حديث الرسول ﷺ English الإجازة تواصل معنا
الحديث النبوي

إن خالد بن الوليد بالغميم في خيل لقريش طليعة فخذوا ذات اليمين - صحيح البخاري

صحيح البخاري | كتاب الشروط باب الشروط في الجهاد والمصالحة مع أهل الحرب وكتابة الشروط (حديث رقم: 2731 )


2731- عن ‌المسور بن مخرمة ‌ومروان ، يصدق كل واحد منهما حديث صاحبه، قالا: «خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم زمن الحديبية، حتى إذا كانوا ببعض الطريق، قال النبي صلى الله عليه وسلم: إن خالد بن الوليد بالغميم، في خيل لقريش طليعة، فخذوا ذات اليمين، فوالله ما شعر بهم خالد حتى إذا هم بقترة الجيش، فانطلق يركض نذيرا لقريش، وسار النبي صلى الله عليه وسلم حتى إذا كان بالثنية التي يهبط عليهم منها، بركت به راحلته، فقال الناس: حل حل، فألحت، فقالوا: خلأت القصواء، خلأت القصواء، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ما خلأت القصواء، وما ذاك لها بخلق، ولكن حبسها حابس الفيل، ثم قال: والذي نفسي بيده، لا يسألوني خطة يعظمون فيها حرمات الله إلا أعطيتهم إياها، ثم زجرها فوثبت، قال: فعدل عنهم حتى نزل بأقصى الحديبية على ثمد قليل الماء، يتبرضه الناس تبرضا، فلم يلبثه الناس حتى نزحوه، وشكي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم العطش، فانتزع سهما من كنانته، ثم أمرهم أن يجعلوه فيه، فوالله ما زال يجيش لهم بالري حتى صدروا عنه، فبينما هم كذلك إذ جاء بديل بن ورقاء الخزاعي في نفر من قومه من خزاعة، وكانوا عيبة نصح رسول الله صلى الله عليه وسلم من أهل تهامة، فقال: إني تركت كعب بن لؤي وعامر بن لؤي نزلوا أعداد مياه الحديبية، ومعهم العوذ المطافيل، وهم مقاتلوك وصادوك عن البيت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنا لم نجئ لقتال أحد، ولكنا جئنا معتمرين، وإن قريشا قد نهكتهم الحرب، وأضرت بهم، فإن شاؤوا ماددتهم مدة، ويخلوا بيني وبين الناس، فإن أظهر: فإن شاؤوا أن يدخلوا فيما دخل فيه الناس فعلوا، وإلا فقد جموا، وإن هم أبوا، فوالذي نفسي بيده لأقاتلنهم على أمري هذا حتى تنفرد سالفتي، ولينفذن الله أمره، فقال بديل: سأبلغهم ما تقول، قال: فانطلق حتى أتى قريشا، قال: إنا قد جئناكم من هذا الرجل، وسمعناه يقول قولا، فإن شئتم أن نعرضه عليكم فعلنا، فقال سفهاؤهم: لا حاجة لنا أن تخبرنا عنه بشيء، وقال ذوو الرأي منهم: هات ما سمعته يقول، قال: سمعته يقول كذا وكذا، فحدثهم بما قال النبي صلى الله عليه وسلم، فقام عروة بن مسعود فقال: أي قوم، ألستم بالوالد؟ قالوا: بلى، قال: أولست بالولد؟ قالوا: بلى، قال: فهل تتهموني؟ قالوا: لا، قال: ألستم تعلمون أني استنفرت أهل عكاظ، فلما بلحوا علي جئتكم بأهلي وولدي ومن أطاعني؟ قالوا: بلى، قال: فإن هذا قد عرض لكم خطة رشد، اقبلوها ودعوني آتيه، قالوا: ائته، فأتاه، فجعل يكلم النبي صلى الله عليه وسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم نحوا من قوله لبديل، فقال عروة عند ذلك: أي محمد، أرأيت إن استأصلت أمر قومك، هل سمعت بأحد من العرب اجتاح أهله قبلك، وإن تكن الأخرى، فإني والله لأرى وجوها، وإني لأرى أشوابا (١) من الناس خليقا أن يفروا ويدعوك، فقال له أبو بكر: امصص ببظر اللات، أنحن نفر عنه وندعه؟ فقال: من ذا؟ قالوا: أبو بكر، قال: أما والذي نفسي بيده، لولا يد كانت لك عندي لم أجزك بها لأجبتك، قال: وجعل يكلم النبي صلى الله عليه وسلم، فكلما تكلم أخذ بلحيته، والمغيرة بن شعبة قائم على رأس النبي صلى الله عليه وسلم، ومعه السيف وعليه المغفر، فكلما أهوى عروة بيده إلى لحية النبي صلى الله عليه وسلم ضرب يده بنعل السيف، وقال له: أخر يدك عن لحية رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرفع عروة رأسه، فقال: من هذا؟ قالوا: المغيرة بن شعبة، فقال: أي غدر، ألست أسعى في غدرتك، وكان المغيرة صحب قوما في الجاهلية فقتلهم، وأخذ أموالهم، ثم جاء فأسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أما الإسلام فأقبل، وأما المال فلست منه في شيء، ثم إن عروة جعل يرمق أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بعينيه، قال: فوالله ما تنخم رسول الله صلى الله عليه وسلم نخامة إلا وقعت في كف رجل منهم، فدلك بها وجهه وجلده، وإذا أمرهم ابتدروا أمره، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه، وإذا تكلم خفضوا أصواتهم عنده، وما يحدون إليه النظر تعظيما له، فرجع عروة إلى أصحابه فقال: أي قوم، والله لقد وفدت على الملوك، ووفدت على قيصر وكسرى والنجاشي، والله إن رأيت ملكا قط يعظمه أصحابه ما يعظم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم محمدا، والله إن تنخم نخامة إلا وقعت في كف رجل منهم فدلك بها وجهه وجلده، وإذا أمرهم ابتدروا أمره، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه، وإذا تكلم خفضوا أصواتهم عنده، وما يحدون إليه النظر تعظيما له، وإنه قد عرض عليكم خطة رشد فاقبلوها، فقال رجل من بني كنانة: دعوني آتيه، فقالوا: ائته، فلما أشرف على النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هذا فلان، وهو من قوم يعظمون البدن، فابعثوها له، فبعثت له، واستقبله الناس يلبون، فلما رأى ذلك قال: سبحان الله، ما ينبغي لهؤلاء أن يصدوا عن البيت، فلما رجع إلى أصحابه قال: رأيت البدن قد قلدت وأشعرت، فما أرى أن يصدوا عن البيت، فقام رجل منهم، يقال له مكرز بن حفص، فقال: دعوني آتيه، فقالوا: ائته، فلما أشرف عليهم، قال النبي صلى الله عليه وسلم: هذا مكرز، وهو رجل فاجر، فجعل يكلم النبي صلى الله عليه وسلم، فبينما هو يكلمه إذ جاء سهيل بن عمرو قال معمر: فأخبرني أيوب، عن عكرمة: أنه لما جاء سهيل بن عمرو: قال النبي صلى الله عليه وسلم: لقد سهل لكم من أمركم، قال معمر: قال الزهري في حديثه: فجاء سهيل بن عمرو فقال: هات اكتب بيننا وبينكم كتابا، فدعا النبي صلى الله عليه وسلم الكاتب، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: بسم الله الرحمن الرحيم، قال سهيل: أما الرحمن فوالله ما أدري ما هو، ولكن اكتب باسمك اللهم كما كنت تكتب، فقال المسلمون: والله لا نكتبها إلا بسم الله الرحمن الرحيم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: اكتب باسمك اللهم، ثم قال: هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله، فقال سهيل: والله لو كنا نعلم أنك رسول الله ما صددناك عن البيت ولا قاتلناك، ولكن اكتب: محمد بن عبد الله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: والله إني لرسول الله وإن كذبتموني، اكتب محمد بن عبد الله، قال الزهري: وذلك لقوله: لا يسألوني خطة يعظمون فيها حرمات الله إلا أعطيتهم إياها، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: على أن تخلوا بيننا وبين البيت فنطوف به، فقال سهيل: والله لا تتحدث العرب أنا أخذنا ضغطة، ولكن ذلك من العام المقبل، فكتب، فقال سهيل: وعلى أنه لا يأتيك منا رجل، وإن كان على دينك إلا رددته إلينا، قال المسلمون: سبحان الله كيف يرد إلى المشركين وقد جاء مسلما، فبينما هم كذلك إذ دخل أبو جندل بن سهيل بن عمرو يرسف في قيوده، وقد خرج من أسفل مكة حتى رمى بنفسه بين أظهر المسلمين، فقال سهيل: هذا يا محمد أول ما أقاضيك عليه أن ترده إلي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إنا لم نقض الكتاب بعد، قال: فوالله إذا لم أصالحك على شيء أبدا، قال النبي صلى الله عليه وسلم: فأجزه لي، قال: ما أنا بمجيزه لك، قال: بلى فافعل، قال: ما أنا بفاعل، قال مكرز: بل قد أجزناه لك، قال أبو جندل: أي معشر المسلمين، أرد إلى المشركين وقد جئت مسلما، ألا ترون ما قد لقيت؟ وكان قد عذب عذابا شديدا في الله.
قال: فقال عمر بن الخطاب: فأتيت نبي الله صلى الله عليه وسلم فقلت: ألست نبي الله حقا؟ قال: بلى، قلت: ألسنا على الحق وعدونا على الباطل؟ قال: بلى، قلت: فلم نعطي الدنية في ديننا إذا؟ قال: إني رسول الله، ولست أعصيه، وهو ناصري، قلت: أوليس كنت تحدثنا أنا سنأتي البيت فنطوف به؟ قال: بلى، فأخبرتك أنا نأتيه العام؟ قال: قلت: لا، قال: فإنك آتيه ومطوف به، قال: فأتيت أبا بكر فقلت: يا أبا بكر، أليس هذا نبي الله حقا؟ قال: بلى، قلت: ألسنا على الحق وعدونا على الباطل؟ قال: بلى، قلت: فلم نعطي الدنية في ديننا إذا؟ قال: أيها الرجل، إنه لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وليس يعصي ربه، وهو ناصره، فاستمسك بغرزه، فوالله إنه على الحق، قلت: أليس كان يحدثنا أنا سنأتي البيت ونطوف به؟ قال: بلى، أفأخبرك أنك تأتيه العام؟ قلت: لا، قال: فإنك آتيه ومطوف به، قال الزهري: قال عمر: فعملت لذلك أعمالا، قال: فلما فرغ من قضية الكتاب، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه: قوموا فانحروا ثم احلقوا، قال: فوالله ما قام منهم رجل حتى قال ذلك ثلاث مرات، فلما لم يقم منهم أحد دخل على أم سلمة، فذكر لها ما لقي من الناس، فقالت أم سلمة، يا نبي الله، أتحب ذلك، اخرج ثم لا تكلم أحدا منهم كلمة، حتى تنحر بدنك، وتدعو حالقك فيحلقك.
فخرج فلم يكلم أحدا منهم حتى فعل ذلك، نحر بدنه، ودعا حالقه فحلقه، فلما رأوا ذلك قاموا فنحروا وجعل بعضهم يحلق بعضا، حتى كاد بعضهم يقتل بعضا غما، ثم جاءه نسوة مؤمنات، فأنزل الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنوهن} حتى بلغ {بعصم الكوافر} فطلق عمر يومئذ امرأتين، كانتا له في الشرك

أخرجه البخاري


(الغميم) واد بينه وبين مكة مرحلتان.
(طليعة) مقدمة الجيش.
(بقترة الجيش) الغبار الأسود الذي أثارته حوافر خيل الجيش.
(يركض) من الركض وهو الضرب بالرجل على الدابة لاستعجالها في السير.
(بالثنية) هي الطريق في الجبل وقيل هي موضع بين مكة والمدينة من طريق الحديبية.
(حل حل) صوتو تزجر به الدابة لتحمل على السير.
(فألحت) لزمت مكانها ولم تنبعث.
(خلأت) حزنت وتصعبت.
(القصواء) من القصو وهو قطع طرف الأذن سميت به ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم لأن طرف أذنها كان مقطوعا.
(بخلق) بعادة.
(حبسها) منعها من السير ودخول مكة.
(حابس الفيل) الله تعالى الذي حبس الفيل حين جيء به لهدم الكعبة.
(خطة) حالة وقضية.
(يعظمون فيها حرمات الله) يكفون فيها عن القتال تعظيما لحرم الله تعالى.
(فعدل عنهم) ولى راجعا.
(الحديبية) اسم مكان قريب من مكة.
(ثمد) حفرة فيها ماء قليل.
(يتبرضه.
.
) يأخذونه قليلا قليلا.
(فلم يلبثه.
.
) لم يتركوه يثبت ويقيم.
(نزحوه) لم يبقوا منه شيئا.
(يجيش) يفور.
(بالري) ما يرويهم من الماء.
(صدروا عنه) رجعوا عنه.
(عيبة نصح) محل نصحه وموضع سره وأمانته والعيبة في الأصل ما يوضع فيه الثياب لحفظها والنصح الخلوص من الشوائب.
(أعداد) جمع عد وهو الماء الذي لا انقطاع له والمراد الكثرة.
(العوذ) النوق التي ولدت حدثيا فهي ذات لبن.
(المطافيل) النوق التي معها أولادها وأصله الأمهات التي معها أطفالها والمراد من قوله (معهم العوذ المطافيل) أنهم خرجوا معهم بذوات الألبان يتزودون من ألبانها ولا يرجعون حتى يناجزوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ويمنعوه من الدخول إلى مكة.
(صادوك) مانعوك.
(نهكتهم) أضعفت قوتهم وأموالهم وأهزلتهم.
(ماددتهم مدة) جعلت بيني وبينهم مدة صلح وهدنة.
(أظهر) غلبت عليهم.
(جمو) استراحوا من جهد الحرب.
(تنفرد سالفتي) ينفصل مقدم عنقي أي حتى أقتل.
(بالوالد) مثل الوالد في الشفقة والمحبة.
(بالولد) مثل الولد في النصح لوالده.
(بلحوا) امتنعوا.
(اجتاح) أهلك واستأصل.
(أشوابا) أخلاطا.
(خليقا) حقيقا.
(امصص ببظر اللات) البظر قطعة لحم بين جانبي فرج المرأة وقيل غير ذلك وكان من عادة العرب أن يقولوا لمن يسبونه أو يشتمونه امصص بظر أمه فاستعار أبو بكر رضي الله عنه ذلك في اللات لتعظيمهم إياها فقصد المبالغة في سبه واللات اسم لصنم من أصنام قريش أو أنصابهم.
(يد كانت لك) نعمة لك علي.
(لم أجزك بها) لم أكافئك عليها.
(المغفر) ما يوضع على الرأس تحت الخوذة من زرد منسوج ويسدل على الوجه ليحميه من ضربات السلاح.
(غدر) يا غدر وهو صيغة مبالغة من الغدر.
(يرمق) يلحظ.
(تنخم) أخرج نخامة وهي ما يخرج من الصدر إلى الفم.
(ابتدروا أمره) أسرعوا في تلبيته وتنفيذه.
(يحدون) من الإحداد وهو شدة النظر أي لا يتأملونه ولا يديمون النظر إليه.
(إن رأيت) ما رأيت.
(رجل) هو الحليس بن علقمة الحارثي.
(يعظمون البدن) أي لا يستحلونها ولا يعتدون عليها والبدن جمع بدنة وهي ما يهدى للحرم من الإبل أو البقر.
(فابعثوها له) أثيروها أمامه.
(ضغطة) مفاجأة وقهرا.
(يرسف) يمشي مشيا بطيئا بسبب القيود.
(الدنية) النقيصة والمذلة.
(بغرزه) ما يكون للإبل بمنزلة الركاب للفرس والمعنى تمسك بأمره ولا تخالفه (قضية الكتاب) كتابة العهد والإشهاد عليه.
(حالقه) هو خراش بن أمية الخزاعي.
(يقتل بعضنا) من شدة الازدحام على النحر والحلق.
(غما) حزنا على عدم المبادرة للامتثال.
(فامتحنوهن) فاختبروهن.
(بعصم الكوافر) بعصم جمع عصمة وهي ما يعتصم به من عقد الزواج والكوافر الكوافر جمع كافرة والمراد المشركة والمعنى لا تقيموا على نكاحهن ولا تتمسكوا بالزوجية بينكم وبينهن.
/ الممتحنة 10 /.
(رجلين) هما خنيس بن جابر ومولى يقال له كوثر والذي أرسلهما في طلبه الأخنس بن شريق.
(العهد الذي جعلت لنا) أي نطالبك بالوفاء بالعهد الذي أعطيته لنا وهو أن ترد إلينا من جاءك منا ولو كان مسلما.
(فلان) هو خنيس.
(فاستله) أخرجه من غمده.
(الآخر) صاحب السيف.
(فأمكنه منه) أعطاه إياه بيده حتى تمكن منه.
(برد) كناية عن أنه مات لأن البرودة تلزم عن الموت.
(ذعرا) فزعا وخوفا.
(وإني لمقتول) سيقتلني إن لم تردوه عني.
(قد والله أوفى الله ذمتك) ليس عليك عتاب منهم فيما صنعت أنا.
(ويل أمه) الويل العذاب وهي كلمة أصلها دعاء عليه ولكنها استعملت هنا للتعجب من عمله.
(مسعر حرب) محرك لها وموقد لنارها والمسعر في الأصل العود الذي تحرك به النار.
(لو كان له أحد) لو وجد معه أحد ينصره ويعاضده.
(سيف البحر) ساحله.
(عصابة) جماعة أربعون فما فوق.
(بعير) بخبر عير وهي القافلة من الإبل المحملة بالبضائع والأموال.
(تناشده) تسأله وتطلب منه بإلحاح.
(الرحم) القرابة أي يسألونه بحق الله تعالى وبحق القرابة بينهم وبينه.
(ببطن مكة) داخل مكة وهي الحديبية لأنها من الحرم.
(أظفركم عليهم) خولكم النصر والغلبة عليهم.
(الحمية) الأنفة فمنعوكم من دخول المسجد الحرام.
/ الفتح 24 - 26 /.
وتتمة الآيات {وكان الله بما تعملون بصيرا.
هم الذين كفروا وصدوكم عن المسجد الحرام والهدي معكوفا أن يبلغ محله ولولا رجال مؤمنون ونساء مؤمنات لم تعلموهم أن تطؤوهم فتصيبكم منهم معرة بغير علم ليدخل الله في رحمته من يشاء لو تزيلوا لعذبنا الذين كفروا منهم عذابا أليما.
إذ جعل الذين كفروا في قلوبهم الحمية حمية الجاهلية فأنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين وألزمهم كلمة التقوى وكانوا أحق بها وأهلها وكان الله بكل شيء عليما}.
(صدوكم) منعوكم.
(الهدي) ما يهدى للحرم من الإبل وغيرها.
(معكوفا) محبوسا وممنوعا.
(محله) مكانه الذي يذبح في عادة وهو الحرم.
(تطؤوهم) تقتلوهم مع الكفار.
(معرة) إثم وحرج.
(تزيلوا) تميزوا عن الكفار.
(سكينته) وقارة وطمأنينته.
(ألزمهم) جعلها ملازمة لهم وثبتهم.
(كلمة التقوى) الإخلاص والتوحيد والوفاء بالعهد.
(أحق بها) من غيرهم.
(فاتكم) سبقكم وذهب من عندكم.
/ الممتحنة 11 /.
(المدة) مدة المصالحة بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وقريش

شرح حديث ( إن خالد بن الوليد بالغميم في خيل لقريش طليعة فخذوا ذات اليمين)

فتح الباري شرح صحيح البخاري: ابن حجر العسقلاني - أحمد بن علي بن حجر العسقلاني

‏ ‏قَوْله : ( عَنْ الْمِسْوَر بْن مَخْرَمَةَ وَمَرْوَان ) ‏ ‏أَيْ اِبْن الْحَكَم ‏ ‏( قَالَا خَرَجَ ) ‏ ‏هَذِهِ الرِّوَايَة بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَرْوَان مُرْسَلَة لِأَنَّهُ لَا صُحْبَة لَهُ , وَأَمَّا الْمِسْوَر فَهِيَ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ أَيْضًا مُرْسَلَة لِأَنَّهُ لَمْ يَحْضُر الْقِصَّة , وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي أَوَّل الشُّرُوط مِنْ طَرِيق أُخْرَى عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَة " أَنَّهُ سَمِعَ الْمِسْوَر وَمَرْوَان يُخْبِرَانِ عَنْ أَصْحَاب رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " فَذَكَرَ بَعْض هَذَا الْحَدِيث , وَقَدْ سَمِعَ الْمِسْوَر وَمَرْوَان مِنْ جَمَاعَة مِنْ الصَّحَابَة شَهِدُوا هَذِهِ الْقِصَّة كَعُمَر وَعُثْمَان وَعَلِيّ وَالْمُغِيرَة وَأُمّ سَلَمَة وَسَهْل بْن حُنَيْفٍ وَغَيْرهمْ , وَوَقَعَ فِي نَفْس هَذَا الْحَدِيث شَيْء يَدُلّ عَلَى أَنَّهُ عَنْ عُمَر كَمَا سَيَأْتِي التَّنْبِيه عَلَيْهِ فِي مَكَانه , وَقَدْ رَوَى أَبُو الْأَسْوَد عَنْ عُرْوَة هَذِهِ الْقِصَّة فَلَمْ يَذْكُر الْمِسْوَر وَلَا مَرْوَان لَكِنْ أَرْسَلَهَا , وَهِيَ كَذَلِكَ فِي " مَغَازِي عُرْوَة بْن الزُّبَيْر " أَخْرَجَهَا اِبْن عَائِذ فِي الْمَغَازِي لَهُ بِطُولِهَا , وَأَخْرَجَهَا الْحَاكِم فِي " الْإِكْلِيل " مِنْ طَرِيق أَبِي الْأَسْوَد عَنْ عُرْوَة أَيْضًا مُقَطَّعَة.
‏ ‏قَوْله : ( زَمَن الْحُدَيْبِيَة ) ‏ ‏تَقَدَّمَ ضَبْط الْحُدَيْبِيَة فِي الْحَجّ , وَهِيَ بِئْر سُمِّيَ الْمَكَان بِهَا , وَقِيلَ شَجَرَة حَدْبَاء صُغِّرَتْ وَسُمِّيَ الْمَكَان بِهَا.
قَالَ الْمُحِبّ الطَّبَرِيُّ.
الْحُدَيْبِيَة قَرْيَة قَرِيبَة مِنْ مَكَّة أَكْثَرهَا فِي الْحَرَم , وَوَقَعَ فِي رِوَايَة اِبْن إِسْحَاق فِي الْمَغَازِي عَنْ الزُّهْرِيِّ " خَرَجَ عَام الْحُدَيْبِيَة يُرِيد زِيَارَة الْبَيْت لَا يُرِيد قِتَالًا " وَوَقَعَ عِنْد اِبْن سَعْد " أَنَّهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ يَوْم الِاثْنَيْنِ لِهِلَالِ ذِي الْقِعْدَة " زَادَ سُفْيَان عَنْ الزُّهْرِيِّ فِي الرِّوَايَة الْآتِيَة فِي الْمَغَازِي وَكَذَا فِي رِوَايَة أَحْمَد عَنْ عَبْد الرَّزَّاق " فِي بِضْع عَشْرَة مِائَة , فَلَمَّا أَتَى ذَا الْحُلَيْفَة قَلَّدَ الْهَدْي وَأَشْعَرَهُ وَأَحْرَمَ مِنْهَا بِعُمْرَةٍ , وَبَعَثَ عَيْنًا لَهُ مِنْ خُزَاعَة " وَرَوَى عَبْد الْعَزِيز الْإِمَامِيّ عَنْ الزُّهْرِيِّ فِي هَذَا الْحَدِيث عِنْد اِبْن أَبِي شَيْبَة " خَرَجَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَلْف وَثَمَانمِائَةٍ , وَبَعَثَ عَيْنًا لَهُ مِنْ خُزَاعَة يُدْعَى نَاجِيَة يَأْتِيه بِخَبَرِ قُرَيْش " كَذَا سَمَّاهُ نَاجِيَة , وَالْمَعْرُوف أَنَّ نَاجِيَة اِسْم الَّذِي بَعَثَ مَعَهُ الْهَدْي كَمَا صَرَّحَ بِهِ اِبْن إِسْحَاق وَغَيْره , وَأَمَّا الَّذِي بَعَثَهُ عَيْنًا لِخَبَرِ قُرَيْش فَاسْمه بُسْر بْن سُفْيَان كَذَا سَمَّاهُ اِبْن إِسْحَاق , وَهُوَ بِضَمِّ الْمُوَحَّدَة وَسُكُون الْمُهْمَلَة عَلَى الصَّحِيح , وَسَأَذْكُرُ الْخِلَاف فِي عَدَد أَهْل الْحُدَيْبِيَة فِي الْمَغَازِي إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى.
