حديث الرسول ﷺ English الإجازة تواصل معنا
الحديث النبوي

الإيمان حين تخالط بشاشته القلوب لا يسخطه أحد - صحيح البخاري

صحيح البخاري | كتاب الإيمان باب سؤال جبريل النبي صلى الله عليه وسلم عن الإيمان، والإسلام، والإحسان، وعلم الساعة (حديث رقم: 51 )


51- عن أبي سفيان بن حرب، " أن هرقل، قال له: سألتك هل يزيدون أم ينقصون؟ فزعمت أنهم يزيدون، وكذلك الإيمان حتى يتم، وسألتك هل يرتد أحد سخطة لدينه بعد أن يدخل فيه؟ فزعمت أن لا، وكذلك الإيمان، حين تخالط بشاشته القلوب لا يسخطه أحد "

أخرجه البخاري

شرح حديث (الإيمان حين تخالط بشاشته القلوب لا يسخطه أحد )

فتح الباري شرح صحيح البخاري: ابن حجر العسقلاني - أحمد بن علي بن حجر العسقلاني

‏ ‏قَوْله : ( حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيل بْن إِبْرَاهِيم ) ‏ ‏هُوَ الْبَصْرِيّ الْمَعْرُوف بِابْنِ عُلَيَّة , قَالَ أَخْبَرَنَا أَبُو حَيَّان التَّمِيمِيّ.
وَأَوْرَدَهُ الْمُصَنِّف فِي تَفْسِير سُورَة لُقْمَان مِنْ حَدِيث جَرِير بْن عَبْد الْحَمِيد عَنْ أَبِي حَيَّان الْمَذْكُور.
وَرَوَاهُ مُسْلِم مِنْ وَجْه آخَر عَنْ جَرِير أَيْضًا عَنْ عُمَارَة بْن الْقَعْقَاع.
وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيث جَرِير أَيْضًا عَنْ أَبِي فَرْوَة ثَلَاثَتهمْ عَنْ أَبِي زُرْعَة عَنْ أَبِي هُرَيْرَة.
زَادَ أَبُو فَرْوَة : وَعَنْ أَبِي ذَرّ أَيْضًا , وَسَاقَ حَدِيثه عَنْهُمَا جَمِيعًا.
وَفِيهِ فَوَائِد زَوَائِد سَنُشِيرُ إِلَيْهَا إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى.
وَلَمْ أَرَ هَذَا الْحَدِيث مِنْ رِوَايَة أَبِي هُرَيْرَة إِلَّا عَنْ أَبِي زُرْعَة بْن عَمْرو بْن جَرِير هَذَا عَنْهُ , وَلَمْ يُخَرِّجهُ الْبُخَارِيّ إِلَّا مِنْ طَرِيق أَبِي حَيَّان عَنْهُ , وَقَدْ أَخْرَجَهُ مُسْلِم مِنْ حَدِيث عُمَر بْن الْخَطَّاب , وَفِي سِيَاقه فَوَائِد زَوَائِد أَيْضًا.
وَإِنَّمَا لَمْ يُخَرِّجهُ الْبُخَارِيّ لِاخْتِلَافٍ فِيهِ عَلَى بَعْض رُوَاته , فَمَشْهُوره رِوَايَة كَهْمَسٍ - بِسِينٍ مُهْمَلَة قَبْلهَا مِيم مَفْتُوحَة - بْن الْحَسَن عَنْ عَبْد اللَّه بْن بُرَيْدَةَ عَنْ يَحْيَى بْنِ يَعْمَر - بِفَتْحِ الْمِيم أَوَّله يَاء تَحْتَانِيَّة مَفْتُوحَة - عَنْ عَبْد اللَّه بْن عُمَر عَنْ أَبِيهِ عُمَر بْن الْخَطَّاب , رَوَاهُ عَنْ كَهْمَس جَمَاعَة مِنْ الْحُفَّاظ , وَتَابَعَهُ مَطَر الْوَرَّاق عَنْ عَبْد اللَّه بْن بُرَيْدَةَ , وَتَابَعَهُ سُلَيْمَان التَّيْمِيُّ عَنْ يَحْيَى بْن يَعْمَر , وَكَذَا رَوَاهُ عُثْمَان بْن غِيَاث عَنْ عَبْد اللَّه بْن بُرَيْدَةَ لَكِنَّهُ قَالَ : عَنْ يَحْيَى بْن يَعْمَر وَحُمَيْدِ بْن عَبْد الرَّحْمَن مَعًا عَنْ اِبْن عُمَر عَنْ عُمَر , زَادَ فِيهِ حُمَيْدًا , وَحُمَيْدٌ لَهُ فِي الرِّوَايَة الْمَشْهُورَة ذِكْر لَا رِوَايَة.
وَأَخْرَجَ مُسْلِم هَذِهِ الطُّرُق وَلَمْ يَسُقْ مِنْهَا إِلَّا مَتْن الطَّرِيق الْأُولَى وَأَحَالَ الْبَاقِي عَلَيْهَا , وَبَيْنهَا اِخْتِلَاف كَثِير سَنُشِيرُ إِلَى بَعْضه , فَأَمَّا رِوَايَة مَطَر فَأَخْرَجَهَا أَبُو عَوَانَة فِي صَحِيحه وَغَيْره , وَأَمَّا رِوَايَة سُلَيْمَان التَّيْمِيِّ فَأَخْرَجَهَا اِبْن خُزَيْمَةَ فِي صَحِيحه وَغَيْره , وَأَمَّا رِوَايَة عُثْمَان بْن غِيَاث فَأَخْرَجَهَا أَحْمَد فِي مُسْنَده.
وَقَدْ خَالَفَهُمْ سُلَيْمَان بْن بُرَيْدَةَ أَخُو عَبْد اللَّه فَرَوَاهُ عَنْ يَحْيَى بْن يَعْمَر عَنْ عَبْد اللَّه بْن عُمَر قَالَ : بَيْنَمَا نَحْنُ عِنْد النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَجَعَلَهُ مِنْ مُسْنَد بْن عُمَر لَا مِنْ رِوَايَته عَنْ أَبِيهِ.
أَخْرَجَهُ أَحْمَد أَيْضًا.
وَكَذَا رَوَاهُ أَبُو نُعَيْمٍ فِي الْحِلْيَة مِنْ طَرِيق عَطَاء الْخُرَاسَانِيّ عَنْ يَحْيَى بْن يَعْمَر , وَكَذَا رُوِيَ مِنْ طَرِيق عَطَاء بْن أَبِي رَبَاح عَنْ عَبْد اللَّه بْن عُمَر أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ.
وَفِي الْبَاب عَنْ أَنَس أَخْرَجَهُ الْبَزَّار وَالْبُخَارِيّ فِي خَلْق أَفْعَال الْعِبَاد وَإِسْنَاده حَسَن.
وَعَنْ جَرِير الْبَجَلِيّ أَخْرَجَهُ أَبُو عَوَانَة فِي صَحِيحه وَفِي إِسْنَاده خَالِد بْن يَزِيد وَهُوَ الْعُمَرِيّ وَلَا يَصْلُح لِلصَّحِيحِ , وَعَنْ اِبْن عَبَّاس وَأَبِي عَامِر الْأَشْعَرِيّ أَخْرَجَهُمَا أَحْمَد وَإِسْنَادهمَا حَسَن.
وَفِي كُلّ مِنْ هَذِهِ الطُّرُق فَوَائِد سَنَذْكُرُهَا إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى فِي أَثْنَاء الْكَلَام عَلَى حَدِيث الْبَاب.
وَإِنَّمَا جَمَعْت طُرُقهَا هُنَا وَعَزَوْتهَا إِلَى مُخَرِّجِيهَا لِتَسْهِيلِ الْحَوَالَة عَلَيْهَا فِرَارًا مِنْ التَّكْرَار الْمُبَايِن لِطَرِيقِ الِاخْتِصَار.
وَاَللَّه الْمُوَفِّق.
‏ ‏قَوْله : ( كَانَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَارِزًا يَوْمًا لِلنَّاسِ ) ‏ ‏أَيْ : ظَاهِرًا لَهُمْ غَيْر مُحْتَجِب عَنْهُمْ وَلَا مُلْتَبِس بِغَيْرِهِ , وَالْبُرُوز الظُّهُور.
وَقَدْ وَقَعَ فِي رِوَايَة أَبِي فَرْوَة الَّتِي أَشَرْنَا إِلَيْهَا بَيَان ذَلِكَ , فَإِنَّ أَوَّله : كَانَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَجْلِس بَيْن أَصْحَابه فَيَجِيء الْغَرِيب فَلَا يَدْرِي أَيّهمْ هُوَ , فَطَلَبْنَا إِلَيْهِ أَنْ نَجْعَل لَهُ مَجْلِسًا يَعْرِفهُ الْغَرِيب إِذَا أَتَاهُ , قَالَ : فَبَنَيْنَا لَهُ دُكَّانًا مِنْ طِين كَانَ يَجْلِس عَلَيْهِ.
اِنْتَهَى.
وَاسْتَنْبَطَ مِنْهُ الْقُرْطُبِيّ اِسْتِحْبَاب جُلُوس الْعَالِم بِمَكَانٍ يَخْتَصّ بِهِ وَيَكُون مُرْتَفِعًا إِذَا اِحْتَاجَ لِذَلِكَ لِضَرُورَةِ تَعْلِيم وَنَحْوه.
‏ ‏قَوْله : ( فَأَتَاهُ رَجُل ) أَيْ : مَلَك فِي صُورَة رَجُل , وَفِي التَّفْسِير لِلْمُصَنِّفِ : إِذْ أَتَاهُ رَجُل يَمْشِي , وَلِأَبِي فَرْوَة : فَإِنَّا لَجُلُوسٌ عِنْده إِذْ أَقْبَلَ رَجُل أَحْسَن النَّاس وَجْهًا وَأَطْيَب النَّاس رِيحًا كَأَنَّ ثِيَابه لَمْ يَمَسّهَا دَنَس.
وَلِمُسْلِمٍ مِنْ طَرِيق كَهْمَس فِي حَدِيث عُمَر : بَيْنَمَا نَحْنُ ذَات يَوْم عِنْد رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ طَلَعَ عَلَيْنَا رَجُل شَدِيد بَيَاض الثِّيَاب شَدِيد سَوَاد الشَّعْر.
وَفِي رِوَايَة اِبْن حِبَّان سَوَاد اللِّحْيَة , لَا يُرَى عَلَيْهِ أَثَر السَّفَر وَلَا يَعْرِفهُ مِنَّا أَحَد , حَتَّى جَلَسَ إِلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَسْنَدَ رُكْبَتَيْهِ إِلَى رُكْبَتَيْهِ وَوَضَعَ كَفَّيْهِ عَلَى فَخِذَيْهِ.
وَفِي رِوَايَة لِسُلَيْمَان التَّيْمِيِّ : لَيْسَ عَلَيْهِ سَحْنَاء السَّفَر , وَلَيْسَ مِنْ الْبَلَد , فَتَخَطَّى حَتَّى بَرَكَ بَيْن يَدَيْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا يَجْلِس أَحَدنَا فِي الصَّلَاة , ثُمَّ وَضَعَ يَده عَلَى رُكْبَتَيْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , وَكَذَا فِي حَدِيث اِبْن عَبَّاس وَأَبِي عَامِر الْأَشْعَرِيّ : ثُمَّ وَضَعَ يَده عَلَى رُكْبَتَيْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فَأَفَادَتْ هَذِهِ الرِّوَايَة أَنَّ الضَّمِير فِي قَوْله عَلَى فَخِذَيْهِ يَعُود عَلَى النَّبِيّ , وَبِهِ جَزَمَ الْبَغَوِيُّ وَإِسْمَاعِيل التَّيْمِيُّ لِهَذِهِ الرِّوَايَة وَرَجَّحَهُ الطِّيبِيّ بَحْثًا لِأَنَّهُ نَسَق الْكَلَام خِلَافًا لِمَا جَزَمَ بِهِ النَّوَوِيّ , وَوَافَقَهُ التُّورْبَشْتِيُّ لِأَنَّهُ حَمَلَهُ عَلَى أَنَّهُ جَلَسَ كَهَيْئَةِ الْمُتَعَلِّم بَيْن يَدَيْ مَنْ يَتَعَلَّم مِنْهُ , وَهَذَا وَإِنْ كَانَ ظَاهِرًا مِنْ السِّيَاق لَكِنْ وَضْعه يَدَيْهِ عَلَى فَخِذ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَنِيع مُنَبِّه لِلْإِصْغَاءِ إِلَيْهِ , وَفِيهِ إِشَارَة لِمَا يَنْبَغِي لِلْمَسْئُولِ مِنْ التَّوَاضُع وَالصَّفْح عَمَّا يَبْدُو مِنْ جَفَاء السَّائِل.
وَالظَّاهِر أَنَّهُ أَرَادَ بِذَلِكَ الْمُبَالَغَة فِي تَعْمِيَة أَمْره لِيُقَوِّيَ الظَّنّ بِأَنَّهُ مِنْ جُفَاة الْأَعْرَاب , وَلِهَذَا تَخَطَّى النَّاس حَتَّى اِنْتَهَى إِلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا تَقَدَّمَ.
وَلِهَذَا اِسْتَغْرَبَ الصَّحَابَة صَنِيعه ; وَلِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْل الْبَلَد وَجَاءَ مَاشِيًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَثَر سَفَر.
