53-
عن أبي جمرة، قال: كنت أقعد مع ابن عباس يجلسني على سريره فقال: أقم عندي حتى أجعل لك سهما من مالي فأقمت معه شهرين، ثم قال: إن وفد عبد القيس لما أتوا النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من القوم؟ - أو من الوفد؟ -» قالوا: ربيعة.
قال: «مرحبا بالقوم، أو بالوفد، غير خزايا ولا ندامى»، فقالوا: يا رسول الله إنا لا نستطيع أن نأتيك إلا في الشهر الحرام، وبيننا وبينك هذا الحي من كفار مضر، فمرنا بأمر فصل، نخبر به من وراءنا، وندخل به الجنة، وسألوه عن الأشربة: فأمرهم بأربع، ونهاهم عن أربع، أمرهم: بالإيمان بالله وحده، قال: «أتدرون ما الإيمان بالله وحده» قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: «شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصيام رمضان، وأن تعطوا من المغنم الخمس» ونهاهم عن أربع: عن الحنتم والدباء والنقير والمزفت "، وربما قال: «المقير» وقال: «احفظوهن وأخبروا بهن من وراءكم»
أخرجه مسلم في الإيمان باب الأمر بالإيمان بالله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم وشرائع الدين / رقم 17
(سهما) نصيبا.
(الوفد) اسم جمع لوافد بمعنى قادم والوفد الجماعة المختارة من قومهم لينوبوا عنهم في الأمور المهمات.
(غير خزايا ولا ندامى) غير أذلاء بمجيئكم ولا نادمين على قدومكم.
(فصل) واضح بحيث ينفصل به المراد عن غيره.
(تعطوا من المغنم الخمس) تدفعوا خمس ما تغنمون في الجهاد للإمام ليصرفه في مصارفه الشرعية.
(الحنتم) جرار كانت تعمل من طين وشعر ودم.
(الدباء) اليقطين إذا يبس اتخذ وعاء.
(النقير) أصل النخلة ينقر ويجوف فيتخذ منه وعاء.
(المزفت) ما طلي بالزفت.
(المقير) ما طلي بالقار وهو نبت يحرق إذا يبس وتطلى به الأوعية والسفن.
والمراد بالنهي عن هذه الأوعية النهي عن الانتباذ فيها لأنها يسرع فيها الإسكار فربما شرب ما انتبذ فيها دون أن ينتبه إليه فيقع في الحرام ثم ثبتت الرخصة في الانتباذ في كل وعاء مع النهي عن شرب كل مسكر.
ومعنى الانتباذ أن يوضع الزبيب أو التمر في الماء ويشرب نقيعه قبل أن يختمر ويصبح مسكرا.
(من وراءكم) الذين بقوا في ديارهم من قومكم
فتح الباري شرح صحيح البخاري: ابن حجر العسقلاني - أحمد بن علي بن حجر العسقلاني
قَوْله : ( حَدَّثَنَا زَكَرِيَّاء ) هُوَ اِبْن أَبِي زَائِدَة , وَاسْم أَبِي زَائِدَة خَالِد بْن مَيْمُون الْوَادِعِيّ.
قَوْله : ( عَنْ عَامِر ) هُوَ الشَّعْبِيّ الْفَقِيه الْمَشْهُور.
وَرِجَال الْإِسْنَاد كُوفِيُّونَ.
وَقَدْ دَخَلَ النُّعْمَان الْكُوفَة وَوَلِيَ إِمْرَتهَا.
وَلِأَبِي عَوَانَة فِي صَحِيحه مِنْ طَرِيق أَبِي حَرِيز - وَهُوَ بِفَتْحِ الْحَاء الْمُهْمَلَة وَآخِره زَاي - عَنْ الشَّعْبِيّ أَنَّ النُّعْمَان بْن بَشِير خَطَبَ بِهِ بِالْكُوفَةِ , وَفِي رِوَايَة لِمُسْلِمٍ أَنَّهُ خَطَبَ بِهِ بِحِمْص.
