافِعٍ فِي الْمُبَرَّزِ فِي الْقُرْبِ.
وَجْهُ إجَازَتِهَا أَنَّهُ إنَّمَا أَخْبَرَ بِأَنْ لَا عِلْمَ لَهُ عِنْدَهُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ وَذَلِكَ لَا يَنْفِي أَنْ يَكُونَ عَلِمَ ذَلِكَ قَبْلَهُ فَإِذَا تَذَكَّرَ بَعْدَ ذَلِكَ مَا تَقَدَّمَ عِلْمُهُ بِهِ جَازَتْ شَهَادَتُهُ كَمَا لَوْ تَقَيَّدَتْ شَهَادَتُهُ فِي عَقْدٍ أُشْهِدَ عَلَيْهِ فَإِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ يَنْسَى ذَلِكَ فَإِذَا وَقَفَ عَلَى الْعَقْدِ وَرَأَى خَطَّهُ يَذْكُرُ شَهَادَتَهُ وَجَازَ أَدَاؤُهُ لَهَا , وَوَجْهُ الْقَوْلِ بِرَدِّهَا إِنَّ قَطْعَهُ بِنَفْيِ عِلْمِهِ ظَاهِرُهُ أَنَّهُ لَيْسَ عِنْدَهُ أَصْلٌ وَلَا سَبَبٌ يَتَذَكَّرُ مِنْهُ.
قَالَ ابْنُ حَبِيبٍ إنَّمَا هَذَا إِذَا سُئِلَ عِنْدَ الْحَاكِمِ أَوْ سُئِلَ الْمَرِيضُ عِنْدَ نَقْلِهَا عَنْهُ , فَأَمَّا فِي غَيْرِ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ فَلَا يَضُرُّهُ ذَلِكَ.
( فَرْعٌ ) فَإِذَا قُلْنَا بِرَدِّ شَهَادَتِهِ فَقَدْ قَالَ ابْنُ الْمَوَّازِ عَنْ أَشْهَبَ إِنْ قَالَ كُلُّ شَهَادَةٍ أَشْهَدُ بِهَا بَيْنَكُمَا زُورٌ لَمْ يَضُرَّهُ ذَلِكَ وَلْيَشْهَدْ , وَقَالَ ابْنُ حَبِيبٍ مَنْ قَالَ لِخَصْمٍ مَا أَشْهَدُ عَلَيْك بِشَيْءٍ ثُمَّ شَهِدَ عَلَيْهِ يُقْبَلُ ذَلِكَ مِنْهُ وَلَا يَضُرُّهُ الْقَوْلُ الْأَوَّلُ , وَإِنْ كَانَتْ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ وَهَذَا عِنْدَ الْحُكْمِ وَمَعْنَى ذَلِكَ عِنْدِي أَنَّهُ إِذَا وَعَدَهُ أَنْ لَا يُقِيمَ عَلَيْهِ الشَّهَادَةَ ثُمَّ رَجَعَ عَنْ ذَلِكَ إِلَى الْوَاجِبِ مِنْ إقَامَتِهَا عَلَيْهِ أَوْ يَكُونُ نَسِيَ الشَّهَادَةَ ثُمَّ ذَكَرَهَا فَأَدَّاهَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ وَأَحْكَمُ.
قَالَ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ مَنْ شَهِدَ وَحَلَفَ لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَتُهُ.
( الْبَابُ الْأَوَّلُ فِي نَقْلِ الشَّهَادَةِ عَنْ مُعَيَّنِينَ ) وَأَمَّا مَحَلُّ نَقْلِ الشَّهَادَةِ عَنْ الشُّهُودِ فَفِيهَا بَابَانِ أَحَدُهُمَا نَقْلُهَا عَنْ شُهَدَاءَ مُعَيَّنِينَ وَالْبَابُ الثَّانِي فِي نَقْلِهَا عَنْ شُهَدَاءَ غَيْرِ مُعَيَّنِينَ.
( الْبَابُ الْأَوَّلُ فِي نَقْلِ الشَّهَادَةِ عَنْ مُعَيَّنِينَ ) فَأَمَّا نَقْلُهَا عَنْ الْمُعَيَّنِينَ فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ مِمَّنْ يُنْقَلُ عَنْهُ مُتَيَقِّنًا لِمَا أَشْهَدَ بِهِ غَيْرَ شَاكٍّ فِي شَيْءٍ مِنْهُ فَمَنْ شَكَّ فِي ذَلِكَ أَوْ نَسِيَهُ لَمْ يَصِحَّ نَقْلُهَا عَنْهُ قَالَهُ مَالِكٌ فِي الْمَجْمُوعَةِ.
( مَسْأَلَةٌ ) وَمَنْ سَمِعَ شَاهِدًا يَنُصُّ شَهَادَتَهُ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَنْقُلَهَا عَنْهُ حَتَّى يُشْهِدَهُ عَلَى ذَلِكَ , وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ الْمُخْبِرَ قَدْ تَرَكَ التَّحَرُّزَ وَالِاسْتِيعَابَ لِلشَّهَادَةِ وَالْمُؤَدِّي لِلشَّهَادَةِ يَتَحَرَّزُ فِيهَا وَيُؤَدِّيهَا أَدَاءً يَقْتَضِي الْعَمَلَ بِهَا وَأَدَاءُ الشَّاهِدِ شَهَادَتَهُ إِلَى مَنْ يَنْقُلُهَا عَنْهُ كَأَدَائِهَا إِلَى الْحَاكِمِ , وَلَوْ أَنَّ الْحَاكِمَ سَمِعَهُ يَنُصُّ عَلَيْهِ وَلَا يُؤَدِّي الشَّهَادَةَ عِنْدَهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ الْعَمَلُ بِهَا فَكَذَلِكَ النَّاقِلُ لَهَا عَنْهُ.
( فَرْعٌ ) وَمَنْ سَمِعَ شَاهِدًا يَشْهَدُ عَلَى شَهَادَةِ غَيْرِهِ وَلَمْ يُشْهِدْهُ فَقَدْ قَالَ ابْنُ الْمَوَّازِ لَا يَشْهَدُ عَلَى شَهَادَتِهِ وَاحْتِيجَ إِلَيْهِ بِخِلَافِ الْمُقِرِّ عَلَى نَفْسِهِ وَيَحْتَمِلُ هَذَا عِنْدِي الْخِلَافَ الَّذِي بَيْنَ أَصْحَابِ مَالِكٍ فِيمَنْ سَمِعَ رَجُلًا شَهِدَ عِنْدَ قَاضٍ بِشَهَادَةٍ ثُمَّ مَاتَ الْقَاضِي أَوْ عُزِلَ فَقَالَ أَشْهَبُ فِي الْمَوَّازِيَّةِ لَا يَنْقُلُ الشَّهَادَةَ , وَقَالَ مُطَرِّفٌ فِي الْوَاضِحَةِ يَنْقُلُ ذَلِكَ إِذَا سَمِعَهُ يُؤَدِّيهَا عِنْدَ ذَلِكَ الْقَاضِي وَتَكُونُ شَهَادَةً عَلَى شَهَادَةٍ قَالَ أَصْبَغُ لَا يَجُوزُ ذَلِكَ حَتَّى يُشْهِدَهُ أَوْ يُشْهِدَ عَلَى قَبُولِ الْقَاضِي لِتِلْكَ الشَّهَادَةِ.
( مَسْأَلَةٌ ) قَالَ أَصْبَغُ لَا يَجُوزُ ذَلِكَ , وَإِنَّمَا يَصِحُّ نَقْلُ الشَّهَادَةِ عَنْ الشَّاهِدِ الْغَائِبِ أَوْ الْمَرِيضِ الْحَاضِرِ إِذَا كَانَتْ غَيْبَةُ الشَّاهِدِ بَعِيدَةً حَكَاهُ ابْنُ الْمَوَّازِ إِلَّا الْمَرْأَةَ فَإِنَّهُ يَنْقُلُ شَهَادَتَهَا , وَإِنْ كَانَتْ حَاضِرَةً صَحِيحَةً رَوَاهُ ابْنُ حَبِيبٍ عَنْ مُطَرِّفٍ قَالَ وَلَمْ أَرَ بِالْمَدِينَةِ قَطُّ امْرَأَةً قَامَتْ بِشَهَادَتِهَا عِنْدَ الْحَاكِمِ وَلَكِنَّهَا تُحْمَلُ عَنْهَا , وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنْ يَلْزَمَهَا مِنْ السَّتْرِ عُذْرٌ يُسْقِطُ فَرْضَ الْجُمُعَةِ فَأَبَاحَ تَحَمُّلَ الشَّهَادَةِ عَنْهَا كَالْمَرَضِ.