فَإِنْ قِيلَ : كَيْف عَرَفَ عُمَر أَنَّهُ لَمْ يَعْرِفهُ أَحَد مِنْهُمْ ؟ أُجِيبَ بِأَنَّهُ يَحْتَمِل أَنْ يَكُون اِسْتَنَدَ فِي ذَلِكَ إِلَى ظَنّه , أَوْ إِلَى صَرِيح قَوْل الْحَاضِرِينَ.
قُلْت : وَهَذَا الثَّانِي أَوْلَى , فَقَدْ جَاءَ كَذَلِكَ فِي رِوَايَة عُثْمَان بْن غِيَاث فَإِنَّ فِيهَا : فَنَظَرَ الْقَوْم بَعْضهمْ إِلَى بَعْض فَقَالُوا : مَا نَعْرِف هَذَا.
وَأَفَادَ مُسْلِم فِي رِوَايَة عُمَارَة بْن الْقَعْقَاع سَبَب وُرُود هَذَا الْحَدِيث , فَعِنْده فِي أَوَّله : قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : سَلُونِي , فَهَابُوا أَنْ يَسْأَلُوهُ , قَالَ فَجَاءَ رَجُل.
وَوَقَعَ فِي رِوَايَة اِبْن مَنْدَهْ مِنْ طَرِيق يَزِيد بْن زُرَيْع عَنْ كَهْمَس : بَيْنَا رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْطُب إِذْ جَاءَهُ رَجُل - فَكَأَنَّ أَمْره لَهُمْ بِسُؤَالِهِ وَقَعَ فِي خُطْبَته - وَظَاهِره أَنَّ مَجِيء الرَّجُل كَانَ فِي حَال الْخُطْبَة , فَإِمَّا أَنْ يَكُون وَافَقَ اِنْقِضَاءَهَا أَوْ كَانَ ذَكَرَ ذَلِكَ الْقَدْر جَالِسًا وَعَبَّرَ عَنْهُ الرَّاوِي بِالْخُطْبَةِ.
‏ ‏قَوْله : ( فَقَالَ ) ‏ ‏زَادَ الْمُصَنِّف فِي التَّفْسِير : يَا رَسُول اللَّه مَا الْإِيمَان ؟ فَإِنْ قِيلَ : فَكَيْف بَدَأَ بِالسُّؤَالِ قَبْل السَّلَام ؟ أُجِيبَ بِأَنَّهُ يَحْتَمِل أَنْ يَكُون ذَلِكَ مُبَالَغَة فِي التَّعْمِيَة لِأَمْرِهِ , أَوْ لِيُبَيِّنَ أَنَّ ذَلِكَ غَيْر وَاجِب , أَوْ سَلَّمَ فَلَمْ يَنْقُلهُ الرَّاوِي.
قُلْت : وَهَذَا الثَّالِث هُوَ الْمُعْتَمَد , فَقَدْ ثَبَتَ فِي رِوَايَة أَبِي فَرْوَة , فَفِيهَا بَعْد قَوْله كَأَنَّ ثِيَابه لَمْ يَمَسّهَا دَنَس حَتَّى سَلَّمَ مِنْ طَرَف الْبِسَاط فَقَالَ : السَّلَام عَلَيْك يَا مُحَمَّد , فَرَدَّ عَلَيْهِ السَّلَام.
قَالَ : أَدْنُو يَا مُحَمَّد ؟ قَالَ : ادْنُ.
فَمَا زَالَ يَقُول أَدْنُو مِرَارًا وَيَقُول لَهُ ادْنُ.
وَنَحْوه فِي رِوَايَة عَطَاء عَنْ اِبْن عُمَر , لَكِنْ قَالَ : السَّلَام عَلَيْك يَا رَسُول اللَّه.
وَفِي رِوَايَة مَطَر الْوَرَّاق فَقَالَ : يَا رَسُول اللَّه أَدْنُو مِنْك ؟ قَالَ ادْنُ.
وَلَمْ يَذْكُر السَّلَام.
فَاخْتَلَفَتْ الرِّوَايَات , هَلْ قَالَ لَهُ يَا مُحَمَّد أَوْ يَا رَسُول اللَّه ؟ هَلْ سَلَّمَ أَوْ لَا ؟.
فَأَمَّا السَّلَام فَمَنْ ذَكَرَهُ مُقَدَّم عَلَى مَنْ سَكَتَ عَنْهُ.
وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ بِنَاء عَلَى أَنَّهُ لَمْ يُسَلِّم وَقَالَ يَا مُحَمَّد : إِنَّهُ أَرَادَ بِذَلِكَ التَّعْمِيَة فَصَنَعَ صَنِيع الْأَعْرَاب.
قُلْت : وَيُجْمَع بَيْن الرِّوَايَتَيْنِ بِأَنَّهُ بَدَأَ أَوَّلًا بِنِدَائِهِ بِاسْمِهِ لِهَذَا الْمَعْنَى , ثُمَّ خَاطَبَهُ بِقَوْلِهِ يَا رَسُول اللَّه.
وَوَقَعَ عِنْد الْقُرْطُبِيّ أَنَّهُ قَالَ : السَّلَام عَلَيْكُمْ يَا مُحَمَّد , فَاسْتَنْبَطَ مِنْهُ أَنَّهُ يُسْتَحَبّ لِلدَّاخِلِ أَنْ يُعَمِّم بِالسَّلَامِ ثُمَّ يُخَصِّص مَنْ يُرِيد تَخْصِيصه.
اِنْتَهَى.
وَاَلَّذِي وَقَفْت عَلَيْهِ مِنْ الرِّوَايَات إِنَّمَا فِيهِ الْإِفْرَاد وَهُوَ قَوْله : السَّلَام عَلَيْك يَا مُحَمَّد.
‏ ‏قَوْله : ( مَا الْإِيمَان ) ‏ ‏قِيلَ قَدَّمَ السُّؤَال عَنْ الْإِيمَان لِأَنَّهُ الْأَصْل , وَثَنَّى بِالْإِسْلَامِ لِأَنَّهُ يُظْهِر مِصْدَاق الدَّعْوَى , وَثَلَّثَ بِالْإِحْسَانِ لِأَنَّهُ مُتَعَلِّق بِهِمَا.
وَفِي رِوَايَة عُمَارَة بْن الْقَعْقَاع : بَدَأَ بِالْإِسْلَامِ لِأَنَّهُ بِالْأَمْرِ الظَّاهِر وَثَنَّى بِالْإِيمَانِ لِأَنَّهُ بِالْأَمْرِ الْبَاطِن.
وَرَجَّحَ هَذَا الطِّيبِيّ لِمَا فِيهِ مِنْ التَّرَقِّي.
وَلَا شَكَّ أَنَّ الْقِصَّة وَاحِدَة اِخْتَلَفَ الرُّوَاة فِي تَأْدِيَتهَا , وَلَيْسَ فِي السِّيَاق تَرْتِيب , وَيَدُلّ عَلَيْهِ رِوَايَة مَطَر الْوَرَّاق فَإِنَّهُ بَدَأَ بِالْإِسْلَامِ وَثَنَّى بِالْإِحْسَانِ وَثَلَّثَ بِالْإِيمَانِ , فَالْحَقّ أَنَّ الْوَاقِع أَمْر وَاحِد , وَالتَّقْدِيم وَالتَّأْخِير وَقَعَ مِنْ الرُّوَاة.
وَاَللَّه أَعْلَم.
‏ ‏قَوْله : ( قَالَ : الْإِيمَان أَنْ تُؤْمِن بِاللَّهِ إِلَخْ ) ‏ ‏دَلَّ الْجَوَاب أَنَّهُ عَلِمَ أَنَّهُ سَأَلَهُ عَنْ مُتَعَلِّقَاته لَا عَنْ مَعْنَى لَفْظه , وَإِلَّا لَكَانَ الْجَوَاب : الْإِيمَان التَّصْدِيق.
وَقَالَ الطِّيبِيّ : هَذَا يُوهِم التَّكْرَار , وَلَيْسَ كَذَلِكَ , فَإِنَّ قَوْله أَنْ تُؤْمِن بِاَللَّهِ مُضَمَّن مَعْنَى أَنْ تَعْتَرِف بِهِ , وَلِهَذَا عَدَّاهُ بِالْبَاءِ , أَيْ : أَنْ تُصَدِّق مُعْتَرِفًا بِكَذَا.
قُلْت : وَالتَّصْدِيق أَيْضًا يُعَدَّى بِالْبَاءِ فَلَا يَحْتَاج إِلَى دَعْوَى التَّضْمِين.
وَقَالَ الْكَرْمَانِيُّ : لَيْسَ هُوَ تَعْرِيفًا لِلشَّيْءِ بِنَفْسِهِ , بَلْ الْمُرَاد مِنْ الْمَحْدُود الْإِيمَان الشَّرْعِيّ , وَمِنْ الْحَدّ الْإِيمَان اللُّغَوِيّ قُلْت : وَاَلَّذِي يَظْهَر أَنَّهُ إِنَّمَا أَعَادَ لَفْظ الْإِيمَان لِلِاعْتِنَاءِ بِشَأْنِهِ تَفْخِيمًا لِأَمْرِهِ , وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى ( قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّل مَرَّة ) فِي جَوَاب ( مَنْ يُحْيِي الْعِظَام وَهِيَ رَمِيم ) , يَعْنِي أَنَّ قَوْله أَنْ تُؤْمِن يَنْحَلّ مِنْهُ الْإِيمَان فَكَأَنَّهُ قَالَ : الْإِيمَان الشَّرْعِيّ تَصْدِيق مَخْصُوص , وَإِلَّا لَكَانَ الْجَوَاب : الْإِيمَان التَّصْدِيق , وَالْإِيمَان بِاَللَّهِ هُوَ التَّصْدِيق بِوُجُودِهِ وَأَنَّهُ مُتَّصِف بِصِفَاتِ الْكَمَال مُنَزَّه عَنْ صِفَات النَّقْص.
‏ ‏قَوْله : ( وَمَلَائِكَته ) ‏ ‏الْإِيمَان بِالْمَلَائِكَةِ هُوَ التَّصْدِيق بِوُجُودِهِمْ وَأَنَّهُمْ كَمَا وَصَفَهُمْ اللَّه تَعَالَى ( عِبَاد مُكْرَمُونَ ) وَقَدَّمَ الْمَلَائِكَة عَلَى الْكُتُب وَالرُّسُل نَظَرًا لِلتَّرْتِيبِ الْوَاقِع ; لِأَنَّهُ سُبْحَانه وَتَعَالَى أَرْسَلَ الْمَلَك بِالْكِتَابِ إِلَى الرَّسُول وَلَيْسَ فِيهِ مُتَمَسَّك لِمَنْ فَضَّلَ الْمَلَك عَلَى الرَّسُول.
‏ ‏قَوْله : ( وَكُتُبه ) ‏ ‏هَذِهِ عِنْد الْأَصِيلِيّ هُنَا , وَاتَّفَقَ الرُّوَاة عَلَى ذِكْرهَا فِي التَّفْسِير , وَالْإِيمَان بِكُتُبِ اللَّه التَّصْدِيق بِأَنَّهَا كَلَام اللَّه وَأَنَّ مَا تَضَمَّنَتْهُ حَقّ.
‏ ‏قَوْله : ( وَبِلِقَائِهِ ) ‏ ‏كَذَا وَقَعَتْ هُنَا بَيْن الْكُتُب وَالرُّسُل , وَكَذَا لِمُسْلِمٍ مِنْ الطَّرِيقَيْنِ , وَلَمْ تَقَع فِي بَقِيَّة الرِّوَايَات , وَقَدْ قِيلَ إِنَّهَا مُكَرَّرَة لِأَنَّهَا دَاخِلَة فِي الْإِيمَان بِالْبَعْثِ , وَالْحَقّ أَنَّهَا غَيْر مُكَرَّرَة , فَقِيلَ الْمُرَاد بِالْبَعْثِ الْقِيَام مِنْ الْقُبُور , وَالْمُرَاد بِاللِّقَاءِ مَا بَعْد ذَلِكَ , وَقِيلَ اللِّقَاء يَحْصُل بِالِانْتِقَالِ مِنْ دَار الدُّنْيَا , وَالْبَعْث بَعْد ذَلِكَ.
وَيَدُلّ عَلَى هَذَا رِوَايَة مَطَر الْوَرَّاق فَإِنَّ فِيهَا " وَبِالْمَوْتِ وَبِالْبَعْثِ بَعْد الْمَوْت " , وَكَذَا فِي حَدِيث أَنَس وَابْن عَبَّاس , وَقِيلَ الْمُرَاد بِاللِّقَاءِ رُؤْيَة اللَّه , ذَكَرَهُ الْخَطَّابِيُّ.
وَتَعَقَّبَهُ النَّوَوِيّ بِأَنَّ أَحَدًا لَا يَقْطَع لِنَفْسِهِ بِرُؤْيَةِ اللَّه , فَإِنَّهَا مُخْتَصَّة بِمَنْ مَاتَ مُؤْمِنًا , وَالْمَرْء لَا يَدْرِي بِمَ يُخْتَم لَهُ , فَكَيْف يَكُون ذَلِكَ مِنْ شُرُوط الْإِيمَان ؟ وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْمُرَاد الْإِيمَان بِأَنَّ ذَلِكَ حَقّ فِي نَفْس الْأَمْر , وَهَذَا مِنْ الْأَدِلَّة الْقَوِيَّة لِأَهْلِ السُّنَّة فِي إِثْبَات رُؤْيَة اللَّه تَعَالَى فِي الْآخِرَة إِذْ جُعِلَتْ مِنْ قَوَاعِد الْإِيمَان.
‏ ‏قَوْله : ( وَرُسُله ) ‏ ‏وَلِلْأَصِيلِيِّ " وَبِرُسُلِهِ " , وَوَقَعَ فِي حَدِيث أَنَس وَابْن عَبَّاس " وَالْمَلَائِكَة وَالْكِتَاب وَالنَّبِيِّينَ " , وَكُلّ مِنْ السِّيَاقَيْنِ فِي الْقُرْآن فِي الْبَقَرَة , وَالتَّعْبِير بِالنَّبِيِّينَ يَشْمَل الرُّسُل مِنْ غَيْر عَكْس , وَالْإِيمَان بِالرُّسُلِ التَّصْدِيق بِأَنَّهُمْ صَادِقُونَ فِيمَا أَخْبَرُوا بِهِ عَنْ اللَّه , وَدَلَّ الْإِجْمَال فِي الْمَلَائِكَة وَالْكُتُب وَالرُّسُل عَلَى الِاكْتِفَاء بِذَلِكَ فِي الْإِيمَان بِهِمْ مِنْ غَيْر تَفْصِيل , إِلَّا مَنْ ثَبَتَ تَسْمِيَته فَيَجِب الْإِيمَان بِهِ عَلَى التَّعْيِين.