وَيُجْمَع بَيْنهمَا بِأَنَّهُ سَمِعَ مِنْهُ مَرَّتَيْنِ , فَإِنَّهُ وَلِيَ إِمْرَة الْبَلَدَيْنِ وَاحِدَة بَعْد أُخْرَى , وَزَادَ مُسْلِم وَالْإِسْمَاعِيلِيّ مِنْ طَرِيق زَكَرِيَّاء فِيهِ " وَأَهْوَى النُّعْمَان بِإِصْبَعِهِ إِلَى أُذُنَيْهِ يَقُول : سَمِعْت رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول " وَفِي هَذَا رَدّ لِقَوْلِ الْوَاقِدِيّ وَمَنْ تَبِعَهُ إِنَّ النُّعْمَان لَا يَصِحّ سَمَاعه مِنْ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , وَفِيهِ دَلِيل عَلَى صِحَّة تَحَمُّل الصَّبِيّ الْمُمَيِّز لِأَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَاتَ وَلِلنُّعْمَانِ ثَمَان سِنِينَ , وَزَكَرِيَّاء مَوْصُوف بِالتَّدْلِيسِ , وَلَمْ أَرَهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرهمَا مِنْ رِوَايَته عَنْ الشَّعْبِيّ إِلَّا مُعَنْعَنًا ثُمَّ وَجَدْته فِي فَوَائِد اِبْن أَبِي الْهَيْثَم مِنْ طَرِيق يَزِيد بْن هَارُون عَنْ زَكَرِيَّاء حَدَّثَنَا الشَّعْبِيّ , فَحَصَلَ الْأَمْن مِنْ تَدْلِيسه.
( فَائِدَة ) : اِدَّعَى أَبُو عَمْرو الدَّانِيّ أَنَّ هَذَا الْحَدِيث لَمْ يَرْوِهِ عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَيْر النُّعْمَان بْن بَشِير , فَإِنْ أَرَادَ مِنْ وَجْه صَحِيح فَمُسَلَّم , وَإِلَّا فَقَدْ رُوِّينَاهُ مِنْ حَدِيث اِبْن عُمَر وَعَمَّار فِي الْأَوْسَط لِلطَّبَرَانِيّ , وَمِنْ حَدِيث اِبْن عَبَّاس فِي الْكَبِير لَهُ , وَمِنْ حَدِيث وَاثِلَة فِي التَّرْغِيب لِلْأَصْبَهَانِيِّ , وَفِي أَسَانِيدهَا مَقَال.
وَادَّعَى أَيْضًا أَنَّهُ لَمْ يَرْوِهِ عَنْ النُّعْمَان غَيْر الشَّعْبِيّ , وَلَيْسَ كَمَا قَالَ , فَقَدْ رَوَاهُ عَنْ النُّعْمَان أَيْضًا خَيْثَمَة بْن عَبْد الرَّحْمَن عِنْد أَحْمَد وَغَيْره , وَعَبْد الْمَلِك بْن عُمَيْر عِنْد أَبِي عَوَانَة وَغَيْره , وَسِمَاك بْن حَرْب عِنْد الطَّبَرَانِيّ ; لَكِنَّهُ مَشْهُور عَنْ الشَّعْبِيّ رَوَاهُ عَنْهُ جَمْع جَمّ مِنْ الْكُوفِيِّينَ , وَرَوَاهُ عَنْهُ مِنْ الْبَصْرِيِّينَ عَبْد اللَّه بْن عَوْن , وَقَدْ سَاقَ الْبُخَارِيّ إِسْنَاده فِي الْبُيُوع وَلَمْ يَسُقْ لَفْظه , وَسَاقَهُ أَبُو دَاوُدَ , وَسَنُشِيرُ إِلَى مَا فِيهِ مِنْ فَائِدَة إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى.
قَوْله : ( الْحَلَال بَيِّن وَالْحَرَام بَيِّن ) أَيْ فِي عَيْنهمَا وَوَصْفهمَا بِأَدِلَّتِهِمَا الظَّاهِرَة.
قَوْله : ( وَبَيْنهمَا مُشَبَّهَات ) بِوَزْنِ مُفَعَّلَات بِتَشْدِيدِ الْعَيْن الْمَفْتُوحَة وَهِيَ رِوَايَة مُسْلِم , أَيْ : شُبِّهَتْ بِغَيْرِهَا مِمَّا لَمْ يَتَبَيَّن بِهِ حُكْمهَا عَلَى التَّعْيِين.
وَفِي رِوَايَة الْأَصِيلِيّ " مُشْتَبِهَات " بِوَزْنِ مُفْتَعِلَات بِتَاءٍ مَفْتُوحَة وَعَيْن خَفِيفَة مَكْسُورَة وَهِيَ رِوَايَة اِبْن مَاجَهْ , وَهُوَ لَفْظ اِبْن عَوْن , وَالْمَعْنَى أَنَّهَا مُوَحَّدَة اِكْتَسَبَتْ الشَّبَه مِنْ وَجْهَيْنِ مُتَعَارِضَيْنِ , وَرَوَاهُ الدَّارِمِيُّ عَنْ أَبِي نُعَيْمٍ شَيْخ الْبُخَارِيّ فِيهِ بِلَفْظِ " وَبَيْنهمَا مُتَشَابِهَات ".