‏ ‏قَوْله : ( حَتَّى إِذَا كَانُوا بِبَعْضِ الطَّرِيق ) ‏ ‏اِخْتَصَرَ الْمُصَنِّف صَدْر هَذَا الْحَدِيث الطَّوِيل مَعَ أَنَّهُ لَمْ يَسُقْهُ بِطُولِهِ إِلَّا فِي هَذَا الْمَوْضِع , وَبَقِيَّته عِنْده فِي الْمَغَازِي مِنْ طَرِيق سُفْيَان بْن عُيَيْنَةَ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ : " وَنَبَّأَنِيهِ مَعْمَر عَنْ الزُّهْرِيِّ : وَسَارَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى كَانَ بِغَدِيرِ الْأَشْطَاطِ أَتَاهُ عَيْنه فَقَالَ : إِنَّ قُرَيْشًا جَمَعُوا جُمُوعًا وَقَدْ جَمَعُوا لَك الْأَحَابِيش , وَهُمْ مُقَاتِلُوك وَصَادُّوك عَنْ الْبَيْت وَمَانِعُوك.
فَقَالَ : أَشِيرُوا أَيّهَا النَّاس عَلَيَّ , أَتَرَوْنَ أَنْ أَمِيل إِلَى عِيَالهمْ وَذَرَارِيّ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَصُدُّونَا عَنْ الْبَيْت , فَإِنْ يَأْتُونَا كَانَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ قَدْ قَطَعَ عَيْنًا مِنْ الْمُشْرِكِينَ , وَإِلَّا تَرَكْنَاهُمْ مَحْرُوبِينَ.
قَالَ أَبُو بَكْر : يَا رَسُول اللَّه خَرَجْت عَامِدًا لِهَذَا الْبَيْت لَا تُرِيد قَتْل أَحَد وَلَا حَرْب أَحَد , تَوَجَّهَ لَهُ , فَمَنْ صَدَّنَا عَنْهُ قَاتَلْنَاهُ.
قَالَ : اِمْضُوا عَلَى اِسْم اللَّه " إِلَى هَاهُنَا سَاقَ الْبُخَارِيّ فِي الْمَغَازِي مِنْ هَذَا الْوَجْه , وَزَادَ أَحْمَد عَنْ عَبْد الرَّزَّاق وَسَاقَهُ اِبْن حِبَّانَ مِنْ طَرِيقه قَالَ : " قَالَ مَعْمَر قَالَ الزُّهْرِيُّ : وَكَانَ أَبُو هُرَيْرَة يَقُول : مَا رَأَيْت أَحَدًا قَطّ كَانَ أَكْثَر مُشَاوَرَة لِأَصْحَابِهِ مِنْ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ا ه وَهَذَا الْقَدْر حَذَفَهُ الْبُخَارِيّ لِإِرْسَالِهِ لِأَنَّ الزُّهْرِيَّ لَمْ يَسْمَع مِنْ أَبِي هُرَيْرَة , وَفِي رِوَايَة أَحْمَد الْمَذْكُورَة " حَتَّى إِذَا كَانُوا بِغَدِيرِ الْأَشْطَاطِ قَرِيبًا مِنْ عُسْفَان " ا ه وَغَدِير بِفَتْحِ الْغَيْن الْمُعْجَمَة وَالْأَشْطَاط بِشِينٍ مُعْجَمَة وَطَاءَيْنِ مُهْمَلَتَيْنِ جَمْع شَطّ وَهُوَ جَانِب الْوَادِي كَذَا جَزَمَ بِهِ صَاحِب " الْمَشَارِق " , وَوَقَعَ فِي بَعْض نُسَخ أَبِي ذَرّ بِالظَّاءِ الْمُعْجَمَة فِيهِمَا , وَفِي رِوَايَة أَحْمَد أَيْضًا " أَتَرَوْنَ أَنْ نَمِيل إِلَى ذَرَارِيّ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَعَانُوهُمْ فَنُصِيبهُمْ فَإِنْ قَعَدُوا قَعَدُوا مَوْتُورِينَ مَحْرُوبِينَ , وَإِنْ يَجِيئُوا تَكُنْ عُنُقًا قَطَعَهَا اللَّه " وَنَحْوه لِابْنِ إِسْحَاق فِي رِوَايَته فِي الْمَغَازِي عَنْ الزُّهْرِيِّ , وَالْمُرَاد أَنَّهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اِسْتَشَارَ أَصْحَابه هَلْ يُخَالِف الَّذِينَ نَصَرُوا قُرَيْشًا إِلَى مَوَاضِعهمْ فَيَسْبِي أَهْلهمْ , فَإِنْ جَاءُوا إِلَى نَصْرهمْ اِشْتَغَلُوا بِهِمْ وَانْفَرَدَ هُوَ وَأَصْحَابه بِقُرَيْشٍ , وَذَلِكَ الْمُرَاد بِقَوْلِهِ : " تَكُنْ عُنُقًا قَطَعَهَا اللَّه " فَأَشَارَ عَلَيْهِ أَبُو بَكْر الصِّدِّيق بِتَرْكِ الْقِتَال وَالِاسْتِمْرَار عَلَى مَا خَرَجَ لَهُ مِنْ الْعُمْرَة حَتَّى يَكُون بَدْء الْقِتَال مِنْهُمْ , فَرَجَعَ إِلَى رَأْيه.
وَزَادَ أَحْمَد فِي رِوَايَته " فَقَالَ أَبُو بَكْر : اللَّه وَرَسُوله أَعْلَم يَا نَبِيّ اللَّه , إِنَّمَا جِئْنَا مُعْتَمِرِينَ إِلَخْ " وَالْأَحَابِيش بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَة وَالْمُوَحَّدَة وَآخِره مُعْجَمَة وَاحِدهَا أُحْبُوش بِضَمَّتَيْنِ وَهُمْ بَنُو الْهَوْن بْن خُزَيْمَةَ بْن مُدْرِكَة وَبَنُو الْحَارِث بْن عَبْد مَنَاة بْن كِنَانَة وَبَنُو الْمُصْطَلِق مِنْ خُزَاعَة كَانُوا تَحَالَفُوا مَعَ قُرَيْش قِيلَ تَحْت جَبَل يُقَال لَهُ الْحَبَشِيّ أَسْفَل مَكَّة , وَقِيلَ سُمُّوا بِذَلِكَ لِتَحَبُّشِهِمْ أَيْ تَجَمُّعهمْ وَالتَّحَبُّش التَّجَمُّع وَالْحُبَاشَة الْجَمَاعَة.
وَرَوَى الْفَاكِهِيّ مِنْ طَرِيق عَبْد الْعَزِيز بْن أَبِي ثَابِت أَنَّ اِبْتِدَاء حِلْفهمْ مَعَ قُرَيْش كَانَ عَلَى يَد قُصَيّ بْن كِلَاب , وَاتَّفَقَ الرُّوَاة عَلَى قَوْله : " فَإِنْ يَأْتُونَا " مِنْ الْإِتْيَان إِلَّا اِبْن السَّكَن فَعِنْده " فَإِنْ بَاتُّونَا " بِمُوَحَّدَةٍ ثُمَّ مُثَنَّاة مُشَدَّدَة وَالْأَوَّل أَوْلَى , وَيُؤَيِّدهُ رِوَايَة أَحْمَد بِلَفْظِ الْمَجِيء , وَوَقَعَ عِنْد اِبْن سَعْد " وَبَلَغَ الْمُشْرِكِينَ خُرُوجه فَأَجْمَعَ رَأْيهمْ عَلَى صَدّه عَنْ مَكَّة وَعَسْكَرُوا بِبَلْدَحَ بِالْمُوَحَّدَةِ وَالْمُهْمَلَة بَيْنهمَا لَام سَاكِنَة ثُمَّ حَاء مُهْمَلَة مَوْضِع خَارِج مَكَّة ".
‏ ‏قَوْله : ( قَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : إِنَّ خَالِد بْن الْوَلِيد بِالْغَمِيمِ فِي خَيْل لِقُرَيْشٍ طَلِيعَة ) ‏ ‏فِي رِوَايَة الْإِمَامِيّ " فَقَالَ لَهُ عَيْنه : هَذَا خَالِد بْن الْوَلِيد بِالْغَمِيمِ " وَالْغَمِيم بِفَتْحِ الْمُعْجَمَة وَحَكَى عِيَاض فِيهَا التَّصْغِير , قَالَ الْمُحِبّ الطَّبَرِيُّ.
يَظْهَر أَنَّ الْمُرَاد كُرَاع الْغَمِيم وَهُوَ مَوْضِع بَيْن مَكَّة وَالْمَدِينَة ا ه , وَسِيَاق الْحَدِيث ظَاهِر فِي أَنَّهُ كَانَ قَرِيبًا مِنْ الْحُدَيْبِيَة فَهُوَ غَيْر كُرَاع الْغَمِيم الَّذِي وَقَعَ ذِكْره فِي الصِّيَام وَهُوَ الَّذِي بَيْن مَكَّة وَالْمَدِينَة , وَأَمَّا الْغَمِيم هَذَا فَقَالَ اِبْن حَبِيب.
هُوَ قَرِيب مِنْ مَكَان بَيْن رَابِغ وَالْجُحْفَة , وَقَدْ وَقَعَ فِي شِعْر جَرِير وَالشَّمَّاخ بِصِيغَةِ التَّصْغِير وَاَللَّه أَعْلَم.
وَبَيَّنَ اِبْن سَعْد أَنَّ خَالِدًا كَانَ فِي مِائَتَيْ فَارِس فِيهِمْ عِكْرِمَة بْن أَبِي جَهْل , وَالطَّلِيعَة مُقَدِّمَة الْجَيْش.
‏ ‏قَوْله : ( فَخُذُوا ذَات الْيَمِين ) ‏ ‏أَيْ الطَّرِيق الَّتِي فِيهَا خَالِد وَأَصْحَابه.
‏ ‏قَوْله : ( حَتَّى إِذَا هُمْ بِقَتَرَةِ الْجَيْش فَانْطَلَقَ يَرْكُض نَذِيرًا ) ‏ ‏الْقَتَرَة بِفَتْحِ الْقَاف وَالْمُثَنَّاة الْغُبَار الْأَسْوَد.
‏ ‏قَوْله : ( وَسَارَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى إِذَا كَانَ بِالثَّنِيَّةِ ) ‏ ‏فِي رِوَايَة اِبْن إِسْحَاق " فَقَالَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : مَنْ يُخْرِجنَا عَلَى طَرِيق غَيْر طَرِيقهمْ الَّتِي هُمْ بِهَا ؟ قَالَ : فَحَدَّثَنِي عَبْد اللَّه بْن أَبِي بَكْر بْن حَزْم أَنَّ رَجُلًا مِنْ أَسْلَمَ قَالَ : أَنَا يَا رَسُول اللَّه , فَسَلَكَ بِهِمْ طَرِيقًا وَعْرًا فَأُخْرِجُوا مِنْهَا بَعْد أَنْ شَقَّ عَلَيْهِمْ , وَأَفْضَوْا إِلَى أَرْض سَهْلَة , فَقَالَ لَهُمْ : اِسْتَغْفِرُوا اللَّه , فَفَعَلُوا.
فَقَالَ : وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنَّهَا لِلْحِطَّةِ الَّتِي عَرَضَتْ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيل فَامْتَنَعُوا " قَالَ اِبْن إِسْحَاق عَنْ الزُّهْرِيِّ فِي حَدِيثه " فَقَالَ : اُسْلُكُوا ذَات الْيَمِين بَيْن ظَهْرَيْ الْحَمْض فِي طَرِيق تُخْرِجهُ عَلَى ثَنِيَّة الْمِرَار مَهْبِط الْحُدَيْبِيَة " ا ه.
وَثَنِيَّة الْمِرَار بِكَسْرِ الْمِيم وَتَخْفِيف الرَّاء هِيَ طَرِيق فِي الْجَبَل تُشْرِف عَلَى الْحُدَيْبِيَة.
وَزَعَمَ الدَّاوُدِيّ الشَّارِح أَنَّهَا الثَّنِيَّة الَّتِي أَسْفَل مَكَّة , وَهُوَ وَهْم , وَسُمِّيَ اِبْن سَعْد الَّذِي سَلَكَ بِهِمْ حَمْزَة بْن عَمْرو الْأَسْلَمِي , وَفِي رِوَايَة أَبِي الْأَسْوَد عَنْ عُرْوَة فَقَالَ " مَنْ رَجُل يَأْخُذ بِنَا عَنْ يَمِين الْمَحَجَّة نَحْو سَيْف الْبَحْر لَعَلَّنَا نَطْوِي مُسَلَّحَة الْقَوْم , وَذَلِكَ مِنْ اللَّيْل , فَنَزَلَ رَجُل عَنْ دَابَّته " فَذَكَرَ الْقِصَّة.
‏ ‏قَوْله : ( بَرَكَتْ بِهِ رَاحِلَته , فَقَالَ النَّاس : حَلْ حَلْ ) ‏ ‏بِفَتْحِ الْمُهْمَلَة وَسُكُون اللَّام.
كَلِمَة تُقَال لِلنَّاقَةِ إِذَا تَرَكَتْ السَّيْر , وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ : إِنْ قُلْت حَلْ وَاحِدَة فَالسُّكُون , وَإِنْ أَعَدْتهَا نَوَّنْت فِي الْأُولَى وَسَكَّنْت فِي الثَّانِيَة , وَحَكَى غَيْره السُّكُون فِيهِمَا وَالتَّنْوِين كَنَظِيرِهِ فِي بَخٍ بَخٍ , يُقَال حَلْحَلْت فُلَانًا إِذَا أَزْعَجْته عَنْ مَوْضِعه.
‏ ‏قَوْله : ( فَأَلَحَّتْ ) ‏ ‏بِتَشْدِيدِ الْمُهْمَلَة أَيْ تَمَادَتْ عَلَى عَدَم الْقِيَام وَهُوَ مِنْ الْإِلْحَاح.
‏ ‏قَوْله : ( خَلَأَتْ الْقَصْوَاء ) ‏ ‏الْخَلَاء بِالْمُعْجَمَةِ وَالْمَدّ لِلْإِبِلِ كَالْحِرَانِ لِلْخَيْلِ , وَقَالَ اِبْن قُتَيْبَة : لَا يَكُون الْخَلَاء إِلَّا لِلنُّوقِ خَاصَّة.
وَقَالَ اِبْن فَارِس : لَا يُقَال لِلْجَمَلِ خَلَأَ لَكِنْ أَلَحَّ.
وَالْقَصْوَاء بِفَتْحِ الْقَاف بَعْدهَا مُهْمَلَة وَمَدّ.
اِسْم نَاقَة رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , وَقِيلَ كَانَ طَرَف أُذُنهَا مَقْطُوعًا , وَالْقَصْو قَطْع طَرَف الْأُذُن يُقَال : بَعِير أَقْصَى وَنَاقَة قُصْوَى , وَكَانَ الْقِيَاس أَنْ يَكُون بِالْقَصْرِ , وَقَدْ وَقَعَ ذَلِكَ فِي بَعْض نُسَخ أَبِي ذَرّ , وَزَعَمَ الدَّاوُدِيّ أَنَّهَا كَانَتْ لَا تُسْبَق فَقِيلَ لَهَا الْقَصْوَاء لِأَنَّهَا بَلَغَتْ مِنْ السَّبْق أَقْصَاهُ.
‏ ‏قَوْله : ( وَمَا ذَاكَ لَهَا بِخُلُقٍ ) ‏ ‏أَيْ بِعَادَةٍ , قَالَ اِبْن بَطَّال وَغَيْره : فِي هَذَا الْفَصْل جَوَاز الِاسْتِتَار عَنْ طَلَائِع الْمُشْرِكِينَ وَمُفَاجَأَتهمْ بِالْجَيْشِ طَلَبًا لِغِرَّتِهِمْ , وَجَوَاز السَّفَر وَحْده لِلْحَاجَةِ وَجَوَاز التَّنْكِيب عَنْ الطَّرِيق السَّهْلَة إِلَى الْوَعِرَة لِلْمَصْلَحَةِ , وَجَوَاز الْحُكْم عَلَى الشَّيْء بِمَا عُرِفَ مِنْ عَادَته وَإِنْ جَازَ أَنْ يَطْرَأ عَلَيْهِ غَيْره , فَإِذَا وَقَعَ مِنْ شَخْص هَفْوَة لَا يُعْهَد مِنْهُ مِثْلهَا لَا يُنْسَب إِلَيْهَا وَيُرَدّ عَلَى مَنْ نَسَبَهُ إِلَيْهَا , وَمَعْذِرَة مَنْ نَسَبَهُ إِلَيْهَا مِمَّنْ لَا يَعْرِف صُورَة حَاله , لِأَنَّ خَلَاء الْقَصْوَاء لَوْلَا خَارِق الْعَادَة لَكَانَ مَا ظَنَّهُ الصَّحَابَة صَحِيحًا وَلَمْ يُعَاتِبهُمْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى ذَلِكَ لِعُذْرِهِمْ فِي ظَنّهمْ , قَالَ : وَفِيهِ جَوَاز التَّصَرُّف فِي مِلْك الْغَيْر بِالْمَصْلَحَةِ بِغَيْرِ إِذْنه الصَّرِيح إِذَا كَانَ سَبَقَ مِنْهُ مَا يَدُلّ عَلَى الرِّضَا بِذَلِكَ , لِأَنَّهُمْ قَالُوا حَلْ حَلْ فَزَجَرُوهَا بِغَيْرِ إِذْن , وَلَمْ يُعَاتِبهُمْ عَلَيْهِ.
‏ ‏قَوْله : ( حَبَسَهَا حَابِس الْفِيل ) ‏ ‏زَادَ إِسْحَاق فِي رِوَايَته " عَنْ مَكَّة " أَيْ حَبَسَهَا اللَّه عَزَّ وَجَلَّ عَنْ دُخُول مَكَّة كَمَا حَبَسَ الْفِيل عَنْ دُخُولهَا.
وَقِصَّة الْفِيل مَشْهُورَة سَتَأْتِي الْإِشَارَة إِلَيْهَا فِي مَكَانهَا , وَمُنَاسَبَة ذِكْرهَا أَنَّ الصَّحَابَة لَوْ دَخَلُوا مَكَّة عَلَى تِلْكَ الصُّورَة وَصَدَّهُمْ قُرَيْش عَنْ ذَلِكَ لَوَقَعَ بَيْنهمْ قِتَال قَدْ يُفْضِي إِلَى سَفْك الدِّمَاء وَنَهْب الْأَمْوَال كَمَا لَوْ قُدِّرَ دُخُول الْفِيل وَأَصْحَابه مَكَّة , لَكِنْ سَبَقَ فِي عِلْم اللَّه تَعَالَى فِي الْمَوْضِعَيْنِ أَنَّهُ سَيَدْخُلُ فِي الْإِسْلَام خَلْق مِنْهُمْ , وَيُسْتَخْرَج مِنْ أَصْلَابهمْ نَاس يُسْلِمُونَ وَيُجَاهِدُونَ , وَكَانَ بِمَكَّة فِي الْحُدَيْبِيَة جَمْع كَثِير مُؤْمِنُونَ مِنْ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنْ الرِّجَال وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَان , فَلَوْ طَرَقَ الصَّحَابَة مَكَّة لَمَا أَمِنَ أَنْ يُصَاب نَاس مِنْهُمْ بِغَيْرِ عَمْد كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ تَعَالَى فِي قَوْله : ( وَلَوْلَا رِجَال مُؤْمِنُونَ ) الْآيَة , وَوَقَعَ لَلْمُهَلَّب اِسْتِبْعَاد جَوَاز هَذِهِ الْكَلِمَة وَهِيَ " حَابِس الْفِيل " عَلَى اللَّه تَعَالَى فَقَالَ : الْمُرَاد حَبَسَهَا أَمْر اللَّه عَزَّ وَجَلَّ , وَتُعُقِّبَ بِأَنَّهُ يَجُوز إِطْلَاق ذَلِكَ فِي حَقّ اللَّه فَيُقَال حَبَسَهَا اللَّه حَابِس الْفِيل وَإِنَّمَا الَّذِي يُمْكِن أَنْ يَمْنَع تَسْمِيَته سُبْحَانه وَتَعَالَى حَابِس الْفِيل وَنَحْوه , كَذَا أَجَابَ اِبْن الْمُنِير , وَهُوَ مَبْنِيّ عَلَى الصَّحِيح مِنْ أَنَّ الْأَسْمَاء تَوْقِيفِيَّة.
وَقَدْ تَوَسَّطَ الْغَزَالِيّ وَطَائِفَة فَقَالُوا : مَحَلّ الْمَنْع مَا لَمْ يَرِد نَصّ بِمَا يُشْتَقْ مِنْهُ , شَرْط أَنْ لَا يَكُون ذَلِكَ الِاسْم الْمُشْتَقّ مُشْعِرًا بِنَقْصٍ , فَيَجُوز تَسْمِيَته الْوَاقِي لِقَوْلِهِ تَعَالَى : ( وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَات يَوْمئِذٍ فَقَدْ رَحِمْته ) وَلَا يَجُوز تَسْمِيَته الْبِنَاء وَإِنْ وَرَدَ قَوْله تَعَالَى : ( وَالسَّمَاء بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ ).
‏ ‏وَفِي هَذِهِ الْقِصَّة جَوَاز التَّشْبِيه مِنْ الْجِهَة الْعَامَّة وَإِنْ اِخْتَلَفَتْ الْجِهَة الْخَاصَّة , لِأَنَّ أَصْحَاب الْفِيل كَانُوا عَلَى بَاطِل مَحْض وَأَصْحَاب هَذِهِ النَّاقَة كَانُوا عَلَى حَقّ مَحْض , لَكِنْ جَاءَ التَّشْبِيه مِنْ جِهَة إِرَادَة اللَّه مَنْع الْحَرَم مُطْلَقًا , أَمَّا مِنْ أَهْل الْبَاطِل فَوَاضِح , وَأَمَّا مِنْ أَهْل الْحَقّ فَلِلْمَعْنَى الَّذِي تَقَدَّمَ ذِكْره.
وَفِيهِ ضَرْب الْمَثَل وَاعْتِبَار مَنْ بَقِيَ بِمَنْ مَضَى , قَالَ الْخَطَّابِيُّ : مَعْنَى تَعْظِيم حُرُمَات اللَّه فِي هَذِهِ الْقِصَّة تَرْك الْقِتَال فِي الْحَرَم , وَالْجُنُوح إِلَى الْمُسَالَمَة وَالْكَفّ عَنْ إِرَاقَة الدِّمَاء.
وَاسْتَدَلَّ بَعْضهمْ بِهَذِهِ الْقِصَّة لِمَنْ قَالَ مِنْ الصُّوفِيَّة : عَلَامَة الْإِذْن التَّيْسِير وَعَكْسه , وَفِيهِ نَظَر.
‏ ‏قَوْله : ( وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ ) ‏ ‏فِيهِ تَأْكِيد الْقَوْل بِالْيَمِينِ فَيَكُون أَدْعَى إِلَى الْقَبُول , وَقَدْ حُفِظَ عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْحَلِف فِي أَكْثَر مِنْ ثَمَانِينَ مَوْضِعًا قَالَهُ اِبْن الْقَيِّم فِي الْهَدْي.
‏ ‏قَوْله : ( لَا يَسْأَلُونَنِي خُطَّة ) ‏ ‏بِضَمِّ الْخَاء الْمُعْجَمَة أَيْ خَصْلَة ‏ ‏( يُعَظِّمُونَ فِيهَا حُرُمَات اللَّه ) ‏ ‏أَيْ مِنْ تَرْك الْقِتَال فِي الْحَرَم , وَوَقَعَ فِي رِوَايَة اِبْن إِسْحَاق " يَسْأَلُونَنِي فِيهَا صِلَة الرَّحِم " وَهِيَ مِنْ جُمْلَة حُرُمَات اللَّه , وَقِيلَ الْمُرَاد بِالْحُرُمَاتِ حُرْمَة الْحَرَم وَالشَّهْر وَالْإِحْرَام , قُلْت : وَفِي الثَّالِث نَظَر لِأَنَّهُمْ لَوْ عَظَّمُوا الْإِحْرَام مَا صَدُّوهُ.