وَهَذَا التَّرْتِيب مُطَابِق لِلْآيَةِ ( آمَنَ الرَّسُول بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبّه ) وَمُنَاسَبَة التَّرْتِيب الْمَذْكُور وَإِنْ كَانَتْ الْوَاو لَا تُرَتِّب بَلْ الْمُرَاد مِنْ التَّقَدُّم أَنَّ الْخَيْر وَالرَّحْمَة مِنْ اللَّه , وَمِنْ أَعْظَم رَحْمَته أَنْ أَنْزَلَ كُتُبه إِلَى عِبَاده , وَالْمُتَلَقِّي لِذَلِكَ مِنْهُمْ الْأَنْبِيَاء , وَالْوَاسِطَة بَيْن اللَّه وَبَيْنهمْ الْمَلَائِكَة.
‏ ‏قَوْل ( وَتُؤْمِن بِالْبَعْثِ ) ‏ ‏زَادَ فِي التَّفْسِير " الْآخِر " وَلِمُسْلِمٍ فِي حَدِيث عُمَر " وَالْيَوْم الْآخِر " فَأَمَّا الْبَعْث الْآخِر فَقِيلَ ذَكَرَ الْآخِر تَأْكِيدًا كَقَوْلِهِمْ أَمْس الذَّاهِب , وَقِيلَ لِأَنَّ الْبَعْث وَقَعَ مَرَّتَيْنِ : الْأُولَى الْإِخْرَاج مِنْ الْعَدَم إِلَى الْوُجُود أَوْ مِنْ بُطُون الْأُمَّهَات بَعْد النُّطْفَة وَالْعَلَقَة إِلَى الْحَيَاة الدُّنْيَا , وَالثَّانِيَة الْبَعْث مِنْ بُطُون الْقُبُور إِلَى مَحَلّ الِاسْتِقْرَار.
وَأَمَّا الْيَوْم الْآخِر فَقِيلَ لَهُ ذَلِكَ لِأَنَّهُ آخِر أَيَّام الدُّنْيَا أَوْ آخِر الْأَزْمِنَة الْمَحْدُودَة , وَالْمُرَاد بِالْإِيمَانِ بِهِ وَالتَّصْدِيق بِمَا يَقَع فِيهِ مِنْ الْحِسَاب وَالْمِيزَان وَالْجَنَّة وَالنَّار.
وَقَدْ وَقَعَ التَّصْرِيح بِذِكْرِ الْأَرْبَعَة بَعْد ذِكْر الْبَعْث فِي رِوَايَة سُلَيْمَان التَّيْمِيِّ وَفِي حَدِيث اِبْن عَبَّاس أَيْضًا.
‏ ‏( فَائِدَة ) : ‏ ‏زَادَ الْإِسْمَاعِيلِيّ فِي مُسْتَخْرَجه هُنَا " وَتُؤْمِن بِالْقَدَرِ " , وَهِيَ فِي رِوَايَة أَبِي فَرْوَة أَيْضًا , وَكَذَا لِمُسْلِمٍ مِنْ رِوَايَة عُمَارَة بْن الْقَعْقَاع , وَأَكَّدَهُ بِقَوْلِهِ " كُلّه " , وَفِي رِوَايَة كَهْمَس وَسُلَيْمَان التَّيْمِيِّ " وَتُؤْمِن بِالْقَدَرِ خَيْره وَشَرّه " وَكَذَا فِي حَدِيث اِبْن عَبَّاس , وَهُوَ فِي رِوَايَة عَطَاء عَنْ اِبْن عُمَر بِزِيَادَةِ " وَحُلْوه وَمُرّه مِنْ اللَّه " , وَكَأَنَّ الْحِكْمَة فِي إِعَادَة لَفْظ " وَتُؤْمِن " عِنْد ذِكْر الْبَعْث الْإِشَارَة إِلَى أَنَّهُ نَوْع آخَر مِمَّا يُؤْمَن بِهِ ; لِأَنَّ الْبَعْث سَيُوجَدُ بَعْد , وَمَا ذُكِرَ قَبْله مَوْجُود الْآن , وَلِلتَّنْوِيهِ بِذِكْرِهِ لِكَثْرَةِ مَنْ كَانَ يُنْكِرهُ مِنْ الْكُفَّار , وَلِهَذَا كَثُرَ تَكْرَاره فِي الْقُرْآن , وَهَكَذَا الْحِكْمَة فِي إِعَادَة لَفْظ " وَتُؤْمِن " عِنْد ذِكْر الْقَدَر كَأَنَّهَا إِشَارَة إِلَى مَا يَقَع فِيهِ مِنْ الِاخْتِلَاف , فَحَصَلَ الِاهْتِمَام بِشَأْنِهِ بِإِعَادَةِ تُؤْمِن , ثُمَّ قَرَّرَهُ بِالْإِبْدَالِ بِقَوْلِهِ " خَيْره وَشَرّه وَحُلْوه وَمُرّه " ثُمَّ زَادَهُ تَأْكِيدًا بِقَوْلِهِ فِي الرِّوَايَة الْأَخِيرَة " مِنْ اللَّه ".
وَالْقَدَر مَصْدَر , تَقُول : قَدَرْت الشَّيْء بِتَخْفِيفِ الدَّالّ وَفَتْحهَا أَقْدِرُهُ بِالْكَسْرِ وَالْفَتْح قَدْرًا وَقَدَرًا , إِذَا أَحَطْت بِمِقْدَارِهِ.
وَالْمُرَاد أَنَّ اللَّه تَعَالَى عَلِمَ مَقَادِير الْأَشْيَاء وَأَزْمَانهَا قَبْل إِيجَادهَا , ثُمَّ أَوْجَدَ مَا سَبَقَ فِي عِلْمه أَنَّهُ يُوجَد , فَكُلّ مُحْدَث صَادِر عَنْ عِلْمه وَقُدْرَته وَإِرَادَته , هَذَا هُوَ الْمَعْلُوم مِنْ الدِّين بِالْبَرَاهِينِ الْقَطْعِيَّة , وَعَلَيْهِ كَانَ السَّلَف مِنْ الصَّحَابَة وَخِيَار التَّابِعِينَ , إِلَى أَنْ حَدَثَتْ بِدْعَة الْقَدَر فِي أَوَاخِر زَمَن الصَّحَابَة , وَقَدْ رَوَى مُسْلِم الْقِصَّة فِي ذَلِكَ مِنْ طَرِيق كَهْمَس عَنْ اِبْن بُرَيْدَةَ عَنْ يَحْيَى بْن يَعْمَر قَالَ : كَانَ أَوَّل مَنْ قَالَ فِي الْقَدَر بِالْبَصْرَةِ مَعْبَد الْجُهَنِيّ , قَالَ فَانْطَلَقْت أَنَا وَحُمَيْدٌ الْحِمْيَرِيّ , فَذَكَرَ اِجْتِمَاعهمَا بِعَبْدِ اللَّه بْن عُمَر , وَأَنَّهُ سَأَلَهُ عَنْ ذَلِكَ فَأَخْبَرَهُ بِأَنَّهُ بَرِيء مِمَّنْ يَقُول ذَلِكَ , وَأَنَّ اللَّه لَا يَقْبَل مِمَّنْ لَمْ يُؤْمِن بِالْقَدَرِ عَمَلًا.
وَقَدْ حَكَى الْمُصَنِّفُونَ فِي الْمَقَالَات عَنْ طَوَائِف مِنْ الْقَدَرِيَّة إِنْكَار كَوْن الْبَارِئ عَالِمًا بِشَيْءٍ مِنْ أَعْمَال الْعِبَاد قَبْل وُقُوعهَا مِنْهُمْ , وَإِنَّمَا يَعْلَمهَا بَعْد كَوْنهَا.
قَالَ الْقُرْطُبِيّ وَغَيْره : قَدْ اِنْقَرَضَ هَذَا الْمَذْهَب , وَلَا نَعْرِف أَحَدًا يُنْسَب إِلَيْهِ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ.
قَالَ : وَالْقَدَرِيَّة الْيَوْم مُطْبِقُونَ عَلَى أَنَّ اللَّه عَالِم بِأَفْعَالِ الْعِبَاد قَبْل وُقُوعهَا , وَإِنَّمَا خَالَفُوا السَّلَف فِي زَعْمهمْ بِأَنَّ أَفْعَال الْعِبَاد مَقْدُورَة لَهُمْ وَوَاقِعَة مِنْهُمْ عَلَى جِهَة الِاسْتِقْلَال , وَهُوَ مَعَ كَوْنه مَذْهَبًا بَاطِلًا أَخَفّ مِنْ الْمَذْهَب الْأَوَّل.
وَأَمَّا الْمُتَأَخِّرُونَ مِنْهُمْ فَأَنْكَرُوا تَعَلُّق الْإِرَادَة بِأَفْعَالِ الْعِبَاد فِرَارًا مِنْ تَعَلُّق الْقَدِيم بِالْمُحْدَثِ , وَهُمْ مَخْصُومُونَ بِمَا قَالَ الشَّافِعِيّ : إِنْ سَلَّمَ الْقَدَرِيّ الْعِلْم خُصِمَ.
يَعْنِي يُقَال لَهُ : أَيَجُوزُ أَنْ يَقَع فِي الْوُجُود خِلَاف مَا تَضَمَّنَهُ الْعِلْم ؟ فَإِنْ مَنَعَ وَافَقَ قَوْل أَهْل السُّنَّة , وَإِنْ أَجَازَ لَزِمَهُ نِسْبَة الْجَهْل , تَعَالَى اللَّه عَنْ ذَلِكَ.
‏ ‏( تَنْبِيه ) : ‏ ‏ظَاهِر السِّيَاق يَقْتَضِي أَنَّ الْإِيمَان لَا يُطْلَق إِلَّا عَلَى مَنْ صَدَّقَ بِجَمِيعِ مَا ذُكِرَ , وَقَدْ اِكْتَفَى الْفُقَهَاء بِإِطْلَاقِ الْإِيمَان عَلَى مَنْ آمَنَ بِاَللَّهِ وَرَسُوله , وَلَا اِخْتِلَاف ; لِأَنَّ الْإِيمَان بِرَسُولِ اللَّه الْمُرَاد بِهِ الْإِيمَان بِوُجُودِهِ وَبِمَا جَاءَ بِهِ عَنْ رَبّه , فَيَدْخُل جَمِيع مَا ذُكِرَ تَحْت ذَلِكَ.
وَاَللَّه أَعْلَم.
‏ ‏قَوْله : ( أَنْ تَعْبُد اللَّه ) ‏ ‏قَالَ النَّوَوِيّ : يَحْتَمِل أَنْ يَكُون الْمُرَاد بِالْعِبَادَةِ مَعْرِفَة اللَّه فَيَكُون عَطْف الصَّلَاة وَغَيْرهَا عَلَيْهَا لِإِدْخَالِهَا فِي الْإِسْلَام , وَيَحْتَمِل أَنْ يَكُون الْمُرَاد بِالْعِبَادَةِ الطَّاعَة مُطْلَقًا , فَيَدْخُل فِيهِ جَمِيع الْوَظَائِف , فَعَلَى هَذَا يَكُون عَطْف الصَّلَاة وَغَيْرهَا مِنْ عَطْف الْخَاصّ عَلَى الْعَامّ.
قُلْت : أَمَّا الِاحْتِمَال الْأَوَّل فَبَعِيد ; لِأَنَّ الْمَعْرِفَة مِنْ مُتَعَلَّقَات الْإِيمَان , وَأَمَّا الْإِسْلَام فَهُوَ أَعْمَال قَوْلِيَّة وَبَدَنِيَّة , وَقَدْ عَبَّرَ فِي حَدِيث عُمَر هُنَا بِقَوْلِهِ " أَنْ تَشْهَد أَنْ لَا إِلَه إِلَّا اللَّه , وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُول اللَّه " فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْمُرَاد بِالْعِبَادَةِ فِي حَدِيث الْبَاب النُّطْق بِالشَّهَادَتَيْنِ , وَبِهَذَا تَبَيَّنَ دَفْع الِاحْتِمَال الثَّانِي.
وَلَمَّا عَبَّرَ الرَّاوِي بِالْعِبَادَةِ اِحْتَاجَ أَنْ يُوَضِّحهَا بِقَوْلِهِ " وَلَا تُشْرِك بِهِ شَيْئًا " وَلَمْ يَحْتَجْ إِلَيْهَا فِي رِوَايَة عُمَر لِاسْتِلْزَامِهَا ذَلِكَ.
فَإِنْ قِيلَ : السُّؤَال عَامّ لِأَنَّهُ سَأَلَ عَنْ مَاهِيَّة الْإِسْلَام , وَالْجَوَاب خَاصّ لِقَوْلِهِ أَنْ تَعْبُد أَوْ تَشْهَد , وَكَذَا قَالَ فِي الْإِيمَان أَنْ تُؤْمِن , وَفِي الْإِحْسَان أَنْ تَعْبُد.
وَالْجَوَاب أَنَّ ذَلِكَ لِنُكْتَةِ الْفَرْق بَيْن الْمَصْدَر وَبَيْن أَنْ وَالْفِعْل ; لِأَنَّ " أَنْ تَفْعَل " تَدُلّ عَلَى الِاسْتِقْبَال , وَالْمَصْدَر لَا يَدُلّ عَلَى زَمَان.
عَلَى أَنَّ بَعْض الرُّوَاة أَوْرَدَهُ هُنَا بِصِيغَةِ الْمَصْدَر , فَفِي رِوَايَة عُثْمَان بْن غِيَاث قَالَ " شَهَادَة أَنْ لَا إِلَه إِلَّا اللَّه " وَكَذَا فِي حَدِيث أَنَس , وَلَيْسَ الْمُرَاد بِمُخَاطَبَتِهِ بِالْإِفْرَادِ اِخْتِصَاصه بِذَلِكَ , بَلْ الْمُرَاد تَعْلِيم السَّامِعِينَ الْحُكْم فِي حَقّهمْ وَحَقّ مَنْ أَشْبَهَهُمْ مِنْ الْمُكَلَّفِينَ , وَقَدْ تَبَيَّنَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ فِي آخِره " يُعَلِّم النَّاس دِينهمْ ".
فَإِنْ قِيلَ : لِمَ لَمْ يَذْكُر الْحَجّ ؟ أَجَابَ بَعْضهمْ بِاحْتِمَالِ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فُرِضَ , وَهُوَ مَرْدُود بِمَا رَوَاهُ اِبْن مَنْدَهْ فِي كِتَاب الْإِيمَان بِإِسْنَادِهِ الَّذِي عَلَى شَرْط مُسْلِم مِنْ طَرِيق سُلَيْمَان التَّيْمِيِّ فِي حَدِيث عُمَر أَوَّله " أَنَّ رَجُلًا فِي آخِر عُمْر النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَاءَ إِلَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " فَذَكَر الْحَدِيث بِطُولِهِ , وَآخِر عُمْره يَحْتَمِل أَنْ يَكُون بَعْد حَجَّة الْوَدَاع فَإِنَّهَا آخِر سَفَرَاته , ثُمَّ بَعْد قُدُومه بِقَلِيلٍ دُون ثَلَاثَة أَشْهُر مَاتَ , وَكَأَنَّهُ إِنَّمَا جَاءَ بَعْد إِنْزَال جَمِيع الْأَحْكَام لِتَقْرِيرِ أُمُور الدِّين - الَّتِي بَلَّغَهَا مُتَفَرِّقَة - فِي مَجْلِس وَاحِد , لِتَنْضَبِط.