قَوْله : ( لَا يَعْلَمهَا كَثِير مِنْ النَّاس ) أَيْ : لَا يَعْلَم حُكْمهَا , وَجَاءَ وَاضِحًا فِي رِوَايَة التِّرْمِذِيّ بِلَفْظِ " لَا يَدْرِي كَثِير مِنْ النَّاس أَمِنَ الْحَلَال هِيَ أَمْ مِنْ الْحَرَام " وَمَفْهُوم قَوْله " كَثِير " أَنَّ مَعْرِفَة حُكْمهَا مُمْكِن لَكِنْ لِلْقَلِيلِ مِنْ النَّاس وَهُمْ الْمُجْتَهِدُونَ , فَالشُّبُهَات عَلَى هَذَا فِي حَقّ غَيْرهمْ , وَقَدْ تَقَع لَهُمْ حَيْثُ لَا يَظْهَر لَهُمْ تَرْجِيح أَحَد الدَّلِيلَيْنِ.
قَوْله : ( فَمَنْ اِتَّقَى الْمُشَبَّهَات ) أَيْ : حَذِرَ مِنْهَا , وَالِاخْتِلَاف فِي لَفْظهَا بَيْن الرُّوَاة نَظِير الَّتِي قَبْلهَا لَكِنْ عِنْد مُسْلِم وَالْإِسْمَاعِيلِيّ " الشُّبُهَات " بِالضَّمِّ جَمْع شُبْهَة.
قَوْله : ( اِسْتَبْرَأَ ) بِالْهَمْزِ بِوَزْنِ اِسْتَفْعَلَ مِنْ الْبَرَاءَة , أَيْ : بَرَّأَ دِينه مِنْ النَّقْص وَعِرْضه مِنْ الطَّعْن فِيهِ ; لِأَنَّ مَنْ لَمْ يُعْرَف بِاجْتِنَابِ الشُّبُهَات لَمْ يَسْلَم لِقَوْلِ مَنْ يَطْعَن فِيهِ , وَفِيهِ دَلِيل عَلَى أَنَّ مَنْ لَمْ يَتَوَقَّ الشُّبْهَة فِي كَسْبه وَمَعَاشه فَقَدْ عَرَّضَ نَفْسه لِلطَّعْنِ فِيهِ , وَفِي هَذَا إِشَارَة إِلَى الْمُحَافَظَة عَلَى أُمُور الدِّين وَمُرَاعَاة الْمُرُوءَة.
قَوْله ( وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَات ) فِيهَا أَيْضًا مَا تَقَدَّمَ مِنْ اِخْتِلَاف الرُّوَاة.
وَاخْتُلِفَ فِي حُكْم الشُّبُهَات فَقِيلَ التَّحْرِيم , وَهُوَ مَرْدُود.
وَقِيلَ الْكَرَاهَة , وَقِيلَ الْوَقْف.
وَهُوَ كَالْخِلَافِ فِيمَا قَبْل الشَّرْع.
وَحَاصِل مَا فَسَّرَ بِهِ الْعُلَمَاء الشُّبُهَات أَرْبَعَة أَشْيَاء : أَحَدهَا تَعَارُض الْأَدِلَّة كَمَا تَقَدَّمَ , ثَانِيهَا اِخْتِلَاف الْعُلَمَاء وَهِيَ مُنْتَزَعَة مِنْ الْأُولَى , ثَالِثهَا أَنَّ الْمُرَاد بِهَا مُسَمَّى الْمَكْرُوه لِأَنَّهُ يَجْتَذِبهُ جَانِبَا الْفِعْل وَالتَّرْك , رَابِعهَا أَنَّ الْمُرَاد بِهَا الْمُبَاح , وَلَا يُمْكِن قَائِل هَذَا أَنْ يَحْمِلهُ عَلَى مُتَسَاوِي الطَّرَفَيْنِ مِنْ كُلّ وَجْه , بَلْ يُمْكِن حَمْله عَلَى مَا يَكُون مِنْ قِسْم خِلَاف الْأَوْلَى , بِأَنْ يَكُون مُتَسَاوِي الطَّرَفَيْنِ بِاعْتِبَارِ ذَاته , رَاجِح الْفِعْل أَوْ التَّرْك بِاعْتِبَارِ أَمْر خَارِج.