‏ ‏قَوْله : ( إِلَّا أَعْطَيْتهمْ إِيَّاهَا ) ‏ ‏أَيْ أَجَبْتهمْ إِلَيْهَا , قَالَ السُّهَيْلِيّ : لَمْ يَقَع فِي شَيْء مِنْ طُرُق الْحَدِيث أَنَّهُ قَالَ إِنْ شَاءَ اللَّه مَعَ أَنَّهُ مَأْمُور بِهَا فِي كُلّ حَالَة , وَالْجَوَاب أَنَّهُ كَانَ أَمْرًا وَاجِبًا حَتْمًا فَلَا يَحْتَاج فِيهِ إِلَى الِاسْتِثْنَاء , كَذَا قَالَ.
وَتُعُقِّبَ بِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ فِي هَذِهِ الْقِصَّة : ( لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِد الْحَرَام إِنْ شَاءَ اللَّه آمِنِينَ ) فَقَالَ : ( إِنْ شَاءَ اللَّه ) مَعَ تَحَقُّق وُقُوع ذَلِكَ تَعْلِيمًا وَإِرْشَادًا , فَالْأَوْلَى أَنْ يُحْمَل عَلَى أَنَّ الِاسْتِثْنَاء سَقَطَ مِنْ الرَّاوِي أَوْ كَانَتْ الْقِصَّة قَبْل نُزُول الْأَمْر بِذَلِكَ , وَلَا يُعَارِضهُ كَوْن الْكَهْف مَكِّيَّة إِذْ لَا مَانِع أَنْ يَتَأَخَّر نُزُول بَعْض السُّورَة.
‏ ‏قَوْله : ( ثُمَّ زَجَرَهَا ) ‏ ‏أَيْ النَّاقَة ‏ ‏( فَوَثَبَتْ ) ‏ ‏أَيْ قَامَتْ.
‏ ‏قَوْله : ( فَعَدَلَ عَنْهُمْ ) ‏ ‏فِي رِوَايَة اِبْن سَعْد " فَوَلَّى رَاجِعًا " وَفِي رِوَايَة اِبْن إِسْحَاق " فَقَالَ لِلنَّاسِ اِنْزِلُوا.
قَالُوا يَا رَسُول اللَّه مَا بِالْوَادِي مِنْ مَاء نَنْزِل عَلَيْهِ ".
‏ ‏قَوْله : ( عَلَى ثَمَد ) ‏ ‏بِفَتْحِ الْمُثَلَّثَة وَالْمِيم أَيْ حُفَيْرَة فِيهَا مَاء مَثْمُود أَيْ قَلِيل , وَقَوْله : " قَلِيل الْمَاء " تَأْكِيد لِدَفْعِ تَوَهُّم أَنْ يُرَاد لُغَة مَنْ يَقُول إِنَّ الثَّمَد الْمَاء الْكَثِير , وَقِيلَ الثَّمَد مَا يَظْهَر مِنْ الْمَاء فِي الشِّتَاء وَيَذْهَب فِي الصَّيْف.
‏ ‏قَوْله : ( يَتَبَرَّضهُ النَّاس ) ‏ ‏بِالْمُوَحَّدَةِ وَالتَّشْدِيد وَالضَّاد الْمُعْجَمَة هُوَ الْأَخْذ قَلِيلًا قَلِيلًا , وَالْبَرْض بِالْفَتْحِ وَالسُّكُون الْيَسِير مِنْ الْعَطَاء , وَقَالَ صَاحِب الْعَيْن : هُوَ جَمْع الْمَاء بِالْكَفَّيْنِ , وَذَكَرَ أَبُو الْأَسْوَد فِي رِوَايَته عَنْ عُرْوَة " وَسَبَقَتْ قُرَيْش إِلَى الْمَاء فَنَزَلُوا عَلَيْهِ , وَنَزَلَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْحُدَيْبِيَة فِي حَرّ شَدِيد وَلَيْسَ بِهَا إِلَّا بِئْر وَاحِدَة " فَذَكَرَ الْقِصَّة.
‏ ‏قَوْله : ( فَلَمْ يُلْبِثهُ ) ‏ ‏بِضَمِّ أَوَّله وَسُكُون اللَّام مِنْ الْإِلْبَاث , وَقَالَ اِبْن التِّين : بِفَتْحِ اللَّام وَكَسْر الْمُوَحَّدَة الثَّقِيلَة أَيْ لَمْ يَتْرُكُوهُ يَلْبَث أَيْ يُقِيم.
‏ ‏قَوْله : ( وَشُكِيَ ) ‏ ‏بِضَمِّ أَوَّله عَلَى الْبِنَاء لِلْمَجْهُولِ.
‏ ‏قَوْله : ( فَانْتَزَعَ سَهْمًا مِنْ كِنَانَته ) ‏ ‏أَيْ أَخْرَجَ سَهْمًا مِنْ جَعْبَته.
‏ ‏قَوْله : ( ثُمَّ أَمَرَهُمْ ) ‏ ‏فِي رِوَايَة اِبْن إِسْحَاق عَنْ بَعْض أَهْل الْعِلْم عَنْ رِجَال مِنْ أَسْلَمَ أَنَّ نَاجِيَة بْن جُنْدُب الَّذِي سَاقَ الْبُدْن هُوَ الَّذِي نَزَلَ بِالسَّهْمِ , وَأَخْرَجَهُ اِبْن سَعْد مِنْ طَرِيق سَلَمَة بْن الْأَكْوَع , وَفِي رِوَايَة نَاجِيَة بْن الْأَعْجَم , قَالَ اِبْن إِسْحَاق " وَزَعَمَ بَعْض أَهْل الْعِلْم أَنَّهُ الْبَرَاء بْن عَازِب " وَرَوَى الْوَاقِدِيّ مِنْ طَرِيق خَالِد بْن عُبَادَةَ الْغِفَارِيِّ قَالَ : " أَنَا الَّذِي نَزَلْت بِالسَّهْمِ " وَيُمْكِن الْجَمْع بِأَنَّهُمْ تَعَاوَنُوا عَلَى ذَلِكَ بِالْحَفْرِ وَغَيْره , وَسَيَأْتِي فِي الْمَغَازِي مِنْ حَدِيث الْبَرَاء بْن عَازِب فِي قِصَّة الْحُدَيْبِيَة " أَنَّهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَلَسَ عَلَى الْبِئْر ثُمَّ دَعَا بِإِنَاءٍ فَمَضْمَضَ وَدَعَا اللَّه ثُمَّ صَبَّهُ فِيهَا ثُمَّ قَالَ : دَعُوهَا سَاعَة.
ثُمَّ إِنَّهُمْ اِرْتَوَوْا بَعْد ذَلِكَ " وَيُمْكِن الْجَمْع بِأَنْ يَكُون الْأَمْرَانِ مَعًا وَقَعَا.
وَقَدْ رَوَى الْوَاقِدِيّ مِنْ طَرِيق أَوْس بْن خَوْلِيّ " أَنَّهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَوَضَّأَ فِي الدَّلْو ثُمَّ أَفْرَغَهُ فِيهَا وَانْتَزَعَ السَّهْم فَوَضَعَهُ فِيهَا " وَهَكَذَا ذَكَرَ أَبُو الْأَسْوَد فِي رِوَايَته عَنْ عُرْوَة " أَنَّهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَمَضْمَضَ فِي دَلْو وَصَبَّهُ فِي الْبِئْر وَنَزَعَ سَهْمًا مِنْ كِنَانَته فَأَلْقَاهُ فِيهَا وَدَعَا فَفَارَتْ " وَهَذِهِ الْقِصَّة غَيْر الْقِصَّة الْآتِيَة فِي الْمَغَازِي أَيْضًا مِنْ حَدِيث جَابِر قَالَ : " عَطِشَ النَّاس بِالْحُدَيْبِيَةِ وَبَيْن يَدَيْ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَكْوَة فَتَوَضَّأَ مِنْهَا فَوَضَعَ يَده فِيهَا , فَجَعَلَ الْمَاء يَفُور مِنْ بَيْن أَصَابِعه " الْحَدِيث , وَكَأَنَّ ذَلِكَ كَانَ قَبْل قِصَّة الْبِئْر وَاَللَّه أَعْلَم.
وَفِي هَذَا الْفَصْل مُعْجِزَات ظَاهِرَة , وَفِيهِ بَرَكَة سِلَاحه وَمَا يُنْسَب إِلَيْهِ , وَقَدْ وَقَعَ نَبْع الْمَاء مِنْ بَيْن أَصَابِعه فِي عِدَّة مَوَاطِن غَيْر هَذِهِ , وَسَيَأْتِي فِي أَوَّل غَزْوَة الْحُدَيْبِيَة حَدِيث زَيْد بْن خَالِد " أَنَّهُمْ أَصَابَهُمْ مَطَر بِالْحُدَيْبِيَةِ " الْحَدِيث , وَكَأَنَّ ذَلِكَ وَقَعَ بَعْد الْقِصَّتَيْنِ الْمَذْكُورَتَيْنِ وَاَللَّه أَعْلَم.
‏ ‏قَوْله : ( يَجِيش ) ‏ ‏بِفَتْحِ أَوَّله وَكَسْر الْجِيم وَآخِره مُعْجَمَة أَيْ يَفُور , ‏ ‏وَقَوْله : ( بِالرِّيِّ ) ‏ ‏بِكَسْرِ الرَّاء وَيَجُوز فَتْحهَا.
‏ ‏وَقَوْله : ( صَدَرُوا عَنْهُ ) ‏ ‏أَيْ رَجَعُوا رُوَاء بَعْد وِرْدهمْ.
زَادَ اِبْن سَعْد " حَتَّى اِغْتَرَفُوا بِآنِيَتِهِمْ جُلُوسًا عَلَى شَفِير الْبِئْر " وَكَذَا فِي رِوَايَة أَبِي الْأَسْوَد عَنْ عُرْوَة.
‏ ‏قَوْله : ( فَبَيْنَمَا هُمْ ) ‏ ‏فِي رِوَايَة الْكُشْمِيهَنِيّ " فَبَيْنَا هُمْ " ‏ ‏( كَذَلِكَ إِذْ جَاءَ بُدَيْل ) ‏ ‏بِالْمُوَحَّدَةِ وَالتَّصْغِير أَيْ اِبْن وَرْقَاء بِالْقَافِ وَالْمَدّ صَحَابِيّ مَشْهُور.
‏ ‏قَوْله : ( فِي نَفَر مِنْ قَوْمه ) ‏ ‏سَمَّى الْوَاقِدِيّ مِنْهُمْ عَمْرو بْن سَالِم وَخِرَاش بْن أُمَيَّة , وَفِي رِوَايَة أَبِي الْأَسْوَد عَنْ عُرْوَة " مِنْهُمْ خَارِجَة بْن كُرْز وَيَزِيد بْن أُمَيَّة ".
‏ ‏قَوْله : ( وَكَانُوا عَيْبَة نُصْح ) ‏ ‏الْعَيْبَة بِفَتْحِ الْمُهْمَلَة وَسُكُون التَّحْتَانِيَّة بَعْدهَا مُوَحَّدَة مَا تُوضَع فِيهِ الثِّيَاب لِحِفْظِهَا , أَيْ أَنَّهُمْ مَوْضِع النُّصْح لَهُ وَالْأَمَانَة عَلَى سِرّه , وَنُصْح بِضَمِّ النُّون وَحَكَى اِبْن التِّين فَتْحهَا كَأَنَّهُ شَبَّهَ الصَّدْر الَّذِي هُوَ مُسْتَوْدَع السِّرّ بِالْعَيْبَةِ الَّتِي هِيَ مُسْتَوْدَع الثِّيَاب.
‏ ‏وَقَوْله : ( مِنْ أَهْل تِهَامَة ) ‏ ‏لِبَيَانِ الْجِنْس , لِأَنَّ خُزَاعَة كَانُوا مِنْ جُمْلَة أَهْل تِهَامَة وَتِهَامَة بِكَسْرِ الْمُثَنَّاة هِيَ مَكَّة وَمَا حَوْلهَا , وَأَصْلهَا مِنْ التَّهَم وَهُوَ شِدَّة الْحَرّ وَرُكُود الرِّيح وَزَادَ اِبْن إِسْحَاق فِي رِوَايَته " وَكَانَتْ خُزَاعَة عَيْبَة رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُسْلِمهَا وَمُشْرِكهَا لَا يُخْفُونَ عَلَيْهِ شَيْئًا كَانَ بِمَكَّة " وَوَقَعَ عِنْد الْوَاقِدِيّ " أَنَّ بُدَيْلًا قَالَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : لَقَدْ غَزَوْت وَلَا سِلَاح مَعَك , فَقَالَ : لَمْ نَجِئْ لِقِتَالٍ.
فَتَكَلَّمَ أَبُو بَكْر , فَقَالَ لَهُ بُدَيْل : أَنَا لَا أَتَّهِم وَلَا قَوْمِي ا ه " وَكَانَ الْأَصْل فِي مُوَالَاة خُزَاعَة لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ بَنِي هَاشِم فِي الْجَاهِلِيَّة كَانُوا تَحَالَفُوا مَعَ خُزَاعَة فَاسْتَمَرُّوا عَلَى ذَلِكَ فِي الْإِسْلَام.
وَفِيهِ جَوَاز اِسْتِنْصَاح بَعْض الْمُعَاهَدِينَ وَأَهْل الذِّمَّة إِذَا دَلَّتْ الْقَرَائِن عَلَى نُصْحهمْ وَشَهِدَتْ التَّجْرِبَة بِإِيثَارِهِمْ أَهْل الْإِسْلَام عَلَى غَيْرهمْ وَلَوْ كَانُوا مِنْ أَهْل دِينهمْ , وَيُسْتَفَاد مِنْهُ جَوَاز اِسْتِنْصَاح بَعْض مُلُوك الْعَدُوّ اِسْتِظْهَارًا عَلَى غَيْرهمْ , وَلَا يُعَدّ ذَلِكَ مِنْ مُوَالَاة الْكُفَّار وَلَا مُوَادَّة أَعْدَاء اللَّه بَلْ مِنْ قَبِيل اِسْتِخْدَامهمْ وَتَقْلِيل شَوْكَة جَمْعهمْ وَإِنْكَاء بَعْضهمْ بِبَعْضٍ , وَلَا يَلْزَم مِنْ ذَلِكَ جَوَاز الِاسْتِعَانَة بِالْمُشْرِكِينَ عَلَى الْإِطْلَاق.
‏ ‏قَوْله : ( فَقَالَ : إِنِّي تَرَكْت كَعْب بْن لُؤَيّ وَعَامِر بْن لُؤَيّ ) ‏ ‏إِنَّمَا اِقْتَصَرَ عَلَى ذِكْر هَذَيْنِ لِكَوْنِ قُرَيْش الَّذِينَ كَانُوا بِمَكَّة أَجْمَع تَرْجِع أَنْسَابهمْ إِلَيْهِمَا , وَبَقِيَ مِنْ قُرَيْش بَنُو سَامَة بْن لُؤَيّ وَبَنُو عَوْف بْن لُؤَيّ وَلَمْ يَكُنْ بِمَكَّة مِنْهُمْ أَحَد , وَكَذَلِكَ قُرَيْش الظَّوَاهِر الَّذِينَ مِنْهُمْ بَنُو تَيْم بْن غَالِب وَمُحَارِب بْن فِهْر.
قَالَ هِشَام بْن الْكَلْبِيّ : بَنُو عَامِر بْن لُؤَيّ وَكَعْب بْن لُؤَيّ هُمَا الصَّرِيحَانِ لَا شَكَّ فِيهِمَا , بِخِلَافِ سَامَة وَعَوْف أَيْ فَفِيهِمَا الْخَلَف.
قَالَ وَهُمْ قُرَيْش الْبِطَاح , أَيْ بِخِلَافِ قُرَيْش الظَّوَاهِر.
وَقَدْ وَقَعَ فِي رِوَايَة أَبِي الْمَلِيح " وَجَمَعُوا لَك الْأَحَابِيش " بِحَاءٍ مُهْمَلَة وَمُوَحَّدَة ثُمَّ شِين مُعْجَمَة وَهُوَ مَأْخُوذ مِنْ التَّحَبُّش وَهُوَ التَّجَمُّع.
‏ ‏قَوْله : ( نَزَلُوا أَعْدَاد مِيَاه الْحُدَيْبِيَة ) ‏ ‏الْأَعْدَاد بِالْفَتْحِ جَمْع عِدّ بِالْكَسْرِ وَالتَّشْدِيد وَهُوَ الْمَاء الَّذِي لَا اِنْقِطَاع لَهُ , وَغَفَلَ الدَّاوُدِيّ فَقَالَ هُوَ مَوْضِع بِمَكَّة , وَقَوْل بُدَيْل هَذَا يُشْعِر بِأَنَّهُ كَانَ بِالْحُدَيْبِيَةِ مِيَاه كَثِيرَة وَأَنَّ قُرَيْشًا سَبَقُوا إِلَى النُّزُول عَلَيْهَا فَلِهَذَا عَطِشَ الْمُسْلِمُونَ حَيْثُ نَزَلُوا عَلَى الثَّمَد الْمَذْكُور.
‏ ‏قَوْله : ( وَمَعَهُمْ الْعُوذ الْمَطَافِيل ) ‏ ‏الْعُوذ بِضَمِّ الْمُهْمَلَة وَسُكُون الْوَاو بَعْدهَا مُعْجَمَة جَمْع عَائِذ وَهِيَ النَّاقَة ذَات اللَّبَن , وَالْمَطَافِيل الْأُمَّهَات اللَّاتِي مَعَهَا أَطْفَالهَا , يُرِيد أَنَّهُمْ خَرَجُوا مَعَهُمْ بِذَوَاتِ الْأَلْبَان مِنْ الْإِبِل لِيَتَزَوَّدُوا بِأَلْبَانِهَا وَلَا يَرْجِعُوا حَتَّى يَمْنَعُوهُ , أَوْ كَنَّى بِذَلِكَ عَنْ النِّسَاء مَعَهُنَّ الْأَطْفَال , وَالْمُرَاد أَنَّهُمْ خَرَجُوا مِنْهُمْ بِنِسَائِهِمْ وَأَوْلَادهمْ لِإِرَادَةِ طُول الْمَقَام وَلِيَكُونَ أَدْعَى إِلَى عَدَم الْفِرَار , وَيَحْتَمِل إِرَادَة الْمَعْنَى الْأَعَمّ , قَالَ اِبْن فَارِس.
كُلّ أُنْثَى إِذَا وَضَعَتْ فَهِيَ إِلَى سَبْعَة أَيَّام عَائِذ وَالْجَمْع عُوذ كَأَنَّهَا سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِأَنَّهَا تَعُوذ وَلَدهَا وَتَلْزَم الشُّغْل بِهِ , وَقَالَ السُّهَيْلِيّ : سُمِّيَتْ بِذَلِكَ وَإِنْ كَانَ الْوَلَد هُوَ الَّذِي يَعُوذ بِهَا لِأَنَّهَا تَعْطِف عَلَيْهِ بِالشَّفَقَةِ وَالْحُنُوّ , كَمَا قَالُوا تِجَارَة رَابِحَة وَإِنْ كَانَتْ مَرْبُوحًا فِيهَا.
وَوَقَعَ عِنْد اِبْن سَعْد " مِنْهُمْ الْعُوذ الْمَطَافِيل وَالنِّسَاء وَالصِّبْيَان ".
‏ ‏قَوْله : ( نَهِكَتْهُمْ ) ‏ ‏بِفَتْحِ أَوَّله وَكَسْر الْهَاء , أَيْ أَبْلَغَتْ فِيهِمْ حَتَّى أَضْعَفَتْهُمْ , إِمَّا أَضْعَفَتْ قُوَّتهمْ وَإِمَّا أَضْعَفَتْ أَمْوَالهمْ.
‏ ‏قَوْله : ( مَادَدْتهمْ ) ‏ ‏أَيْ جَعَلْت بَيْنِي وَبَيْنهمْ مُدَّة يُتْرَك الْحَرْب بَيْننَا وَبَيْنهمْ فِيهَا.
‏ ‏قَوْله : ( وَيُخَلُّوا بَيْنِي وَبَيْن النَّاس ) ‏ ‏أَيْ مِنْ كُفَّار الْعَرَب وَغَيْرهمْ.
‏ ‏قَوْله : ( فَإِنْ أَظْهَر فَإِنْ شَاءُوا ) ‏ ‏هُوَ شَرْط بَعْد الشَّرْط وَالتَّقْدِير فَإِنْ ظَهَرَ غَيْرهمْ عَلَيَّ كَفَاهُمْ الْمَئُونَة , وَإِنْ أَظْهَر أَنَا عَلَى غَيْرهمْ فَإِنْ شَاءُوا أَطَاعُونِي وَإِلَّا فَلَا تَنْقَضِي مُدَّة الصُّلْح إِلَّا وَقَدْ جَمُّعُوا , أَيْ اِسْتَرَاحُوا , وَهُوَ بِفَتْحِ الْجِيم وَتَشْدِيد الْمِيم الْمَضْمُومَة أَيْ قَوُوا.
وَوَقَعَ فِي رِوَايَة اِبْن إِسْحَاق " وَإِنْ لَمْ يَفْعَلُوا قَاتَلُوا وَبِهِمْ قُوَّة " وَإِنَّمَا رَدَّدَ الْأَمْر مَعَ أَنَّهُ جَازِم بِأَنَّ اللَّه تَعَالَى سَيَنْصُرُهُ وَيُظْهِرهُ لِوَعْدِ اللَّه تَعَالَى لَهُ بِذَلِكَ , عَلَى طَرِيق التَّنَزُّل مَعَ الْخَصْم وَفَرْض الْأَمْر عَلَى مَا زَعَمَ الْخَصْم , وَلِهَذِهِ النُّكْتَة حَذَفَ الْقِسْم الْأَوَّل وَهُوَ التَّصْرِيح بِظُهُورِ غَيْره عَلَيْهِ , لَكِنْ وَقَعَ التَّصْرِيح بِهِ فِي رِوَايَة اِبْن إِسْحَاق وَلَفْظه " فَإِنْ أَصَابُونِي كَانَ الَّذِي أَرَادُوا " وَلِابْنِ عَائِذ مِنْ وَجْه آخَر عَنْ الزُّهْرِيِّ " فَإِنْ ظَهَرَ النَّاس عَلَيَّ فَذَلِكَ الَّذِي يَبْتَغُونَ " فَالظَّاهِر أَنَّ الْحَذْف وَقَعَ مِنْ بَعْض الرُّوَاة تَأَدُّبًا.
‏ ‏قَوْله : ( حَتَّى تَنْفَرِد سَالِفَتِي ) ‏ ‏السَّالِفَة بِالْمُهْمَلَةِ وَكَسْر اللَّام بَعْدهَا فَاء صَفْحَة الْعُنُق , وَكَنَّى بِذَلِكَ عَنْ الْقَتْل لِأَنَّ الْقَتِيل تَنْفَرِد مُقَدِّمَة عُنُقه.
وَقَالَ الدَّاوُدِيّ : الْمُرَاد الْمَوْت أَيْ حَتَّى أَمُوت وَأَبْقَى مُنْفَرِدًا فِي قَبْرِي.
وَيَحْتَمِل أَنْ يَكُون أَرَادَ أَنَّهُ يُقَاتِل حَتَّى يَنْفَرِد وَحْده فِي مُقَاتَلَتهمْ.
وَقَالَ اِبْن الْمُنِير : لَعَلَّهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَبَّهَ بِالْأَدْنَى عَلَى الْأَعْلَى , أَيْ إِنَّ لِي مِنْ الْقُوَّة بِاَللَّهِ وَالْحَوْل بِهِ مَا يَقْتَضِي أَنْ أُقَاتِل عَنْ دِينه لَوْ اِنْفَرَدْت , فَكَيْفَ لَا أُقَاتِل عَنْ دِينه مَعَ وُجُود الْمُسْلِمِينَ وَكَثْرَتهمْ وَنَفَاذ بَصَائِرهمْ فِي نَصْر دِين اللَّه تَعَالَى.
‏ ‏قَوْله : ( وَلَيُنْفِذَنَّ ) ‏ ‏بِضَمِّ أَوَّله وَكَسْر الْفَاء أَيْ لَيُمْضِيَنَّ ‏ ‏( اللَّه أَمْره ) ‏ ‏فِي نَصْر دِينه.
وَحَسُنَ الْإِتْيَان بِهَذَا الْجَزْم - بَعْد ذَلِكَ التَّرَدُّد - لِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يُورِدهُ إِلَّا عَلَى سَبِيل الْفَرْض.
وَفِي هَذَا الْفَصْل النَّدْب إِلَى صِلَة الرَّحِم , وَالْإِبْقَاء عَلَى مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلهَا , وَبَذْل النَّصِيحَة لِلْقَرَابَةِ , وَمَا كَانَ عَلَيْهِ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْقُوَّة وَالثَّبَات فِي تَنْفِيذ حُكْم اللَّه وَتَبْلِيغ أَمْره.