وَيُسْتَنْبَط مِنْهُ جَوَاز سُؤَال الْعَالِم مَا لَا يَجْهَلهُ السَّائِل لِيَعْلَمهُ السَّامِع , وَأَمَّا الْحَجّ فَقَدْ ذُكِرَ , لَكِنْ بَعْض الرُّوَاة إِمَّا ذَهَلَ عَنْهُ وَإِمَّا نَسِيَهُ.
وَالدَّلِيل عَلَى ذَلِكَ اِخْتِلَافهمْ فِي ذِكْر بَعْض الْأَعْمَال دُون بَعْض , فَفِي رِوَايَة كَهْمَس " وَتَحُجّ الْبَيْت إِنْ اِسْتَطَعْت إِلَيْهِ سَبِيلًا " وَكَذَا فِي حَدِيث أَنَس , وَفِي رِوَايَة عَطَاء الْخُرَاسَانِيّ لَمْ يَذْكُر الصَّوْم , وَفِي حَدِيث أَبِي عَامِر ذَكَرَ الصَّلَاة وَالزَّكَاة حَسْب , وَلَمْ يَذْكُر فِي حَدِيث اِبْن عَبَّاس مَزِيدًا عَلَى الشَّهَادَتَيْنِ.
وَذَكَرَ سُلَيْمَان التَّيْمِيُّ فِي رِوَايَته الْجَمِيع , وَزَادَ بَعْد قَوْله وَتَحُجّ " وَتَعْتَمِر وَتَغْتَسِل مِنْ الْجَنَابَة وَتُتَمِّم الْوُضُوء ".
وَقَالَ مَطَر الْوَرَّاق فِي رِوَايَته " وَتُقِيم الصَّلَاة وَتُؤْتِي الزَّكَاة " قَالَ فَذَكَرَ عُرَى الْإِسْلَام , فَتَبَيَّنَّ مَا قُلْنَاهُ إِنَّ بَعْض الرُّوَاة ضَبَطَ مَا لَمْ يَضْبِطهُ غَيْره ‏ ‏قَوْله : ( وَتُقِيم الصَّلَاة ) ‏ ‏زَادَ مُسْلِم " الْمَكْتُوبَة " أَيْ : الْمَفْرُوضَة.
وَإِنَّمَا عَبَّرَ بِالْمَكْتُوبَةِ لِلتَّفَنُّنِ فِي الْعِبَارَة , فَإِنَّهُ عَبَّرَ فِي الزَّكَاة بِالْمَفْرُوضَةِ , وَلِاتِّبَاعِ قَوْله تَعَالَى ( إِنَّ الصَّلَاة كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا ).
‏ ‏قَوْله : ( وَتَصُوم رَمَضَان ) ‏ ‏اُسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى قَوْل رَمَضَان مِنْ غَيْر إِضَافَة شَهْر إِلَيْهِ , وَسَتَأْتِي الْمَسْأَلَة فِي كِتَاب الصِّيَام إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى.
‏ ‏قَوْله : ( الْإِحْسَان ) ‏ ‏هُوَ مَصْدَر , تَقُول أَحْسَن يُحْسِن إِحْسَانًا.
وَيَتَعَدَّى بِنَفْسِهِ وَبِغَيْرِهِ تَقُول أَحْسَنْت كَذَا إِذَا أَتْقَنْته , وَأَحْسَنْت إِلَى فُلَان إِذَا أَوْصَلْت إِلَيْهِ النَّفْع , وَالْأَوَّل هُوَ الْمُرَاد لِأَنَّ الْمَقْصُود إِتْقَان الْعِبَادَة.
وَقَدْ يُلْحَظ الثَّانِي بِأَنَّ الْمُخْلِص مَثَلًا مُحْسِن بِإِخْلَاصِهِ إِلَى نَفْسه , وَإِحْسَان الْعِبَادَة الْإِخْلَاص فِيهَا وَالْخُشُوع وَفَرَاغ الْبَال حَال التَّلَبُّس بِهَا وَمُرَاقَبَة الْمَعْبُود , وَأَشَارَ فِي الْجَوَاب إِلَى حَالَتَيْنِ : أَرْفَعهُمَا أَنْ يَغْلِب عَلَيْهِ مُشَاهَدَة الْحَقّ بِقَلْبِهِ حَتَّى كَأَنَّهُ يَرَاهُ بِعَيْنِهِ وَهُوَ قَوْله " كَأَنَّك تَرَاهُ " أَيْ : وَهُوَ يَرَاك , وَالثَّانِيَة أَنْ يَسْتَحْضِر أَنَّ الْحَقّ مُطَّلِع عَلَيْهِ يَرَى كُلّ مَا يَعْمَل , وَهُوَ قَوْله " فَإِنَّهُ يَرَاك ".
وَهَاتَانِ الْحَالَتَانِ يُثَمِّرهُمَا مَعْرِفَة اللَّه وَخَشْيَته , وَقَدْ عَبَّرَ فِي رِوَايَة عُمَارَة بْن الْقَعْقَاع بِقَوْلِهِ " أَنْ تَخْشَى اللَّه كَأَنَّك تَرَاهُ " وَكَذَا فِي حَدِيث أَنَس.
وَقَالَ النَّوَوِيّ : مَعْنَاهُ أَنَّك إِنَّمَا تُرَاعِي الْآدَاب الْمَذْكُورَة إِذَا كُنْت تَرَاهُ وَيَرَاك , لِكَوْنِهِ يَرَاك لَا لِكَوْنِك تَرَاهُ فَهُوَ دَائِمًا يَرَاك , فَأَحْسِنْ عِبَادَته وَإِنْ لَمْ تَرَهُ , فَتَقْدِير الْحَدِيث : فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَاسْتَمِرَّ عَلَى إِحْسَان الْعِبَادَة فَإِنَّهُ يَرَاك.
قَالَ : وَهَذَا الْقَدْر مِنْ الْحَدِيث أَصْل عَظِيم مِنْ أُصُول الدِّين , وَقَاعِدَة مُهِمَّة مِنْ قَوَاعِد الْمُسْلِمِينَ , وَهُوَ عُمْدَة الصِّدِّيقِينَ وَبُغْيَة السَّالِكِينَ وَكَنْز الْعَارِفِينَ وَدَأْب الصَّالِحِينَ , وَهُوَ مِنْ جَوَامِع الْكَلِم الَّتِي أُوتِيَهَا صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , وَقَدْ نَدَبَ أَهْل التَّحْقِيق إِلَى مُجَالَسَة الصَّالِحِينَ لِيَكُونَ ذَلِكَ مَانِعًا مِنْ التَّلَبُّس بِشَيْءٍ مِنْ النَّقَائِص اِحْتِرَامًا لَهُمْ وَاسْتِحْيَاء مِنْهُمْ , فَكَيْف بِمَنْ لَا يَزَال اللَّه مُطَّلِعًا عَلَيْهِ فِي سِرّه وَعَلَانِيَته ؟ اِنْتَهَى.
وَقَدْ سَبَقَ إِلَى أَصْل هَذَا الْقَاضِي عِيَاض وَغَيْره , وَسَيَأْتِي مَزِيد لِهَذَا فِي تَفْسِير لُقْمَان إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى.
‏ ‏( تَنْبِيه ) : ‏ ‏دَلَّ سِيَاق الْحَدِيث عَلَى أَنَّ رُؤْيَة اللَّه فِي الدُّنْيَا بِالْأَبْصَارِ غَيْر وَاقِعَة , وَأَمَّا رُؤْيَة النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَاكَ لِدَلِيلٍ آخَر , وَقَدْ صَرَّحَ مُسْلِم فِي رِوَايَته مِنْ حَدِيث أَبِي أُمَامَةَ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ لَنْ تَرَوْا رَبّكُمْ حَتَّى تَمُوتُوا ".
وَأَقْدَمَ بَعْض غُلَاة الصُّوفِيَّة عَلَى تَأْوِيل الْحَدِيث بِغَيْرِ عِلْم فَقَالَ : فِيهِ إِشَارَة إِلَى مَقَام الْمَحْو وَالْفَنَاء , وَتَقْدِيره فَإِنْ لَمْ تَكُنْ - أَيْ : فَإِنْ لَمْ تَصِرْ - شَيْئًا وَفَنِيت عَنْ نَفْسك حَتَّى كَأَنَّك لَيْسَ بِمَوْجُودٍ فَإِنَّك حِينَئِذٍ تَرَاهُ.
وَغَفَلَ قَائِل هَذَا - لِلْجَهْلِ بِالْعَرَبِيَّةِ - عَنْ أَنَّهُ لَوْ كَانَ الْمُرَاد مَا زَعَمَ لَكَانَ قَوْله " تَرَاهُ " مَحْذُوف الْأَلِف ; لِأَنَّهُ يَصِير مَجْزُومًا , لِكَوْنِهِ عَلَى زَعْمه جَوَاب الشَّرْط , وَلَمْ يَرِد فِي شَيْء مِنْ طُرُق هَذَا الْحَدِيث بِحَذْفِ الْأَلِف , وَمَنْ اِدَّعَى أَنَّ إِثْبَاتهَا فِي الْفِعْل الْمَجْزُوم عَلَى خِلَاف الْقِيَاس فَلَا يُصَار إِلَيْهِ إِذْ لَا ضَرُورَة هُنَا.
وَأَيْضًا فَلَوْ كَانَ مَا اِدَّعَاهُ صَحِيحًا لَكَانَ قَوْله " فَإِنَّهُ يَرَاك " ضَائِعًا لِأَنَّهُ لَا اِرْتِبَاط لَهُ بِمَا قَبْله.
وَمِمَّا يُفْسِد تَأْوِيله رِوَايَة كَهْمَس فَإِنَّ لَفْظهَا " فَإِنَّك إِنْ لَا تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاك " وَكَذَلِكَ فِي رِوَايَة سُلَيْمَان التَّيْمِيِّ , فَسَلَّطَ النَّفْي عَلَى الرُّؤْيَة لَا عَلَى الْكَوْن الَّذِي حَمَلَ عَلَى اِرْتِكَاب التَّأْوِيل الْمَذْكُور , وَفِي رِوَايَة أَبِي فَرْوَة " فَإِنْ لَمْ تَرَهُ فَإِنَّهُ يَرَاك " وَنَحْوه فِي حَدِيث أَنَس وَابْن عَبَّاس , وَكُلّ هَذَا يُبْطِل التَّأْوِيل الْمُتَقَدِّم.
وَاَللَّه أَعْلَم.
‏ ‏( فَائِدَة ) : ‏ ‏زَادَ مُسْلِم فِي رِوَايَة عُمَارَة بْن الْقَعْقَاع قَوْل السَّائِل " صَدَقْت " عَقِب كُلّ جَوَاب مِنْ الْأَجْوِبَة الثَّلَاثَة , وَزَادَ أَبُو فَرْوَة فِي رِوَايَته " فَلَمَّا سَمِعْنَا قَوْل الرَّجُل صَدَقْت أَنْكَرْنَاهُ " وَفِي رِوَايَة كَهْمَس " فَعَجِبْنَا لَهُ يَسْأَلهُ وَيُصَدِّقهُ ".
وَفِي رِوَايَة مَطَر " اُنْظُرُوا إِلَيْهِ كَيْف يَسْأَلهُ وَانْظُرُوا إِلَيْهِ كَيْف يُصَدِّقهُ " وَفِي حَدِيث أَنَس " اُنْظُرُوا وَهُوَ يَسْأَلهُ وَهُوَ يُصَدِّقهُ كَأَنَّهُ أَعْلَم مِنْهُ ".
وَفِي رِوَايَة سُلَيْمَان بْن بُرَيْدَةَ " قَالَ الْقَوْم : مَا رَأَيْنَا رَجُلًا مِثْل هَذَا , كَأَنَّهُ يُعَلِّم رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , يَقُول لَهُ : صَدَقْت صَدَقْت ".
قَالَ الْقُرْطُبِيّ : إِنَّمَا عَجِبُوا مِنْ ذَلِكَ لِأَنَّ مَا جَاءَ بِهِ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يُعْرَف إِلَّا مِنْ جِهَته , وَلَيْسَ هَذَا السَّائِل مِمَّنْ عُرِفَ بِلِقَاءِ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا بِالسَّمَاعِ مِنْهُ , ثُمَّ هُوَ يَسْأَل سُؤَال عَارِف بِمَا يَسْأَل عَنْهُ لِأَنَّهُ يُخْبِرهُ بِأَنَّهُ صَادِق فِيهِ , فَتَعَجَّبُوا مِنْ ذَلِكَ تَعَجُّب الْمُسْتَبْعِد لِذَلِكَ.
وَاَللَّه أَعْلَم.
‏ ‏قَوْله : ( مَتَى السَّاعَة ) ‏ ‏أَيْ مَتَى تَقُوم السَّاعَة ؟ وَصَرَّحَ بِهِ فِي رِوَايَة عُمَارَة بْن الْقَعْقَاع , وَاللَّام لِلْعَهْدِ , وَالْمُرَاد يَوْم الْقِيَامَة.
‏ ‏قَوْله : ( مَا الْمَسْئُول عَنْهَا ) ‏ ‏" مَا " نَافِيَة.
وَزَادَ فِي رِوَايَة أَبِي فَرْوَة " فَنَكَسَ فَلَمْ يُجِبْهُ , ثُمَّ أَعَادَ فَلَمْ يُجِبْهُ ثَلَاثًا , ثُمَّ رَفَعَ رَأْسه فَقَالَ , مَا الْمَسْئُول ".