( فَرْعٌ ) وَأَمَّا الْغَيْبَةُ الْقَرِيبَةُ كَالْيَوْمَيْنِ وَالثَّلَاثَةِ فَفِي كِتَابِ ابْنِ الْمَوَّازِ لَا تُنْقَلُ شَهَادَتُهُ , وَوَجْهُ ذَلِكَ عِنْدِي أَنْ يَغِيبَ عَنْ مَكَانِهِ الْيَوْمَيْنِ وَالثَّلَاثَةَ , وَأَمَّا مَنْ كَانَ بَيْنَ مَوْضِعِهِ وَمَوْضِعِ الْقَاضِي مَسِيرَةُ يَوْمَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةٍ فَإِنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ أَدَاؤُهَا عِنْدَ ذَلِكَ الْقَاضِي وَيَصِحُّ نَقْلُهَا عَنْهُ وَفِي كِتَابِ ابْنِ سَحْنُونٍ عَنْ أَبِيهِ إِذَا كَانَ الشَّاهِدُ عَلَى مِثْلِ مَا تُقْصَرُ فِيهِ الصَّلَاةُ السِّتِّينَ مِيلًا وَنَحْوَهَا لَمْ يُشَخَّصْ الشُّهُودُ مِنْ مِثْلِ ذَلِكَ وَيُشْهَدُ عِنْدَهُ مَنْ يَأْمُرُ بِهِ الْقَاضِي فِي ذَلِكَ الْبَلَدِ وَيَكْتُبُ بِمَا أَشْهَدُوا لَهُ بِهِ عِنْدَهُ إِلَى الْقَاضِي.
قَالَ ابْنُ الْمَوَّازِ إنَّمَا يَنْقُلُ عَنْهُمْ الشَّهَادَةَ إِذَا بَعُدَتْ غَيْبَتُهُمْ مَنْ يَعْرِفُ الْغَيْبَةَ بَعْدَ مُدَّةٍ لَا بِأَثَرِ غَيْبَتِهِمْ يُرِيدُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ أَنَّهُ بِأَثَرِ غَيْبَتِهِمْ عَلَى مَسَافَةٍ قَرِيبَةٍ وَلَا يُؤْمَنُ رُجُوعُهُمْ.
( فَرْعٌ ) وَأَمَّا مَنْ كَانَ عَلَى بَرِيدٍ أَوْ بَرِيدَيْنِ فَإِنَّهُ يُؤَدِّي شَهَادَتَهُ عِنْدَ الْحَاكِمِ فَإِنْ كَانَ الشُّهُودُ أَغْنِيَاءَ يَجِدُونَ نَفَقَةً وَرُكُوبًا فَقَدْ قَالَ سَحْنُونٌ لَا يَقُومُ لَهُمْ بِذَلِكَ الْمَشْهُودُ لَهُ فَإِنْ فَعَلَ سَقَطَتْ شَهَادَتُهُمْ.
قَالَ ابْنُ حَبِيبٍ عَنْ مُطَرِّفٍ وَذَلِكَ إِذَا كَانَ أَمْرًا خَفِيفًا فَإِنْ كَثُرَ لَمْ أُجِزْهُ , وَوَجْهُ ذَلِكَ مَا فِيهِ مِنْ الرِّشْوَةِ وَالْمَنْفَعَةِ الَّتِي لَا تَلْزَمُ الْمَشْهُودَ لَهُ وَيَلْزَمُ الشَّاهِدَ لِمَا عَلَيْهِ مِنْ أَدَاءِ الشَّهَادَةِ وَالْقِيَامِ بِهَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ , وَقَالَ عَزَّ مَنْ قَائِلٌ وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ فَإِنْ لَمْ يَجِدْ الشُّهُودُ نَفَقَةً وَلَا مَرْكُوبًا جَازَ لِلْمَشْهُودِ لَهُ أَنْ يَقُومَ بِهَا , وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّهَا مُؤْنَةٌ لَا تَلْزَمُ الشُّهُودَ فَلَمْ تُبْطِلُ شَهَادَتُهُمْ تَكْلِيفَ الْمَشْهُودِ لَهُ كَسَائِرِ نَفَقَاتِهِ , وَكَذَلِكَ لَوْ اُسْتُنْهِضَ الشُّهُودُ إِلَى مَسَافَةٍ بَعِيدَةٍ لِيُعَايِنُوا حُدُودَ أَرْضٍ وَصِفَتَهَا فَقَدْ قَالَ مُطَرِّفٌ لَا بَأْسَ أَنْ يَرْكَبُوا دَوَابَّ الْمَشْهُودِ لَهُ وَيَأْكُلُوا طَعَامَهُ , وَرَوَى ابْنُ سَحْنُونٍ عَنْ أَبِيهِ مِنْ سُؤَالِ ابْنِ حَبِيبٍ فِي الشَّاهِدِ يَأْتِي مِنْ الْبَادِيَةِ يَشْهَدُ لِرَجُلٍ فَيَنْزِلُ عِنْدَهُ فِي ضِيَافَتِهِ حَتَّى يَخْرُجَ لَا تُرَدُّ بِذَلِكَ شَهَادَتُهُ إِذَا كَانَ عَدْلًا وَهَذَا خَفِيفٌ يُرِيدُ أَنَّ هَذَا أَمْرٌ مُعْتَادٌ دُونَ مُكَارَمَةٍ مَشْرُوعَةٍ يَتَقَارَضُ فِيهَا النَّاسُ وَلَعَلَّ هَذَا الْأَمْرَ قَدْ كَانَ جَرَى بَيْنَهُمْ قَبْلَ هَذَا.
.
( فَصْلٌ ) وَمِمَّا يَتَّصِلُ بِالشَّهَادَةِ عَلَى الشَّهَادَةِ عَلَى خَطِّ الشَّاهِدِ فَالْمَشْهُورُ مِنْ قَوْلِ مَالِكٍ لَا تَجُوزُ الشَّهَادَةُ عَلَى خَطِّ الشَّاهِدِ رَوَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ الْمَوَّازِ وَاخْتَارَهُ , وَرَوَى ابْنُ الْقَاسِمِ وَابْنُ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ فِي الْعُتْبِيَّةِ وَالْمَوَّازِيَّةِ تَجُوزُ الشَّهَادَةُ عَلَى خَطِّهِ وَلَا يُجْزِئُ مِنْ ذَلِكَ أَقَلُّ مِنْ شَهَادَةِ شَاهِدَيْنِ وَيَحْلِفُ الطَّالِبُ وَيَسْتَحِقُّ حَقَّهُ , وَقَالَهُ سَحْنُونٌ , وَقَالَ أَصْبَغُ الشَّهَادَةُ عَلَى خَطِّ الشَّاهِدِ الْغَائِبِ أَوْ الْمَيِّتِ قَوِيَّةٌ فِي الْحُكْمِ بِهَا وَاحْتَجَّ ابْنُ الْمَوَّازِ لِلْمَنْعِ مِنْ ذَلِكَ بِأَنَّ الشَّهَادَةَ عَلَى خَطِّ الشَّاهِدِ بِمَنْزِلَةِ أَنْ يَسْمَعَهُ يَنُصُّ شَهَادَتَهُ تِلْكَ وَلَا يُسَوَّغُ نَقْلُ الشَّهَادَةِ عَنْهُ.
( فَرْعٌ ) فَإِذَا قُلْنَا بِجَوَازِ الشَّهَادَةِ عَلَى خَطِّ الشَّاهِدِ فَقَدْ قَالَ مُطَرِّفٌ وَابْنُ الْمَاجِشُونِ إنَّمَا تَجُوزُ فِي الْأَمْوَالِ خَاصَّةً حَيْثُ يَجُوزُ الْيَمِينُ مَعَ الشَّاهِدِ فَقَدْ قَالَ مُطَرِّفٌ وَابْنُ الْمَاجِشُونِ إنَّمَا تَجُوزُ فِي الْأَمْوَالِ خَاصَّةً حَيْثُ يَجُوزُ الْيَمِينُ مَعَ الشَّاهِدِ قَالَهُ أَصْبَغُ , وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّهَا شَهَادَةٌ مُخْتَلَفٌ فِي صِحَّتِهَا نَاقِصَةُ الرُّتْبَةِ كَالْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِدِ.
( مَسْأَلَةٌ ) وَأَمَّا الشَّهَادَةُ عَلَى خَطِّ الْمُقِرِّ فَقَدْ قَالَ ابْنُ الْمَوَّازِ لَمْ يَخْتَلِفْ قَوْلُ مَالِكٍ فِي الشَّهَادَةِ عَلَى خَطِّ الْمُقِرِّ قَالَ وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ أَنْ يَسْمَعَ الْمُقِرَّ يَنُصُّ إقْرَارَهُ فَتَصِحُّ الشَّهَادَةُ عَلَيْهِ , وَإِنْ لَمْ يَأْذَنْ فِي ذَلِكَ , وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو الْقَاسِمِ فِيهَا رِوَايَتَانِ إحْدَاهُمَا الْجَوَازُ وَالْأُخْرَى الْمَنْعُ.