‏ ‏قَوْله : ( فَقَالَ بُدَيْل سَأُبَلِّغُهُمْ مَا تَقُول ) ‏ ‏أَيْ فَأَذِنَ لَهُ.
‏ ‏قَوْله : ( فَقَالَ سُفَهَاؤُهُمْ ) ‏ ‏سَمَّى الْوَاقِدِيّ مِنْهُمْ عِكْرِمَة بْن أَبِي جَهْل وَالْحَكَم بْن أَبِي الْعَاصِ.
‏ ‏قَوْله : ( فَحَدَّثَهُمْ بِمَا قَالَ ) ‏ ‏زَادَ اِبْن إِسْحَاق فِي رِوَايَته " فَقَالَ لَهُمْ بُدَيْل : إِنَّكُمْ تَعْجَلُونَ عَلَى مُحَمَّد , إِنَّهُ لَمْ يَأْتِ لِقِتَالٍ , إِنَّمَا جَاءَ مُعْتَمِرًا.
فَاتَّهَمُوهُ - أَيْ اِتَّهَمُوا بُدَيْلًا , لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَعْرِفُونَ مَيْله إِلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالُوا إِنْ كَانَ كَمَا تَقُول فَلَا يَدْخُلهَا عَلَيْنَا عَنْوَة ".
‏ ‏قَوْله : ( فَقَامَ عُرْوَة ) ‏ ‏فِي رِوَايَة أَبِي الْأَسْوَد عَنْ عُرْوَة عِنْد الْحَاكِم فِي " الْإِكْلِيل " وَالْبَيْهَقِيِّ فِي " الدَّلَائِل " وَذَكَرَ ذَلِكَ اِبْن إِسْحَاق أَيْضًا مِنْ وَجْه آخَر " قَالُوا لَمَّا نَزَلَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْحُدَيْبِيَةِ أَحَبَّ أَنْ يَبْعَث رَجُلًا مِنْ أَصْحَابه إِلَى قُرَيْش يُعْلِمهُمْ بِأَنَّهُ إِنَّمَا قَدِمَ مُعْتَمِرًا , فَدَعَا عُمَر فَاعْتَذَرَ بِأَنَّهُ لَا عَشِيرَة لَهُ بِمَكَّة , فَدَعَا عُثْمَان فَأَرْسَلَهُ بِذَلِكَ.
وَأَمَرَهُ أَنْ يُعْلِم مَنْ بِمَكَّة مِنْ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ الْفَرَج قَرِيب , فَأَعْلَمهُمْ عُثْمَان بِذَلِكَ , فَحَمَلَهُ أَبَان بْن سَعِيد بْن الْعَاصِ عَلَى فَرَسه - فَذَكَرَ الْقِصَّة - فَقَالَ الْمُسْلِمُونَ : هَنِيئًا لِعُثْمَان , خَلَصَ إِلَى الْبَيْت فَطَافَ بِهِ دُوننَا , فَقَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : إِنَّ ظَنِّي بِهِ أَنْ لَا يَطُوف حَتَّى نَطُوف مَعًا.
فَكَانَ كَذَلِكَ.
قَالَ : ثُمَّ جَاءَ عُرْوَة بْن مَسْعُود " فَذَكَرَ الْقِصَّة.
وَفِي رِوَايَة اِبْن إِسْحَاق أَنَّ مَجِيء عُرْوَة كَانَ قَبْل ذَلِكَ , وَذَكَرَهَا مُوسَى بْن عُقْبَةَ فِي الْمَغَازِي عَنْ الزُّهْرِيِّ , وَكَذَا أَبُو الْأَسْوَد عَنْ عُرْوَة قَبْل قِصَّة مَجِيء سُهَيْل بْن عَمْرو , فَاَللَّه أَعْلَم.
‏ ‏قَوْله : ( فَقَامَ عُرْوَة بْن مَسْعُود ) ‏ ‏أَيْ اِبْن مُعَتِّب بِضَمِّ أَوَّله وَفَتْح الْمُهْمَلَة وَتَشْدِيد الْمُثَنَّاة الْمَكْسُورَة بَعْدهَا مُوَحَّدَة الثَّقَفِيّ , وَوَقَعَ فِي رِوَايَة اِبْن إِسْحَاق عِنْد أَحْمَد عُرْوَة بْن عَمْرو بْن مَسْعُود , وَالصَّوَاب الْأَوَّل وَهُوَ الَّذِي وَقَعَ فِي السِّيرَة.
‏ ‏قَوْله : ( أَلَسْتُمْ بِالْوَلَدِ وَأَلَسْتُ بِالْوَالِدِ ؟ قَالُوا : بَلَى ) ‏ ‏كَذَا لِأَبِي ذَرّ , وَلِغَيْرِهِ بِالْعَكْسِ " أَلَسْتُمْ بِالْوَالِدِ وَأَلَسْتُ بِالْوَلَدِ " وَهُوَ الصَّوَاب وَهُوَ الَّذِي فِي رِوَايَة أَحْمَد وَابْن إِسْحَاق وَغَيْرهمَا , وَزَادَ اِبْن إِسْحَاق عَنْ الزُّهْرِيِّ أَنَّ أُمّ عُرْوَة هِيَ سُبَيْعَة بِنْت عَبْد شَمْس بْن عَبْد مَنَافٍ , فَأَرَادَ بِقَوْلِهِ : " أَلَسْتُمْ بِالْوَالِدِ " أَنَّكُمْ حَيّ قَدْ وَلَدُونِي فِي الْجُمْلَة لِكَوْنِ أُمِّي مِنْكُمْ.
وَجَرَى بَعْض الشُّرَّاح عَلَى مَا وَقَعَ فِي رِوَايَة أَبِي ذَرّ فَقَالَ : أَرَادَ بِقَوْلِهِ : " أَلَسْتُمْ بِالْوَلَدِ " أَيْ أَنْتُمْ عِنْدِي فِي الشَّفَقَة وَالنُّصْح بِمَنْزِلَةِ الْوَلَد , قَالَ : وَلَعَلَّهُ كَانَ يُخَاطِب بِذَلِكَ قَوْمًا هُوَ أَسَنّ مِنْهُمْ.
‏ ‏قَوْله : ( اِسْتَنْفَرْت أَهْل عُكَاظ ) ‏ ‏بِضَمِّ الْمُهْمَلَة وَتَخْفِيف الْكَاف وَآخِره مُعْجَمَة أَيْ دَعَوْتهمْ إِلَى نَصْركُمْ.
‏ ‏قَوْله : ( فَلَمَّا بَلَّحُوا ) ‏ ‏بِالْمُوَحَّدَةِ وَتَشْدِيد اللَّام الْمَفْتُوحَتَيْنِ ثُمَّ مُهْمَلَة مَضْمُومَة أَيْ اِمْتَنَعُوا , وَالتَّبَلُّح التَّمَنُّع مِنْ الْإِجَابَة , وَبَلَّحَ الْغَرِيم إِذَا اِمْتَنَعَ مِنْ أَدَاء مَا عَلَيْهِ زَادَ اِبْن إِسْحَاق " فَقَالُوا صَدَقْت , مَا أَنْتَ عِنْدنَا بِمُتَّهَمٍ ".
‏ ‏قَوْله : ( قَدْ عَرَضَ عَلَيْكُمْ ) ‏ ‏فِي رِوَايَة الْكُشْمِيهَنِيّ " لَكُمْ ".
‏ ‏( خُطَّة رُشْد ) ‏ ‏بِضَمِّ الْخَاء الْمُعْجَمَة وَتَشْدِيد الْمُهْمَلَة , وَالرُّشْد بِضَمِّ الرَّاء وَسُكُون الْمُعْجَمَة وَبِفَتْحِهِمَا , أَيْ خَصْلَة خَيْر وَصَلَاح وَإِنْصَاف , وَبَيَّنَ اِبْن إِسْحَاق فِي رِوَايَته أَنَّ سَبَب تَقْدِيم عُرْوَة لِهَذَا الْكَلَام عِنْد قُرَيْش مَا رَآهُ مِنْ رَدّهمْ الْعَنِيف عَلَى مَنْ يَجِيء مِنْ عِنْد الْمُسْلِمِينَ.
‏ ‏قَوْله : ( وَدَعُونِي آتِهِ ) ‏ ‏بِالْمَدِّ , وَهُوَ مَجْزُوم عَلَى جَوَاب الْأَمْر وَأَصْله أَئْتِهِ أَيْ أَجِيء إِلَيْهِ ‏ ‏( قَالُوا اِئْتِهِ ) ‏ ‏بِأَلِفِ وَصْل بَعْدهَا هَمْزَة سَاكِنَة ثُمَّ مُثَنَّاة مَكْسُورَة ثُمَّ هَاء سَاكِنَة وَيَجُوز كَسْرهَا.
‏ ‏قَوْله : ( نَحْوًا مِنْ قَوْله لِبُدَيْلٍ ) ‏ ‏زَادَ اِبْن إِسْحَاق " وَأَخْبَرَهُ أَنَّهُ لَمْ يَأْتِ يُرِيد حَرْبًا ".
‏ ‏قَوْله : ( فَقَالَ عُرْوَة عِنْد ذَلِكَ ) ‏ ‏أَيْ عِنْد قَوْله : لَأُقَاتِلَنهُمْ.
‏ ‏قَوْله : ( اِجْتَاحَ ) ‏ ‏بِجِيمٍ ثُمَّ مُهْمَلَة أَيْ أَهْلَكَ أَصْله بِالْكُلِّيَّةِ , وَحَذَفَ الْجَزَاء مِنْ قَوْله : " وَإِنْ تَكُنْ الْأُخْرَى " تَأَدُّبًا مَعَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , وَالْمَعْنَى وَإِنْ تَكُنْ الْغَلَبَة لِقُرَيْشٍ لَا آمَنهُمْ عَلَيْك مَثَلًا.
‏ ‏وَقَوْله : ( فَإِنِّي وَاَللَّه لَا أَرَى وُجُوهًا إِلَخْ ) ‏ ‏كَالتَّعْلِيلِ لِهَذَا الْقَدْر الْمَحْذُوف , وَالْحَاصِل أَنَّ عُرْوَة رَدَّدَ الْأَمْر بَيْن شَيْئَيْنِ غَيْر مُسْتَحْسَنَيْنِ عَادَة وَهُوَ هَلَاك قَوْمه إِنْ غَلَبَ , وَذَهَاب أَصْحَابه إِنْ غُلِبَ , لَكِنْ كُلّ مِنْ الْأَمْرَيْنِ مُسْتَحْسَن شَرْعًا كَمَا قَالَ تَعَالَى : ( قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ ).
‏ ‏قَوْله : ( أَشْوَابًا ) ‏ ‏بِتَقْدِيمِ الْمُعْجَمَة عَلَى الْوَاو كَذَا لِلْأَكْثَرِ وَعَلَيْهَا اِقْتَصَرَ صَاحِب الْمَشَارِق , وَوَقَعَ لِأَبِي ذَرّ عَنْ الْكُشْمِيهَنِيّ " أَوْشَابًا " بِتَقْدِيمِ الْوَاو , وَالْأَشْوَاب الْأَخْلَاط مِنْ أَنْوَاع شَتَّى , وَالْأَوْبَاش الْأَخْلَاط مِنْ السَّفَلَة , فَالْأَوْبَاش أَخَصّ مِنْ الْأَشْوَاب.
‏ ‏قَوْله : ( خَلِيقًا ) ‏ ‏بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَة وَالْقَاف أَيْ حَقِيقًا وَزْنًا وَمَعْنًى , وَيُقَال خَلِيق لِلْوَاحِدِ وَالْجَمْع وَلِذَلِكَ وَقَعَ صِفَة لِأَشْوَابٍ.
‏ ‏قَوْله : ( وَيَدَعُوك ) ‏ ‏بِفَتْحِ الدَّال أَيْ يَتْرُكُوك , فِي رِوَايَة أَبِي الْمَلِيح عَنْ الزُّهْرِيِّ عِنْد مَنْ سَمَّيْته " وَكَأَنَّ بِهِمْ لَوْ قَدْ لَقِيت قُرَيْشًا قَدْ أَسْلَمُوك فَتُؤْخَذ أَسِيرًا فَأَيّ شَيْء أَشَدّ عَلَيْك مِنْ هَذَا " وَفِيهِ أَنَّ الْعَادَة جَرَتْ أَنَّ الْجُيُوش الْمُجَمَّعَة لَا يُؤْمَن عَلَيْهَا الْفِرَار بِخِلَافِ مَنْ كَانَ مِنْ قَبِيلَة وَاحِدَة فَإِنَّهُمْ يَأْنَفُونَ الْفِرَار فِي الْعَادَة.
وَمَا دَرَى عُرْوَة أَنَّ مَوَدَّة الْإِسْلَام أَعْظَم مِنْ مَوَدَّة الْقَرَابَة , وَقَدْ ظَهَرَ لَهُ ذَلِكَ مِنْ مُبَالَغَة الْمُسْلِمِينَ فِي تَعْظِيم النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا سَيَأْتِي.
‏ ‏قَوْله : ( فَقَالَ لَهُ أَبُو بَكْر الصِّدِّيق ) ‏ ‏زَادَ اِبْن إِسْحَاق " وَأَبُو بَكْر الصِّدِّيق خَلْف رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَاعِد فَقَالَ ".
‏ ‏قَوْله : ( اِمْصَصْ بِبَظْرِ اللَّاتِي ) ‏ ‏زَادَ اِبْن عَائِذ مِنْ وَجْه آخَر عَنْ الزُّهْرِيِّ " وَهِيَ - أَيْ اللَّاتِي - طَاغِيَته الَّتِي يَعْبُد " أَيْ طَاغِيَة عُرْوَة.
وَقَوْله اُمْصُصْ بِأَلِفِ وَصْل وَمُهْمَلَتَيْنِ الْأُولَى مَفْتُوحَة بِصِيغَةِ الْأَمْر , وَحَكَى اِبْن التِّين عَنْ رِوَايَة الْقَابِسِيّ ضَمّ الصَّاد الْأُولَى وَخَطَّأَهَا , وَالْبَظْر بِفَتْحِ الْمُوَحَّدَة وَسُكُون الْمُعْجَمَة قِطْعَة تَبْقَى بَعْد الْخِتَان فِي فَرْج الْمَرْأَة , وَاَللَّاتِي اِسْم أَحَد الْأَصْنَام الَّتِي كَانَتْ قُرَيْش وَثَقِيف يَعْبُدُونَهَا , وَكَانَتْ عَادَة الْعَرَب الشَّتْم بِذَلِكَ لَكِنْ بِلَفْظِ الْأُمّ فَأَرَادَ أَبُو بَكْر الْمُبَالَغَة فِي سَبّ عُرْوَة بِإِقَامَةِ مَنْ كَانَ يَعْبُد مَقَام أُمّه , وَحَمَلَهُ عَلَى ذَلِكَ مَا أَغْضَبَهُ بِهِ مِنْ نِسْبَة الْمُسْلِمِينَ إِلَى الْفِرَار , وَفِيهِ جَوَاز النُّطْق بِمَا يُسْتَبْشَع مِنْ الْأَلْفَاظ لِإِرَادَةِ زَجْر مَنْ بَدَا مِنْهُ مَا يَسْتَحِقّ بِهِ ذَلِكَ.
وَقَالَ اِبْن الْمُنِير : فِي قَوْل أَبِي بَكْر تَخْسِيس لِلْعَدُوِّ وَتَكْذِيبهمْ وَتَعْرِيض بِإِلْزَامِهِمْ مِنْ قَوْلهمْ إِنَّ اللَّاتِي بِنْت اللَّه , تَعَالَى اللَّه عَنْ ذَلِكَ عُلُوًّا كَبِيرًا , بِأَنَّهَا لَوْ كَانَتْ بِنْتًا لَكَانَ لَهَا مَا يَكُون لِلْإِنَاثِ.
‏ ‏قَوْله : ( أَنَحْنُ نَفِرّ ) ‏ ‏اِسْتِفْهَام إِنْكَار.
‏ ‏قَوْله : ( مَنْ ذَا ؟ قَالُوا أَبُو بَكْر ) ‏ ‏فِي رِوَايَة اِبْن إِسْحَاق " فَقَالَ : مَنْ هَذَا يَا مُحَمَّد ؟ قَالَ : هَذَا اِبْن أَبِي قُحَافَة ".
‏ ‏قَوْله : ( أَمَا ) ‏ ‏هُوَ حَرْف اِسْتِفْتَاح , وَقَوْله : " وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ " يَدُلّ عَلَى أَنَّ الْقَسَم بِذَلِكَ كَانَ عَادَة لِلْعَرَبِ.
‏ ‏قَوْله : ( لَوْلَا يَد ) ‏ ‏أَيْ نِعْمَة , ‏ ‏وَقَوْله : ( لَمْ أَجْزِك بِهَا ) ‏ ‏أَيْ لَمْ أُكَافِئك بِهَا , زَادَ اِبْن إِسْحَاق " وَلَكِنَّ هَذِهِ بِهَا " أَيْ جَازَاهُ بِعَدَمِ إِجَابَته عَنْ شَتْمه بِيَدِهِ الَّتِي كَانَ أَحْسَنَ إِلَيْهِ بِهَا , وَبَيَّنَ عَبْد الْعَزِيز الْإِمَامِيّ عَنْ الزُّهْرِيِّ فِي هَذَا الْحَدِيث أَنَّ الْيَد الْمَذْكُورَة أَنَّ عُرْوَة كَانَ تَحَمَّلَ بِدِيَةٍ فَأَعَانَهُ أَبُو بَكْر فِيهَا بِعَوْنٍ حَسَن , وَفِي رِوَايَة الْوَاقِدِيّ عَشْر قَلَائِص.
‏ ‏قَوْله : ( قَائِم عَلَى رَأْس النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالسَّيْفِ ) ‏ ‏فِيهِ جَوَاز الْقِيَام عَلَى رَأْس الْأَمِير بِالسَّيْفِ بِقَصْدِ الْحِرَاسَة وَنَحْوهَا مِنْ تَرْهِيب الْعَدُوّ , وَلَا يُعَارِضهُ النَّهْي عَنْ الْقِيَام عَلَى رَأْس الْجَالِس لِأَنَّ مَحَلّه مَا إِذَا كَانَ عَلَى وَجْه الْعَظَمَة وَالْكِبْر.
‏ ‏قَوْله : ( فَكُلَّمَا تَكَلَّمَ ) ‏ ‏فِي رِوَايَة السَّرَخْسِيّ وَالْكُشْمِيهَنِيّ " فَكُلَّمَا كَلَّمَهُ أَخَذَ بِلِحْيَتِهِ " وَفِي رِوَايَة اِبْن إِسْحَاق " فَجَعَلَ يَتَنَاوَل لِحْيَة النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يُكَلِّمهُ ".
‏ ‏قَوْله : ( وَالْمُغِيرَة بْن شُعْبَة قَائِم ) ‏ ‏فِي مَغَازِي عُرْوَة بْن الزُّبَيْر رِوَايَة أَبِي الْأَسْوَد عَنْهُ " أَنَّ الْمُغِيرَة لَمَّا رَأَى عُرْوَة بْن مَسْعُود مُقْبِلًا لَبِسَ لَأْمَته وَجَعَلَ عَلَى رَأْسه الْمِغْفَر لِيَسْتَخْفِيَ مِنْ عُرْوَة عَمّه ".
‏ ‏قَوْله : ( بِنَعْلِ السَّيْف ) ‏ ‏هُوَ مَا يَكُون أَسْفَل الْقِرَاب مِنْ فِضَّة أَوْ غَيْرهَا.
‏ ‏قَوْله : ( أَخِّرْ ) ‏ ‏فِعْل أَمْر مِنْ التَّأْخِير , زَادَ اِبْن إِسْحَاق فِي رِوَايَته " قَبْل أَنْ لَا تَصِل إِلَيْك " وَزَادَ عُرْوَة بْن الزُّبَيْر " فَإِنَّهُ لَا يَنْبَغِي لِمُشْرِكٍ أَنْ يَمَسّهُ " وَفِي رِوَايَة اِبْن إِسْحَاق " فَيَقُول عُرْوَة : وَيْحك مَا أَفَظّك وَأَغْلَظَك " وَكَانَتْ عَادَة الْعَرَب أَنْ يَتَنَاوَل الرَّجُل لِحْيَة مَنْ يُكَلِّمهُ وَلَا سِيَّمَا عِنْد الْمُلَاطَفَة وَفِي الْغَالِب إِنَّمَا يَصْنَع ذَلِكَ النَّظِير بِالنَّظِيرِ , لَكِنْ كَانَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُغْضِي لِعُرْوَةَ عَنْ ذَلِكَ اِسْتِمَالَة لَهُ وَتَأْلِيفًا , وَالْمُغِيرَة يَمْنَعهُ إِحْلَالًا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَعْظِيمًا.
‏ ‏قَوْله : ( فَقَالَ : مَنْ هَذَا ؟ قَالَ الْمُغِيرَة ) ‏ ‏وَفِي رِوَايَة أَبِي الْأَسْوَد عَنْ عُرْوَة " فَلَمَّا أَكْثَرَ الْمُغِيرَة مِمَّا يَقْرَع يَده غَضِبَ وَقَالَ : لَيْتَ شِعْرِي مَنْ هَذَا الَّذِي قَدْ آذَانِي مِنْ بَيْن أَصْحَابك ؟ وَاَللَّه لَا أَحْسَب فِيكُمْ أَلْأَم مِنْهُ وَلَا أَشَرّ مَنْزِلَة " وَفِي رِوَايَة اِبْن إِسْحَاق " فَتَبَسَّمَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , فَقَالَ لَهُ عُرْوَة : مَنْ هَذَا يَا مُحَمَّد ؟ قَالَ : هَذَا اِبْن أَخِيك الْمُغِيرَة بْن شُعْبَة " وَكَذَا أَخْرَجَهُ اِبْن أَبِي شَيْبَة مِنْ حَدِيث الْمُغِيرَة بْن شُعْبَة نَفْسه بِإِسْنَادٍ صَحِيح , وَأَخْرَجَهُ اِبْن حِبَّانَ.
‏ ‏قَوْله : ( أَيْ غُدَر ) ‏ ‏بِالْمُعْجَمَةِ بِوَزْنِ عُمَر مَعْدُول عَنْ غَادِر مُبَالَغَة فِي وَصْفه بِالْغَدْرِ.
‏ ‏قَوْله : ( أَلَسْت أَسْعَى فِي غَدْرَتك ) ‏ ‏أَيْ أَلَسْت أَسْعَى فِي دَفْع شَرّ غَدْرَتك ؟ وَفِي مَغَازِي عُرْوَة " وَاَللَّه مَا غَسَلْت يَدَيَّ مِنْ غَدْرَتك , لَقَدْ أَوْرَثْتنَا الْعَدَاوَة فِي ثَقِيف " وَفِي رِوَايَة اِبْن إِسْحَاق " وَهَلْ غَسَلْت سَوْأَتك إِلَّا بِالْأَمْسِ " قَالَ اِبْن هِشَام فِي السِّيرَة : أَشَارَ عُرْوَة بِهَذَا إِلَى مَا وَقَعَ لِلْمُغِيرَةِ قَبْل إِسْلَامه , وَذَلِكَ أَنَّهُ خَرَجَ مَعَ ثَلَاثَة عَشَر نَفَرًا مِنْ ثَقِيف مِنْ بَنِي مَالِك فَغَدَرَ بِهِمْ وَقَتَلَهُمْ وَأَخَذَ أَمْوَالهمْ , فَتَهَايَجَ الْفَرِيقَانِ بَنُو مَالِك وَالْأَحْلَاف رَهْط الْمُغِيرَة فَسَعَى عُرْوَة بْن مَسْعُود عَمّ الْمُغِيرَة حَتَّى أَخَذُوا مِنْهُ دِيَة ثَلَاثَة عَشَر نَفْسًا وَاصْطَلَحُوا.
وَفِي الْقِصَّة طُول.
وَقَدْ سَاقَ اِبْن الْكَلْبِيّ وَالْوَاقِدِيّ الْقِصَّة , وَحَاصِلهَا أَنَّهُمْ كَانُوا خَرَجُوا زَائِرِينَ الْمُقَوْقِس بِمِصْرَ فَأَحْسَنَ إِلَيْهِمْ وَأَعْطَاهُمْ وَقَصَّرَ بِالْمُغِيرَةِ فَحَصَلَتْ لَهُ الْغَيْرَة مِنْهُمْ , فَلَمَّا كَانُوا بِالطَّرِيقِ شَرِبُوا الْخَمْر , فَلَمَّا سَكِرُوا وَنَامُوا وَثَبَ الْمُغِيرَة فَقَتَلَهُمْ وَلَحِقَ بِالْمَدِينَةِ فَأَسْلَمَ.