وَنَقَلَ اِبْن الْمُنِير فِي مَنَاقِب شَيْخه الْقَبَّارِيّ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يَقُول : الْمَكْرُوه عَقَبَة بَيْن الْعَبْد وَالْحَرَام , فَمَنْ اِسْتَكْثَرَ مِنْ الْمَكْرُوه تَطَرَّقَ إِلَى الْحَرَام , وَالْمُبَاح عَقَبَة بَيْنه وَبَيْن الْمَكْرُوه , فَمَنْ اِسْتَكْثَرَ مِنْهُ تَطَرَّقَ إِلَى الْمَكْرُوه.
وَهُوَ مَنْزَع حَسَن.
وَيُؤَيِّدهُ رِوَايَة اِبْن حِبَّان مِنْ طَرِيق ذَكَرَ مُسْلِم إِسْنَادهَا وَلَمْ يَسُقْ لَفْظهَا فِيهَا مِنْ الزِّيَادَة " اِجْعَلُوا بَيْنكُمْ وَبَيْن الْحَرَام سُتْرَة مِنْ الْحَلَال , مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ اِسْتَبْرَأَ لِعِرْضِهِ وَدِينه , وَمَنْ أَرْتَعَ فِيهِ كَانَ كَالْمُرْتِعِ إِلَى جَنْب الْحِمَى يُوشِك أَنْ يَقَع فِيهِ " وَالْمَعْنَى أَنَّ الْحَلَال حَيْثُ يُخْشَى أَنْ يَئُول فِعْله مُطْلَقًا إِلَى مَكْرُوه أَوْ مُحَرَّم يَنْبَغِي اِجْتِنَابه , كَالْإِكْثَارِ مَثَلًا مِنْ الطَّيِّبَات , فَإِنَّهُ يُحْوِج إِلَى كَثْرَة الِاكْتِسَاب الْمُوقِع فِي أَخْذ مَا لَا يُسْتَحَقّ أَوْ يُفْضِي إِلَى بَطَر النَّفْس , وَأَقَلّ مَا فِيهِ الِاشْتِغَال عَنْ مَوَاقِف الْعُبُودِيَّة , وَهَذَا مَعْلُوم بِالْعَادَةِ مُشَاهَد بِالْعِيَانِ.
وَاَلَّذِي يَظْهَر لِي رُجْحَان الْوَجْه الْأَوَّل عَلَى مَا سَأَذْكُرُهُ , وَلَا يَبْعُد أَنْ يَكُون كُلّ مِنْ الْأَوْجُه مُرَادًا , وَيَخْتَلِف ذَلِكَ بِاخْتِلَافِ النَّاس : فَالْعَالِم الْفَطِن لَا يَخْفَى عَلَيْهِ تَمْيِيز الْحُكْم فَلَا يَقَع لَهُ ذَلِكَ إِلَّا فِي الِاسْتِكْثَار مِنْ الْمُبَاح أَوْ الْمَكْرُوه كَمَا تَقَرَّرَ قَبْل , وَدُونه تَقَع لَهُ الشُّبْهَة فِي جَمِيع مَا ذُكِرَ بِحَسَبِ اِخْتِلَاف الْأَحْوَال.
وَلَا يَخْفَى أَنَّ الْمُسْتَكْثِر مِنْ الْمَكْرُوه تَصِير فِيهِ جُرْأَة عَلَى اِرْتِكَاب الْمَنْهِيّ فِي الْجُمْلَة , أَوْ يَحْمِلهُ اِعْتِيَاده اِرْتِكَاب الْمَنْهِيّ غَيْر الْمُحَرَّم عَلَى اِرْتِكَاب الْمَنْهِيّ الْمُحَرَّم إِذَا كَانَ مِنْ جِنْسه.
أَوْ يَكُون ذَلِكَ لِشُبْهَةٍ فِيهِ وَهُوَ أَنَّ مَنْ تَعَاطَى مَا نُهِيَ عَنْهُ يَصِير مُظْلِم الْقَلْب لِفِقْدَانِ نُور الْوَرَع فَيَقَع فِي الْحَرَام وَلَوْ لَمْ يَخْتَرْ الْوُقُوع فِيهِ.