وَجْهُ الْمَنْعِ مَا قَالَهُ ابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ لَا أَرَى أَنْ يُقْضَى بِالشَّهَادَةِ عَلَى الْخَطِّ بِمَا أَحْدَثَ النَّاسُ مِنْ الضَّرْبِ عَلَى الْخُطُوطِ , وَقَدْ كَانَ فِيمَا مَضَى يُجِيزُونَ الشَّهَادَةَ عَلَى طَابِعِ الْقَاضِي وَرَأَى مَالِكٌ أَنْ لَا تَجُوزَ.
( فَرْعٌ ) فَإِذَا قُلْنَا بِالشَّهَادَةِ عَلَى خَطِّ الْمُقِرِّ فَهَلْ تَلْزَمُهُ الْيَمِينُ مَعَ هَذِهِ الشَّهَادَةِ قَالَ الشَّيْخُ أَبُو الْقَاسِمِ فِيهَا رِوَايَتَانِ : إحْدَاهُمَا يُحْكَمُ لَهُ بِمُجَرَّدِ الشَّهَادَةِ , وَالثَّانِيَةُ لَا يُحْكَمُ لَهُ حَتَّى يَحْلِفَ فَيَسْتَحِقَّ حَقَّهُ.
وَجْهُ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ أَنَّهَا شَهَادَةٌ كَامِلَةٌ تَتَنَاوَلُ الْإِقْرَارَ كَالشَّهَادَةِ عَلَى لَفْظِ الْمُقِرِّ.
( فَرْعٌ ) فَإِذَا قُلْنَا بِالشَّهَادَةِ عَلَى خَطِّ الْمُقِرِّ فَلَمْ يَشْهَدْ لَهُ عَلَيْهِ إِلَّا شَاهِدٌ وَاحِدٌ فَقَدْ قَالَ الشَّيْخُ أَبُو الْقَاسِمِ فِيهِ رِوَايَتَانِ إحْدَاهُمَا يُحْكَمُ لَهُ بِالشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ وَالثَّانِيَةُ لَا يُحْكَمُ لَهُ بِذَلِكَ وَجْهُ الرِّوَايَةِ الْأُولَى أَنَّهَا شَهَادَةٌ عَلَى مَا يَثْبُتُ بِهِ إقْرَارُ الْمُقِرِّ بِالْمَالِ فَأَشْبَهَتْ لَفْظَ الشَّهَادَةِ , وَوَجْهُ الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ أَنَّهَا شَهَادَةٌ لَا تَتَنَاوَلُ الْمَالَ , وَإِنَّمَا تَتَنَاوَلُ مَعْنًى يُجَرُّ إِلَيْهِ كَالشَّهَادَةِ عَلَى الْوَكَالَةِ فِي الْمَالِ وَالشَّهَادَةِ عَلَى الشَّهَادَةِ.
( الْبَابُ الثَّانِي فِي نَقْلِ الشَّهَادَةِ عَنْ غَيْرِ مُعَيَّنِينَ ) أَمَّا نَقْلُ الشَّهَادَةِ عَنْ غَيْرِ مُعَيَّنِينَ وَهِيَ الشَّهَادَةُ عَلَى السَّمَاعِ فَهِيَ جَائِزَةٌ عِنْدَ مَالِكٍ وَهِيَ مُخْتَصَّةٌ بِمَا تَقَادَمَ زَمَنُهُ تَقَادُمًا يَبِيدُ فِيهِ الشُّهُودُ وَتُنْسَى فِيهِ الشَّهَادَاتُ قَالَ الْقَاضِي أَبُو مُحَمَّدٍ وَتَخْتَصُّ بِمَا لَا يَتَغَيَّرُ حَالُهُ وَلَا يَنْتَقِلُ الْمَوْتُ فِيهِ كَالْمَوْتِ وَالنَّسَبِ وَالْوَقْفِ الْمُحَرَّمِ , فَأَمَّا الْمَوْتُ فَإِنَّمَا يُشْهَدُ فِيهِ عَلَى السَّمَاعِ فِيمَا بَعُدَ مِنْ الْبِلَادِ , وَأَمَّا مَا قَرُبَ مِنْ الْبِلَادِ أَوْ الشَّهَادَةُ بِبَلَدِ الْمَوْتِ فَإِنَّمَا هُوَ شَهَادَةٌ عَلَى الْبَتِّ وَالْقَطْعِ وَمَا تَقَرَّرَ مِنْ الْعِلْمِ , وَإِنْ كَانَ سَبَبُ هَذِهِ الشَّهَادَاتِ السَّمَاعَ إِلَّا أَنَّ لَفْظَ شَهَادَةِ السَّمَاعِ إنَّمَا يَنْطَلِقُ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ عَلَى مَا يَقَعُ بِهِ الْعِلْمُ لِلشَّاهِدِ , وَلِذَلِكَ لَا يُؤَدِّي شَهَادَتَهُ عَلَى أَنَّهُ سَمِعَ سَمَاعًا فَاشِيًا مَا يَنُصُّهُ مِنْ شَهَادَتِهِ , وَأَمَّا إِذَا تَوَاتَرَ الْخَبَرُ حَتَّى وَقَعَ لَهُ الْعِلْمُ فَإِنَّمَا يَشْهَدُ عَلَى عِلْمِهِ فَيَقُولُ أَشْهَدُ أَنَّ فُلَانًا مَاتَ وَأَنَّ فُلَانًا ابْنَهُ يَرِثُهُ فَلَا يُطْلِقُونَ عَلَى هَذَا النَّوْعِ شَهَادَةَ سَمَاعٍ.
( مَسْأَلَةٌ ) وَأَمَّا الشَّهَادَةُ عَلَى السَّمَاعِ فِي النَّسَبِ وَالْوَلَاءِ فَقَدْ قَالَ ابْنُ الْمَوَّازِ اخْتَلَفَ قَوْلُ مَالِكٍ فِي شَهَادَةِ السَّمَاعِ فِي النَّسَبِ وَالْوَلَاءِ , فَأَكْثَرُ قَوْلِ مَالِكٍ وَابْنِ الْقَاسِمِ أَنَّهُ يُقْضَى لَهُ بِالْوَلَاءِ وَالنَّسَبِ وَفِي الْعُتْبِيَّةِ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي زَيْدٍ عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ يُقْضَى لَهُ بِالْمِيرَاثِ وَلَا يَجْرِ بِذَلِكَ وَلَاءٌ وَلَا يَثْبُتُ لَهُ نَسَبٌ إِلَّا أَنْ يَكُونَ أَمْرٌ انْتَشَرَ مِثْلُ أَنْ يَقُولَ أَشْهَدُ أَنَّ نَافِعًا مَوْلَى ابْنِ عُمَرَ , فَمِثْلُ هَذَا يَجْرِ بِهِ الْوَلَاءُ وَالنَّسَبُ يُرِيدُ إِذَا بَلَغَ مِنْ التَّوَاتُرِ بِحَيْثُ يَقَعُ بِهِ الْعِلْمُ فَيَشْهَدُ عَلَى عِلْمِهِ وَلَا يُضِيفُ شَهَادَتَهُ إِلَى السَّمَاعِ وَفِي آخِرِ الْمَسْأَلَةِ قِيلَ لِابْنِ الْقَاسِمِ أَفَنَشْهَدُ أَنَّك ابْنُ الْقَاسِمِ وَلَا نَعْرِفُ أَبَاك وَلَا أَنَّك ابْنُهُ إِلَّا بِالسَّمَاعِ قَالَ نَعَمْ يُقْطَعُ بِهَذِهِ الشَّهَادَةِ وَيَثْبُتُ بِهَا النَّسَبُ وَيُبَيِّنُ ذَلِكَ مَا قَالَهُ سَحْنُونٌ فِي كِتَابِ ابْنِهِ لَا يَجُوزُ عَلَى النَّسَبِ إِلَّا شَهَادَةٌ عَلَى شَهَادَةٍ أَوْ مِنْ جِهَةِ تَوَاتُرِ الْخَبَرِ أَنَّ هَذَا فُلَانُ بْنُ فُلَانٍ مِثْلُ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ فَيَثْبُتُ بِهَذَا أَنَّ الشَّهَادَةَ عَلَى السَّمَاعِ غَيْرُ الشَّهَادَةِ بِالْعِلْمِ الْوَاقِعِ بِالْخَبَرِ الْمُتَوَاتِرِ , وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو مُحَمَّدٍ فِي مَعُونَتِهِ إِنَّ الشَّهَادَةَ عَلَى السَّمَاعِ مِنْ مَعْنَى الْخَبَرِ الْمُتَوَاتِرِ وَلَعَلَّهُ أَرَادَ أَنَّ مَا بَيْنَهُمَا مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ فِي السَّمَاعِ مِنْ عَدَدٍ غَيْرِ مَحْصُورٍ ; لِأَنَّهُ قَالَ يَقُولُ الشَّاهِدُ فِي أَدَاءِ الشَّهَادَةِ لَمْ أَزَلْ أَسْمَعُ أَنَّ فُلَانَ بْنَ فُلَانٍ غَيْرَ أَنَّهُ لَمْ يَشْتَرِطْ أَهْلَ الْعَدْلِ فِيمَنْ سَمِعَ مِنْهُمْ فَلَمْ تَخْتَصَّ الْمَسْأَلَةُ عَلَى مَذَاهِبِ شُيُوخِنَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
( فَرْعٌ ) وَإِذَا شُهِدَ لِلْمَرْأَةِ بِضَرَرِ زَوْجِهَا فَفِي الْعُتْبِيَّةِ مِنْ رِوَايَةِ أَصْبَغَ عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ أَنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ بِالسَّمَاعِ مِنْ الْأَهْلِ وَالْجِيرَانِ , وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ ذَلِكَ فِي الْخُلْعِ وَفِي النَّوَادِرِ عَنْ حُسَيْنِ بْنِ عَاصِمٍ قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ لَا تَجُوزُ شَهَادَةُ السَّمَاعِ إِلَّا عَنْ الْعُدُولِ إِلَّا فِي الرَّضَاعِ فَيَجُوزُ أَنْ يَشْهَدَ الْعُدُولُ عَنْ لَفِيفِ الْقَرَابَةِ وَالْأَهْلِ وَالْجِيرَانِ وَإِنْ لَمْ يَكُونُوا عُدُولًا كَالنِّسَاءِ وَالْخَدَمِ فَهَذَا أَيْضًا يَحْتَاجُ إِلَى تَأَمُّلٍ وَنَظَرٍ , وَهُوَ يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا أَنْ يَشْهَدَ بِذَلِكَ رَجُلَانِ فَيَجِبُ أَنْ يَشْهَدَا بِعِلْمِهِمَا عَلَى مَا تَقَرَّرَ عِنْدَهُمَا مِنْ الْخَبَرِ الْمُتَوَاتِرِ الَّذِي لَا يُرَاعَى فِيهِ عَدَالَةٌ وَلَا إسْلَامٌ , وَالْوَجْهُ الثَّانِي أَنْ يُرِيدَ بِذَلِكَ شَهَادَةَ النِّسَاءِ عَلَى فُشُوِّ هَذَا الْمَعْنَى مَعَ شَهَادَةِ امْرَأَتَيْنِ عَلَى الرَّضَاعِ وَسَيَأْتِي ذِكْرُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
.