‏ ‏قَوْله : ( أَمَّا الْإِسْلَام فَأَقْبَل ) ‏ ‏بِلَفْظِ الْمُتَكَلِّم أَيْ أَقْبَلهُ.
‏ ‏قَوْله : ( وَأَمَّا الْمَال فَلَسْت مِنْهُ فِي شَيْء ) ‏ ‏أَيْ لَا أَتَعَرَّض لَهُ لِكَوْنِهِ أَخَذَهُ غَدْرًا.
وَيُسْتَفَاد مِنْهُ أَنَّهُ لَا يَحِلّ أَخْذ أَمْوَال الْكُفَّار فِي حَال الْأَمْن غَدْرًا لِأَنَّ الرُّفْقَة يُصْطَحَبُونَ عَلَى الْأَمَانَة وَالْأَمَانَة تُؤَدَّى إِلَى أَهْلهَا مُسْلِمًا كَانَ أَوْ كَافِرًا , وَأَنَّ أَمْوَال الْكُفَّار إِنَّمَا تَحِلّ بِالْمُحَارَبَةِ وَالْمُغَالَبَة , وَلَعَلَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَرَكَ الْمَال فِي يَده لِإِمْكَانِ أَنْ يُسْلِم قَوْمه فَيَرُدّ إِلَيْهِمْ أَمْوَالهمْ , وَيُسْتَفَاد مِنْ الْقِصَّة أَنَّ الْحَرْبِيّ إِذَا أَتْلَفَ مَال الْحَرْبِيّ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ ضَمَان , وَهَذَا أَحَد الْوَجْهَيْنِ لِلشَّافِعِيَّةِ.
‏ ‏قَوْله : ( فَجَعَلَ يَرْمُق ) ‏ ‏بِضَمِّ الْمِيم أَيْ يَلْحَظ.
‏ ‏قَوْله : ( فَدَلَّك بِهَا وَجْهه وَجِلْده ) ‏ ‏زَادَ اِبْن إِسْحَاق " وَلَا يَسْقُط مِنْ شَعْره شَيْء إِلَّا أَخَذُوهُ " ‏ ‏وَقَوْله : " وَمَا يُحِدُّونَ " ‏ ‏بِضَمِّ أَوَّله وَكَسْر الْمُهْمَلَة أَيْ يُدِيمُونَ , وَفِيهِ طَهَارَة النُّخَامَة وَالشَّعْر الْمُنْفَصِل وَالتَّبَرُّك بِفَضَلَاتِ الصَّالِحِينَ الطَّاهِرَة , وَلَعَلَّ الصَّحَابَة فَعَلُوا ذَلِكَ بِحَضْرَةِ عُرْوَة وَبَالَغُوا فِي ذَلِكَ إِشَارَة مِنْهُمْ إِلَى الرَّدّ عَلَى مَا خَشِيَهُ مِنْ فِرَارهمْ , وَكَأَنَّهُمْ قَالُوا بِلِسَانِ الْحَال : مَنْ يُحِبّ إِمَامه هَذِهِ الْمَحَبَّة وَيُعَظِّمهُ هَذَا التَّعْظِيم كَيْفَ يَظُنّ بِهِ أَنَّهُ يَفِرّ عَنْهُ وَيُسَلِّمهُ لِعَدُوِّهِ ؟ بَلْ هُمْ أَشَدّ اِغْتِبَاطًا بِهِ وَبِدِينِهِ وَبِنَصْرِهِ مِنْ الْقَبَائِل الَّتِي يُرَاعِي بَعْضهَا بَعْضًا بِمُجَرَّدِ الرَّحِم , فَيُسْتَفَاد مِنْهُ جَوَاز التَّوَصُّل إِلَى الْمَقْصُود بِكُلِّ طَرِيق سَائِغ.
‏ ‏قَوْله : ( وَوَفَدْت عَلَى قَيْصَر ) ‏ ‏هُوَ مِنْ الْخَاصّ بَعْد الْعَامّ , وَذَكَرَ الثَّلَاثَة لِكَوْنِهِمْ كَانُوا أَعْظَم مُلُوك ذَلِكَ الزَّمَان.
وَفِي مُرْسَل عَلِيّ بْن زَيْد عِنْد اِبْن أَبِي شَيْبَة " فَقَالَ عُرْوَة : أَيْ قَوْم إِنِّي قَدْ رَأَيْت الْمُلُوك , مَا رَأَيْت مِثْل مُحَمَّد , وَمَا هُوَ بِمَلِكٍ , وَلَكِنْ رَأَيْت الْهَدْي مَعْكُوفًا , وَمَا أَرَاكُمْ إِلَّا سَتُصِيبُكُمْ قَارِعَة , فَانْصَرَفَ هُوَ وَمَنْ اِتَّبَعَهُ إِلَى الطَّائِف " وَفِي قِصَّة عُرْوَة بْن مَسْعُود مِنْ الْفَوَائِد مَا يَدُلّ عَلَى جَوْدَة عَقْله وَيَقَظَته , وَمَا كَانَ عَلَيْهِ الصَّحَابَة مِنْ الْمُبَالَغَة فِي تَعْظِيم النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَوْقِيره وَمُرَاعَاة أُمُوره وَرَدْع مَنْ جَفَا عَلَيْهِ بِقَوْلٍ أَوْ فِعْل وَالتَّبَرُّك بِآثَارِهِ.
‏ ‏قَوْله : ( فَقَالَ رَجُل مِنْ بَنِي كِنَانَة ) ‏ ‏فِي رِوَايَة الْإِمَامِيّ " فَقَامَ الْحُلَيْس " بِمُهْمَلَتَيْنِ مُصَغَّر , وَسَمَّى اِبْن إِسْحَاق وَالزُّبَيْر بْن بَكَّار أَبَاهُ عَلْقَمَة , وَهُوَ مِنْ بَنِي الْحَارِث بْن عَبْد مَنَاة بْن كِنَانَة وَكَانَ مِنْ رُءُوس الْأَحَابِيش , وَهُمْ بَنُو الْحَارِث بْن عَبْد مَنَاة بْن كِنَانَة , وَبَنُو الْمُصْطَلِق بْن خُزَاعَة , وَالْقَارَّة وَهُمْ بَنُو الْهَوْن بْن خُزَيْمَةَ.
وَفِي رِوَايَة الزُّبَيْر بْن بَكَّار " أَبَى اللَّه أَنْ تَحُجّ لَخْم وَجُذَام وَكِنْدَة وَحِمْيَر , وَيُمْنَع اِبْن عَبْد الْمُطَّلِب ".
‏ ‏قَوْله : ( فَابْعَثُوهَا لَهُ ) ‏ ‏أَيْ أَثِيرُوهَا دَفْعَة وَاحِدَة , وَزَادَ اِبْن إِسْحَاق " فَلَمَّا رَأَى الْهَدْي يَسِيل عَلَيْهِ مِنْ عَرْض الْوَادِي بِقَلَائِدِهِ قَدْ حُبِسَ عَنْ مَحِلّه رَجَعَ وَلَمْ يَصِل إِلَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " لَكِنْ فِي مَغَازِي عُرْوَة عَنْ الْحَاكِم " فَصَاحَ الْحُلَيْس فَقَالَ : هَلَكَتْ قُرَيْش وَرَبّ الْكَعْبَة , إِنَّ الْقَوْم إِنَّمَا أَتَوْا عَمَّارًا , فَقَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَجَل يَا أَخَا بَنِي كِنَانَة فَأَعْلِمهمْ بِذَلِكَ " فَيَحْتَمِل أَنْ يَكُون خَاطَبَهُ عَلَى بُعْد.
‏ ‏قَوْله : ( فَمَا أَرَى أَنْ يُصَدُّوا عَنْ الْبَيْت ) ‏ ‏زَادَ اِبْن إِسْحَاق " وَغَضِبَ وَقَالَ : يَا مَعْشَر قُرَيْش مَا عَلَى هَذَا عَاقَدْنَاكُمْ , أَيُصَدُّ عَنْ بَيْت اللَّه مَنْ جَاءَ مُعَظِّمًا لَهُ ؟ فَقَالُوا : كُفَّ عَنَّا يَا حُلَيْس حَتَّى نَأْخُذ لِأَنْفُسِنَا مَا نَرْضَى " وَفِي هَذِهِ الْقِصَّة جَوَاز الْمُخَادَعَة فِي الْحَرْب وَإِظْهَار إِرَادَة الشَّيْء وَالْمَقْصُود غَيْره , وَفِيهِ أَنَّ كَثِيرًا مِنْ الْمُشْرِكِينَ كَانُوا يُعَظِّمُونَ حُرُمَات الْإِحْرَام وَالْحَرَم , وَيُنْكِرُونَ عَلَى مَنْ يَصُدّ عَنْ ذَلِكَ تَمَسُّكًا مِنْهُمْ بِبَقَايَا مِنْ دِين إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام.
‏ ‏قَوْله : ( فَقَامَ رَجُل مِنْهُمْ يُقَال لَهُ مِكْرَز ) ‏ ‏بِكَسْرِ الْمِيم وَسُكُون الْكَاف وَفَتْح الرَّاء بَعْدهَا زَاي اِبْن حَفْص , زَادَ اِبْن إِسْحَاق " اِبْن الْأَخْيَف " وَهُوَ بِالْمُعْجَمَةِ ثُمَّ تَحْتَانِيَّة ثُمَّ الْفَاء , وَهُوَ مِنْ بَنِي عَامِر بْن لُؤَيّ.
وَوَقَعَ بِخَطِّ اِبْن عَبْدَة النَّسَّابَة بِفَتْحِ الْمِيم وَبِخَطِّ يُوسُف بْن خَلِيل الْحَافِظ بِضَمِّهَا وَكَسْر الرَّاء , وَالْأَوَّل الْمُعْتَمَد.
‏ ‏قَوْله : ( وَهُوَ رَجُل فَاجِر ) ‏ ‏فِي رِوَايَة اِبْن إِسْحَاق " غَادِر " وَهُوَ أَرْجَح , فَإِنِّي مَازِلْت مُتَعَجِّبًا مِنْ وَصْفه بِالْفُجُورِ مَعَ أَنَّهُ لَمْ يَقَع مِنْهُ فِي قِصَّة الْحُدَيْبِيَة فُجُور ظَاهِر , بَلْ فِيهَا مَا يُشْعِر بِخِلَافِ ذَلِكَ كَمَا سَيَأْتِي مِنْ كَلَامه فِي قِصَّة أَبِي جَنْدَل , إِلَى أَنْ رَأَيْت فِي مَغَازِي الْوَاقِدَيّ فِي غَزْوَة بَدْر أَنَّ عُتْبَة بْن رَبِيعَة قَالَ لِقُرَيْشٍ " كَيْفَ نَخْرُج مِنْ مَكَّة وَبَنُو كِنَانَة خَلْفنَا لَا نَأْمَنهُمْ عَلَى ذَرَارِيّنَا ؟ قَالَ : وَذَلِكَ أَنَّ حَفْص بْن الْأَخْيَف يَعْنِي وَالِد مِكْرَز كَانَ لَهُ وَلَد وَضِيء فَقَتَلَهُ رَجُل مِنْ بَنِي بَكْر بْن عَبْد مَنَاة بْن كِنَانَة بِدَمٍ لَهُ كَانَ فِي قُرَيْش , فَتَكَلَّمَتْ قُرَيْش فِي ذَلِكَ , ثُمَّ اِصْطَلَحُوا , فَعَدَا مِكْرَز بْن حَفْص بَعْد ذَلِكَ عَلَى عَامِر بْن يَزِيد سَيِّد بَنِي بَكْر غِرَّة فَقَتَلَهُ , فَنَفَرَتْ مِنْ ذَلِكَ كِنَانَة , فَجَاءَتْ وَقْعَة بَدْر فِي أَثْنَاء ذَلِكَ , وَكَانَ مِكْرَز مَعْرُوفًا بِالْغَدْرِ " وَذَكَرَ الْوَاقِدِيّ أَيْضًا أَنَّهُ أَرَادَ أَنْ يُبَيِّت الْمُسْلِمِينَ بِالْحُدَيْبِيَةِ فَخَرَجَ فِي خَمْسِينَ رَجُلًا فَأَخَذَهُمْ مُحَمَّد بْن مَسْلَمَة وَهُوَ عَلَى الْحَرَس وَانْفَلَتَ مِنْهُمْ مِكْرَز , فَكَأَنَّهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَشَارَ إِلَى ذَلِكَ.
‏ ‏قَوْله : ( إِذْ جَاءَ سُهَيْل بْن عَمْرو ) ‏ ‏فِي رِوَايَة اِبْن إِسْحَاق " فَدَعَتْ قُرَيْش سُهَيْل بْن عَمْرو فَقَالُوا : اِذْهَبْ إِلَى هَذَا الرَّجُل فَصَالِحه , قَالَ : فَقَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : قَدْ أَرَادَتْ قُرَيْش الصُّلْح حِين بَعَثَتْ هَذَا ".
‏ ‏قَوْله : ( قَالَ مَعْمَر : فَأَخْبَرَنِي أَيُّوب عَنْ عِكْرِمَة أَنَّهُ لَمَّا جَاءَ سُهَيْل إِلَخْ ) ‏ ‏هَذَا مَوْصُول إِلَى مَعْمَر بِالْإِسْنَادِ الْمَذْكُور أَوَّلًا وَهُوَ مُرْسَل , وَلَمْ أَقِف عَلَى مَنْ وَصَلَهُ بِذِكْرِ اِبْن عَبَّاس فِيهِ , لَكِنْ لَهُ شَاهِد مَوْصُول عِنْد اِبْن أَبِي شَيْبَة مِنْ حَدِيث سَلَمَة بْن الْأَكْوَع قَالَ : " بَعَثَتْ قُرَيْش سُهَيْل بْن عَمْرو وَحُوَيْطِب بْن عَبْد الْعُزَّى إِلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيُصَالِحُوهُ , فَلَمَّا رَأَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُهَيْلًا قَالَ : قَدْ سَهَّلَ لَكُمْ مِنْ أَمْركُمْ " وَلِلطَّبَرَانِيِّ نَحْوه مِنْ حَدِيث عَبْد اللَّه بْن السَّائِب.
‏ ‏قَوْله : ( قَالَ مَعْمَر قَالَ الزُّهْرِيُّ ) ‏ ‏هُوَ مَوْصُول بِالْإِسْنَادِ الْأَوَّل إِلَى مَعْمَر , وَهُوَ بَقِيَّة الْحَدِيث , وَإِنَّمَا اِعْتَرَضَ حَدِيث عِكْرِمَة فِي أَثْنَائِهِ.
‏ ‏قَوْله : ( فَقَالَ هَاتِ اُكْتُبْ بَيْننَا وَبَيْنكُمْ كِتَابًا ) ‏ ‏فِي رِوَايَة اِبْن إِسْحَاق " فَلَمَّا اِنْتَهَى إِلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَرَى بَيْنهمَا الْقَوْل حَتَّى وَقَعَ بَيْنهمَا الصُّلْح عَلَى أَنْ تُوضَع الْحَرْب بَيْنهمَا عَشْر سِنِينَ وَأَنْ يَأْمَن النَّاس بَعْضهمْ بَعْضًا , وَأَنْ يَرْجِع عَنْهُمْ عَامهمْ هَذَا ".
‏ ‏( تَنْبِيه ) : ‏ ‏هَذَا الْقَدْر الَّذِي ذَكَرَهُ اِبْن إِسْحَاق أَنَّهُ مُدَّة الصُّلْح هُوَ الْمُعْتَمَد , وَبِهِ جَزَمَ اِبْن سَعْد , وَأَخْرَجَهُ الْحَاكِم مِنْ حَدِيث عَلِيّ نَفْسه.
وَوَقَعَ فِي مَغَازِي اِبْن عَائِذ فِي حَدِيث اِبْن عَبَّاس وَغَيْره أَنَّهُ كَانَ سَنَتَيْنِ , وَكَذَا وَقَعَ عِنْد مُوسَى بْن عُقْبَةَ , وَيُجْمَع بَيْنهمَا بِأَنَّ الَّذِي قَالَهُ اِبْن إِسْحَاق هِيَ الْمُدَّة الَّتِي وَقَعَ الصُّلْح عَلَيْهَا , وَاَلَّذِي ذَكَرَهُ اِبْن عَائِذ وَغَيْره هِيَ الْمُدَّة الَّتِي اِنْتَهَى أَمْر الصُّلْح فِيهَا حَتَّى وَقَعَ نَقْضه عَلَى يَد قُرَيْش كَمَا سَيَأْتِي بَيَانه فِي غَزْوَة الْفَتْح مِنْ الْمَغَازِي.
وَأَمَّا مَا وَقَعَ فِي " كَامِل اِبْن عَدِيّ " وَ " مُسْتَدْرَك الْحَاكِم " وَ " الْأَوْسَط لِلطَّبَرَانِيِّ " مِنْ حَدِيث اِبْن عُمَر أَنَّ مُدَّة الصُّلْح كَانَتْ أَرْبَع سِنِينَ فَهُوَ مَعَ ضَعْف إِسْنَاده مُنْكَر مُخَالِف لِلصَّحِيحِ.
‏ ‏وَقَدْ اِخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي الْمُدَّة الَّتِي تَجُوز الْمُهَادَنَة فِيهَا مَعَ الْمُشْرِكِينَ : فَقِيلَ لَا تُجَاوِز عَشْر سِنِينَ عَلَى مَا فِي هَذَا الْحَدِيث وَهُوَ قَوْل الشَّافِعِيّ وَالْجُمْهُور.
وَقِيلَ تَجُوز الزِّيَادَة , وَقِيلَ لَا تُجَاوِز أَرْبَع سِنِينَ , وَقِيلَ ثَلَاثًا , وَقِيلَ سَنَتَيْنِ , وَالْأَوَّل هُوَ الرَّاجِح وَاَللَّه أَعْلَم.
‏ ‏قَوْله : ( فَدَعَا النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْكَاتِب ) ‏ ‏هُوَ عَلِيّ بَيَّنَهُ إِسْحَاق بْن رَاهْوَيْهِ فِي مُسْنَده مِنْ هَذَا الْوَجْه عَنْ الزُّهْرِيِّ , وَكَذَا مَضَى فِي الصُّلْح مِنْ حَدِيث الْبَرَاء بْن عَازِب , وَكَذَلِكَ أَخْرَجَهُ عُمَر بْن شَبَّة مِنْ حَدِيث سَلَمَة بْن الْأَكْوَع فِيمَا يَتَعَلَّق بِهَذَا الْفَصْل مِنْ هَذِهِ الْقِصَّة.
وَسَيَأْتِي الْكَلَام عَلَيْهِ مُسْتَوْفًى فِي الْمَغَازِي إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى , وَأَخْرَجَ عُمَر بْن شَبَّة مِنْ طَرِيق عَمْرو بْن سُهَيْل بْن عَمْرو عَنْ أَبِيهِ " الْكِتَاب عِنْدنَا , كَاتِبه مُحَمَّد بْن مَسْلَمَة " اِنْتَهَى , وَيُجْمَع بِأَنَّ أَصْل كِتَاب الصُّلْح بِخَطِّ عَلِيّ كَمَا هُوَ فِي الصَّحِيح , وَنَسَخَ مِثْله مُحَمَّد بْن مَسْلَمَة لِسُهَيْلِ بْن عَمْرو , وَمِنْ الْأَوْهَام مَا ذَكَرَهُ عُمَر بْن شَبَّة بَعْد أَنْ حَكَى أَنَّ اِسْم كَاتِب الْكِتَاب بَيْن الْمُسْلِمِينَ وَقُرَيْش عَلِيّ بْن أَبِي طَالِب مِنْ طُرُق , ثُمَّ أَخْرَجَ مِنْ طَرِيق أُخْرَى أَنَّ اِسْم الْكَاتِب مُحَمَّد بْن مَسْلَمَة ثُمَّ قَالَ : " حَدَّثَنَا اِبْن عَائِشَة يَزِيد بْن عُبَيْد اللَّه بْن مُحَمَّد التَّيْمِيُّ قَالَ : كَانَ اِسْم هِشَام بْن عِكْرِمَة بَغِيضًا , وَهُوَ الَّذِي كَتَبَ الصَّحِيفَة فَشُلَّتْ يَده , فَسَمَّاهُ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هِشَامًا " ‏ ‏قُلْت : وَهُوَ غَلَط فَاحِش , فَإِنَّ الصَّحِيفَة الَّتِي كَتَبَهَا هِشَام بْن عِكْرِمَة هِيَ الَّتِي اِتَّفَقَتْ عَلَيْهَا قُرَيْش لَمَّا حَصَرُوا بَنِي هَاشِم فِي الشِّعْب وَذَلِكَ بِمَكَّة قَبْل الْهِجْرَة , وَالْقِصَّة مَشْهُورَة فِي السِّيرَة النَّبَوِيَّة , فَتَوَهَّمَ عُمَر مِنْ شَبَّة أَنَّ الْمُرَاد بِالصَّحِيفَةِ هُنَا كِتَاب الْقِصَّة الَّتِي وَقَعَتْ بِالْحُدَيْبِيَةِ , وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ بَيْنهمَا نَحْو عَشْر سِنِينَ , وَإِنَّمَا كَتَبْت ذَلِكَ هُنَا خَشْيَة أَنْ يَغْتَرّ بِذَلِكَ مَنْ لَا مَعْرِفَة لَهُ فَيَعْتَقِدهُ اِخْتِلَافًا فِي اِسْم كَاتِب الْقِصَّة بِالْحُدَيْبِيَةِ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيق.
‏ ‏قَوْله : ( هَذَا مَا قَاضَى ) ‏ ‏بِوَزْنِ فَاعَلَ مِنْ قَضَيْت الشَّيْء أَيْ فَصَلْت الْحُكْم فِيهِ , وَفِيهِ جَوَاز كِتَابَة مِثْل ذَلِكَ فِي الْمُعَاقَدَات وَالرَّدّ عَلَى مَنْ مَنَعَهُ مُعْتَلًّا بِخَشْيَةِ أَنْ يَظُنّ فِيهَا أَنَّهَا نَافِيَة , نَبَّهَ عَلَيْهِ الْخَطَّابِيُّ.
‏ ‏قَوْله : ( لَا تَتَحَدَّث الْعَرَب أَنَّا أُخِذْنَا ضُغْطَة ) ‏ ‏بِضَمِّ الضَّاد وَسُكُون الْغَيْن الْمُعْجَمَتَيْنِ ثُمَّ طَاء مُهْمَلَة أَيْ قَهْرًا , وَفِي رِوَايَة اِبْن إِسْحَاق " أَنَّهُ دَخَلَ عَلَيْنَا عَنْوَة ".
‏ ‏قَوْله : ( فَقَالَ سُهَيْل : وَعَلَى أَنَّهُ لَا يَأْتِيك مِنَّا رَجُل - وَإِنْ كَانَ عَلَى دِينك - إِلَّا رَدَدْته إِلَيْنَا ) ‏ ‏فِي رِوَايَة اِبْن إِسْحَاق " عَلَى أَنَّهُ مَنْ أَتَى مُحَمَّدًا مِنْ قُرَيْش بِغَيْرِ إِذْن وَلِيّه رَدَّهُ عَلَيْهِمْ , وَمَنْ جَاءَ قُرَيْشًا مِمَّنْ يَتَّبِع مُحَمَّدًا لَمْ يَرُدُّوهُ عَلَيْهِ " , وَهَذِهِ الرِّوَايَة تَعُمّ الرِّجَال وَالنِّسَاء , وَكَذَا تَقَدَّمَ فِي أَوَّل الشُّرُوط مِنْ رِوَايَة عُقَيْل عَنْ الزُّهْرِيِّ بِلَفْظِ " وَلَا يَأْتِيك مِنَّا أَحَد " وَسَيَأْتِي الْبَحْث فِي ذَلِكَ فِي كِتَاب النِّكَاح , وَهَلْ دَخَلْنَ فِي هَذَا الصُّلْح ثُمَّ نُسِخَ ذَلِكَ الْحُكْم فِيهِنَّ , أَوْ لَمْ يَدْخُلْنَ إِلَّا بِطَرِيقِ الْعُمُوم فَخُصِّصْنَ ؟ وَزَادَ اِبْن إِسْحَاق فِي قِصَّة الصُّلْح بِهَذَا الْإِسْنَاد " وَعَلَى أَنَّ بَيْننَا عَيْبَة مَكْفُوفَة " أَيْ أَمْرًا مَطْوِيًّا فِي صُدُور سَلِيمَة , وَهُوَ إِشَارَة إِلَى تَرْك الْمُؤَاخَذَة بِمَا تَقَدَّمَ بَيْنهمْ مِنْ أَسْبَاب الْحَرْب وَغَيْرهَا , وَالْمُحَافَظَة عَلَى الْعَهْد الَّذِي وَقَعَ بَيْنهمْ.