‏ ‏قَوْله : ( بِأَعْلَم ) ‏ ‏الْبَاء زَائِدَة لِتَأْكِيدِ النَّفْي , وَهَذَا وَإِنْ كَانَ مُشْعِرًا بِالتَّسَاوِي فِي الْعِلْم لَكِنَّ الْمُرَاد التَّسَاوِي فِي الْعِلْم بِأَنَّ اللَّه تَعَالَى اِسْتَأْثَرَ بِعِلْمِهَا لِقَوْلِهِ بَعْد " خَمْس لَا يَعْلَمهَا إِلَّا اللَّه " وَسَيَأْتِي نَظِير هَذَا التَّرْكِيب فِي أَوَاخِر الْكَلَام عَلَى هَذَا الْحَدِيث فِي قَوْله " مَا كُنْت بِأَعْلَم بِهِ مِنْ رَجُل مِنْكُمْ " فَإِنَّ الْمُرَاد أَيْضًا التَّسَاوِي فِي عَدَم الْعِلْم بِهِ , وَفِي حَدِيث اِبْن عَبَّاس هُنَا فَقَالَ " سُبْحَان اللَّه , خَمْس مِنْ الْغَيْب لَا يَعْلَمهُنَّ إِلَّا اللَّه " ثُمَّ تَلَا الْآيَة.
قَالَ النَّوَوِيّ : يُسْتَنْبَط مِنْهُ أَنَّ الْعَالِم إِذَا سُئِلَ عَمَّا لَا يَعْلَم يُصَرِّح بِأَنَّهُ لَا يَعْلَمهُ , وَلَا يَكُون فِي ذَلِكَ نَقْص مِنْ مَرْتَبَته , بَلْ يَكُون ذَلِكَ دَلِيلًا عَلَى مَزِيد وَرَعه.
وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ مَقْصُود هَذَا السُّؤَال كَفّ السَّامِعِينَ عَنْ السُّؤَال عَنْ وَقْت السَّاعَة ; لِأَنَّهُمْ قَدْ أَكْثَرُوا السُّؤَال عَنْهَا كَمَا وَرَدَ فِي كَثِير مِنْ الْآيَات وَالْأَحَادِيث , فَلَمَّا حَصَلَ الْجَوَاب بِمَا ذُكِرَ هُنَا حَصَلَ الْيَأْس مِنْ مَعْرِفَتهَا , بِخِلَافِ الْأَسْئِلَة الْمَاضِيَة فَإِنَّ الْمُرَاد بِهَا اِسْتِخْرَاج الْأَجْوِبَة لِيَتَعَلَّمهَا السَّامِعُونَ وَيَعْمَلُوا بِهَا , وَنَبَّهَ بِهَذِهِ الْأَسْئِلَة عَلَى تَفْصِيل مَا يُمْكِن مَعْرِفَته مِمَّا لَا يُمْكِن.
‏ ‏قَوْله : ( مِنْ السَّائِل ) ‏ ‏عَدَلَ عَنْ قَوْله لَسْت بِأَعْلَم بِهَا مِنْك إِلَى لَفْظ يُشْعِر بِالتَّعْمِيمِ تَعْرِيضًا لِلسَّامِعِينَ , أَيْ : أَنَّ كُلّ مَسْئُول وَكُلّ سَائِل فَهُوَ كَذَلِكَ.
‏ ‏( فَائِدَة ) : ‏ ‏هَذَا السُّؤَال وَالْجَوَاب وَقَعَ بَيْن عِيسَى بْن مَرْيَم وَجِبْرِيل , لَكِنْ كَانَ عِيسَى سَائِلًا وَجِبْرِيل مَسْئُولًا.
قَالَ الْحُمَيْدِيّ فِي نَوَادِره : حَدَّثَنَا سُفْيَان حَدَّثَنَا مَالِك بْن مِغْوَل عَنْ إِسْمَاعِيل بْن رَجَاء عَنْ الشَّعْبِيّ قَالَ : سَأَلَ عِيسَى بْن مَرْيَم جِبْرِيل عَنْ السَّاعَة , قَالَ فَانْتَفَضَ بِأَجْنِحَتِهِ وَقَالَ : مَا الْمَسْئُول عَنْهَا بِأَعْلَم مِنْ السَّائِل.
‏ ‏قَوْله : ( وَسَأُخْبِرُك عَنْ أَشْرَاطهَا ) ‏ ‏وَفِي التَّفْسِير " وَلَكِنْ سَأُحَدِّثُك " , وَفِي رِوَايَة أَبِي فَرْوَة " وَلَكِنْ لَهَا عَلَامَات تُعْرَف بِهَا " , وَفِي رِوَايَة كَهْمَس " قَالَ فَأَخْبِرْنِي عَنْ أَمَارَتهَا فَأَخْبَرَهُ بِهَا فَتَرَدَّدْنَا " فَحَصَلَ التَّرَدُّد هَلْ اِبْتَدَأَهُ بِذِكْرِ الْأَمَارَات أَوْ السَّائِل سَأَلَهُ عَنْ الْأَمَارَات , وَيُجْمَع بَيْنهمَا بِأَنَّهُ اِبْتَدَأَ بِقَوْلِهِ وَسَأُخْبِرُك , فَقَالَ لَهُ السَّائِل : فَأَخْبِرْنِي.
وَيَدُلّ عَلَى ذَلِكَ رِوَايَة سُلَيْمَان التَّيْمِيِّ وَلَفْظهَا " وَلَكِنْ إِنْ شِئْت نَبَّأْتُك عَنْ أَشْرَاطهَا , قَالَ أَجَل " وَنَحْوه فِي حَدِيث اِبْن عَبَّاس وَزَادَ " فَحَدِّثْنِي " وَقَدْ حَصَلَ تَفْصِيل الْأَشْرَاط مِنْ الرِّوَايَة الْأُخْرَى وَأَنَّهَا الْعَلَامَات , وَهِيَ بِفَتْحِ الْهَمْزَة جَمْع شَرَط بِفَتْحَتَيْنِ كَقَلَمٍ وَأَقْلَام , وَيُسْتَفَاد مِنْ اِخْتِلَاف الرِّوَايَات أَنَّ التَّحْدِيث وَالْإِخْبَار وَالْإِنْبَاء بِمَعْنًى وَاحِد , وَإِنَّمَا غَايَرَ بَيْنهَا أَهْل الْحَدِيث اِصْطِلَاحًا.
قَالَ الْقُرْطُبِيّ : عَلَامَات السَّاعَة عَلَى قِسْمَيْنِ : مَا يَكُون مِنْ نَوْع الْمُعْتَاد , أَوْ غَيْره.
وَالْمَذْكُور هُنَا الْأَوَّل.
وَأَمَّا الْغَيْر مِثْل طُلُوع الشَّمْس مِنْ مَغْرِبهَا فَتِلْك مُقَارِبَة لَهَا أَوْ مُضَايِقَة وَالْمُرَاد هُنَا الْعَلَامَات السَّابِقَة عَلَى ذَلِكَ.
وَاَللَّه أَعْلَم.
‏ ‏قَوْله : ( إِذَا وَلَدَتْ ) ‏ ‏التَّعْبِير بِإِذَا لِلْإِشْعَارِ بِتَحَقُّقِ الْوُقُوع , وَوَقَعَتْ هَذِهِ الْجُمْلَة بَيَانًا لِلْأَشْرَاطِ نَظَرًا إِلَى الْمَعْنَى , وَالتَّقْدِير وِلَادَة الْأَمَة وَتَطَاوُل الرُّعَاة.
فَإِنْ قِيلَ الْأَشْرَاط جَمْع وَأَقَلّه ثَلَاثَة عَلَى الْأَصَحّ وَالْمَذْكُور هُنَا اِثْنَانِ , أَجَابَ الْكَرْمَانِيُّ : بِأَنَّهُ قَدْ تُسْتَقْرَض الْقِلَّة لِلْكَثْرَةِ , وَبِالْعَكْسِ.
أَوْ لِأَنَّ الْفَرْق بِالْقِلَّةِ وَالْكَثْرَة إِنَّمَا هُوَ فِي النَّكِرَات لَا فِي الْمَعَارِف , أَوْ لِفَقْدِ جَمْع الْكَثْرَة لِلَفْظِ الشَّرْط.
وَفِي جَمِيع هَذِهِ الْأَجْوِبَة نَظَر , وَلَوْ أُجِيبَ بِأَنَّ هَذَا دَلِيل الْقَوْل الصَّائِر إِلَى أَنَّ أَقَلّ الْجَمْع اِثْنَانِ لَمَا بَعُدَ عَنْ الصَّوَاب.
وَالْجَوَاب الْمَرْضِيّ أَنَّ الْمَذْكُور مِنْ الْأَشْرَاط ثَلَاثَة , وَإِنَّمَا بَعْض الرُّوَاة اِقْتَصَرَ عَلَى اِثْنَيْنِ مِنْهَا لِأَنَّهُ هُنَا ذَكَرَ الْوِلَادَة وَالتَّطَاوُل , وَفِي التَّفْسِير ذِكْر الْوِلَادَة وَتَرَؤُّس الْحُفَاة , وَفِي رِوَايَة مُحَمَّد بْن بِشْر الَّتِي أَخْرَجَ مُسْلِم إِسْنَادهَا وَسَاقَ اِبْن خُزَيْمَةَ لَفْظهَا عَنْ أَبِي حَيَّان ذِكْر الثَّلَاثَة , وَكَذَا فِي مُسْتَخْرَج الْإِسْمَاعِيلِيّ مِنْ طَرِيق اِبْن عُلَيَّة , وَكَذَا ذَكَرَهَا عُمَارَة بْن الْقَعْقَاع , وَوَقَعَ مِثْل ذَلِكَ فِي حَدِيث عُمَر , فَفِي رِوَايَة كَهْمَس ذِكْر الْوِلَادَة وَالتَّطَاوُل فَقَطْ وَوَافَقَهُ عُثْمَان بْن غِيَاث , وَفِي رِوَايَة سُلَيْمَان التَّيْمِيِّ ذِكْر الثَّلَاثَة وَوَافَقَهُ عَطَاء الْخُرَاسَانِيّ , وَكَذَا ذُكِرَتْ فِي حَدِيث اِبْن عَبَّاس وَأَبِي عَامِر.
‏ ‏قَوْله : ( إِذَا وَلَدَتْ الْأَمَة رَبّهَا ) ‏ ‏وَفِي التَّفْسِير " رَبَّتهَا " بِتَاءِ التَّأْنِيث , وَكَذَا فِي حَدِيث عُمَر , وَلِمُحَمَّدِ بْن بِشْر مِثْله وَزَادَ " يَعْنِي السَّرَارِيّ " , وَفِي رِوَايَة عُمَارَة بْن الْقَعْقَاع " إِذَا رَأَيْت الْمَرْأَة تَلِد رَبّهَا " وَنَحْوه لِأَبِي فَرْوَة وَفِي رِوَايَة عُثْمَان بْن غِيَاث " الْإِمَاء أَرْبَابهنَّ " بِلَفْظِ الْجَمْع.
وَالْمُرَاد بِالرَّبِّ الْمَالِك أَوْ السَّيِّد.
وَقَدْ اِخْتَلَفَ الْعُلَمَاء قَدِيمًا وَحَدِيثًا فِي مَعْنَى ذَلِكَ , قَالَ اِبْن التِّين : اُخْتُلِفَ فِيهِ عَلَى سَبْعَة أَوْجُه , فَذَكَرَهَا لَكِنَّهَا مُتَدَاخِلَة , وَقَدْ لَخَّصْتهَا بِلَا تَدَاخُل فَإِذَا هِيَ أَرْبَعَة أَقْوَال : الْأَوَّل قَالَ الْخَطَّابِيُّ : مَعْنَاهُ اِتِّسَاع الْإِسْلَام وَاسْتِيلَاء أَهْله عَلَى بِلَاد الشِّرْك وَسَبْي ذَرَارِيّهمْ , فَإِذَا مَلَكَ الرَّجُل الْجَارِيَة وَاسْتَوْلَدَهَا كَانَ الْوَلَد مِنْهَا بِمَنْزِلَةِ رَبّهَا لِأَنَّهُ وَلَد سَيِّدهَا.
قَالَ النَّوَوِيّ وَغَيْره : إِنَّهُ قَوْل الْأَكْثَرِينَ.
قُلْت : لَكِنَّ فِي كَوْنه الْمُرَاد نَظَر ; لِأَنَّ اِسْتِيلَاد الْإِمَاء كَانَ مَوْجُودًا حِين الْمَقَالَة , وَالِاسْتِيلَاء عَلَى بِلَاد الشِّرْك وَسَبْي ذَرَارِيّهمْ وَاِتِّخَاذهمْ سَرَارِيّ وَقَعَ أَكْثَره فِي صَدْر الْإِسْلَام , وَسِيَاق الْكَلَام يَقْتَضِي الْإِشَارَة إِلَى وُقُوع مَا لَمْ يَقَع مِمَّا سَيَقَعُ قُرْب قِيَام السَّاعَة , وَقَدْ فَسَّرَهُ وَكِيع فِي رِوَايَة اِبْن مَاجَهْ بِأَخَصّ مِنْ الْأَوَّل.
قَالَ : أَنْ تَلِد الْعَجَم الْعَرَب , وَوَجَّهَهُ بَعْضهمْ بِأَنَّ الْإِمَاء يَلِدْنَ الْمُلُوك فَتَصِير الْأُمّ مِنْ جُمْلَة الرَّعِيَّة وَالْمَلِك سَيِّد رَعِيَّته , وَهَذَا لِإِبْرَاهِيم الْحَرْبِيّ , وَقَرَّبَهُ أَنَّ الرُّؤَسَاء فِي الصَّدْر الْأَوَّل كَانُوا يَسْتَنْكِفُونَ غَالِبًا مِنْ وَطْء الْإِمَاء وَيَتَنَافَسُونَ فِي الْحَرَائِر , ثُمَّ اِنْعَكَسَ الْأَمْر وَلَا سِيَّمَا فِي أَثْنَاء دَوْلَة بَنِي الْعَبَّاس , وَلَكِنَّ رِوَايَة رَبَّتهَا بِتَاءِ التَّأْنِيث قَدْ لَا تُسَاعِد عَلَى ذَلِكَ.
وَوَجَّهَهُ بَعْضهمْ بِأَنَّ إِطْلَاق رَبَّتهَا عَلَى وَلَدهَا مَجَاز ; لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ سَبَبًا فِي عِتْقهَا بِمَوْتِ أَبِيهِ أُطْلِقَ عَلَيْهِ ذَلِكَ , وَخَصَّهُ بَعْضهمْ بِأَنَّ السَّبْي إِذَا كَثُرَ فَقَدْ يُسْبَى الْوَلَد أَوَّلًا وَهُوَ صَغِير ثُمَّ يُعْتَق وَيَكْبَر وَيَصِير رَئِيسًا بَلْ مَلِكًا ثُمَّ تُسْبَى أُمّه فِيمَا بَعْد فَيَشْتَرِيهَا عَارِفًا بِهَا , أَوْ وَهُوَ لَا يَشْعُر أَنَّهَا أُمّه , فَيَسْتَخْدِمهَا أَوْ يَتَّخِذهَا مَوْطُوءَة أَوْ يُعْتِقهَا وَيَتَزَوَّجهَا.
وَقَدْ جَاءَ فِي بَعْض الرِّوَايَات " أَنْ تَلِد الْأَمَة بَعْلهَا " وَهِيَ عِنْد مُسْلِم فَحُمِلَ عَلَى هَذِهِ الصُّورَة , وَقِيلَ الْمُرَاد بِالْبَعْلِ الْمَالِك وَهُوَ أَوْلَى لِتَتَّفِق الرِّوَايَات.