وَوَقَعَ عِنْد الْمُصَنِّف فِي الْبُيُوع مِنْ رِوَايَة أَبِي فَرْوَة عَنْ الشَّعْبِيّ فِي هَذَا الْحَدِيث " فَمَنْ تَرَكَ مَا شُبِّهَ عَلَيْهِ مِنْ الْإِثْم كَانَ لِمَا اِسْتَبَانَ لَهُ أَتْرَك , وَمَنْ اِجْتَرَأَ عَلَى مَا يَشُكّ فِيهِ مِنْ الْإِثْم أَوْشَكَ أَنْ يُوَاقِع مَا اِسْتَبَانَ " وَهَذَا يُرَجِّح الْوَجْه الْأَوَّل كَمَا أَشَرْت إِلَيْهِ.
( تَنْبِيه ) : اِسْتَدَلَّ بِهِ اِبْن الْمُنِير عَلَى جَوَاز بَقَاء الْمُجْمَل بَعْد النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , وَفِي الِاسْتِدْلَال بِذَلِكَ نَظَر , إِلَّا إِنْ أَرَادَ بِهِ أَنَّهُ مُجْمَل فِي حَقّ بَعْض دُون بَعْض , أَوْ أَرَادَ الرَّدّ عَلَى مُنْكِرِي الْقِيَاس فَيَحْتَمِل مَا قَالَ.
وَاَللَّه أَعْلَم.
قَوْله : ( كَرَاعٍ يَرْعَى ) هَكَذَا فِي جَمِيع نُسَخ الْبُخَارِيّ مَحْذُوف جَوَاب الشَّرْط إِنْ أُعْرِبَتْ " مَنْ " شَرْطِيَّة وَقَدْ ثَبَتَ الْمَحْذُوف فِي رِوَايَة الدَّارِمِيِّ عَنْ أَبِي نُعَيْمٍ شَيْخ الْبُخَارِيّ فِيهِ فَقَالَ " وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَات وَقَعَ فِي الْحَرَام , كَالرَّاعِي يَرْعَى " وَيُمْكِن إِعْرَاب " مَنْ " فِي سِيَاق الْبُخَارِيّ مَوْصُولَة فَلَا يَكُون فِيهِ حَذْف , إِذْ التَّقْدِير وَاَلَّذِي وَقَعَ فِي الشُّبُهَات مِثْل رَاعٍ يَرْعَى , وَالْأَوَّل أَوْلَى لِثُبُوتِ الْمَحْذُوف فِي صَحِيح مُسْلِم وَغَيْره مِنْ طَرِيق زَكَرِيَّا الَّتِي أَخْرَجَهُ مِنْهَا الْمُؤَلِّف , وَعَلَى هَذَا فَقَوْله " كَرَاعٍ يَرْعَى " جُمْلَة مُسْتَأْنَفَة وَرَدَتْ عَلَى سَبِيل التَّمْثِيل لِلتَّنْبِيهِ بِالشَّاهِدِ عَلَى الْغَائِب.
وَالْحِمَى الْمَحْمِيّ , أُطْلِقَ الْمَصْدَر عَلَى اِسْم الْمَفْعُول.
وَفِي اِخْتِصَاص التَّمْثِيل بِذَلِكَ نُكْتَة , وَهِيَ أَنَّ مُلُوك الْعَرَب كَانُوا يَحْمُونَ لِمَرَاعِي مَوَاشِيهمْ أَمَاكِن مُخْتَصَّة يَتَوَعَّدُونَ مَنْ يَرْعَى فِيهَا بِغَيْرِ إِذْنهمْ بِالْعُقُوبَةِ الشَّدِيدَة , فَمَثَّلَ لَهُمْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَا هُوَ مَشْهُور عِنْدهمْ , فَالْخَائِف مِنْ الْعُقُوبَة الْمُرَاقِب لِرِضَا الْمَلِك يَبْعُد عَنْ ذَلِكَ الْحِمَى خَشْيَة أَنْ تَقَع مَوَاشِيه فِي شَيْء مِنْهُ , فَبُعْده أَسْلَم لَهُ وَلَوْ اِشْتَدَّ حَذَره.
وَغَيْر الْخَائِف الْمُرَاقِب يَقْرُب مِنْهُ وَيَرْعَى مِنْ جَوَانِبه , فَلَا يَأْمَن أَنْ تَنْفَرِد الْفَاذَّة فَتَقَع فِيهِ بِغَيْرِ اِخْتِيَاره , أَوْ يَمْحَل الْمَكَان الَّذِي هُوَ فِيهِ وَيَقَع الْخِصْب فِي الْحِمَى فَلَا يَمْلِك نَفْسه أَنْ يَقَع فِيهِ.