وَقَالَ اِبْن إِسْحَاق فِي حَدِيثه " وَأَنَّهُ لَا إِسْلَال وَلَا إِغْلَال " أَيْ لَا سَرِقَة وَلَا خِيَانَة , فَالْإِسْلَال مِنْ السَّلَّة وَهِيَ السَّرِقَة , وَالْإِغْلَال الْخِيَانَة تَقُول أَغَلَّ الرَّجُل أَيْ خَانَ , أَمَّا فِي الْغَنِيمَة فَيُقَال غَلَّ بِغَيْرِ أَلِف , وَالْمُرَاد أَنْ يَأْمَن بَعْضهمْ مِنْ بَعْض فِي نُفُوسهمْ وَأَمْوَالهمْ سِرًّا وَجَهْرًا , وَقِيلَ الْإِسْلَال مِنْ سَلّ السُّيُوف وَالْإِغْلَال مِنْ لُبْس الدُّرُوع , وَوَهَّاهُ أَبُو عُبَيْد , قَالَ اِبْن إِسْحَاق فِي حَدِيثه " وَأَنَّهُ مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَدْخُل فِي عَقْد مُحَمَّد وَعَهْده دَخَلَ فِيهِ , وَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يَدْخُل فِي عَقْد قُرَيْش وَعَهْدهمْ دَخَلَ فِيهِ , فَتَوَاثَبَتْ خُزَاعَة فَقَالُوا : نَحْنُ فِي عَقْد مُحَمَّد وَعَهْده , وَتَوَاثَبَتْ بَنُو بَكْر فَقَالُوا : نَحْنُ فِي عَقْد قُرَيْش وَعَهْدهمْ , وَأَنَّك تَرْجِع عَنَّا عَامك هَذَا فَلَا تَدْخُل مَكَّة عَلَيْنَا , وَأَنَّهُ إِذَا كَانَ عَام قَابِل خَرَجْنَا عَنْك فَدَخَلْتهَا بِأَصْحَابِك فَأَقَمْت بِهَا ثَلَاثًا مَعَك سِلَاح الرَّاكِب : السُّيُوف فِي الْقِرَب , وَلَا تَدْخُلهَا بِغَيْرِهِ " وَهَذِهِ الْقِصَّة سَيَأْتِي مِثْلهَا فِي حَدِيث الْبَرَاء بْن عَازِب فِي الْمَغَازِي , قَالَ اِبْن إِسْحَاق فِي حَدِيثه " فَبَيْنَمَا رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَكْتُب الْكِتَاب هُوَ وَسُهَيْل بْن عُمَر وَإِذْ جَاءَ أَبُو جَنْدَل بْن سُهَيْل " فَذَكَرَ الْقِصَّة.
‏ ‏قَوْله : ( قَالَ الْمُسْلِمُونَ سُبْحَان اللَّه , كَيْفَ يُرَدّ ) ‏ ‏؟ فِي رِوَايَة عُقَيْل الْمَاضِيَة أَوَّل الشُّرُوط " وَكَانَ فِيمَا اِشْتَرَطَ سُهَيْل بْن عَمْرو عَلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ لَا يَأْتِيك مِنَّا أَحَد وَإِنْ كَانَ عَلَى دِينك إِلَّا رَدَدْته إِلَيْنَا وَخَلَّيْت بَيْننَا وَبَيْنه.
فَكَرِهَ الْمُؤْمِنُونَ ذَلِكَ وَامْتَعَضُوا مِنْهُ , وَأَبَى سُهَيْل إِلَّا ذَلِكَ , فَكَاتَبَهُ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى ذَلِكَ , فَرَدَّ يَوْمئِذٍ أَبَا جَنْدَل إِلَى أَبِيهِ سُهَيْل بْن عَمْرو , وَلَمْ يَأْتِهِ أَحَد مِنْ الرِّجَال فِي تِلْكَ الْمُدَّة إِلَّا رَدَّهُ " وَقَائِل ذَلِكَ يُشْبِه أَنْ يَكُون هُوَ عُمَر لِمَا سَيَأْتِي , وَسَمَّى الْوَاقِدِيّ مِمَّنْ قَالَ ذَلِكَ أَيْضًا أُسَيْد بْن حُضَيْرٍ وَسَعْد بْن عُبَادَةَ , وَسَيَأْتِي فِي الْمَغَازِي أَنَّ سَهْل بْن حُنَيْفٍ كَانَ مِمَّنْ أَنْكَرَ ذَلِكَ أَيْضًا.
وَلِمُسْلِمٍ مِنْ حَدِيث أَنَس بْن مَالِك " أَنَّ قُرَيْشًا صَالَحَتْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَنَّهُ مَنْ جَاءَ مِنْكُمْ لَمْ نَرُدّهُ عَلَيْكُمْ , وَمَنْ جَاءَكُمْ مِنَّا رَدَدْتُمُوهُ إِلَيْنَا , فَقَالُوا : يَا رَسُول اللَّه أَنَكْتُبُ هَذَا ؟ قَالَ : نَعَمْ.
إِنَّهُ مَنْ ذَهَبَ مِنَّا إِلَيْهِمْ فَأَبْعَده اللَّه , وَمَنْ جَاءَ مِنْهُمْ إِلَيْنَا فَسَيَجْعَلُ اللَّه لَهُ فَرَجًا وَمَخْرَجًا " وَزَادَ أَبُو الْأَسْوَد عَنْ عُرْوَة هُنَا " وَلِابْنِ عَائِذ مِنْ حَدِيث اِبْن عَبَّاس نَحْوه ".
فَلَمَّا لَانَ بَعْضهمْ لِبَعْضٍ فِي الصُّلْح عَلَى ذَلِكَ إِذْ رَمَى رَجُل مِنْ الْفَرِيقَيْنِ رَجُلًا مِنْ الْفَرِيق الْآخَر , فَتَصَايَحَ الْفَرِيقَانِ , وَارْتَهَنَ كُلّ مِنْ الْفَرِيقَيْنِ مَنْ عِنْدهمْ , فَارْتَهَنَ الْمُشْرِكُونَ عُثْمَان وَمَنْ أَتَاهُمْ مِنْ الْمُسْلِمِينَ , وَارْتَهَنَ الْمُسْلِمُونَ سُهَيْل بْن عَمْرو وَمَنْ مَعَهُ , وَدَعَا رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْبَيْعَة فَبَايَعُوهُ تَحْت الشَّجَرَة عَلَى أَنْ لَا يَفِرُّوا , وَبَلَغَ ذَلِكَ الْمُشْرِكِينَ فَأَرْعَبَهُمْ اللَّه , فَأَرْسَلُوا مَنْ كَانَ مُرْتَهَنًا وَدَعَوْا إِلَى الْمُوَادَعَة , وَأَنْزَلَ اللَّه تَعَالَى : ( وَهُوَ الَّذِي كَفّ أَيْدِيهمْ عَنْكُمْ ) الْآيَة.
وَسَيَأْتِي فِي غَزْوَة الْحُدَيْبِيَة بَيَان مَنْ أَخْرَجَ هَذِهِ الْقِصَّة مَوْصُولَة وَكَيْفِيَّة الْبَيْعَة عِنْد الشَّجَرَة وَالِاخْتِلَاف فِي عَدَد مَنْ بَايَعَ وَفِي سَبَب الْبَيْعَة إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى.
‏ ‏قَوْله : ( فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ إِذْ دَخَلَ أَبُو جَنْدَل ) ‏ ‏بِالْجِيمِ وَالنُّون وَزْن جَعْفَر , وَكَانَ اِسْمه الْعَاصِي فَتَرَكَهُ لَمَّا أَسْلَمَ , وَلَهُ أَخ اِسْمه عَبْد اللَّه أَسْلَمَ أَيْضًا قَدِيمًا وَحَضَرَ مَعَ الْمُشْرِكِينَ بَدْرًا فَفَرَّ مِنْهُمْ إِلَى الْمُسْلِمِينَ , ثُمَّ كَانَ مَعَهُمْ بِالْحُدَيْبِيَةِ.
وَوَهَمَ مَنْ جَعَلَهُمَا وَاحِدًا.
وَقَدْ اُسْتُشْهِدَ عَبْد اللَّه بِالْيَمَامَةِ قَبْل أَبِي جَنْدَل بِمُدَّةٍ , وَأَمَّا أَبُو جَنْدَل فَكَانَ حُبِسَ بِمَكَّة وَمُنِعَ مِنْ الْهِجْرَة وَعُذِّبَ بِسَبَبِ الْإِسْلَام كَمَا فِي حَدِيث الْبَاب.
وَفِي رِوَايَة اِبْن إِسْحَاق " فَإِنَّ الصَّحِيفَة لَتَكْتُب إِذْ طَلَعَ أَبُو جَنْدَل بْن سُهَيْل , وَكَانَ أَبُوهُ حَبَسَهُ فَأَفْلَتَ " وَفِي رِوَايَة أَبِي الْأَسْوَد عَنْ عُرْوَة " وَكَانَ سُهَيْل أَوْثَقَهُ وَسَجَنَهُ حِين أَسْلَمَ , فَخَرَجَ مِنْ السِّجْن وَتَنَكَّبَ الطَّرِيق وَرَكِبَ الْجِبَال حَتَّى هَبَطَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فَفَرِحَ بِهِ الْمُسْلِمُونَ وَتَلْقَوْهُ ".
‏ ‏قَوْله : ( يَرْسُف ) ‏ ‏بِفَتْحِ أَوَّله وَضَمّ الْمُهْمَلَة وَبِالْفَاءِ أَيْ يَمْشِي مَشْيًا بَطِيئًا بِسَبَبِ الْقَيْد.
‏ ‏قَوْله : ( فَقَالَ سُهَيْل : هَذَا يَا مُحَمَّد أَوَّل مَنْ أُقَاضِيك عَلَيْهِ أَنْ تَرُدّهُ إِلَيَّ ) ‏ ‏زَادَ اِبْن إِسْحَاق فِي رِوَايَته : " فَقَامَ سُهَيْل بْن عَمْرو إِلَى أَبِي جَنْدَل فَضَرَبَ وَجْهه وَأَخَذَ يُلَبِّبهُ ".
‏ ‏قَوْله : ( إِنَّا لَمْ نَقْضِ الْكِتَاب ) ‏ ‏أَيْ لَمْ نَفْرُغ مِنْ كِتَابَته.
‏ ‏قَوْله : ( فَأَجِزْهُ لِي ) ‏ ‏بِصِيغَةِ فِعْل الْأَمْر مِنْ الْإِجَازَة أَيْ أَمْضِ لِي فِعْلِي فِيهِ فَلَا أَرُدّهُ إِلَيْك , أَوْ أَسْتَثْنِيه مِنْ الْقَضِيَّة.
وَوَقَعَ فِي الْجَمْع لِلْحُمَيْدِيِّ " فَأَجِرْهُ " بِالرَّاءِ وَرَجَّحَ اِبْن الْجَوْزِيّ الزَّاي , وَفِيهِ أَنَّ الِاعْتِبَار فِي الْعُقُود بِالْقَوْلِ وَلَوْ تَأَخَّرَتْ الْكِتَابَة وَالْإِشْهَاد , وَلِأَجْلِ ذَلِكَ أَمْضَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِسُهَيْلٍ الْأَمْر فِي رَدّ اِبْنه إِلَيْهِ , وَكَانَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَلَطَّفَ مَعَهُ بِقَوْلِهِ : " لَمْ نَقْضِ الْكِتَاب بَعْد " رَجَاء أَنْ يُجِيبهُ لِذَلِكَ وَلَا يُنْكِرهُ بَقِيَّة قُرَيْش لِكَوْنِهِ وَلَده , فَلَمَّا أَصَرَّ عَلَى الِامْتِنَاع تَرَكَهُ لَهُ.
‏ ‏قَوْله : ( قَالَ مِكْرَز بَلْ ) ‏ ‏كَذَا لِلْأَكْثَرِ بِلَفْظِ الْإِضْرَاب , وَلِلْكُشْمِيهَنِي " بَلَى " وَلَمْ يَذْكُر هُنَا مَا أَجَابَ بِهِ سُهَيْل مِكْرَزًا فِي ذَلِكَ , قِيلَ فِي الَّذِي وَقَعَ مِنْ مِكْرَز فِي هَذِهِ الْقِصَّة إِشْكَال , لِأَنَّهُ خِلَاف مَا وَصَفَهُ بِهِ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْفُجُور , وَكَانَ مِنْ الظَّاهِر أَنْ يُسَاعِد سُهَيْلًا عَلَى أَبِي جَنْدَل فَكَيْف وَقَعَ مِنْهُ عَكْس ذَلِكَ ؟ وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْفُجُور حَقِيقَة , وَلَا يَلْزَم أَنْ لَا يَقَع مِنْهُ شَيْء مِنْ الْبِرّ نَادِرًا , أَوْ قَالَ ذَلِكَ نِفَاقًا وَفِي بَاطِنه خِلَافه , أَوْ كَانَ سَمِعَ قَوْل النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّهُ رَجُل فَاجِر فَأَرَادَ أَنْ يُظْهِر خِلَاف ذَلِكَ وَهُوَ مِنْ جُمْلَة فُجُوره.
وَزَعَمَ بَعْض الشُّرَّاح أَنَّ سُهَيْلًا لَمْ يُجِبْ سُؤَاله لِأَنَّ مِكْرَزًا لَمْ يَكُنْ مِمَّنْ جُعِلَ لَهُ أَمْر عَقْد الصُّلْح بِخِلَافِ سُهَيْل , وَفِيهِ نَظَر فَإِنَّ الْوَاقِدِيّ رَوَى أَنَّ مِكْرَزًا كَانَ مِمَّنْ جَاءَ فِي الصُّلْح مَعَ سُهَيْل , وَكَانَ مَعَهُمَا حُوَيْطِب بْن عَبْد الْعُزَّى , لَكِنْ ذَكَرَ فِي رِوَايَته مَا يَدُلّ عَلَى أَنَّ إِجَازَة مِكْرَز لَمْ تَكُنْ فِي أَنْ لَا يَرُدّهُ إِلَى سُهَيْل بَلْ فِي تَأْمِينه مِنْ التَّعْذِيب وَنَحْو ذَلِكَ , وَأَنَّ مِكْرَزًا وَحُوَيْطِبًا أَخَذَا أَبَا جَنْدَل فَأَدْخَلَاهُ فُسْطَاطًا وَكَفَّا أَبَاهُ عَنْهُ.
وَفِي " مَغَازِي اِبْن عَائِذ " نَحْو ذَلِكَ كُلّه مِنْ رِوَايَة أَبِي الْأَسْوَد عَنْ عُرْوَة وَلَفْظه " فَقَالَ مِكْرَز بْن حَفْص وَكَانَ مِمَّنْ أَقْبَلَ مَعَ سُهَيْل بْن عَمْرو فِي اِلْتِمَاس الصُّلْح : أَنَا لَهُ جَار , وَأَخَذَ قَيْده فَأَدْخَلَهُ فُسْطَاطًا " وَهَذَا لَوْ ثَبَتَ لَكَانَ أَقْوَى مِنْ الِاحْتِمَالَات الْأُوَل , فَإِنَّهُ لَمْ يُجِزْهُ بِأَنْ يُقِرّهُ عِنْد الْمُسْلِمِينَ بَلْ لِيَكُفّ الْعَذَاب عَنْهُ لِيَرْجِع إِلَى طَوَاعِيَة أَبِيهِ , فَمَا خَرَجَ بِذَلِكَ عَنْ الْفُجُور.
لَكِنْ يُعَكِّر عَلَيْهِ قَوْله فِي رِوَايَة الصَّحِيح " فَقَالَ مِكْرَز : قَدْ أَجَزْنَاهُ لَك " يُخَاطِب النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَلِكَ.
‏ ‏قَوْله : ( قَالَ أَبُو جَنْدَل أَيْ مَعْشَر الْمُسْلِمِينَ , أُرَدّ إِلَى الْمُشْرِكِينَ ؟ إِلَخْ ) ‏ ‏زَادَ اِبْن إِسْحَاق " فَقَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : يَا أَبَا جَنْدَل , اِصْبِرْ وَاحْتَسِبْ فَإِنَّا لَا نَغْدِر , وَإِنَّ اللَّه جَاعِل لَك فَرْجًا وَمَخْرَجًا " وَفِي رِوَايَة أَبِي الْمَلِيح " فَأَوْصَاهُ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , قَالَ فَوَثَبَ عُمَر مَعَ أَبِي جَنْدَل يَمْشِي إِلَى جَنْبه وَيَقُول : اِصْبِرْ , فَإِنَّمَا هُمْ مُشْرِكُونَ , وَإِنَّمَا دَم أَحَدهمْ كَدَمِ كَلْب , قَالَ وَيُدْنِي قَائِمَة السَّيْف مِنْهُ , يَقُول عُمَر : رَجَوْت أَنْ يَأْخُذهُ مِنِّي فَيَضْرِب بِهِ أَبَاهُ , فَضَنَّ الرَّجُل - أَيْ بَخِلَ - بِأَبِيهِ وَنَفَذَتْ الْقَضِيَّة " قَالَ الْخَطَّابِيُّ : تَأَوَّلَ الْعُلَمَاء مَا وَقَعَ فِي قِصَّة أَبِي جَنْدَل عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدهمَا أَنَّ اللَّه قَدْ أَبَاحَ التَّقِيَّة لِلْمُسْلِمِ إِذَا خَافَ الْهَلَاك , وَرَخَّصَ لَهُ أَنْ يَتَكَلَّم بِالْكُفْرِ عَلَى إِضْمَار الْإِيمَان إِنْ لَمْ يُمْكِنهُ التَّوْرِيَة , فَلَمْ يَكُنْ رَدّه إِلَيْهِمْ إِسْلَامًا لِأَبِي جَنْدَل إِلَى الْهَلَاك مَعَ وُجُوده السَّبِيل إِلَى الْخَلَاص مِنْ الْمَوْت بِالتَّقِيَّةِ.
وَالْوَجْه الثَّانِي أَنَّهُ إِنَّمَا رَدَّهُ إِلَى أَبِيهِ , وَالْغَالِب أَنَّ أَبَاهُ لَا يَبْلُغ بِهِ الْهَلَاك , وَإِنْ عَذَّبَهُ أَوْ سَجَنَهُ فَلَهُ مَنْدُوحَة بِالتَّقِيَّةِ أَيْضًا , وَأَمَّا مَا يَخَافهُ عَلَيْهِ مِنْ الْفِتْنَة فَإِنَّ ذَلِكَ اِمْتِحَان مِنْ اللَّه يَبْتَلِي بِهِ صَبْر عِبَاده الْمُؤْمِنِينَ.
وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاء هَلْ يَجُوز الصُّلْح مَعَ الْمُشْرِكِينَ عَلَى أَنْ يُرَدّ إِلَيْهِمْ مَنْ جَاءَ مُسْلِمًا مِنْ عِنْدهمْ إِلَى بِلَاد الْمُسْلِمِينَ أَمْ لَا ؟ فَقِيلَ : نَعَمْ عَلَى مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ قِصَّة أَبِي جَنْدَل وَأَبِي بَصِير , وَقِيلَ لَا , وَأَنَّ الَّذِي وَقَعَ فِي الْقِصَّة مَنْسُوخ , وَإِنَّ نَاسِخه حَدِيث " أَنَا بَرِيء مِنْ مُسْلِم بَيْن مُشْرِكِينَ " وَهُوَ قَوْل الْحَنَفِيَّة.
وَعِنْد الشَّافِعِيَّة تَفْصِيل بَيْن الْعَاقِل وَالْمَجْنُون وَالصَّبِيّ فَلَا يُرَدَّانِ.
وَقَالَ بَعْض الشَّافِعِيَّة : ضَابِط جَوَاز الرَّدّ أَنْ يَكُون الْمُسْلِم بِحَيْثُ لَا تَجِب عَلَيْهِ الْهِجْرَة مِنْ دَارَ الْحَرْب وَاَللَّه أَعْلَم.
‏ ‏قَوْله : ( قَالَ عُمَر بْن الْخَطَّاب : فَأَتَيْت نَبِيّ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ) ‏ ‏هَذَا مِمَّا يُقَوِّي أَنَّ الَّذِي حَدَّثَ الْمِسْوَر وَمَرْوَان بِقِصَّةِ الْحُدَيْبِيَة هُوَ عُمَر , وَكَذَا مَا تَقَدَّمَ قَرِيبًا مِنْ قِصَّة عُمَر مَعَ أَبِي جَنْدَل.
‏ ‏قَوْله : ( فَقُلْت : أَلَسْت نَبِيّ اللَّه حَقًّا ؟ قَالَ : بَلَى ) ‏ ‏زَادَ الْوَاقِدِيّ مِنْ حَدِيث أَبِي سَعِيد " قَالَ عُمَر : لَقَدْ دَخَلَنِي أَمْر عَظِيم , وَرَاجَعْت النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُرَاجَعَة مَا رَاجَعْته مِثْلهَا قَطّ " وَفِي حَدِيث سُهَيْل بْن حُنَيْفٍ الْآتِي فِي الْجِزْيَة وَسُورَة الْفَتْح " فَقَالَ عُمَر : أَلَسْنَا عَلَى الْحَقّ وَهُمْ عَلَى الْبَاطِل ؟ أَلَيْسَ قَتْلَانَا فِي الْجَنَّة وَقَتَلَاهُمْ فِي النَّار ؟ فَعَلَامَ نُعْطِي الدَّنِيَّة - بِفَتْحِ الْمُهْمَلَة وَكَسْر النُّون وَتَشْدِيد التَّحْتَانِيَّة - فِي دِيننَا , وَنَرْجِع وَلَمْ يَحْكُم اللَّه بَيْننَا ؟ فَقَالَ : يَا اِبْن الْخَطَّاب , إِنِّي رَسُول اللَّه , وَلَنْ يُضَيِّعنِي اللَّه.
فَرَجَعَ مُتَغَيِّظًا , فَلَمْ يَصْبِر حَتَّى جَاءَ أَبَا بَكْر " , وَأَخْرَجَهُ الْبَزَّار مِنْ حَدِيث عُمَر نَفْسه مُخْتَصَرًا وَلَفْظه " فَقَالَ عُمَر : اِتَّهَمُوا الرَّأْي عَلَى الدِّين , فَلَقَدْ رَأَيْتنِي أَرُدّ أَمْر رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِرَأْيٍ , وَمَا أَلُوم عَنْ الْحَقّ " وَفِيهِ : " قَالَ فَرَضِيَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبَيْت , حَتَّى قَالَ لِي : يَا عُمَر , تَرَانِي رَضِيت وَتَأْبَى ".
‏ ‏قَوْله : ( إِنِّي رَسُول اللَّه وَلَسْت أَعْصِيه ) ‏ ‏ظَاهِر فِي أَنَّهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَفْعَل مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا إِلَّا بِالْوَحْيِ.
‏ ‏قَوْله : ( أَوَلَيْسَ كُنْت حَدَّثْتنَا أَنَّا سَنَأْتِي الْبَيْت ) ‏ ‏فِي رِوَايَة اِبْن إِسْحَاق " كَانَ الصَّحَابَة لَا يَشُكُّونَ فِي الْفَتْح لِرُؤْيَا رَآهَا رَسُول اللَّه , فَلَمَّا رَأَوْا الصُّلْح دَخَلَهُمْ مِنْ ذَلِكَ أَمْر عَظِيم حَتَّى كَادُوا يَهْلَكُونَ " وَعِنْد الْوَاقِدِيّ وَأَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ رَأَى فِي مَنَامه قَبْل أَنْ يَعْتَمِر أَنَّهُ دَخَلَ هُوَ وَأَصْحَابه الْبَيْت , فَلَمَّا رَأَوْا تَأْخِير ذَلِكَ شَقَّ عَلَيْهِمْ " وَيُسْتَفَاد مِنْ هَذَا الْفَصْل جَوَاز الْبَحْث فِي الْعِلْم حَتَّى يَظْهَر الْمَعْنَى , وَأَنَّ الْكَلَام يُحْمَل عَلَى عُمُومه وَإِطْلَاقه حَتَّى تَظْهَر إِرَادَة التَّخْصِيص وَالتَّقْيِيد , وَأَنَّ مَنْ حَلَفَ عَلَى فِعْل شَيْء وَلَمْ يَذْكُر مُدَّة مُعَيَّنَة لَمْ يَحْنَث حَتَّى تَنْقَضِي أَيَّام حَيَاته.