( فَصْلٌ ) وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي شَهَادَةِ السَّمَاعِ بِالْوَلَاءِ وَالْمَوَارِيثِ , وَقَدْ تَقَدَّمَ مِنْ ذِكْرِ الْقَاضِي أَبِي مُحَمَّدٍ أَنَّ ذَلِكَ فِيمَا لَا يَنْتَقِلُ كَالْوَلَاءِ وَالنَّسَبِ وَالْوَقْفِ الْمُؤَبَّدِ وَذَكَرَ فِي شَهَادَةِ السَّمَاعِ بِالنِّكَاحِ قَوْلَيْنِ.
قَالَ فَوَجْهُ قَوْلِهِ فِي النِّكَاحِ أَنَّهُ يُقْبَلُ فِيهِ أَنَّهُ ثَابِتٌ لَا يَتَغَيَّرُ إِذَا مَاتَ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ فَأَشْبَهَ الْوَلَاءَ وَالْوَقْفَ الْمُؤَبَّدَ , وَوَجْهُ قَوْلِهِ لَا يُقْبَلُ فِيهِ أَنَّ أَصْلَهُ غَيْرُ مُسْتَقِرٍّ بِدَلِيلِ جَوَازِ التَّنَقُّلِ فِيهِ فَكَانَ كَالشَّهَادَةِ عَلَى الْأَمْلَاكِ وَاَلَّذِي تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِ مَالِكٍ أَنَّ شَهَادَةَ السَّمَاعِ يُقْطَعُ بِهَا فِي الْوَلَاءِ وَالنَّسَبِ وَالصَّدَقَاتِ الَّتِي طَالَ زَمَنُهَا , وَالصَّدَقَاتُ تَكُونُ عَلَى غَيْرِ وَجْهِ الْوَقْفِ.
وَفِي كِتَابِ ابْنِ حَبِيبٍ عَنْ مُطَرِّفٍ وَابْنِ الْمَاجِشُونِ عَنْ مَالِكٍ تَجُوزُ شَهَادَةُ السَّمَاعِ فِيمَا تَقَادَمَ عَهْدُهُ مِنْ الْأَشْرِبَةِ وَالْحِيَازَاتِ وَالصَّدَقَاتِ وَالْأَحْبَاسِ وَشِبْهِ ذَلِكَ وَهُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ فِي الْمُدَوَّنَةِ.
وَجْهُ ذَلِكَ أَنَّهَا أُمُورٌ تَتَقَادَمُ وَيَبِيدُ شُهُودُهَا فَصَحَّتْ الشَّهَادَةُ فِيهَا عَلَى السَّمَاعِ كَالْأَحْبَاسِ وَلِابْنِ الْقَاسِمِ فِي الْمَوَّازِيَّةِ وَغَيْرِهَا فِي غَائِبٍ قَدِمَ أَقَامَ بَيِّنَةً عَلَى دَارٍ أَنَّهَا لِأَبِيهِ أَوْ جَدِّهِ وَأَثْبَتَ الْمَوَارِيثَ فَأَتَى مَنْ هَذِهِ فِي يَدِهِ بِبَيِّنَةٍ عَلَى السَّمَاعِ أَنَّهُمْ لَمْ يَزَالُوا يَسْمَعُونَ هُمْ أَوْ مَنْ نَقَلُوا عَنْهُ مِنْ الْعُدُولِ أَنَّهَا لِأَبِ الْحَائِزِ أَوْ لِجَدِّهِ بِشِرَاءٍ مِنْ أَبِ الْقَائِمِ أَوْ جَدِّهِ أَوْ بِصَدَقَةٍ مَا خَرَجَتْ عَنْ مِلْكِهِ حَتَّى مَاتَ وَوَرِثَهَا وَرَثَتُهُ وَيَذْكُرُونَ وَرَثَةَ كُلِّ مَيِّتٍ أَنَّهُ يُقْضَى بِشَهَادَةِ السَّمَاعِ وَيَكُونُ أَحَقَّ بِهَا فَإِنْ قَالُوا نَعْلَمُ أَنَّهَا بِيَدِ أَبِيهِ أَوْ جَدِّهِ لَا يَعْلَمُونَ بِمَاذَا لَمْ تَتِمَّ الشَّهَادَةُ , وَقَالَهُ مَالِكٌ وَأَشْهَبُ.
( فَرْعٌ ) وَأَمَّا النِّكَاحُ فَفِي الْعُتْبِيَّةِ عَنْ سَحْنُونٍ قَالَ جُلُّ أَصْحَابِنَا يَقُولُونَ فِي النِّكَاحِ إِذَا انْتَشَرَ خَبَرُهُ فِي الْجِيرَانِ أَنَّ فُلَانًا تَزَوَّجَ فُلَانَةَ وَسَمِعَ الزِّفَافَ فَلَهُ أَنْ يَشْهَدَ أَنَّ فُلَانَةَ زَوْجَةُ فُلَانٍ زَادَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ وَلَمْ يَحْضُرْ النِّكَاحُ , وَكَذَلِكَ فِي الْمَوْتِ يَسْمَعُ النِّيَاحَةَ وَرُبَّمَا لَمْ يَشْهَدْ الْجِنَازَةَ فَإِذَا كَثُرَ الْقَوْلُ بِذَلِكَ فَيَشْهَدُ أَنَّ فُلَانًا مَاتَ وَلَمْ يَحْضُرْ الْمَوْتَ , وَكَذَلِكَ النَّسَبُ , وَكَذَلِكَ الْقَاضِي يُوَلَّى الْمِصْرَ وَلَا يَحْضُرُ وِلَايَتَهُ إِلَّا بِمَا يَسْمَعُ مِنْ النَّاسِ وَرُبَّمَا رَآهُ يَقْضِي بَيْنَ النَّاسِ فَلْيَشْهَدْ أَنَّهُ كَانَ قَاضِيًا , وَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يَشْهَدَ قَوْمٌ عَلَى امْرَأَةٍ أَنَّهَا زَوْجَةُ فُلَانٍ إِذَا كَانَ يَحُوزُهَا بِالنِّكَاحِ , وَإِنْ كَانَ تَزْوِيجُهُ إيَّاهَا قَبْلَ أَنْ يُولَدَ الشُّهُودُ فَهَذِهِ الشَّهَادَةُ أَدْخَلَهَا شَيْخُنَا فِي بَابِ الشَّهَادَةِ عَلَى السَّمَاعِ لَمَّا كَانَ السَّمَاعُ سَبَبَهَا , وَإِنَّمَا هِيَ شَهَادَةٌ بِالْعِلْمِ , وَلِذَلِكَ لَا يُضِيفُهَا الشَّاهِدُ إِلَى سَمَاعِهِ , وَإِنَّمَا هِيَ شَهَادَةٌ بِالْعِلْمِ يُضِيفُهَا إِلَى عِلْمِهِ.