الثَّانِي أَنْ تَبِيع السَّادَة أُمَّهَات أَوْلَادهمْ وَيَكْثُر ذَلِكَ فَيَتَدَاوَل الْمُلَّاك الْمُسْتَوْلَدَة حَتَّى يَشْتَرِيهَا وَلَدهَا وَلَا يَشْعُر بِذَلِكَ , وَعَلَى هَذَا فَاَلَّذِي يَكُون مِنْ الْأَشْرَاط غَلَبَة الْجَهْل بِتَحْرِيمِ بَيْع أُمَّهَات الْأَوْلَاد أَوْ الِاسْتِهَانَة بِالْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّة.
فَإِنْ قِيلَ : هَذِهِ الْمَسْأَلَة مُخْتَلَف فِيهَا فَلَا يَصْلُح الْحَمْل عَلَيْهَا ; لِأَنَّهُ لَا جَهْل وَلَا اِسْتِهَانَة عِنْد الْقَائِل بِالْجَوَازِ , قُلْنَا : يَصْلُح أَنْ يُحْمَل عَلَى صُورَة اِتِّفَاقِيَّة كَبَيْعِهَا فِي حَال حَمْلهَا , فَإِنَّهُ حَرَام بِالْإِجْمَاعِ.
الثَّالِث وَهُوَ مِنْ نَمَط الَّذِي قَبْله , قَالَ النَّوَوِيّ : لَا يَخْتَصّ شِرَاء الْوَلَد أُمّه بِأُمَّهَاتِ الْأَوْلَاد , بَلْ يُتَصَوَّر فِي غَيْرهنَّ بِأَنْ تَلِد الْأَمَة حُرًّا مِنْ غَيْر سَيِّدهَا بِوَطْءِ شُبْهَة , أَوْ رَقِيقًا بِنِكَاحٍ أَوْ زِنًا ثُمَّ تُبَاع الْأَمَة فِي الصُّورَتَيْنِ بَيْعًا صَحِيحًا وَتَدُور فِي الْأَيْدِي حَتَّى يَشْتَرِيهَا اِبْنهَا أَوْ اِبْنَتهَا.
وَلَا يُعَكِّر عَلَى هَذَا تَفْسِير مُحَمَّد بْن بِشْر بِأَنَّ الْمُرَاد السَّرَارِيّ لِأَنَّهُ تَخْصِيص بِغَيْرِ دَلِيل.
الرَّابِع أَنْ يَكْثُر الْعُقُوق فِي الْأَوْلَاد فَيُعَامِل الْوَلَد أُمّه مُعَامَلَة السَّيِّد أَمَته مِنْ الْإِهَانَة بِالسَّبِّ وَالضَّرْب وَالِاسْتِخْدَام.
فَأُطْلِقَ عَلَيْهِ رَبّهَا مَجَازًا لِذَلِكَ.
أَوْ الْمُرَاد بِالرَّبِّ الْمُرَبِّي فَيَكُون حَقِيقَة , وَهَذَا أَوْجَه الْأَوْجُه عِنْدِي لِعُمُومِهِ ; وَلِأَنَّ الْمَقَام يَدُلّ عَلَى أَنَّ الْمُرَاد حَالَة تَكُون مَعَ كَوْنهَا تَدُلّ عَلَى فَسَاد الْأَحْوَال مُسْتَغْرَبَة.
وَمُحَصَّله الْإِشَارَة إِلَى أَنَّ السَّاعَة يَقْرُب قِيَامهَا عِنْد اِنْعِكَاس الْأُمُور بِحَيْثُ يَصِير الْمُرَبَّى مُرَبِّيًا وَالسَّافِل عَالِيًا , وَهُوَ مُنَاسِب لِقَوْلِهِ فِي الْعَلَامَة الْأُخْرَى أَنْ تَصِير الْحُفَاة مُلُوك الْأَرْض.
‏ ‏( تَنْبِيهَانِ ) : ‏ ‏أَحَدهمَا قَالَ النَّوَوِيّ : لَيْسَ فِيهِ دَلِيل عَلَى تَحْرِيم بَيْع أُمَّهَات الْأَوْلَاد وَلَا عَلَى جَوَازه , وَقَدْ غَلِطَ مَنْ اِسْتَدَلَّ بِهِ لِكُلٍّ مِنْ الْأَمْرَيْنِ ; لِأَنَّ الشَّيْء إِذَا جُعِلَ عَلَامَة عَلَى شَيْء آخَر لَا يَدُلّ عَلَى حَظْر وَلَا إِبَاحَة.
الثَّانِي : يُجْمَع بَيْن مَا فِي هَذَا الْحَدِيث مِنْ إِطْلَاق الرَّبّ عَلَى السَّيِّد الْمَالِك فِي قَوْله " رَبّهَا " وَبَيْن مَا فِي الْحَدِيث الْآخَر وَهُوَ فِي الصَّحِيح " لَا يَقُلْ أَحَدكُمْ أَطْعِمْ رَبّك , وَضِّئْ رَبّك , اِسْقِ رَبّك , وَلْيَقُلْ سَيِّدِي وَمَوْلَايَ " بِأَنَّ اللَّفْظ هُنَا خَرَجَ عَلَى سَبِيل الْمُبَالَغَة أَوْ الْمُرَاد بِالرَّبِّ هُنَا الْمُرَبِّي , وَفِي الْمَنْهِيّ عَنْهُ السَّيِّد , أَوْ أَنَّ النَّهْي عَنْهُ مُتَأَخِّر , أَوْ مُخْتَصّ بِغَيْرِ الرَّسُول صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
‏ ‏قَوْله : ( تَطَاوَلَ ) ‏ ‏أَيْ : تَفَاخَرُوا فِي تَطْوِيل الْبُنَيَانِ وَتَكَاثَرُوا بِهِ.
‏ ‏قَوْله : ( رُعَاة الْإِبِل ) ‏ ‏هُوَ بِضَمِّ الرَّاء جَمْع رَاعٍ كَقُضَاةٍ وَقَاضٍ.
وَالْبُهْم بِضَمِّ الْمُوَحَّدَة , وَوَقَعَ فِي رِوَايَة الْأَصِيلِيّ بِفَتْحِهَا وَلَا يَتَّجِه مَعَ ذِكْر الْإِبِل وَإِنَّمَا يَتَّجِه مَعَ ذِكْر الشِّيَاه أَوْ مَعَ عَدَم الْإِضَافَة كَمَا فِي رِوَايَة مُسْلِم رِعَاء الْبُهْم , وَمِيم الْبُهْم فِي رِوَايَة الْبُخَارِيّ يَجُوز ضَمّهَا عَلَى أَنَّهَا صِفَة الرُّعَاة وَيَجُوز الْكَسْر عَلَى أَنَّهَا صِفَة الْإِبِل يَعْنِي الْإِبِل السُّود , وَقِيلَ إِنَّهَا شَرّ الْأَلْوَان عِنْدهمْ , وَخَيْرهَا الْحُمْر الَّتِي ضُرِبَ بِهَا الْمَثَل فَقِيلَ " خَيْر مِنْ حُمْر النَّعَم " وَوَصْف الرُّعَاة بِالْبُهْمِ إِمَّا لِأَنَّهُمْ مَجْهُولُو الْأَنْسَاب , وَمِنْهُ أُبْهِمَ الْأَمْر فَهُوَ مُبْهَم إِذَا لَمْ تُعْرَف حَقِيقَته , وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ : الْأَوْلَى أَنْ يُحْمَل عَلَى أَنَّهُمْ سُود الْأَلْوَان لِأَنَّ الْأُدْمَة غَالِب أَلْوَانهمْ , وَقِيلَ مَعْنَاهُ أَنَّهُمْ لَا شَيْء لَهُمْ كَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " يُحْشَر النَّاس حُفَاة عُرَاة بُهْمًا " قَالَ : وَفِيهِ نَظَر ; لِأَنَّهُ قَدْ نَسَبَ لَهُمْ الْإِبِل , فَكَيْف يُقَال لَا شَيْء لَهُمْ.
قُلْت : يُحْمَل عَلَى أَنَّهَا إِضَافَة اِخْتِصَاص لَا مِلْك , وَهَذَا هُوَ الْغَالِب أَنَّ الرَّاعِي يَرْعَى لِغَيْرِهِ بِالْأُجْرَةِ , وَأَمَّا الْمَالِك فَقَلَّ أَنْ يُبَاشِر الرَّعْي بِنَفْسِهِ.
قَوْله فِي التَّفْسِير : وَإِذَا كَانَ الْحُفَاة الْعُرَاة , زَادَ الْإِسْمَاعِيلِيّ فِي رِوَايَته : الصُّمّ الْبُكْم.
وَقِيلَ لَهُمْ ذَلِكَ مُبَالَغَة فِي وَصْفهمْ بِالْجَهْلِ , أَيْ : لَمْ يَسْتَعْمِلُوا أَسْمَاعهمْ وَلَا أَبْصَارهمْ فِي الشَّيْء مِنْ أَمْر دِينهمْ وَإِنْ كَانَتْ حَوَاسّهمْ سَلِيمَة.
قَوْله رُءُوس النَّاس أَيْ : مُلُوك الْأَرْض , وَصَرَّحَ بِهِ الْإِسْمَاعِيلِيّ , وَفِي رِوَايَة أَبِي فَرْوَة مِثْله , وَالْمُرَاد بِهِمْ أَهْل الْبَادِيَة كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي رِوَايَة سُلَيْمَان التَّيْمِيِّ وَغَيْره.
قَالَ : مَا الْحُفَاة الْعُرَاة ؟ قَالَ : الْعُرَيْب.
وَهُوَ بِالْعَيْنِ الْمُهْمَلَة عَلَى التَّصْغِير.
وَفِي الطَّبَرَانِيّ مِنْ طَرِيق أَبِي حَمْزَة عَنْ اِبْن عَبَّاس مَرْفُوعًا " مِنْ اِنْقِلَاب الدِّين تَفَصُّح النَّبَط وَاِتِّخَاذهمْ الْقُصُور فِي الْأَمْصَار ".
قَالَ الْقُرْطُبِيّ : الْمَقْصُود الْإِخْبَار عَنْ تَبَدُّل الْحَال بِأَنْ يَسْتَوْلِي أَهْل الْبَادِيَة عَلَى الْأَمْر وَيَتَمَلَّكُوا الْبِلَاد بِالْقَهْرِ فَتَكْثُر أَمْوَالهمْ وَتَنْصَرِف هِمَمهمْ إِلَى تَشْيِيد الْبُنْيَان وَالتَّفَاخُر بِهِ , وَقَدْ شَاهَدْنَا ذَلِكَ فِي هَذِهِ الْأَزْمَان.
وَمِنْهُ الْحَدِيث الْآخَر " لَا تَقُوم السَّاعَة حَتَّى يَكُون أَسْعَد النَّاس بِالدُّنْيَا لُكَع اِبْن لُكَع " وَمِنْهُ " إِذَا وُسِّدَ الْأَمْر - أَيْ : أُسْنِدَ - إِلَى غَيْر أَهْله فَانْتَظِرُوا السَّاعَة " وَكِلَاهُمَا فِي الصَّحِيح.
‏ ‏قَوْله : ( فِي خَمْس ) ‏ ‏أَيْ : عِلْم وَقْت السَّاعَة دَاخِل فِي جُمْلَة خَمْس.
وَحَذْف مُتَعَلَّق الْجَارّ سَائِغ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى ( فِي تِسْع آيَات ) أَيْ : اِذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْن بِهَذِهِ الْآيَة فِي جُمْلَة تِسْع آيَات , وَفِي رِوَايَة عَطَاء الْخُرَاسَانِيّ " قَالَ فَمَتَى السَّاعَة ؟ قَالَ : هِيَ فِي خَمْس مِنْ الْغَيْب لَا يَعْلَمهَا إِلَّا اللَّه " قَالَ الْقُرْطُبِيّ : لَا مَطْمَع لِأَحَدٍ فِي عِلْم شَيْء مِنْ هَذِهِ الْأُمُور الْخَمْسَة لِهَذَا الْحَدِيث , وَقَدْ فَسَّرَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَوْل اللَّه تَعَالَى ( وَعِنْده مَفَاتِح الْغَيْب لَا يَعْلَمهَا إِلَّا هُوَ ) بِهَذِهِ الْخَمْس وَهُوَ فِي الصَّحِيح.
قَالَ : فَمَنْ اِدَّعَى عِلْم شَيْء مِنْهَا غَيْر مُسْنِده إِلَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ كَاذِبًا فِي دَعْوَاهُ.
قَالَ : وَأَمَّا ظَنّ الْغَيْب فَقَدْ يَجُوز مِنْ الْمُنَجِّم وَغَيْره إِذَا كَانَ عَنْ أَمْر عَادِيّ وَلَيْسَ ذَلِكَ بِعِلْمٍ.
وَقَدْ نَقَلَ اِبْن عَبْد الْبَرّ الْإِجْمَاع عَلَى تَحْرِيم أَخْذ الْأُجْرَة وَالْجُعَل وَإِعْطَائِهَا فِي ذَلِكَ , وَجَاءَ عَنْ اِبْن مَسْعُود قَالَ : أُوتِيَ نَبِيّكُمْ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِلْم كُلّ شَيْء سِوَى هَذِهِ الْخَمْس.
وَعَنْ اِبْن عُمَر مَرْفُوعًا نَحْوه أَخْرَجَهُمَا أَحْمَد , وَأَخْرَجَ حُمَيْدُ بْن زَنْجَوَيْهِ عَنْ بَعْض الصَّحَابَة أَنَّهُ ذَكَرَ الْعِلْم بِوَقْتِ الْكُسُوف قَبْل ظُهُوره فَأُنْكِرَ عَلَيْهِ فَقَالَ : إِنَّمَا الْغَيْب خَمْس - وَتَلَا هَذِهِ الْآيَة - وَمَا عَدَا ذَلِكَ غَيْب يَعْلَمهُ قَوْم وَيَجْهَلهُ قَوْم.
‏ ‏( تَنْبِيه ) : ‏ ‏تَضَمَّنَ الْجَوَاب زِيَادَة عَلَى السُّؤَال لِلِاهْتِمَامِ بِذَلِكَ إِرْشَادًا لِلْأُمَّةِ لِمَا يَتَرَتَّب عَلَى مَعْرِفَة ذَلِكَ مِنْ الْمَصْلَحَة.