‏ ‏قَوْله : ( فَأَتَيْت أَبَا بَكْر ) ‏ ‏لَمْ يَذْكُر عُمَر أَنَّهُ رَاجَعَ أَحَدًا فِي ذَلِكَ بَعْد رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَيْر أَبِي بَكْر الصِّدِّيق , وَذَلِكَ لِجَلَالَةِ قَدْره وَسَعَة عِلْمه عِنْده , وَفِي جَوَاب أَبِي بَكْر لِعُمَر بِنَظِيرِ مَا أَجَابَهُ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَوَاء دَلَالَة عَلَى أَنَّهُ كَانَ أَكْمَلَ الصَّحَابَة وَأَعْرَفهمْ بِأَحْوَالِ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَعْلَمهُمْ بِأُمُورِ الدِّين وَأَشَدّهمْ مُوَافَقَة لِأَمْرِ اللَّه تَعَالَى.
وَقَدْ وَقَعَ التَّصْرِيح فِي هَذَا الْحَدِيث بِأَنَّ الْمُسْلِمِينَ اِسْتَنْكَرُوا الصُّلْح الْمَذْكُور وَكَانُوا عَلَى رَأْي عُمَر فِي ذَلِكَ , وَظَهَرَ مِنْ هَذَا الْفَصْل أَنَّ الصِّدِّيق لَمْ يَكُنْ فِي ذَلِكَ مُوَافِقًا لَهُمْ , بَلْ كَانَ قَلْبه عَلَى قَلْب رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَوَاء , وَسَيَأْتِي فِي الْهِجْرَة أَنَّ اِبْن الدُّغُنَّة وَصَفَ أَبَا بَكْر الصِّدِّيق بِنَظِيرِ مَا وَصَفَتْ بِهِ خَدِيجَة رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَوَاء مِنْ كَوْنه يَصِل الرَّحِم وَيَحْمِل الْكَلّ وَيُعِين عَلَى نَوَائِب الْحَقّ وَغَيْر ذَلِكَ , فَلَمَّا كَانَتْ صِفَاتهمَا مُتَشَابِهَة مِنْ الِابْتِدَاء اِسْتَمَرَّ ذَلِكَ إِلَى الِانْتِهَاء.
وَقَوْل أَبِي بَكْر : " فَاسْتَمْسَكَ بِغَرْزِهِ " هُوَ بِفَتْحِ الْغَيْن الْمُعْجَمَة وَسُكُون الرَّاء بَعْدهَا زَاي , وَهُوَ - أَيْ الْغَرْز - لِلْإِبِلِ بِمَنْزِلَةِ الرَّكْب لِلْفَرَسِ , وَالْمُرَاد بِهِ التَّمَسُّك بِأَمْرِهِ وَتَرْك الْمُخَالَفَة لَهُ كَاَلَّذِي يُمْسِك بِرَكْبِ الْفَارِس فَلَا يُفَارِقهُ.
‏ ‏قَوْله : ( قَالَ الزُّهْرِيُّ قَالَ عُمَر : فَعَمِلْت لِذَلِكَ أَعْمَالًا ) ‏ ‏هُوَ مَوْصُول إِلَى الزُّهْرِيِّ بِالسَّنَدِ الْمَذْكُور وَهُوَ مُنْقَطِع بَيْن الزُّهْرِيِّ وَعُمَر , قَالَ بَعْض الشُّرَّاح.
قَوْله " أَعْمَالًا " أَيْ مِنْ الذَّهَاب وَالْمَجِيء وَالسُّؤَال وَالْجَوَاب , وَلَمَّا يَكُنْ ذَلِكَ شَكًّا مِنْ عُمَر , بَلْ طَلَبًا لِكَشْفِ مَا خَفِيَ عَلَيْهِ , وَحَثًّا عَلَى إِذْلَال الْكُفَّار , لَمَّا عَرَفَ مِنْ قُوَّته فِي نُصْرَة الدِّين ا ه.
وَتَفْسِير الْأَعْمَال بِمَا ذَكَرَ مَرْدُود , بَلْ الْمُرَاد بِهِ الْأَعْمَال الصَّالِحَة لِيُكَفِّر عَنْهُ مَا مَضَى مِنْ التَّوَقُّف فِي الِامْتِثَال اِبْتِدَاء , وَقَدْ وَرَدَ عَنْ عُمَر التَّصْرِيح بِمُرَادِهِ بِقَوْلِهِ : " أَعْمَالًا " : فَفِي رِوَايَة اِبْن إِسْحَاق " وَكَانَ عُمَر يَقُول مَا زِلْت أَتَصَدَّق وَأَصُوم وَأُصَلِّي وَأُعْتِق مِنْ الَّذِي صَنَعْت يَوْمئِذٍ مَخَافَة كَلَامِي الَّذِي تَكَلَّمْت بِهِ " وَعِنْد الْوَاقِدِيّ مِنْ حَدِيث اِبْن عَبَّاس " قَالَ عُمَر : لَقَدْ أَعْتَقْت بِسَبَبِ ذَلِكَ رِقَابًا , وَصُمْت دَهْرًا ".
وَأَمَّا قَوْله : " وَلَمْ يَكُنْ شَكًّا " فَإِنْ أَرَادَ نَفْي الشَّكّ فِي الدِّين فَوَاضِح , وَقَدْ وَقَعَ فِي رِوَايَة اِبْن إِسْحَاق " أَنَّ أَبَا بَكْر لَمَّا قَالَ لَهُ : اِلْزَمْ غَرْزه فَإِنَّهُ رَسُول اللَّه , قَالَ عُمَر وَأَنَا أَشْهَد أَنَّهُ رَسُول اللَّه " وَإِنْ أَرَادَ نَفْي الشَّكّ فِي وُجُود الْمَصْلَحَة وَعَدَمهَا فَمَرْدُود , وَقَدْ قَالَ السُّهَيْلِيّ : هَذَا الشَّكّ هُوَ مَا لَا يَسْتَمِرّ صَاحِبه عَلَيْهِ , وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ بَاب الْوَسْوَسَة , كَذَلِكَ قَالَ , وَاَلَّذِي يَظْهَر أَنَّهُ تَوَقُّف مِنْهُ لِيَقِف عَلَى الْحِكْمَة فِي الْقِصَّة وَتَنْكَشِف عَنْهُ الشُّبْهَة , وَنَظِيره قِصَّته فِي الصَّلَاة عَلَى عَبْد اللَّه بْن أُبَيّ , وَإِنْ كَانَ فِي الْأُولَى لَمْ يُطَابِق اِجْتِهَاده الْحُكْم بِخِلَافِ الثَّانِيَة , وَهِيَ هَذِهِ الْقِصَّة , وَإِنَّمَا عَمِلَ الْأَعْمَال الْمَذْكُورَة لِهَذِهِ , وَإِلَّا فَجَمِيع مَا صَدَرَ مِنْهُ كَانَ مَعْذُورًا فِيهِ بَلْ هُوَ مَأْجُور لِأَنَّهُ مُجْتَهِد فِيهِ.
‏ ‏قَوْله : ( فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ قَضِيَّة الْكِتَاب ) ‏ ‏زَادَ اِبْن إِسْحَاق فِي رِوَايَته " فَلَمَّا فَرَغَ الْكِتَاب أَشْهَدَ عَلَى الصُّلْح رِجَالًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَرِجَالًا مِنْ الْمُشْرِكِينَ وَمِنْهُمْ أَبُو بَكْر وَعُمَر وَعَلِيّ وَعَبْد الرَّحْمَن بْن عَوْف وَسَعْد بْن أَبِي وَقَاصٍ وَمُحَمَّد بْن مَسْلَمَة وَعَبْد اللَّه بْن سُهَيْل بْن عَمْرو وَمِكْرَز بْن حَفْص وَهُوَ مُشْرِك ".
‏ ‏قَوْله : ( قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَصْحَابِهِ : قُومُوا فَانْحَرُوا ثُمَّ اِحْلِقُوا ) ‏ ‏فِي رِوَايَة أَبِي الْأَسْوَد عَنْ عُرْوَة " فَلَمَّا فَرَغُوا مِنْ الْقَضِيَّة أَمَرَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْهَدْيِ فَسَاقَهُ الْمُسْلِمُونَ - يَعْنِي إِلَى جِهَة الْحَرَم - حَتَّى قَامَ إِلَيْهِ الْمُشْرِكُونَ مِنْ قُرَيْش فَحَبَسُوهُ فَأَمَرَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالنَّحْرِ ".
‏ ‏قَوْله : ( فَوَاَللَّهِ مَا قَامَ مِنْهُمْ رَجُل ) ‏ ‏قِيلَ كَأَنَّهُمْ تَوَقَّفُوا لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُون الْأَمْر بِذَلِكَ لِلنَّدْبِ , أَوْ لِرَجَاءِ نُزُول الْوَحْي بِإِبْطَالِ الصُّلْح الْمَذْكُور , أَوْ تَخْصِيصه بِالْإِذْنِ بِدُخُولِهِمْ مَكَّة ذَلِكَ الْعَام لِإِتْمَامِ نُسُكهمْ , وَسَوَّغَ لَهُمْ ذَلِكَ لِأَنَّهُ كَانَ زَمَان وُقُوع النَّسْخ , وَيَحْتَمِل أَنْ يَكُونُوا أَلْهَتْهُمْ صُورَة الْحَال فَاسْتَغْرَقُوا فِي الْفِكْر لِمَا لَحِقَهُمْ مِنْ الذُّلّ عِنْد أَنْفُسهمْ مِنْ ظُهُور قُوَّتهمَا وَاقْتِدَارهمْ فِي اِعْتِقَادهمْ عَلَى بُلُوغ غَرَضهمْ وَقَضَاء نُسُكهمْ بِالْقَهْرِ وَالْغَلَبَة , أَوْ أَخَّرُوا الِامْتِثَال لِاعْتِقَادِهِمْ أَنَّ الْأَمْر الْمُطْلَق لَا يَقْتَضِي الْفَوْر , وَيَحْتَمِل مَجْمُوع هَذِهِ الْأُمُور لِمَجْمُوعِهِمْ كَمَا سَيَأْتِي مِنْ كَلَام أُمّ سَلَمَة , وَلَيْسَ فِيهِ حُجَّة لِمَنْ أَثْبَتَ أَنَّ الْأَمْر لِلْفَوْرِ , وَلَا لِمَنْ نَفَاهُ , وَلَا لِمَنْ قَالَ إِنَّ الْأَمْر لِلْوُجُوبِ لَا لِلنَّدْبِ , لِمَا يُطْرَق الْقِصَّة مِنْ الِاحْتِمَال.
‏ ‏قَوْله : ( فَذَكَرَ لَهَا مَا لَقِيَ مِنْ النَّاس ) ‏ ‏فِي رِوَايَة اِبْن إِسْحَاق " فَقَالَ لَهَا أَلَا تَرَيْنَ إِلَى النَّاس ؟ إِنِّي آمُرهُمْ بِالْأَمْرِ فَلَا يَفْعَلُونَهُ " وَفِي رِوَايَة أَبِي الْمَلِيح " فَاشْتَدَّ ذَلِكَ عَلَيْهِ , فَدَخَلَ عَلَى أُمّ سَلَمَة فَقَالَ : هَلَكَ الْمُسْلِمُونَ , أَمَرْتهمْ أَنْ يَحْلِقُوا وَيَنْحَرُوا فَلَمْ يَفْعَلُوا , قَالَ فَجَلَّى اللَّه عَنْهُمْ يَوْمئِذٍ بِأُمِّ سَلَمَة ".
‏ ‏قَوْله : ( قَالَتْ أُمّ سَلَمَة : يَا نَبِيّ اللَّه أَتُحِبُّ ذَلِكَ ؟ اُخْرُجْ ثُمَّ لَا تُكَلِّم أَحَدًا مِنْهُمْ ) ‏ ‏زَادَ اِبْن إِسْحَاق " قَالَتْ أُمّ سَلَمَة : يَا رَسُول اللَّه لَا تُكَلِّمهُمْ , فَإِنَّهُمْ قَدْ دَخَلَهُمْ أَمْر عَظِيم مِمَّا أَدْخَلْت عَلَى نَفْسك مِنْ الْمَشَقَّة فِي أَمْر الصُّلْح وَرُجُوعهمْ بِغَيْرِ فَتْح " , وَيَحْتَمِل أَنَّهَا فَهِمَتْ عَنْ الصَّحَابَة أَنَّهُ اِحْتَمَلَ عِنْدهمْ أَنْ يَكُون النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَهُمْ بِالتَّحَلُّلِ أَخْذًا بِالرُّخْصَةِ فِي حَقّهمْ وَأَنَّهُ هُوَ يَسْتَمِرّ عَلَى الْإِحْرَام أَخْذًا بِالْعَزِيمَةِ فِي حَقّ نَفْسه , فَأَشَارَتْ عَلَيْهِ أَنْ يَتَحَلَّل لِيَنْتَفِيَ عَنْهُمْ هَذَا الِاحْتِمَال , وَعَرَفَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَوَاب مَا أَشَارَتْ بِهِ فَفَعَلَهُ فَلَمَّا رَأَى الصَّحَابَة ذَلِكَ بَادَرُوا إِلَى فِعْل مَا أَمَرَهُمْ بِهِ إِذْ لَمْ يَبْقَ بَعْد ذَلِكَ غَايَة تُنْتَظَر.
وَفِيهِ فَضْل الْمَشُورَة , وَأَنَّ الْفِعْل إِذَا اِنْضَمَّ إِلَى الْقَوْل كَانَ أَبْلَغَ مِنْ الْقَوْل الْمُجَرَّد , وَلَيْسَ فِيهِ أَنَّ الْفِعْل مُطْلَقًا أَبْلَغ مِنْ الْقَوْل , وَجَوَاز مُشَاوَرَة الْمَرْأَة الْفَاضِلَة , وَفَضْل أُمّ سَلَمَة وَوُفُور عَقْلهَا حَتَّى قَالَ إِمَام الْحَرَمَيْنِ : لَا نَعْلَم اِمْرَأَة أَشَارَتْ بِرَأْيٍ فَأَصَابَتْ إِلَّا أُمّ سَلَمَة.
كَذَا قَالَ.
وَقَدْ اِسْتَدْرَكَ بَعْضهمْ عَلَيْهِ بِنْت شُعَيْب فِي أَمْر مُوسَى.
وَنَظِير هَذَا مَا وَقَعَ لَهُمْ فِي غَزْوَة الْفَتْح كَمَا سَيَأْتِي هُنَاكَ مِنْ أَمْره لَهُمْ بِالْفِطْرِ فِي رَمَضَان , فَلَمَّا اِسْتَمَرُّوا عَلَى الِامْتِنَاع تَنَاوَلَ الْقَدَح فَشَرِبَ , فَلَمَّا رَأَوْهُ شَرِبَ شَرِبُوا.
‏ ‏قَوْله : ( نَحَرَ بَدَنه ) ‏ ‏فِي رِوَايَة الْكُشْمِيهَنِيّ " هَدْيه " زَادَ اِبْن إِسْحَاق عَنْ اِبْن أَبِي نُجَيْح عَنْ مُجَاهِد عَنْ اِبْن عَبَّاس أَنَّهُ كَانَ سَبْعِينَ بَدَنَة كَانَ فِيهَا جَمَل لِأَبِي جَهْل فِي رَأْسه بُرَّة مِنْ فِضَّة لِيَغِيظَ بِهِ الْمُشْرِكِينَ , وَكَانَ غَنِمَهُ مِنْهُ فِي غَزْوَة بَدْر.
‏ ‏قَوْله : ( وَدَعَا حَالِقه فَحَلَقَهُ ) ‏ ‏قَالَ اِبْن إِسْحَاق : " بَلَغَنِي أَنَّ الَّذِي حَلَقَهُ فِي ذَلِكَ الْيَوْم هُوَ خِرَاش - بِمُعْجَمَتَيْنِ - اِبْن أُمَيَّة بْن الْفَضْل الْخُزَاعِيّ قَالَ اِبْن إِسْحَاق : فَحَدَّثَنِي عَبْد اللَّه بْن أَبِي نُجَيْح عَنْ مُجَاهِد عَنْ اِبْن عَبَّاس قَالَ : حَلَقَ رِجَال يَوْمئِذٍ وَقَصَّرَ آخَرُونَ , فَقَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : يَرْحَم اللَّه الْمُحَلِّقِينَ , قَالُوا : وَالْمُقَصِّرِينَ - الْحَدِيث , وَفِي آخِره - قَالُوا يَا رَسُول اللَّه لِمَ ظَاهَرْت لِلْمُحَلِّقِينَ دُون الْمُقَصِّرِينَ ؟ قَالَ : لِأَنَّهُمْ لَمْ يَشُكُّوا ".
قَالَ اِبْن إِسْحَاق قَالَ الزُّهْرِيُّ فِي حَدِيثه : ثُمَّ اِنْصَرَفَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَافِلًا حَتَّى إِذَا كَانَ بَيْن مَكَّة وَالْمَدِينَة وَنَزَلَتْ سُورَة الْفَتْح - فَذَكَرَ الْحَدِيث فِي تَفْسِيرهَا إِلَى أَنْ قَالَ - قَالَ الزُّهْرِيُّ فَمَا فُتِحَ فِي الْإِسْلَام فَتْح قَبْله كَانَ أَعْظَم مِنْ فَتْح الْحُدَيْبِيَة , إِنَّمَا كَانَ الْقِتَال حَيْثُ اِلْتَقَى النَّاس , وَلَمَّا كَانَتْ الْهُدْنَة وَوَضَعَتْ الْحَرْب وَأَمِنَ النَّاس كَلَّمَ بَعْضهمْ بَعْضًا وَالْتَقَوْا وَتَفَاوَضُوا فِي الْحَدِيث وَالْمُنَازَعَة وَلَمْ يُكَلَّم أَحَد بِالْإِسْلَامِ يَعْقِل شَيْئًا فِي تِلْكَ الْمُدَّة إِلَّا دَخَلَ فِيهِ , وَلَقَدْ دَخَلَ فِي تَيْنِك السَّنَتَيْنِ مِثْل مَنْ كَانَ فِي الْإِسْلَام قَبْل ذَلِكَ أَوْ أَكْثَر , يَعْنِي مِنْ صَنَادِيد قُرَيْش.
وَمِمَّا ظَهَرَ مِنْ مَصْلَحَة الصُّلْح الْمَذْكُور غَيْر مَا ذَكَرَهُ الزُّهْرِيُّ أَنَّهُ كَانَ مُقَدِّمَة بَيْن الْفَتْح الْأَعْظَم الَّذِي دَخَلَ النَّاس عَقِبه فِي دِين اللَّه أَفْوَاجًا , وَكَانَتْ الْهُدْنَة مِفْتَاحًا لِذَلِكَ.
وَلَمَّا كَانَتْ قِصَّة الْحُدَيْبِيَة مُقَدِّمَة لِلْفَتْحِ سُمِّيَتْ فَتْحًا كَمَا سَيَأْتِي فِي الْمَغَازِي , فَإِنَّ الْفَتْح فِي اللُّغَة فَتْح الْمُغْلَق , وَالصُّلْح كَانَ مُغْلَقًا حَتَّى فَتَحَهُ اللَّه , وَكَانَ مِنْ أَسْبَاب فَتْحه صَدّ الْمُسْلِمِينَ عَنْ الْبَيْت , وَكَانَ فِي الصُّورَة الظَّاهِرَة ضَيْمًا لِلْمُسْلِمِينَ وَفِي الصُّورَة الْبَاطِنَة عِزًّا لَهُمْ , فَإِنَّ النَّاس لِأَجْلِ الْأَمْن الَّذِي وَقَعَ بَيْنهمْ اِخْتَلَطَ بَعْضهمْ بِبَعْضٍ مِنْ غَيْر نَكِير , وَأَسْمَعَ الْمُسْلِمُونَ الْمُشْرِكِينَ الْقُرْآن , وَنَاظَرُوهُمْ عَلَى الْإِسْلَام جَهْرَة آمَنِينَ , وَكَانُوا قَبْل ذَلِكَ لَا يَتَكَلَّمُونَ عِنْدهمْ بِذَلِكَ إِلَّا خُفْيَة , وَظَهَرَ مَنْ كَانَ يُخْفِي إِسْلَامه فَذَلَّ الْمُشْرِكُونَ مِنْ حَيْثُ أَرَادُوا الْعِزَّة وَأُقْهِرُوا مِنْ حَيْثُ أَرَادُوا الْغَلَبَة.
‏ ‏قَوْله : ( ثُمَّ جَاءَهُ نِسْوَة مُؤْمِنَات إِلَخْ ) ‏ ‏ظَاهِره أَنَّهُنَّ جِئْنَ إِلَيْهِ وَهُوَ بِالْحُدَيْبِيَةِ , وَلَيْسَ كَذَلِكَ وَإِنَّمَا جِئْنَ إِلَيْهِ بَعْد فِي أَثْنَاء الْمُدَّة , وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي أَوَّل الشُّرُوط مِنْ رِوَايَة عُقَيْل عَنْ الزُّهْرِيِّ مَا يَشْهَد لِذَلِكَ حَيْثُ قَالَ : " وَلَمْ يَأْتِهِ أَحَد مِنْ الرِّجَال إِلَّا رَدَّهُ فِي تِلْكَ الْمُدَّة وَلَوْ كَانَ مُسْلِمًا , وَجَاءَ الْمُؤْمِنَات مُهَاجِرَات , وَكَانَتْ أُمّ كُلْثُوم بِنْت عُقْبَةَ مِمَّنْ خَرَجَ , وَيُقَال إِنَّهَا كَانَتْ تَحْت عَمْرو بْن الْعَاصِ , وَسَمَّى مِنْ الْمُؤْمِنَات الْمَذْكُورَات أُمَيْمَة بِنْت بِشْر وَكَانَتْ تَحْت حَسَّان - وَيُقَال اِبْن دَحْدَاحَة - قَبْل أَنْ يُسْلِم فَتَزَوَّجَهَا سَهْل بْن حُنَيْفٍ فَوَلَدَتْ لَهُ اِبْنه عَبْد اللَّه بْن سَهْل , ذَكَرَ ذَلِكَ اِبْن أَبِي حَاتِم مِنْ طَرِيق يَزِيد بْن أَبِي حَبِيب مُرْسَلًا , وَالطَّبَرِيّ مِنْ طَرِيق اِبْن إِسْحَاق عَنْ الزُّهْرِيِّ.
وَسُبَيْعَة بِنْت الْحَارِث الْأَسْلَمِيَّة وَكَانَتْ تَحْت مُسَافِر الْمَخْزُومِيّ وَيُقَال صَيْفِيّ بْن الرَّاهِب , وَالْأَوَّل أَوْلَى فَقَدْ ذَكَرَ اِبْن أَبِي حَاتِم مِنْ طَرِيق مُقَاتِل بْن حَيَّان أَنَّ اِمْرَأَة صَيْفِيّ اِسْمهَا سَعِيدَة فَتَزَوَّجَهَا عُمَر.
وَأُمّ الْحَكَم بِنْت أَبِي سُفْيَان كَانَتْ تَحْت عِيَاض بْن شَدَّاد فَارْتَدَّتْ كَمَا سَيَأْتِي بَيَانه فِي آخِر الشُّرُوط.
وَبِرْوَع بِنْت عُقْبَةَ كَانَتْ تَحْت شَمَّاس بْن عُثْمَان , وَعَبَدَة بِنْت عَبْد الْعُزَّى بْن نَضْلَة كَانَتْ تَحْت عَمْرو بْن عَبْدِ وُدّ.
قُلْت.
لَكِنْ عَمْرو قُتِلَ بِالْخَنْدَقِ وَكَأَنَّهَا فَرَّتْ بَعْد قَتْله , وَكَانَ مِنْ سُنَّة الْجَاهِلِيَّة أَنَّ مَنْ مَاتَ زَوْجهَا كَانَ أَهْله أَحَقّ بِهَا.
وَكَانَ مِمَّنْ خَرَجَ مِنْ النِّسَاء فِي تِلْكَ الْمُدَّة بِنْت حَمْزَة بْن عَبْد الْمُطَّلِب كَمَا سَيَأْتِي بَيَانه فِي عُمْرَة الْقَضِيَّة , وَيَأْتِي تَفْصِيل ذَلِكَ فِي الْمَغَازِي , وَشَرَحَ قِصَّة الِامْتِحَان فِي أَوَاخِر كِتَاب النِّكَاح فِي " بَاب نِكَاح مَنْ أَسْلَمَ مِنْ الْمُشْرِكَات " مَعَ بَقِيَّة فَوَائِده إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى.