فَاَللَّه سُبْحَانه وَتَعَالَى هُوَ الْمَلِك حَقًّا , وَحِمَاهُ مَحَارِمه.
( تَنْبِيه ) : اِدَّعَى بَعْضهمْ أَنَّ التَّمْثِيل مِنْ كَلَام الشَّعْبِيّ , وَأَنَّهُ مُدْرَج فِي الْحَدِيث , حَكَى ذَلِكَ أَبُو عَمْرو الدَّانِيّ , وَلَمْ أَقِف عَلَى دَلِيله إِلَّا مَا وَقَعَ عِنْد اِبْن الْجَارُود وَالْإِسْمَاعِيلِيّ مِنْ رِوَايَة اِبْن عَوْن عَنْ الشَّعْبِيّ , قَالَ اِبْن عَوْن فِي آخِر الْحَدِيث : لَا أَدْرِي الْمَثَل مِنْ قَوْل النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ مِنْ قَوْل الشَّعْبِيّ.
قُلْت : وَتَرَدُّد اِبْن عَوْن فِي رَفْعه لَا يَسْتَلْزِم كَوْنه مُدْرَجًا ; لِأَنَّ الْأَثْبَات قَدْ جَزَمُوا بِاتِّصَالِهِ وَرَفْعه , فَلَا يَقْدَح شَكّ بَعْضهمْ فِيهِ.
وَكَذَلِكَ سُقُوط الْمَثَل مِنْ رِوَايَة بَعْض الرُّوَاة - كَأَبِي فَرْوَة عَنْ الشَّعْبِيّ - لَا يَقْدَح فِيمَنْ أَثْبَتَهُ ; لِأَنَّهُمْ حُفَّاظ.
وَلَعَلَّ هَذَا هُوَ السِّرّ فِي حَذْف الْبُخَارِيّ قَوْله " وَقَعَ فِي الْحَرَام " لِيَصِيرَ مَا قَبْل الْمَثَل مُرْتَبِطًا بِهِ فَيَسْلَم مِنْ دَعْوَى الْإِدْرَاج.
وَمِمَّا يُقَوِّي عَدَم الْإِدْرَاج رِوَايَة اِبْن حِبَّان الْمَاضِيَة , وَكَذَا ثُبُوت الْمَثَل مَرْفُوعًا فِي رِوَايَة اِبْن عَبَّاس وَعَمَّار بْن يَاسِر أَيْضًا.
قَوْله : ( أَلَا إِنَّ حِمَى اللَّه فِي أَرْضه مَحَارِمه ) سَقَطَ " فِي أَرْضه " مِنْ رِوَايَة الْمُسْتَمْلِيّ , وَثَبَتَتْ الْوَاو فِي قَوْله " أَلَا وَإِنَّ حِمَى اللَّه " فِي رِوَايَة غَيْر أَبِي ذَرّ , وَالْمُرَاد بِالْمَحَارِمِ فِعْل الْمَنْهِيّ الْمُحَرَّم أَوْ تَرْك الْمَأْمُور الْوَاجِب , وَلِهَذَا وَقَعَ فِي رِوَايَة أَبِي فَرْوَة التَّعْبِير بِالْمَعَاصِي بَدَل الْمَحَارِم.
وَقَوْله " أَلَا " لِلتَّنْبِيهِ عَلَى صِحَّة مَا بَعْدهَا , وَفِي إِعَادَتهَا وَتَكْرِيرهَا دَلِيل عَلَى عِظَم شَأْن مَدْلُولهَا.
قَوْله ( مُضْغَة ) أَيْ : قَدْر مَا يُمْضَغ , وَعَبَّرَ بِهَا هُنَا عَنْ مِقْدَار الْقَلْب فِي الرُّؤْيَة , وَسُمِّيَ الْقَلْب قَلْبًا لِتَقَلُّبِهِ فِي الْأُمُور , أَوْ لِأَنَّهُ خَالِص مَا فِي الْبَدَن , وَخَالِص كُلّ شَيْء قَلْبه , أَوْ لِأَنَّهُ وُضِعَ فِي الْجَسَد مَقْلُوبًا.