( فَرْعٌ ) إِذَا ثَبَتَ ذَلِكَ فَمِنْ شَرْطِ شَهَادَةِ السَّمَاعِ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا سَمَاعًا فَاشِيًا مِنْ أَهْلِ الْعَدْلِ وَغَيْرِهِمْ , قَالَ ابْنُ حَبِيبٍ عَنْ مُطَرِّفٍ وَابْنِ الْمَاجِشُونِ لَا تَصِحُّ شَهَادَةُ السَّمَاعِ حَتَّى يَقُولَ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَغَيْرِهِمْ , وَقَالَ ابْنُ الْمَوَّازِ قَالَا وَلَا يُسَمُّوا مَنْ سَمِعُوا مِنْهُ فَإِنْ سَمَّوْا خَرَجَتْ عَنْ شَهَادَةِ السَّمَاعِ إِلَى الشَّهَادَةِ عَلَى الشَّهَادَةِ , وَقَالَهُ ابْنُ الْقَاسِمِ وَأَصْبَغُ.
( فَرْعٌ ) وَيُجْزِئُ فِي الشَّهَادَةِ عَلَى السَّمَاعِ رَجُلَانِ وَمَا كَثُرَ أَحَبُّ إلَيْنَا قَالَهُ مُطَرِّفٌ وَابْنُ الْمَاجِشُونِ عَنْ مَالِكٍ قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ فِي الْمَجْمُوعَةِ إِذَا شَهِدَ رَجُلَانِ عَلَى السَّمَاعِ وَفِي الْقَبِيلِ مِائَةٌ مِنْ أَنْسَابِهِمْ لَا يَعْرِفُونَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ فَلَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمْ إِلَّا بِأَمْرٍ يَفْشُو وَيَكُونُ عَلَيْهِ أَكْثَرُ مِنْ اثْنَيْنِ إِلَّا أَنْ يَكُونَا شَيْخَيْنِ قَدِيمَيْنِ قَدْ بَادَ جِيلُهُمَا فَتَجُوزُ شَهَادَتُهُمَا.
( فَرْعٌ ) وَإِذَا قُلْنَا إِنَّ شَهَادَةَ السَّمَاعِ تَخْتَصُّ بِمَا تَقَادَمَ مِنْ الزَّمَانِ فَقَدْ رَوَى ابْنُ حَبِيبٍ عَنْ مُطَرِّفٍ وَابْنِ الْمَاجِشُونِ تَجُوزُ فِي الْخَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً وَنَحْوِهَا لِتَقَاصُرِ أَعْمَارِ النَّاسِ قَالَهُ أَصْبَغُ , وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ لَا تُقْبَلُ فِي الْخَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً شَهَادَةٌ عَلَى السَّمَاعِ إِلَّا فِيمَا تَقَادَمَ.
.
( فَصْلٌ ) وَأَمَّا قَوْلُهُ وَلَا ظَنِينٍ فَرَوَى ابْنُ مُزَيْنٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ أَنَّهُ الْمُتَّهَمُ الَّذِي يُظَنُّ بِهِ غَيْرُ الصَّلَاحِ , وَقَالَ ابْنُ كِنَانَةَ فِي الْمَجْمُوعَةِ هُوَ الْمُتَّهَمُ فَكُلُّ مَنْ اُتُّهِمَ فِي شَهَادَتِهِ بِمَيْلٍ لَمْ يُحْكَمْ بِهَا , وَإِنْ كَانَ مُبَرَّزًا فِي الْعَدَالَةِ.
إِلَّا أَنَّ التُّهْمَةَ الَّتِي يَتَعَلَّقُ بِهَا رَدُّ الشَّهَادَةِ عَلَى قِسْمَيْنِ : أَحَدُهُمَا لِجَرِّ الْمَالِ , وَالثَّانِي لِدَفْعِ الْمَعَرَّةِ.
أَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ فِي جَرِّ الْمَالِ فَإِنَّهُ عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا أَنْ يَشْهَدَ لِنَفْسِهِ أَوْ لِغَيْرِهِ مِمَّنْ يَرْغَبُ فِي كَثْرَةِ مَالِهِ , وَالضَّرْبُ الثَّانِي أَنْ يَشْهَدَ لِمَنْ يَنَالُهُ مَعْرُوفُهُ , فَأَمَّا مَنْ يَشْهَدُ لِنَفْسِهِ فَلَا يَخْلُو أَنْ تَكُونَ الشَّهَادَةُ لَهُ خَاصَّةً أَوْ لَهُ وَلِغَيْرِهِ فَإِنْ كَانَتْ الشَّهَادَةُ لَهُ خَاصَّةً فَهَذَا لَا خِلَافَ فِي أَنَّ شَهَادَتَهُ غَيْرُ جَائِزَةٍ ; لِأَنَّ شَهَادَتَهُ لِنَفْسِهِ هِيَ مُجَرَّدُ الدَّعْوَى وَلَا خِلَافَ أَنَّهُ لَا يَحْكُمُ أَحَدٌ بِدَعْوَاهُ.
( مَسْأَلَةٌ ) وَأَمَّا إِنْ شَهِدَ فِي حَقٍّ مُشْتَرَكٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَ آخَرَ فَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ فِي رَجُلَيْنِ لَهُمَا مَالٌ عَلَى رَجُلٍ فَشَهِدَ أَحَدُهُمَا بِنِصْفِ الْمَالِ لِصَاحِبِهِ أَنَّ شَهَادَتَهُ مَرْدُودَةٌ , وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّهُ إِذَا كَانَ الْمَالُ بَيْنَهُمَا مُشْتَرَكًا فَإِنَّ النِّصْفَ الَّذِي لِشَرِيكِهِ غَيْرُ مُتَعَيَّنٍ , وَلَوْ قَبَضَهُ شَرِيكُهُ لِسَاهِمِهِ فِيهِ فَقَدْ عَادَ الْأَمْرُ إِلَى أَنَّهُ شَهِدَ لِنَفْسِهِ فَإِنْ اقْتَسَمَا الْحَقَّ قَبْلَ الشَّهَادَةِ جَازَتْ شَهَادَتُهُ ; لِأَنَّ مَا شَهِدَ بِهِ لَيْسَ لَهُ فِيهِ حَقٌّ.
( مَسْأَلَةٌ ) , وَلَوْ شَهِدَ شَهَادَةً لَهُ فِيهَا حَقٌّ فَلَا يَخْلُو أَنْ تَكُونَ وَصِيَّةً أَوْ غَيْرَ وَصِيَّةٍ فَإِنْ كَانَتْ وَصِيَّةً وَكَانَ لَهُ فِيهَا مَالٌ كَثِيرٌ لَمْ تَجُزْ شَهَادَتُهُ لَهُ وَلَا لِغَيْرِهِ , وَإِنْ كَانَ يَسِيرًا فَعَنْ مَالِكٍ فِي ذَلِكَ ثَلَاثُ رِوَايَاتٍ إحْدَاهَا لَا يَجُوزُ لَهُ وَلَا لِغَيْرِهِ وَبِهَذَا قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ , وَالثَّانِيَةُ لَا يَجُوزُ لَهُ وَيَجُوزُ لِغَيْرِهِ وَبِهَذَا قَالَ ابْنُ الْمَاجِشُونِ , وَالثَّالِثَةُ وَهِيَ رِوَايَةُ الْمُدَوَّنَةِ يَجُوزُ لَهُ وَلِغَيْرِهِ وَبِهَذَا قَالَ مُطَرِّفٌ وَجْهُ الرِّوَايَةِ الْأُولَى أَنَّهُ شَهِدَ لَهُ بِحَقٍّ لَهُ فِيهِ حَظٌّ فَلَمْ تُقْبَلْ شَهَادَتُهُ كَسَائِرِ الْحُقُوقِ مِنْ غَيْرِ الْوَصِيَّةِ , وَوَجْهُ الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ أَنَّ التُّهْمَةَ إنَّمَا تَخْتَصُّ بِهِ وَلَا تُهْمَةَ فِي شَهَادَتِهِ لِغَيْرِهِ فَتَبْطُلُ شَهَادَتُهُ لَهُ وَتَصِحُّ لِغَيْرِهِ , وَوَجْهُ الرِّوَايَةِ الثَّالِثَةِ أَنَّ كُلَّ شَهَادَةٍ لَمْ تُبْطِلْ بَعْضَهَا تُهْمَةٌ فَإِنَّهُ لَا يَبْطُلُ جَمِيعُهَا كَمَا لَوْ كَانَتْ الشَّهَادَةُ لِغَيْرِهِ دُونَهُ.