فَإِنْ قِيلَ : لَيْسَ فِي الْآيَة أَدَاة حَصْر كَمَا فِي الْحَدِيث , أَجَابَ الطِّيبِيّ بِأَنَّ الْفِعْل إِذَا كَانَ عَظِيم الْخَطَر وَمَا يَنْبَنِي عَلَيْهِ الْفِعْل رَفِيع الشَّأْن فُهِمَ مِنْهُ الْحَصْر عَلَى سَبِيل الْكِنَايَة , وَلَا سِيَّمَا إِذَا لُوحِظَ مَا ذُكِرَ فِي أَسْبَاب النُّزُول مِنْ أَنَّ الْعَرَب كَانُوا يَدَّعُونَ عِلْم نُزُول الْغَيْث.
فَيُشْعِر بِأَنَّ الْمُرَاد مِنْ الْآيَة نَفْي عِلْمهمْ بِذَلِكَ وَاخْتِصَاصه بِاَللَّهِ سُبْحَانه وَتَعَالَى.
‏ ‏( فَائِدَة ) : ‏ ‏النُّكْتَة فِي الْعُدُول عَنْ الْإِثْبَات إِلَى النَّفْي فِي قَوْله تَعَالَى ( وَمَا تَدْرِي نَفْس مَاذَا تَكْسِب غَدًا ) وَكَذَا التَّعْبِير بِالدِّرَايَةِ دُون الْعِلْم لِلْمُبَالَغَةِ وَالتَّعْمِيم , إِذْ الدِّرَايَة اِكْتِسَاب عِلْم الشَّيْء بِحِيلَةٍ , فَإِذَا اِنْتَفَى ذَلِكَ عَنْ كُلّ نَفْس مَعَ كَوْنه مِنْ مُخْتَصَّاتهَا وَلَمْ تَقَع مِنْهُ عَلَى عِلْم كَانَ عَدَم اِطِّلَاعهَا عَلَى عِلْم غَيْر ذَلِكَ مِنْ بَاب أَوْلَى.
ا ه مُلَخَّصًا مِنْ كَلَام الطِّيبِيّ.
‏ ‏قَوْله : ( الْآيَة ) ‏ ‏أَيْ : تَلَا الْآيَة إِلَى آخِر السُّورَة , وَصَرَّحَ بِذَلِكَ الْإِسْمَاعِيلِيّ , وَكَذَا فِي رِوَايَة عُمَارَة.
وَلِمُسْلِمٍ إِلَى قَوْله : ( خَبِير ) وَكَذَا فِي رِوَايَة أَبِي فَرْوَة.
وَأَمَّا مَا وَقَعَ عِنْد الْمُؤَلِّف فِي التَّفْسِير مِنْ قَوْله : إِلَى ( الْأَرْحَام ) فَهُوَ تَقْصِير مِنْ بَعْض الرُّوَاة , وَالسِّيَاق يُرْشِد إِلَى أَنَّهُ تَلَا الْآيَة كُلّهَا.
‏ ‏قَوْله : ( ثُمَّ أَدْبَرَ فَقَالَ : رُدُّوهُ ) ‏ ‏زَادَ فِي التَّفْسِير " فَأَخَذُوا لِيَرُدُّوهُ فَلَمْ يَرَوْا شَيْئًا ".
فِيهِ أَنَّ الْمَلَك يَجُوز أَنْ يَتَمَثَّل لِغَيْرِ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَرَاهُ وَيَتَكَلَّم بِحَضْرَتِهِ وَهُوَ يَسْمَع , وَقَدْ ثَبَتَ عَنْ عِمْرَان بْن حُصَيْنٍ أَنَّهُ كَانَ يَسْمَع كَلَام الْمَلَائِكَة.
وَاَللَّه أَعْلَم.
‏ ‏قَوْله ( جَاءَ يُعَلِّم النَّاس ) ‏ ‏فِي التَّفْسِير " لِيُعَلِّم " وَلِلْإِسْمَاعِيلِيِّ " أَرَادَ أَنْ تَعْلَمُوا إِذَا لَمْ تَسْأَلُوا " وَمِثْله لِعُمَارَة , وَفِي رِوَايَة أَبِي فَرْوَة " وَاَلَّذِي بَعَثَ مُحَمَّدًا بِالْحَقِّ مَا كُنْت بِأَعْلَم بِهِ مِنْ رَجُل مِنْكُمْ , وَإِنَّهُ لَجِبْرِيل " وَفِي حَدِيث أَبِي عَامِر " ثُمَّ وَلَّى فَلَمَّا لَمْ نَرَ طَرِيقه قَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : سُبْحَان اللَّه , هَذَا جِبْرِيل جَاءَ لِيُعَلِّم النَّاس دِينهمْ.
وَاَلَّذِي نَفْس مُحَمَّد بِيَدِهِ مَا جَاءَنِي قَطُّ إِلَّا وَأَنَا أَعْرِفهُ , إِلَّا أَنْ تَكُون هَذِهِ الْمَرَّة " , وَفِي رِوَايَة التَّيْمِيِّ " ثُمَّ نَهَضَ فَوَلَّى , فَقَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : عَلَيَّ بِالرَّجُلِ , فَطَلَبْنَاهُ كُلّ مَطْلَب فَلَمْ نَقْدِر عَلَيْهِ.
فَقَالَ : هَلْ تَدْرُونَ مَنْ هَذَا ؟ هَذَا جِبْرِيل أَتَاكُمْ لِيُعَلِّمكُمْ دِينكُمْ , خُذُوا عَنْهُ , فَوَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا شُبِّهَ عَلَيَّ مُنْذُ أَتَانِي قَبْل مَرَّتِي هَذِهِ , وَمَا عَرَفْته حَتَّى وَلَّى ".
قَالَ اِبْن حِبَّان تَفَرَّدَ سُلَيْمَان التَّيْمِيُّ بِقَوْلِهِ " خُذُوا عَنْهُ ".
قُلْت : وَهُوَ مِنْ الثِّقَات الْأَثْبَات , وَفِي قَوْله " جَاءَ لِيُعَلِّم النَّاس دِينهمْ " إِشَارَة إِلَى الزِّيَادَة , فَمَا تَفَرَّدَ إِلَّا بِالتَّصْرِيحِ , وَإِسْنَاد التَّعْلِيم إِلَى جِبْرِيل مَجَازِيّ ; لِأَنَّهُ كَانَ السَّبَب فِي الْجَوَاب , فَلِذَلِكَ أَمَرَ بِالْأَخْذِ عَنْهُ.
وَاتَّفَقَتْ هَذِهِ الرِّوَايَات عَلَى أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخْبَرَ الصَّحَابَة بِشَأْنِهِ بَعْد أَنْ اِلْتَمَسُوهُ فَلَمْ يَجِدُوهُ.
وَأَمَّا مَا وَقَعَ عِنْد مُسْلِم وَغَيْره مِنْ حَدِيث عُمَر فِي رِوَايَة كَهْمَس " ثُمَّ اِنْطَلَقَ , قَالَ عُمَر : فَلَبِثْت مَلِيًّا ثُمَّ قَالَ : يَا عُمَر أَتَدْرِي مَنْ السَّائِل ؟ قُلْت : اللَّه وَرَسُوله أَعْلَم.
قَالَ : فَإِنَّهُ جِبْرِيل " ; فَقَدْ جَمَعَ بَيْن الرِّوَايَتَيْنِ بَعْض الشُّرَّاح بِأَنَّ قَوْله " فَلَبِثْت مَلِيًّا " أَيْ : زَمَانًا بَعْد اِنْصِرَافه , فَكَأَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْلَمَهُمْ بِذَلِكَ بَعْد مُضِيّ وَقْت وَلَكِنَّهُ فِي ذَلِكَ الْمَجْلِس.
لَكِنْ يُعَكِّر عَلَى هَذَا الْجَمْع قَوْله فِي رِوَايَة النَّسَائِيِّ وَالتِّرْمِذِيّ " فَلَبِثْت ثَلَاثًا " لَكِنْ اِدَّعَى بَعْضهمْ فِيهَا التَّصْحِيف , وَأَنَّ " مَلِيًّا " صُغِّرَتْ مِيمهَا فَأَشْبَهَتْ " ثَلَاثًا " لِأَنَّهَا تُكْتَب بِلَا أَلِف , وَهَذِهِ الدَّعْوَى مَرْدُودَة , فَإِنَّ فِي رِوَايَة أَبِي عَوَانَة " فَلَبِثْنَا لَيَالِي , فَلَقِيَنِي رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْد ثَلَاث " وَلِابْنِ حِبَّان " بَعْد ثَالِثَة " , وَلِابْنِ مَنْدَهْ " بَعْد ثَلَاثَة أَيَّام ".
وَجَمَعَ النَّوَوِيّ بَيْن الْحَدِيثَيْنِ بِأَنَّ عُمَر لَمْ يَحْضُر قَوْل النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَجْلِس , بَلْ كَانَ مِمَّنْ قَامَ إِمَّا مَعَ الَّذِينَ تَوَجَّهُوا فِي طَلَب الرَّجُل أَوْ لِشُغْلٍ آخَر وَلَمْ يَرْجِع مَعَ مَنْ رَجَعَ لِعَارِضٍ عَرَضَ لَهُ , فَأَخْبَرَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْحَاضِرِينَ فِي الْحَال , وَلَمْ يَتَّفِق الْإِخْبَار لِعُمَر إِلَّا بَعْد ثَلَاثَة أَيَّام , وَيَدُلّ عَلَيْهِ قَوْله " فَلَقِيَنِي " وَقَوْله " فَقَالَ لِي يَا عُمَر " فَوَجَّهَ الْخِطَاب لَهُ وَحْده , بِخِلَافِ إِخْبَاره الْأَوَّل , وَهُوَ جَمْع حَسَن.
‏ ‏( تَنْبِيهَات ) : ‏ ‏الْأَوَّل دَلَّتْ الرِّوَايَات الَّتِي ذَكَرْنَاهَا عَلَى أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا عَرَفَ أَنَّهُ جِبْرِيل إِلَّا فِي آخِر الْحَال , وَأَنَّ جِبْرِيل أَتَاهُ فِي صُورَة رَجُل حَسَن الْهَيْئَة لَكِنَّهُ غَيْر مَعْرُوف لَدَيْهِمْ , وَأَمَّا مَا وَقَعَ فِي رِوَايَة النَّسَائِيِّ مِنْ طَرِيق أَبِي فَرْوَة فِي آخِر الْحَدِيث " وَإِنَّهُ لَجِبْرِيل نَزَلَ فِي صُورَة دِحْيَة الْكَلْبِيّ " فَإِنَّ قَوْله نَزَلَ فِي صُورَة دِحْيَة الْكَلْبِيّ وَهْم ; لِأَنَّ دِحْيَة مَعْرُوف عِنْدهمْ , وَقَدْ قَالَ عُمَر " مَا يَعْرِفهُ مِنَّا أَحَد " , وَقَدْ أَخْرَجَهُ مُحَمَّد بْن نَصْر الْمَرْوَزِيُّ فِي كِتَاب الْإِيمَان لَهُ مِنْ الْوَجْه الَّذِي أَخْرَجَهُ مِنْهُ النَّسَائِيُّ فَقَالَ فِي آخِره " فَإِنَّهُ جِبْرِيل جَاءَ لِيُعَلِّمكُمْ دِينكُمْ " حَسْب.
وَهَذِهِ الرِّوَايَة هِيَ الْمَحْفُوظَة لِمُوَافَقَتِهَا بَاقِي الرِّوَايَات.
‏ ‏الثَّانِي : قَالَ اِبْن الْمُنِير : فِي قَوْله " يُعَلِّمكُمْ دِينكُمْ " دَلَالَة عَلَى أَنَّ السُّؤَال الْحَسَن يُسَمَّى عِلْمًا وَتَعْلِيمًا ; لِأَنَّ جِبْرِيل لَمْ يَصْدُر مِنْهُ سِوَى السُّؤَال , وَمَعَ ذَلِكَ فَقَدْ سَمَّاهُ مُعَلِّمًا , وَقَدْ اِشْتَهَرَ قَوْلهمْ : حُسْن السُّؤَال نِصْف الْعِلْم , وَيُمْكِن أَنْ يُؤْخَذ مِنْ هَذَا الْحَدِيث لِأَنَّ الْفَائِدَة فِيهِ اِنْبَنَتْ عَلَى السُّؤَال وَالْجَوَاب مَعًا.
‏ ‏الثَّالِث قَالَ الْقُرْطُبِيّ : هَذَا الْحَدِيث يَصْلُح أَنْ يُقَال لَهُ أُمّ السُّنَّة , لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنْ جُمَل عِلْم السُّنَّة.
وَقَالَ الطِّيبِيُّ : لِهَذِهِ النُّكْتَة اِسْتَفْتَحَ بِهِ الْبَغَوِيُّ كِتَابَيْهِ " الْمَصَابِيح " و " شَرْح السُّنَّة " اِقْتِدَاء بِالْقُرْآنِ فِي اِفْتِتَاحه بِالْفَاتِحَةِ ; لِأَنَّهَا تَضَمَّنَتْ عُلُوم الْقُرْآن إِجْمَالًا.
وَقَالَ الْقَاضِي عِيَاض : اِشْتَمَلَ هَذَا الْحَدِيث عَلَى جَمِيع وَظَائِف الْعِبَادَات الظَّاهِرَة وَالْبَاطِنَة مِنْ عُقُود الْإِيمَان اِبْتِدَاء وَحَالًا وَمَآلًا وَمِنْ أَعْمَال الْجَوَارِح , وَمِنْ إِخْلَاص السَّرَائِر وَالتَّحَفُّظ مِنْ آفَات الْأَعْمَال , حَتَّى إِنَّ عُلُوم الشَّرِيعَة كُلّهَا رَاجِعَة إِلَيْهِ وَمُتَشَعِّبَة مِنْهُ.
قُلْت : وَلِهَذَا أَشْبَعْت الْقَوْل فِي الْكَلَام عَلَيْهِ , مَعَ أَنَّ الَّذِي ذَكَرْته وَإِنْ كَانَ كَثِيرًا لَكِنَّهُ بِالنِّسْبَةِ لِمَا يَتَضَمَّنهُ قَلِيل , فَلَمْ أُخَالِف طَرِيق الِاخْتِصَار.
وَاَللَّه الْمُوَفِّق.
‏ ‏قَوْله : ( قَالَ أَبُو عَبْد اللَّه ) ‏ ‏يَعْنِي الْمُؤَلِّف " جَعَلَ ذَلِكَ كُلّه مِنْ الْإِيمَان " أَيْ : الْإِيمَان الْكَامِل الْمُشْتَمِل عَلَى هَذِهِ الْأُمُور كُلّهَا.