وَقَوْله " إِذَا صَلَحَتْ " وَ " إِذَا فَسَدَتْ " هُوَ بِفَتْحِ عَيْنهمَا وَتُضَمّ فِي الْمُضَارِع , وَحَكَى الْفَرَّاء الضَّمّ فِي مَاضِي صَلَحَ , وَهُوَ يُضَمّ وِفَاقًا إِذَا صَارَ لَهُ الصَّلَاح هَيْئَة لَازِمَة لِشَرَفٍ وَنَحْوه , وَالتَّعْبِير بِإِذَا لِتَحَقُّق الْوُقُوع غَالِبًا , وَقَدْ تَأْتِي بِمَعْنَى إِنْ كَمَا هُنَا.
وَخَصَّ الْقَلْب بِذَلِكَ لِأَنَّهُ أَمِير الْبَدَن , وَبِصَلَاحِ الْأَمِير تَصْلُح الرَّعِيَّة , وَبِفَسَادِهِ تَفْسُد.
وَفِيهِ تَنْبِيه عَلَى تَعْظِيم قَدْر الْقَلْب , وَالْحَثّ عَلَى صَلَاحه , وَالْإِشَارَة إِلَى أَنَّ لِطِيبِ الْكَسْب أَثَرًا فِيهِ.
وَالْمُرَاد الْمُتَعَلِّق بِهِ مِنْ الْفَهْم الَّذِي رَكَّبَهُ اللَّه فِيهِ.
وَيُسْتَدَلّ بِهِ عَلَى أَنَّ الْعَقْل فِي الْقَلْب , وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى ( فَتَكُون لَهُمْ قُلُوب يَعْقِلُونَ بِهَا ).
وَقَوْله تَعَالَى ( إِنَّ فِي ذَلِكَ لِذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْب ).
قَالَ الْمُفَسِّرُونَ : أَيْ : عَقْل.
وَعَبَّرَ عَنْهُ بِالْقَلْبِ لِأَنَّهُ مَحَلّ اِسْتِقْرَاره.
( فَائِدَة ) : لَمْ تَقَع هَذِهِ الزِّيَادَة الَّتِي أَوَّلهَا " أَلَا وَإِنَّ فِي الْجَسَد مُضْغَة " إِلَّا فِي رِوَايَة الشَّعْبِيّ , وَلَا هِيَ فِي أَكْثَر الرِّوَايَات عَنْ الشَّعْبِيّ , إِنَّمَا تَفَرَّدَ بِهَا فِي الصَّحِيحَيْنِ زَكَرِيَّا الْمَذْكُور عَنْهُ , وَتَابَعَهُ مُجَاهِد عِنْد أَحْمَد , وَمُغِيرَة وَغَيْره عِنْد الطَّبَرَانِيّ.
وَعَبَّرَ فِي بَعْض رِوَايَاته عَنْ الصَّلَاح وَالْفَسَاد بِالصِّحَّةِ وَالسَّقَم , وَمُنَاسَبَتهَا لِمَا قَبْلهَا بِالنَّظَرِ إِلَى أَنَّ الْأَصْل فِي الِاتِّقَاء وَالْوُقُوع هُوَ مَا كَانَ بِالْقَلْبِ ; لِأَنَّهُ عِمَاد الْبَدَن.
وَقَدْ عَظَّمَ الْعُلَمَاء أَمْر هَذَا الْحَدِيث فَعَدُّوهُ رَابِع أَرْبَعَة تَدُور عَلَيْهَا الْأَحْكَام كَمَا نُقِلَ عَنْ أَبَى دَاوُدَ , وَفِيهِ الْبَيْتَانِ الْمَشْهُورَانِ وَهُمَا : عُمْدَة الدِّين عِنْدنَا كَلِمَات مُسْنَدَات مِنْ قَوْل خَيْر الْبَرِيَّهْ اُتْرُكْ الْمُشْبِهَات وَازْهَدْ وَدَعْ مَا لَيْسَ يَعْنِيك وَاعْمَلَنَّ بِنِيَّهْ وَالْمَعْرُوف عَنْ أَبِي دَاوُدَ عَدّ " مَا نَهَيْتُكُمْ عَنْهُ فَاجْتَنِبُوهُ.
الْحَدِيث " بَدَل " اِزْهَدْ فِيمَا فِي أَيْدِي النَّاس " وَجَعَلَهُ بَعْضهمْ ثَالِث ثَلَاثَة حَذَفَ الثَّانِي , وَأَشَارَ اِبْن الْعَرَبِيّ إِلَى أَنَّهُ يُمْكِن أَنْ يُنْتَزَع مِنْهُ وَحْده جَمِيع الْأَحْكَام , قَالَ الْقُرْطُبِيّ : لِأَنَّهُ اِشْتَمَلَ عَلَى التَّفْصِيل بَيْن الْحَلَال وَغَيْره , وَعَلَى تَعَلُّق جَمِيع الْأَعْمَال بِالْقَلْبِ , فَمِنْ هُنَا يُمْكِن أَنْ تُرَدّ جَمِيع الْأَحْكَام إِلَيْهِ.