( فَرْعٌ ) فَإِذَا قُلْنَا بِجَوَازِهَا فِي الْقَلِيلِ فَكَمُّ الْقَلِيلِ الَّذِي يَجُوزُ فِيهِ فَفِي الْمَوَّازِيَّةِ عَنْ مَالِكٍ فِي شَاهِدَيْنِ أَوْصَى إِلَيْهِمَا رَجُلٌ وَأَشْهَدَهُمَا فِي ثُلُثِهِ أَنَّ ثُلُثَهُ لِلْمَسَاكِينِ وَثُلُثَهُ لِجِيرَانِهِ وَثُلُثَهُ لَهُمَا هَذَا يَسِيرٌ وَيَجُوزُ لَهُمَا وَلِغَيْرِهِمَا قَالَ مُحَمَّدٌ مَعْنَاهُ إِنْ كَانَ الْمَالُ كَثِيرًا مِمَّا لَهُ بَالٌ فَلَا يَجُوزُ لَهُ وَلَا لِغَيْرِهِ.
( مَسْأَلَةٌ ) فَإِنْ شَهِدَ فِي غَيْرِ وَصِيَّةٍ لِحَقٍّ لَهُ وَلِغَيْرِهِ فَالْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِنَا لَا يَجُوزُ لَهُ وَلَا لِغَيْرِهِ وَفِي كِتَابِ ابْنِ الْمَوَّازِ مَنْ شَهِدَ بِشَهَادَةٍ لَهُ فِيهَا حَقٌّ وَلِغَيْرِهِ لَمْ تَجُزْ شَهَادَتُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ الَّذِي لَهُ يَسِيرٌ جِدًّا , وَكَذَلِكَ لَمْ يُتَّهَمْ عَلَيْهِ فَإِذَا قُلْنَا بِالرِّوَايَةِ الْأُولَى فَالْفَرْقُ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ الْوَصِيَّةِ إِذَا أَجَزْنَاهَا أَنَّ الْمُتَوَفَّى مُتَيَقَّنٌ انْتِقَالُهُ عَنْ مِلْكِهِ وَلَا يَدْخُلُ فِي مِلْكِ الْوَرَثَةِ إِلَّا بَعْدَ سَلَامَتِهِ مِنْ الْوَصِيَّةِ وَوَقْتُ انْتِقَالِهِ إِلَى الْوَرَثَةِ وَإِلَى الْمُوصَى لَهُ بِهِ وَاحِدٌ وَهُوَ وَقْتُ وَفَاتِهِ فَلَمْ تَتَنَاوَلْ الْوَصِيَّةُ إخْرَاجَ شَيْءٍ عَنْ مِلْكٍ مُتَقَرِّرٍ , وَإِنَّمَا تَنَاوَلَتْ تَوَجُّهَهُ إِلَى جِهَةٍ مُسْتَحَقَّةٍ بَعْدَ زَوَالِ الْمِلْكِ عَنْهُ , وَلَيْسَ كَذَلِكَ الدَّيْنُ فَإِنَّمَا شُهِدَ بِهِ فِي حَالِ الْحَيَاةِ وَتَقَرَّرَ مِلْكُ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ فَجَازَ أَنْ يُؤَثِّرَ فِي الْوَصِيَّةِ بِالْمَالِ مَا لَا يُؤَثِّرُ فِي الدَّيْنِ لِضَعْفِ حَالِ الْمِلْكِ الْمُسْتَحَقِّ عَلَيْهِ الْوَصِيَّةُ وَفَوْتِهِ فِي الدَّيْنِ , وَلِذَلِكَ لَوْ شُهِدَ عَلَى مَيِّتٍ أَنَّهُ أَوْصَى لِغَيْرِ مُعَيَّنِينَ لَحُكِمَ لِلْوَرَثَةِ , وَلَوْ شُهِدَ عَلَى حَيٍّ أَنَّهُ وَهَبَ مَالَهُ لِغَيْرِ مُعَيَّنِينَ لَمَا حُكِمَ عَلَيْهِ.
( مَسْأَلَةٌ ) وَأَمَّا مَنْ يَرْغَبُ فِي كَثْرَةِ مَالِهِ فَإِنَّ ذَلِكَ يَكُونُ عَلَى وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنْ يَرْغَبَ فِي كَثْرَةِ مَالِهِ لِلشَّفَقَةِ وَالْقَرَابَةِ , وَالْوَجْهُ الثَّانِي لِمَا يَخْتَصُّ بِالشَّاهِدِ مِنْ الْمَنْفَعَةِ , فَأَمَّا الْوَجْهُ الْأَوَّلُ فَكَشَهَادَةِ الْآبَاءِ لِلْأَبْنَاءِ وَالْأَبْنَاءِ لِلْآبَاءِ , وَرَوَى ابْنُ نَافِعٍ عَنْ مَالِكٍ فِي الْمَجْمُوعَةِ أَنَّهُ قَالَ وَيَدْخُلُ فِي قَوْلِ عُمَرَ لَا تَجُوزُ شَهَادَةُ خَصْمٍ وَلَا ظَنِينٍ شَهَادَةُ الْأَبَوَيْنِ لِلْوَلَدِ وَأَحَدِ الزَّوْجَيْنِ لِلْآخَرِ وَهَذَا مَذْهَبُ عُلَمَاءِ الْأَمْصَارِ وَرُوِيَ عَنْ مَنْ لَا يُعْتَدُّ بِخِلَافِهِ تَجُوزُ شَهَادَةُ الْآبَاءِ لِلْأَبْنَاءِ وَالْأَبْنَاءِ لِلْآبَاءِ , وَالدَّلِيلُ عَلَى مَا نَقُولُهُ حَدِيثُ عُمَرَ هَذَا , وَقَدْ اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى تَصْحِيحِهِ وَالْأَخْذِ بِهِ وَلَا نَعْلَمُ بِتُهْمَةٍ أَقْوَى مِنْ كَلَفِ الْآبَاءِ بِالْأَبْنَاءِ وَمَحَبَّةِ الْأَبْنَاءِ فِي الْآبَاءِ وَلِأَنَّ الْإِنْسَانَ إنَّمَا تُرَدُّ شَهَادَتُهُ لِنَفْسِهِ لِلتُّهْمَةِ وَمِنْ النَّاسِ مَنْ تَكُونُ مَحَبَّتُهُ لِبَنِيهِ تَرْبُو عَلَى مَحَبَّتِهِ لِنَفْسِهِ أَوْ تُقَارِبُهَا فَيَجِبُ أَنْ لَا تَجُوزَ شَهَادَتُهُ ا هـ.
وَقَدْ حَكَى ابْنُ عَبْدُوسٍ عَنْ سَحْنُونٍ أَنَّهُ لَا تَجُوزُ شَهَادَةُ ابْنِ الْمُلَاعَنَةِ لِمَنْ نَفَاهُ , وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّهُ يُتَّهَمُ عَلَى أَنَّهُ يُرِيدُ اسْتِمَالَتَهُ لِيَسْتَلْحِقَهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
( مَسْأَلَةٌ ) وَقَدْ رَوَى ابْنُ حَبِيبٍ عَنْ مُطَرِّفٍ وَابْنِ الْمَاجِشُونِ عَنْ مَالِكٍ قَالَ الَّذِي لَا تَجُوزُ شَهَادَتُهُمْ مِنْ ذِي الْقَرَابَةِ الْأَبَوَانِ وَالْجَدُّ وَالْجَدَّةُ وَالْوَلَدُ وَوَلَدُ الْوَلَدِ مِنْ ذُكُورٍ وَإِنَاثٍ وَأَحَدُ الزَّوْجَيْنِ لِلْآخَرِ وَتَجُوزُ شَهَادَةُ مَنْ وَرَاءَ هَؤُلَاءِ مِنْ الْقَرَابَاتِ وَهَذَا يَقْتَضِي جَوَازَ شَهَادَةِ الْأَخِ لِأَخِيهِ وَابْنِ أَخِيهِ وَهِيَ رِوَايَةُ ابْنِ الْقَاسِمِ فِي الْمُدَوَّنَةِ , وَقَالَ غَيْرُهُ مِنْ أَصْحَابِنَا لَا تَجُوزُ عَلَى الْإِطْلَاقِ , وَإِنَّمَا يَجُوزُ عَلَى شَرْطٍ وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي الشَّرْطِ فَفِي كِتَابِ ابْنِ الْمَوَّازِ لَا تَجُوزُ شَهَادَتُهُ لَهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مُبَرَّزًا وَقِيلَ يَجُوزُ إِذَا لَمْ تَنَلْهُ صِلَتُهُ , وَقَالَ أَشْهَبُ يَجُوزُ فِي الْيَسِيرِ دُونَ الْكَثِيرِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مُبَرَّزًا فَيَجُوزُ فِي الْكَثِيرِ , وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ قَرَابَةَ الْأُبُوَّةِ وَالنُّبُوَّةِ آكَدُ وَالتُّهْمَةَ فِيهِمْ أَقْوَى وَجَرَتْ الْعَادَةُ بِبَسْطِ هَؤُلَاءِ فِي مَالِ بَعْضٍ , وَكَذَلِكَ الزَّوْجَةُ فَإِنَّ الزَّوْجَ يُنْفِقُ عَلَى الزَّوْجَةِ وَيَنْبَسِطُ فِي مَالِهَا , وَالْأُخُوَّةُ لَا تَبْلُغُ ذَلِكَ الْمَبْلَغَ وَلَا يَخْلُو فِي الْأَغْلَبِ مِنْ الْإِشْفَاقِ وَالْحِرْصِ عَلَى الْغِنَى فَلِذَلِكَ رُوعِيَ فِي الْأُخُوَّةِ أَحَدُ الشُّرُوطِ الْمَذْكُورَةِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ وَأَحْكَمُ.