حديث أن هرقل قال له سألتك هل يزيدون أم ينقصون فزعمت أنهم يزيدون وكذلك الإيمان

الحديث بالسند الكامل مع التشكيل

‏ ‏حَدَّثَنَا ‏ ‏إِبْرَاهِيمُ بْنُ حَمْزَةَ ‏ ‏قَالَ حَدَّثَنَا ‏ ‏إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ ‏ ‏عَنْ ‏ ‏صَالِحٍ ‏ ‏عَنْ ‏ ‏ابْنِ شِهَابٍ ‏ ‏عَنْ ‏ ‏عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ ‏ ‏أَنَّ ‏ ‏عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ ‏ ‏أَخْبَرَهُ قَالَ أَخْبَرَنِي ‏ ‏أَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ ‏ ‏أَنَّ ‏ ‏هِرَقْلَ ‏ ‏قَالَ لَهُ سَأَلْتُكَ هَلْ يَزِيدُونَ أَمْ يَنْقُصُونَ فَزَعَمْتَ أَنَّهُمْ يَزِيدُونَ وَكَذَلِكَ الْإِيمَانُ حَتَّى يَتِمَّ وَسَأَلْتُكَ هَلْ يَرْتَدُّ أَحَدٌ سَخْطَةً لِدِينِهِ بَعْدَ أَنْ يَدْخُلَ فِيهِ فَزَعَمْتَ أَنْ لَا وَكَذَلِكَ الْإِيمَانُ حِينَ تُخَالِطُ بَشَاشَتُهُ الْقُلُوبَ لَا يَسْخَطُهُ أَحَدٌ ‏

كتب الحديث النبوي الشريف

المزيد من أحاديث صحيح البخاري

الحلال بين والحرام بين وبينهما مشبهات لا يعلمها كث...

عن النعمان بن بشير، يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " الحلال بين، والحرام بين، وبينهما مشبهات لا يعلمها كثير من الناس، فمن اتقى المشبهات...

أمرهم بأربع ونهاهم عن أربع

عن أبي جمرة، قال: كنت أقعد مع ابن عباس يجلسني على سريره فقال: أقم عندي حتى أجعل لك سهما من مالي فأقمت معه شهرين، ثم قال: إن وفد عبد القيس لما أتوا الن...

الأعمال بالنية ولكل امرئ ما نوى

عن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «الأعمال بالنية، ولكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته ل...

إذا أنفق الرجل على أهله يحتسبها فهو له صدقة

عن أبي مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا أنفق الرجل على أهله يحتسبها فهو له صدقة»

إنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا أجرت عليها

عن سعد بن أبي وقاص، أنه أخبره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا أجرت عليها، حتى ما تجعل في فم امرأتك»

بايعه على إقام الصلاة وإيتاء الزكاة والنصح لكل مسل...

عن جرير بن عبد الله، قال: «بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم على إقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والنصح لكل مسلم»

أبايعك على الإسلام فشرط علي والنصح لكل مسلم فبايع...

عن جرير بن عبد الله، يقول يوم مات المغيرة بن شعبة، قام فحمد الله وأثنى عليه، وقال: عليكم باتقاء الله وحده لا شريك له، والوقار، والسكينة، حتى يأتيكم أم...

إذا ضيعت الأمانة فانتظر الساعة

عن أبي هريرة قال: بينما النبي صلى الله عليه وسلم في مجلس يحدث القوم، جاءه أعرابي فقال: متى الساعة؟ فمضى رسول الله صلى الله عليه وسلم يحدث، فقال بعض ال...

نادى بأعلى صوته ويل للأعقاب من النار

عن عبد الله بن عمرو، قال: تخلف عنا النبي صلى الله عليه وسلم في سفرة سافرناها فأدركنا - وقد أرهقتنا الصلاة - ونحن نتوضأ، فجعلنا نمسح على أرجلنا، فنادى...