وَاَللَّه الْمُسْتَعَان.
حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْجَعْدِ قَالَ أَخْبَرَنَا شُعْبَةُ عَنْ أَبِي جَمْرَةَ قَالَ كُنْتُ أَقْعُدُ مَعَ ابْنِ عَبَّاسٍ يُجْلِسُنِي عَلَى سَرِيرِهِ فَقَالَ أَقِمْ عِنْدِي حَتَّى أَجْعَلَ لَكَ سَهْمًا مِنْ مَالِي فَأَقَمْتُ مَعَهُ شَهْرَيْنِ ثُمَّ قَالَ إِنَّ وَفْدَ عَبْدِ الْقَيْسِ لَمَّا أَتَوْا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ مَنْ الْقَوْمُ أَوْ مَنْ الْوَفْدُ قَالُوا رَبِيعَةُ قَالَ مَرْحَبًا بِالْقَوْمِ أَوْ بِالْوَفْدِ غَيْرَ خَزَايَا وَلَا نَدَامَى فَقَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّا لَا نَسْتَطِيعُ أَنْ نَأْتِيكَ إِلَّا فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ وَبَيْنَنَا وَبَيْنَكَ هَذَا الْحَيُّ مِنْ كُفَّارِ مُضَرَ فَمُرْنَا بِأَمْرٍ فَصْلٍ نُخْبِرْ بِهِ مَنْ وَرَاءَنَا وَنَدْخُلْ بِهِ الْجَنَّةَ وَسَأَلُوهُ عَنْ الْأَشْرِبَةِ فَأَمَرَهُمْ بِأَرْبَعٍ وَنَهَاهُمْ عَنْ أَرْبَعٍ أَمَرَهُمْ بِالْإِيمَانِ بِاللَّهِ وَحْدَهُ قَالَ أَتَدْرُونَ مَا الْإِيمَانُ بِاللَّهِ وَحْدَهُ قَالُوا اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ قَالَ شَهَادَةُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ وَإِقَامُ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءُ الزَّكَاةِ وَصِيَامُ رَمَضَانَ وَأَنْ تُعْطُوا مِنْ الْمَغْنَمِ الْخُمُسَ وَنَهَاهُمْ عَنْ أَرْبَعٍ عَنْ الْحَنْتَمِ وَالدُّبَّاءِ وَالنَّقِيرِ وَالْمُزَفَّتِ وَرُبَّمَا قَالَ الْمُقَيَّرِ وَقَالَ احْفَظُوهُنَّ وَأَخْبِرُوا بِهِنَّ مَنْ وَرَاءَكُمْ
عن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «الأعمال بالنية، ولكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته ل...
عن أبي مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا أنفق الرجل على أهله يحتسبها فهو له صدقة»
عن سعد بن أبي وقاص، أنه أخبره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا أجرت عليها، حتى ما تجعل في فم امرأتك»
عن جرير بن عبد الله، قال: «بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم على إقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والنصح لكل مسلم»
عن جرير بن عبد الله، يقول يوم مات المغيرة بن شعبة، قام فحمد الله وأثنى عليه، وقال: عليكم باتقاء الله وحده لا شريك له، والوقار، والسكينة، حتى يأتيكم أم...
عن أبي هريرة قال: بينما النبي صلى الله عليه وسلم في مجلس يحدث القوم، جاءه أعرابي فقال: متى الساعة؟ فمضى رسول الله صلى الله عليه وسلم يحدث، فقال بعض ال...
عن عبد الله بن عمرو، قال: تخلف عنا النبي صلى الله عليه وسلم في سفرة سافرناها فأدركنا - وقد أرهقتنا الصلاة - ونحن نتوضأ، فجعلنا نمسح على أرجلنا، فنادى...
عن ابن عمر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن من الشجر شجرة لا يسقط ورقها، وإنها مثل المسلم، فحدثوني ما هي» فوقع الناس في شجر البوادي قال عبد...
عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن من الشجر شجرة لا يسقط ورقها، وإنها مثل المسلم، حدثوني ما هي» قال: فوقع الناس في شجر البوادي قال عبد ا...