وَفِي الْمَوَّازِيَّةِ وَالْمَجْمُوعَةِ لَا تَجُوزُ شَهَادَةُ الْقَرَابَةِ وَالْمَوَالِي فِي الرِّبَاعِ الَّتِي يُتَّهَمُونَ بِجَرِّهَا إِلَيْهِمْ أَوْ إِلَى بَنِيهِمْ الْيَوْمَ أَوْ بَعْدَهُ مِثْلُ حَبْسِ مَرْجِعِهِ إِلَيْهِمْ أَوْ إِلَى بَنِيهِمْ قَالَهُ ابْنُ الْقَاسِمِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
( مَسْأَلَةٌ ) وَلَا تَجُوزُ شَهَادَةُ الرَّجُلِ لِابْنِ امْرَأَتِهِ وَلَا لِأَبِيهَا , وَكَذَلِكَ الْمَرْأَةُ لِابْنِ زَوْجِهَا قَالَهُ ابْنُ الْقَاسِمِ , وَكَذَلِكَ شَهَادَةُ الرَّجُلِ لِزَوْجِ ابْنَتِهِ وَلَا لِزَوْجَةِ ابْنِهِ رَوَاهُ عِيسَى عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ , وَقَالَ سَحْنُونٌ ذَلِكَ جَائِزٌ , وَجْهُ قَوْلِ ابْنِ الْقَاسِمِ أَنَّ مَنْ لَا تَجُوزُ شَهَادَتُك لَهُ فَلَا تَجُوزُ شَهَادَتُك لِمَنْ لَا تَجُوزُ شَهَادَتُهُ لَك ; لِأَنَّ التُّهْمَةَ قَوِيَّةٌ فِي مَنَافِعِهِ , وَوَجْهُ قَوْلِ سَحْنُونٍ مَا احْتَجَّ بِهِ مِنْ أَنَّ مَنْ كَانَ وَفْرُهُ وَفْرَ الشَّاهِدِ وَغِنَاهُ غِنًى لَهُ رُدَّتْ شَهَادَتُهُ لَهُ ; لِأَنَّ التُّهْمَةَ قَوِيَّةٌ فِي مَنَافِعِهِ , وَأَمَّا مَنْ لَيْسَ غِنَاهُ غِنًى لِلشَّاهِدِ فَإِنَّ شَهَادَتَهُ لَهُ جَائِزَةٌ.
.
( فَصْلٌ ) وَأَمَّا مَنْ يُرْغَبُ فِي غِنَاهُ لِمَنْفَعَتِهِ فَالزَّوْجُ وَالزَّوْجَةُ وَالْأَبُ يَجِبُ عَلَى ابْنِهِ الْإِنْفَاقُ عَلَيْهِ أَوْ أَجِيرٌ يُنْفِقُ عَلَيْهِ ; لِأَنَّ مَنْ نَفَقَتُهُ عَلَيْهِ إِذَا شَهِدَ لَهُ جَرَّ إِلَى نَفْسِهِ بِذَلِكَ نَفْعًا وَالزَّوْجَةُ تَنْبَسِطُ فِي مَالِ زَوْجِهَا فَتَجُرُّ إِلَى نَفْسِهَا بِذَلِكَ نَفْعًا.
.
( فَصْلٌ ) وَأَمَّا الضَّرْبُ الثَّانِي وَهُوَ أَنْ يَشْهَدَ لِمَنْ يَنَالُهُ مِنْهُ مَعْرُوفٌ فَإِنَّ ذَلِكَ عَلَى وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنْ يَكُونَ الْمَعْرُوفُ مُتَكَرِّرًا مُعْتَادًا وَالْوَجْهُ الثَّانِي أَنْ يَكُونَ الْمَعْرُوفُ مُتَعَيِّنًا , فَأَمَّا الْمَعْرُوفُ الْمُعْتَادُ فَإِنْ اقْتَرَنَتْ بِهِ الْقَرَابَةُ كَالْأَخِ يَكُونُ فِي عِيَالِ أَخِيهِ أَوْ تَحْتَ نَفَقَتِهِ أَوْ يَتَكَرَّرُ عَلَيْهِ مَعْرُوفُهُ فَهَذِهِ تُهْمَةٌ تُوجِبُ رَدَّ شَهَادَتِهِ لَهُ , وَأَمَّا الصَّدِيقُ الْمُلَاطِفُ الَّذِي يَنَالُهُ مَعْرُوفُ مَنْ يَشْهَدُ لَهُ فَعَنْ مَالِكٍ فِي ذَلِكَ رِوَايَتَانِ إحْدَاهُمَا أَنَّ شَهَادَتَهُ لَهُ مَقْبُولَةٌ وَالثَّانِيَةُ أَنَّهَا مَرْدُودَةٌ فَإِنْ قُلْنَا إنَّهَا مَقْبُولَةٌ فَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْأَخِ أَنَّ الْمَعْرُوفَ يَقْتَرِنُ بِالْأُخُوَّةِ وَالْقَرَابَةِ فَتَقْوَى التُّهْمَةُ , وَفِي مَسْأَلَتِنَا إنَّمَا هِيَ مُجَرَّدُ الْمَعْرُوفِ وَلَا يَمْنَعُ ذَلِكَ قَبُولَ الشَّهَادَةِ ; لِأَنَّ الْغَنِيَّ وَذَا الْمَعْرُوفِ لَوْ لَمْ تُقْبَلْ لَهُ إِلَّا شَهَادَةُ مَنْ لَا يَنَالُهُ مَعْرُوفُهُ لَرُدَّتْ لَهُ شَهَادَاتُ أَكْثَرِ النَّاسِ وَلَاقْتَضَى ذَلِكَ مَنْعَهُ مَعْرُوفَهُ , وَوَجْهُ الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ أَنَّ هَذَا مِمَّنْ يَنَالُهُ مَعْرُوفُهُ وَيَتَكَرَّمُ عَلَيْهِ فَلَمْ يُقْبَلْ لَهُ شَهَادَةٌ كَالْأَخِ.
( مَسْأَلَةٌ ) وَأَمَّا الْمَعْرُوفُ الْمُعَيَّنُ فَعَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا أَنْ يَكُونَ مُسْتَدَامًا وَالثَّانِي أَنْ يَخْتَصَّ بِوَقْتِ الشَّهَادَةِ , فَأَمَّا الْمُسْتَدَامُ فَكَشَهَادَةِ الْعَامِلِ لِرَبِّ الْمَالِ قَالَ سَحْنُونٌ فِي الْعُتْبِيَّةِ وَغَيْرِهَا إِنْ كَانَ شَغَلَ الْمَالَ فِي سِلَعٍ فَشَهَادَتُهُ لَهُ مَقْبُولَةٌ , وَإِنْ كَانَ عَيْنًا فَشَهَادَتُهُ مَرْدُودَةٌ , وَرَوَى عَبْدُ الْمَلِكِ عَنْ الْحَسَنِ عَنْ ابْنِ وَهْبٍ فِي الْعُتْبِيَّةِ إِنْ كَانَ عَيْنًا فَشَهَادَتُهُ مَقْبُولَةٌ , وَإِنْ كَانَ مَعْدُومًا فَشَهَادَتُهُ مَرْدُودَةٌ , وَوَجْهُ قَوْلِ سَحْنُونٍ أَنَّهُ إِذَا شَغَلَ الْمَالَ لَمْ يَكُنْ لِصَاحِبِهِ أَخَذُهُ فَارْتَفَعَتْ التُّهْمَةُ وَمَا يُتَوَقَّعُ مِنْ أَخْذِهِ مِنْ يَدِهِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ ضَعِيفٌ فِي التُّهْمَةِ لِبُعْدِ الْأَمَدِ وَعَدَمِهِ , وَوَجْهُ قَوْلِ ابْنِ وَهْبٍ أَنَّ كَوْنَ الْمَالِ بِيَدِ الْعَامِلِ وَجْهٌ لِكَسْبِهِ فَيُتَّهَمُ فِي شَهَادَتِهِ إِنْ كَانَ مُحْتَاجًا إِلَى بَقَائِهِ بِيَدِهِ لِفَقْدِهِ وَبُعْدِ التُّهْمَةِ مَعَ غِنَاهُ لِاسْتِغْنَائِهِ عَنْ مَالِهِ.
( مَسْأَلَةٌ ) فَإِنْ كَانَ لِلْمَشْهُودِ لَهُ عَلَى الشَّاهِدِ دَيْنٌ فَقَدْ قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ وَأَشْهَبُ وَمُطَرِّفٌ وَابْنُ الْمَاجِشُونِ إِنْ كَانَ غَنِيًّا قُبِلَتْ شَهَادَتُهُ , وَإِنْ كَانَ فَقِيرًا رُدَّتْ شَهَادَتُهُ زَادَ مُطَرِّفٌ وَابْنُ الْمَاجِشُونِ لِأَنَّهُ كَالْأَسِيرِ فِي يَدِهِ فَإِنْ كَانَ الدَّيْنُ حَالًّا أَوْ قَدْ قَرُبَ مَحِلُّهُ فَهَذَا حُكْمُهُ , وَإِنْ كَانَ إِلَى أَجَلٍ بَعِيدٍ فَيَجِيءُ عَلَى مَذْهَبِ سَحْنُونٍ أَنَّ شَهَادَتَهُ لَهُ جَائِزَةٌ وَعَلَى قَوْلِ ابْنِ وَهْبٍ أَنَّ شَهَادَتَهُ مَرْدُودَةٌ قَالَ الْقَاضِي أَبُو الْوَلِيدِ رَضَىِ اللَّهُ عَنْهُوَمَعْنَى الْغَنِيِّ عِنْدِي فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنْ لَا يَسْتَضِرَّ بِإِزَالَةِ هَذَا الْمَالِ عَنْهُ , فَأَمَّا إِنْ كَانَ عِنْدَهُ وَفَاءٌ بِهِ وَلَا مَالَ لَهُ غَيْرُهُ فَإِنَّهُ فَقِيرٌ تُرَدُّ شَهَادَتُهُ ; لِأَنَّ الضَّرَرَ الْعَظِيمَ يَلْحَقُهُ بِتَعْجِيلِ قَبْضِ الدَّيْنِ مِنْهُ وَلَهُ مَنْفَعَةٌ عَظِيمَةٌ فِي تَأْخِيرِهِ بِهِ فَكَانَ ذَلِكَ يُشْبِهُ قُوَّتَهُ فِي رَدِّ شَهَادَتِهِ.
.
( فَصْلٌ ) وَأَمَّا مَا يَخْتَصُّ بِوَقْتِ الشَّهَادَةِ فَأَنْ يَقْصِدَ حِينَ أَدَاءِ الشَّهَادَةِ إِلَى أَنْ يُعْطِيَهُ أَوْ يَصِلَهُ أَوْ يَهَبَهُ أَوْ يُحَابِيَهُ فِي بَيْعٍ أَوْ شِرَاءٍ قَالَ هَذَا كُلُّهُ يُوجِبُ رَدَّ الشَّهَادَةِ لِلْقَرِيبِ وَالْبَعِيدِ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ.
.
( فَصْلٌ ) وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي مِنْ التُّهْمَةِ لِدَفْعِ الْمَعَرَّةِ فَمِثْلُ أَنْ يُعَدِّلَ الرَّجُلُ ابْنَهُ أَوْ أَبَاهُ فَهَذَا إِذَا لَمْ يَكُنْ فِي نَقْلِ الشَّهَادَةِ فَلَا خِلَافَ أَنَّ التَّعْدِيلَ غَيْرُ مَقْبُولٍ ; لِأَنَّهُ مُسْتَجْلِبٌ بِشَهَادَتِهِ الْجَاهَ وَالرِّفْعَةَ , وَأَمَّا إِنْ كَانَ فِي نَقْلِ شَهَادَةٍ فَقَدْ قَالَ ابْنُ الْمَاجِشُونِ فِي الْوَاضِحَةِ وَالْمَجْمُوعَةِ إِنْ كَانَ مَقْصُودُهُ نَقْلَ شَهَادَةٍ , وَلَوْ ابْتَغَى تَعْدِيلَهُ مِنْ غَيْرِ هَذَا النَّاقِلِ لَوَجَدَ ذَلِكَ فَإِنَّ التَّعْدِيلَ مَقْبُولٌ , وَإِنْ كَانَ يَتَعَذَّرُ مِنْ غَيْرِ هَذَا الْوَجْهِ فَالتَّعْدِيلُ مَرْدُودٌ , وَقَالَ سَحْنُونٌ وَمُطَرِّفٌ لَا يَجُوزُ تَعْدِيلُهُ لَهُ بِوَجْهٍ.
وَجْهُ قَوْلِ ابْنِ الْمَاجِشُونِ أَنَّ هَذَا التَّعْدِيلَ إنَّمَا حَقِيقَتُهُ الْإِعْلَامُ بِخَبَرِهِ فَإِذَا كَانَ مَشْهُورًا بِالصَّلَاحِ وَالْخَيْرِ يُزَكَّى مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ فَلَا تُهْمَةَ تَلْحَقُ فِي ذَلِكَ , وَوَجْهُ قَوْلِ سَحْنُونٍ أَنَّ تَعْدِيلَ الْأَبِ ابْنَهُ لَا يَجُوزُ ; لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَشْهَدَ لَهُ بِيَسِيرِ الْمَالِ وَمَا يُوجَدُ تَعَدِّيهِ مِنْ الْجَاهِ وَالرِّفْعَةِ أَكْثَرُ مِنْ الْمَالِ فَبِأَنْ لَا تَجُوزَ شَهَادَتُهُ لَهُ بِهِ فَشَهَادَتُهُ لَهُ أَوْلَى.
( مَسْأَلَةٌ ) وَأَمَّا تَعْدِيلُ الْأَخِ لِأَخِيهِ الَّذِي تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ لَهُ فِي الْمَالِ فَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ يَجُوزُ تَعْدِيلُهُ وَهُوَ فِي الْعُتْبِيَّةِ مِنْ رِوَايَةِ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ الْحَسَنِ عَنْ أَشْهَبَ تَعْدِيلُهُ مَرْدُودٌ.
وَجْهُ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ مَا أَشَارَ إِلَيْهِ مِنْ أَنَّ مَنْ جَازَتْ شَهَادَتُهُ لَهُ فِي الْمَالِ جَازَ تَعْدِيلُهُ لَهُ كَالْأَجْنَبِيِّ.
وَجْهُ الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ أَنَّ تَعْدِيلَهُ بِهِ شَرَفٌ وَجَاهٌ يَتَعَدَّى إِلَيْهِ بِخِلَافِ الْمَالِ الَّذِي هُوَ مَقْصُورٌ عَلَى مَالِكِهِ.
و حَدَّثَنِي مَالِك عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّهُ قَالَ قَدِمَ عَلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ فَقَالَ لَقَدْ جِئْتُكَ لِأَمْرٍ مَا لَهُ رَأْسٌ وَلَا ذَنَبٌ فَقَالَ عُمَرُ مَا هُوَ قَالَ شَهَادَاتُ الزُّورِ ظَهَرَتْ بِأَرْضِنَا فَقَالَ عُمَرُ أَوَ قَدْ كَانَ ذَلِكَ قَالَ نَعَمْ فَقَالَ عُمَرُ وَاللَّهِ لَا يُؤْسَرُ رَجُلٌ فِي الْإِسْلَامِ بِغَيْرِ الْعُدُولِ و حَدَّثَنِي مَالِك أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَالَ لَا تَجُوزُ شَهَادَةُ خَصْمٍ وَلَا ظَنِينٍ
عن سليمان بن يسار وغيره، أنهم سئلوا: عن رجل جلد الحد أتجوز شهادته؟ فقالوا: نعم، «إذا ظهرت منه التوبة»(1) 2109- وحدثني مالك، أنه سمع ابن شهاب يسأل عن ذ...
عن جعفر بن محمد، عن أبيه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قضى باليمين مع الشاهد»
عن أبي الزناد، أن عمر بن عبد العزيز كتب إلى عبد الحميد بن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب - وهو عامل على الكوفة، أن: «اقض باليمين مع الشاهد»
عن جميل بن عبد الرحمن المؤذن، أنه كان يحضر عمر بن عبد العزيز وهو " يقضي بين الناس، فإذا جاءه الرجل يدعي على الرجل حقا: نظر، فإن كانت بينهما مخالطة أو...
عن هشام بن عروة، أن عبد الله بن الزبير كان «يقضي بشهادة الصبيان فيما بينهم من الجراح»
عن جابر بن عبد الله الأنصاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من حلف على منبري آثما تبوأ مقعده من النار»
عن أبي أمامة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من اقتطع حق امرئ مسلم بيمينه، حرم الله عليه الجنة، وأوجب له النار»، قالوا: وإن كان شيئا يسيرا يا رس...
عن داود بن الحصين أنه سمع أبا غطفان بن طريف المري، يقول: اختصم زيد بن ثابت الأنصاري وابن مطيع في دار كانت بينهما.<br> إلى مروان بن الحكم.<br> وهو أمير...
عن سعيد بن المسيب، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا يغلق الرهن»(1) 2133- قال مالك: " وتفسير ذلك فيما نرى، والله أعلم، أن يرهن الرجل الرهن عند...