‏ ‏قَوْله : ( ثُمَّ رَجَعَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْمَدِينَة فَجَاءَهُ أَبُو بَصِير ) ‏ ‏بِفَتْحِ الْمُوَحَّدَة وَكَسْر الْمُهْمَلَة رَجُل مِنْ قُرَيْش هُوَ عُتْبَة بِضَمِّ الْمُهْمَلَة وَسُكُون الْمُثَنَّاة وَقِيلَ فِيهِ عُبَيْد بِمُوَحَّدَةٍ مُصَغَّر - وَهُوَ وَهْم - اِبْن أَسِيد بِفَتْحِ الْهَمْزَة عَلَى الصَّحِيح اِبْن جَارِيَة بِالْجِيمِ الثَّقَفِيّ حَلِيف بَنِي زُهْرَة سَمَّاهُ وَنَسَبَهُ اِبْن إِسْحَاق فِي رِوَايَته , وَعُرِفَ بِهَذَا أَنَّ قَوْله فِي حَدِيث الْبَاب " رَجُل مِنْ قُرَيْش " أَيْ بِالْحِلْفِ لِأَنَّ بَنِي زُهْرَة مِنْ قُرَيْش.
‏ ‏قَوْله : ( فَأَرْسَلُوا فِي طَلَبه رَجُلَيْنِ ) ‏ ‏سَمَّاهُمَا اِبْن سَعْد فِي " الطَّبَقَات " فِي تَرْجَمَة أَبِي بَصِير خُنَيْس وَهُوَ بِمُعْجَمَةٍ وَنُون وَآخِره مُهْمَلَة مُصَغَّر اِبْن جَابِر وَمَوْلًى لَهُ يُقَال لَهُ كَوْثَر , وَفِي الرِّوَايَة الْآتِيَة آخِر الْبَاب أَنَّ الْأَخْنَس بْن شُرَيْق هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ فِي طَلَبه , زَادَ اِبْن إِسْحَاق " فَكَتَبَ الْأَخْنَس بْن شُرَيْق وَالْأَزْهَر بْن عَبْد عَوْف إِلَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كِتَابًا وَبَعَثَا بِهِ مَعَ مَوْلًى لَهُمَا وَرَجُل مِنْ بَنِي عَامِر اِسْتَأْجَرَاهُ بِبَكْرَيْنِ " ا ه.
وَالْأَخْنَس مِنْ ثَقِيف رَهْط أَبِي بَصِير , وَأَزْهَر مِنْ بَنِي زُهْرَة حُلَفَاء أَبِي بَصِير فَلِكُلّ مِنْهُمَا الْمُطَالَبَة بِرَدِّهِ , وَيُسْتَفَاد مِنْهُ أَنَّ الْمُطَالَبَة بِالرَّدِّ تَخْتَصّ بِمَنْ كَانَ مِنْ عَشِيرَة الْمَطْلُوب بِالْأَصَالَةِ أَوْ الْحِلْف , وَقِيلَ إِنَّ اِسْم أَحَد الرَّجُلَيْنِ مَرْثَد بْن حُمْرَان , زَادَ الْوَاقِدِيّ فَقَدِمَا بَعْد أَبِي بَصِير بِثَلَاثَةِ أَيَّام.
‏ ‏قَوْله : ( فَدَفَعَهُ إِلَى الرَّجُلَيْنِ ) ‏ ‏فِي رِوَايَة اِبْن إِسْحَاق " فَقَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : يَا أَبَا بَصِير إِنَّ هَؤُلَاءِ الْقَوْم صَالَحُونَا عَلَى مَا عَلِمْت , وَإِنَّا لَا نَغْدِر , فَالْحَقْ بِقَوْمِك.
فَقَالَ : أَتَرُدُّنِي إِلَى الْمُشْرِكِينَ يَفْتِنُونِي عَنْ دِينِي وَيُعَذِّبُونَنِي ؟ قَالَ : اِصْبِرْ وَاحْتَسِبْ , فَإِنَّ اللَّه جَاعِل لَك فَرَجًا وَمَخْرَجًا " وَفِي رِوَايَة أَبِي الْمَلِيح مِنْ الزِّيَادَة " فَقَالَ لَهُ عُمَر : أَنْتَ رَجُل وَهُوَ رَجُل وَمَعَك السَّيْف " وَهَذَا أَوْضَح فِي التَّعْرِيض بِقَتْلِهِ.
وَاسْتَدَلَّ بَعْض الشَّافِعِيَّة بِهَذِهِ الْقِصَّة عَلَى جَوَاز دَفْع الْمَطْلُوب لِمَنْ لَيْسَ مِنْ عَشِيرَته إِذَا كَانَ لَا يُخْشَى عَلَيْهِ مِنْهُ , لِكَوْنِهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَفَعَ أَبَا بَصِير لِلْعَامِرِيِّ وَرَفِيقه وَلَمْ يَكُونَا مِنْ عَشِيرَته وَلَمْ يَكُونَا مِنْ رَهْطه , لَكِنَّهُ أَمِنَ عَلَيْهِ مِنْهُمَا لِعِلْمِهِ بِأَنَّهُ كَانَ أَقْوَى مِنْهُمَا , وَلِهَذَا آلَ الْأَمْر إِلَى أَنَّهُ قَتَلَ أَحَدهمَا وَأَرَادَ قَتْل الْآخَر.
وَفِيمَا اِسْتَدَلَّ بِهِ مِنْ ذَلِكَ نَظَر , لِأَنَّ الْعَامِرِيّ وَرَفِيقه إِنَّمَا كَانَا رَسُولَيْنِ , وَلَوْ أَنَّ فِيهِمَا رِيبَة لَمَا أَرْسَلَهُمَا مَنْ هُوَ مِنْ عَشِيرَته.
وَأَيْضًا فَقَبِيلَة قُرَيْش تَجْمَع الْجَمِيع لِأَنَّ بَنِي زُهْرَة وَبَنِي عَامِر جَمِيعًا مِنْ قُرَيْش وَأَبُو بَصِير كَانَ مِنْ حُلَفَاء بَنِي زُهْرَة كَمَا تَقَدَّمَ , وَقَدْ وَقَعَ فِي رِوَايَة أَبِي الْمَلِيح " جَاءَ أَبُو بَصِير مُسْلِمًا وَجَاءَ وَلِيّه خَلْفه فَقَالَ : يَا مُحَمَّد رُدَّهُ عَلَيَّ فَرَدَّهُ " وَيُجْمَع بِأَنَّ فِيهِ مَجَازًا وَالتَّقْدِير : جَاءَ رَسُول وَلِيّه , وَرَسُول اِسْم جِنْس يَشْمَل الْوَاحِد فَصَاعِدًا , أَوْ يُحْمَل عَلَى أَنَّ الْآخَر كَانَ رَفِيقًا لِلرَّسُولِ وَلَمْ يَكُنْ رَسُولًا بِالْأَصَالَةِ.
‏ ‏قَوْله : ( فَنَزَلُوا يَأْكُلُونَ مِنْ تَمْر لَهُمْ ) ‏ ‏فِي رِوَايَة الْوَاقِدِيّ " فَلَمَّا كَانُوا بِذِي الْحُلَيْفَة دَخَلَ أَبُو بَصِير الْمَسْجِد فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ وَجَلَسَ يَتَغَدَّى , وَدَعَاهُمَا فَقَدَّمَ سُفْرَة لَهُمَا فَأَكَلُوا جَمِيعًا ".
‏ ‏قَوْله : ( فَقَالَ أَبُو بَصِير لِأَحَدِ الرَّجُلَيْنِ ) ‏ ‏فِي رِوَايَة اِبْن إِسْحَاق " لِلْعَامِرِيِّ " وَفِي رِوَايَة اِبْن سَعْد " لِخُنَيْس بْن جَابِر ".
‏ ‏قَوْله : ( فَاسْتَلَّهُ الْآخَر ) ‏ ‏أَيْ صَاحِب السَّيْف أَخْرَجَهُ مِنْ غِمْده.
‏ ‏قَوْله : ( فَأَمْكَنَهُ بِهِ ) أَيْ بِيَدِهِ , وَفِي رِوَايَة الْكُشْمِيهَنِيّ " فَأَمْكَنَهُ مِنْهُ ".
‏ ‏قَوْله : ( فَضَرَبَهُ حَتَّى بَرَدَ ) ‏ ‏بِفَتْحِ الْمُوَحَّدَة وَالرَّاء أَيْ خَمَدَتْ حَوَاسّه , وَهِيَ كِنَايَة عَنْ الْمَوْت ; لِأَنَّ الْمَيِّت تَسْكُن حَرَكَته , وَأَصْل الْبَرَد السُّكُون , قَالَهُ الْخَطَّابِيُّ , وَفِي رِوَايَة اِبْن إِسْحَاق " فَعَلَاهُ حَتَّى قَتَلَهُ ".
‏ ‏قَوْله : ( وَفَرَّ الْآخَر ) ‏ ‏فِي رِوَايَة اِبْن إِسْحَاق " وَخَرَجَ الْمَوْلَى يَشْتَدّ " أَيْ هَرَبًا.
‏ ‏قَوْله :( ذُعْرًا ) ‏ ‏أَيْ خَوْفًا , وَفِي رِوَايَة اِبْن إِسْحَاق فَزَعًا.
‏ ‏قَوْله : ( قُتِلَ صَاحِبِي ) ‏ ‏بِضَمِّ الْقَاف , فِي رِوَايَة اِبْن إِسْحَاق " قَتَلَ صَاحِبكُمْ صَاحِبِي ".
‏ ‏قَوْله : ( وَإِنِّي لَمَقْتُول ) ‏ ‏أَيْ إِنْ لَمْ تَرُدُّوهُ عَنِّي , وَعِنْد الْوَاقِدِيّ " وَقَدْ أَفْلَتَ مِنْهُ وَلَمْ أَكَدْ " وَوَقَعَ فِي رِوَايَة أَبِي الْأَسْوَد عَنْ عُرْوَة " فَرَدَّهُ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَيْهِمَا فَأَوْثَقَاهُ , حَتَّى إِذَا كَانَ بِبَعْضِ الطَّرِيق نَامَا فَتَنَاوَلَ السَّيْف بِفِيهِ فَأَمَرَّهُ عَلَى الْإِسَار فَقَطَعَهُ وَضَرَبَ أَحَدهمَا بِالسَّيْفِ وَطَلَبَ الْآخَر فَهَرَبَ " وَالْأَوَّل أَصَحّ , وَفِي رِوَايَة الْأَوْزَاعِيِّ عَنْ الزُّهْرِيِّ عِنْد اِبْن عَائِذ فِي الْمَغَازِي " وَجَمَزَ الْآخَر وَاتَّبَعَهُ أَبُو بَصِير حَتَّى دُفِعَ إِلَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَصْحَابه وَهُوَ عَاضّ عَلَى أَسْفَل ثَوْبه وَقَدْ بَدَا طَرَف ذَكَره وَالْحَصَى يَطِير مِنْ تَحْت قَدَمَيْهِ مِنْ شِدَّة عَدْوه , وَأَبُو بَصِير يَتْبَعهُ ".
‏ ‏قَوْله : ( قَدْ وَاَللَّه أَوْفَى اللَّه ذِمَّتك ) ‏ ‏أَيْ فَلَيْسَ عَلَيْك مِنْهُمْ عِقَاب فِيمَا صَنَعْت أَنَا , زَادَ الْأَوْزَاعِيُّ عَنْ الزُّهْرِيِّ " فَقَالَ أَبُو بَصِير : يَا رَسُول اللَّه عَرَفْت أَنِّي إِنْ قَدِمْت عَلَيْهِمْ فَتَنُونِي عَنْ دِينِي فَفَعَلْت مَا فَعَلْت وَلَيْسَ بَيْنِي وَبَيْنهمْ عَهْد وَلَا عَقْد " ا ه.
وَفِيهِ أَنَّ لِلْمُسْلِمِ الَّذِي يَجِيء مِنْ دَارَ الْحَرْب فِي زَمَن الْهُدْنَة قَتَلَ مَنْ جَاءَ فِي طَلَب رَدّه إِذَا شُرِطَ لَهُمْ ذَلِكَ , لِأَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُنْكِر عَلَى أَبِي بَصِير قَتْله الْعَامِرِيَّ وَلَا أَمَرَ فِيهِ بِقَوَدٍ وَلَا دِيَة , وَاَللَّه أَعْلَم.
‏ ‏قَوْله : ( وَيْلُ اُمِّهِ ) ‏ ‏بِضَمِّ اللَّام وَوَصْل الْهَمْزَة وَكَسْر الْمِيم الْمُشَدَّدَة , وَهِيَ كَلِمَة ذَمّ تَقُولهَا الْعَرَب فِي الْمَدْح وَلَا يَقْصِدُونَ مَعْنَى مَا فِيهَا مِنْ الذَّمّ , لِأَنَّ الْوَيْل الْهَلَاك فَهُوَ كَقَوْلِهِمْ " لِأُمِّهِ الْوَيْل " قَالَ بَدِيع الزَّمَان فِي رِسَالَة لَهُ : وَالْعَرَب تُطْلِق " تَرِبَتْ يَمِينه " فِي الْأَمْر إِذَا أَهَمَّ وَيَقُولُونَ " وَيْلُ اُمِّهِ " وَلَا يَقْصِدُونَ الذَّمّ.
وَالْوَيْل يُطْلَق عَلَى الْعَذَاب وَالْحَرْب وَالزَّجْر وَقَدْ تَقَدَّمَ شَيْء مِنْ ذَلِكَ فِي الْحَجّ فِي قَوْله لِلْأَعْرَابِيِّ " وَيْلك ".
وَقَالَ الْفَرَّاء : أَصْل قَوْلهمْ وَيْلُ فُلَان وَيْ لِفُلَانٍ أَيْ فَكَثُرَ الِاسْتِعْمَال فَأَلْحَقُوا بِهَا اللَّام فَصَارَتْ كَأَنَّهَا مِنْهَا وَأَعْرَبُوهَا , وَتَبِعَهُ اِبْن مَالِك إِلَّا أَنَّهُ قَالَ تَبَعًا لِلْخَلِيلِ : إِنَّ وَيْ كَلِمَة تَعَجُّب , وَهِيَ مِنْ أَسْمَاء الْأَفْعَال وَاللَّام بَعْدهَا مَكْسُورَة وَيَجُوز ضَمّهَا إِتْبَاعًا لِلْهَمْزَةِ وَحُذِفَتْ الْهَمْزَة تَخْفِيفًا , وَاَللَّه أَعْلَم.
‏ ‏قَوْله : ( مِسْعَر حَرْب ) ‏ ‏بِكَسْرِ الْمِيم وَسُكُون الْمُهْمَلَة وَفَتْح الْعَيْن الْمُهْمَلَة وَبِالنَّصْبِ عَلَى التَّمْيِيز , وَأَصْله مِنْ مِسْعَر حَرْب , أَيْ يُسْعِرهَا.
قَالَ الْخَطَّابِيُّ : كَأَنَّهُ يَصِفهُ بِالْإِقْدَامِ فِي الْحَرْب وَالتَّسْعِير لِنَارِهَا , وَوَقَعَ فِي رِوَايَة اِبْن إِسْحَاق " مِحَشّ " بِحَاءٍ مُهْمَلَة وَشِين مُعْجَمَة وَهُوَ بِمَعْنَى مِسْعَر , وَهُوَ الْعُود الَّذِي يُحَرَّك بِهِ النَّار.
‏ ‏قَوْله : ( لَوْ كَانَ لَهُ أَحَد ) ‏ ‏أَيْ يَنْصُرهُ وَيُعَاضِدهُ وَيُنَاصِرهُ , وَفِي رِوَايَة الْأَوْزَاعِيِّ " لَوْ كَانَ لَهُ رِجَال " فَلُقِّنَهَا أَبُو بَصِير فَانْطَلَقَ , وَفِيهِ إِشَارَة إِلَيْهِ بِالْفِرَارِ لِئَلَّا يَرُدّهُ إِلَى الْمُشْرِكِينَ , وَرَمَزَ إِلَى مَنْ بَلَغَهُ ذَلِكَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَلْحَقُوا بِهِ , قَالَ جُمْهُور الْعُلَمَاء مِنْ الشَّافِعِيَّة وَغَيْرهمْ : يَجُوز التَّعْرِيض بِذَلِكَ لَا التَّصْرِيح كَمَا فِي هَذِهِ الْقِصَّة وَاَللَّه أَعْلَم.
‏ ‏قَوْله : ( حَتَّى أَتَى سِيف الْبَحْر ) ‏ ‏بِكَسْرِ الْمُهْمَلَة وَسُكُون التَّحْتَانِيَّة بَعْدهَا فَاء أَيْ سَاحِله , وَعَيَّنَ اِبْن إِسْحَاق الْمَكَان فَقَالَ " حَتَّى نَزَلَ الْعِيص " وَهُوَ بِكَسْرِ الْمُهْمَلَة وَسُكُون التَّحْتَانِيَّة بَعْدهَا مُهْمَلَة قَالَ : وَكَانَ طَرِيق أَهْل مَكَّة إِذَا قَصَدُوا الشَّام.
قُلْت : وَهُوَ يُحَاذِي الْمَدِينَة إِلَى جِهَة السَّاحِل , وَهُوَ قَرِيب مِنْ بِلَاد بَنِي سُلَيْمٍ.
‏ ‏قَوْله : ( وَيَنْفَلِت مِنْهُمْ أَبُو جَنْدَل ) ‏ ‏أَيْ مِنْ أَبِيهِ وَأَهْله , وَفِي تَعْبِيره بِالصِّيغَةِ الْمُسْتَقْبَلَة إِشَارَة إِلَى إِرَادَة مُشَاهَدَة الْحَال كَقَوْلِهِ تَعَالَ : ( اللَّه الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاح فَتُثِير سَحَابًا ) وَفِي رِوَايَة أَبِي الْأَسْوَد عَنْ عُرْوَة " وَانْفَلَتَ أَبُو جَنْدَل فِي سَبْعِينَ رَاكِبًا مُسْلِمِينَ فَلَحِقُوا بِأَبِي بَصِير فَنَزَلُوا قَرِيبًا مِنْ ذِي الْمَرْوَة عَلَى طَرِيق عِير قُرَيْش فَقَطَعُوا مَادَّتهمْ ".
‏ ‏قَوْله : ( حَتَّى اِجْتَمَعَتْ مِنْهُمْ عِصَابَة ) ‏ ‏أَيْ جَمَاعَة وَلَا وَاحِد لَهَا مِنْ لَفْظهَا , وَهِيَ تُطْلَق عَلَى الْأَرْبَعِينَ فَمَا دُونهَا.
وَهَذَا الْحَدِيث يَدُلّ عَلَى أَنَّهَا تُطْلَق عَلَى أَكْثَر مِنْ ذَلِكَ , فَفِي رِوَايَة اِبْن إِسْحَاق أَنَّهُمْ بَلَغُوا نَحْوًا مِنْ سَبْعِينَ نَفْسًا , وَفِي رِوَايَة أَبِي الْمَلِيح : بَلَغُوا أَرْبَعِينَ أَوْ سَبْعِينَ , وَجَزَمَ عُرْوَة فِي الْمَغَازِي بِأَنَّهُمْ بَلَغُوا سَبْعِينَ , وَزَعَمَ السُّهَيْلِيّ أَنَّهُمْ بَلَغُوا ثَلَثمِائَةِ رَجُل , وَزَادَ عُرْوَة " فَلَحِقُوا بِأَبِي بَصِير وَكَرِهُوا أَنْ يَقْدَمُوا الْمَدِينَة فِي مُدَّة الْهُدْنَة خَشْيَة أَنْ يُعَادُوا إِلَى الْمُشْرِكِينَ " وَسَمَّى الْوَاقِدِيّ مِنْهُمْ الْوَلِيد بْن الْوَلِيد بْن الْمُغِيرَة.
‏ ‏قَوْله : ( مَا يَسْمَعُونَ بِعِير ) ‏ ‏أَيْ بِخَبَرِ عِير بِالْمُهْمَلَةِ الْمَكْسُورَة أَيْ قَافِلَة.
‏ ‏قَوْله : ( إِلَّا اِعْتَرَضُوا لَهَا ) ‏ ‏أَيْ وَقَفُوا فِي طَرِيقهَا بِالْعَرْضِ , وَهِيَ كِنَايَة عَنْ مَنْعهمْ لَهَا مِنْ السَّيْر.
‏ ‏قَوْله : ( فَأَرْسَلَتْ قُرَيْش ) ‏ ‏فِي رِوَايَة أَبِي الْأَسْوَد عَنْ عُرْوَة " فَأَرْسَلُوا أَبَا سُفْيَان بْن حَرْب إِلَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْأَلُونَهُ وَيَتَضَرَّعُونَ إِلَيْهِ أَنْ يَبْعَث إِلَى أَبِي جَنْدَل وَمَنْ مَعَهُ وَقَالُوا : وَمَنْ خَرَجَ مِنَّا إِلَيْك فَهُوَ لَك حَلَال غَيْر حَرَج ".
‏ ‏قَوْله : ( فَأَرْسَلَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَيْهِمْ ) ‏ ‏فِي رِوَايَة أَبِي الْأَسْوَد الْمَذْكُورَة " فَبَعَثَ إِلَيْهِمْ فَقَدِمُوا عَلَيْهِ " وَفِي رِوَايَة مُوسَى بْن عُقْبَةَ عَنْ الزُّهْرِيِّ " فَكَتَبَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى أَبِي بَصِير , فَقَدِمَ كِتَابه وَأَبُو بَصِير يَمُوت , فَمَاتَ وَكِتَاب رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي يَده , فَدَفَنَهُ أَبُو جَنْدَل مَكَانه وَجَعَلَ عِنْد قَبْره مَسْجِدًا.
قَالَ وَقَدِمَ أَبُو جَنْدَل وَمَنْ مَعَهُ إِلَى الْمَدِينَة فَلَمْ يَزُلْ بِهَا إِلَى أَنْ خَرَجَ إِلَى الشَّام مُجَاهِدًا فَاسْتُشْهِدَ فِي خِلَافَة عُمَر , قَالَ فَعَلِمَ الَّذِينَ كَانُوا أَشَارُوا بِأَنْ لَا يُسَلَّم أَبَا جَنْدَل إِلَى أَبِيهِ أَنَّ طَاعَة رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَيْر مِمَّا كَرِهُوا " وَفِي قِصَّة أَبِي بَصِير مِنْ الْفَوَائِد جَوَاز قَتْل الْمُشْرِك الْمُعْتَدِي غِيلَة , وَلَا يُعَدّ مَا وَقَعَ مِنْ أَبِي بَصِير غَدْرًا لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي جُمْلَة مَنْ دَخَلَ فِي الْمُعَاقَدَة الَّتِي بَيْن النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَيْن قُرَيْش , لِأَنَّهُ إِذْ ذَاكَ كَانَ مَحْبُوسًا بِمَكَّة , لَكِنَّهُ لَمَّا خَشِيَ أَنَّ الْمُشْرِك يُعِيدهُ إِلَى الْمُشْرِكِينَ دَرَأَ عَنْ نَفْسه بِقَتْلِهِ , وَدَافَعَ عَنْ دِينه بِذَلِكَ , وَلَمْ يُنْكِر النَّبِيّ قَوْله ذَلِكَ.
وَفِيهِ أَنَّ مَنْ فَعَلَ مِثْل فِعْل أَبِي بَصِير لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ قَوَد وَلَا دِيَة , قَدْ وَقَعَ عِنْد اِبْن إِسْحَاق " أَنَّ سُهَيْل بْن عَمْرو لَمَّا بَلَغَهُ قَتْل الْعَامِرِيّ طَالَبَ بِدِيَتِهِ لِأَنَّهُ مِنْ رَهْطه , فَقَالَ لَهُ أَبُو سُفْيَان : لَيْسَ عَلَى مُحَمَّد مُطَالَبَة بِذَلِكَ لِأَنَّهُ وَفَّى بِمَا عَلَيْهِ وَأَسْلَمَهُ لِرَسُولِكُمْ , وَلَمْ يَقْتُلهُ بِأَمْرِهِ.
وَلَا عَلَى آل أَبِي بَصِير أَيْضًا شَيْء لِأَنَّهُ لَيْسَ عَلَى دِينهمْ ".
وَفِيهِ أَنَّهُ كَانَ لَا يَرُدّ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَنْ جَاءَ مِنْهُمْ إِلَّا بِطَلَبٍ مِنْهُمْ , لِأَنَّهُمْ لَمَّا طَلَبُوا أَبَا بَصِير أَوَّل مَرَّة أَسْلَمَهُ لَهُمْ , وَلَمَّا حَضَرَ إِلَيْهِ ثَانِيًا لَمْ يُرْسِلهُ لَهُمْ , بَلْ لَوْ أَرْسَلُوا إِلَيْهِ وَهُوَ عِنْده لَأَرْسَلَهُ , فَلَمَّا خَشِيَ أَبُو بَصِير مِنْ ذَلِكَ نَجَا بِنَفْسِهِ.
وَفِيهِ أَنَّ شَرْط الرَّدّ أَنْ يَكُون الَّذِي حَضَرَ مِنْ دَار الشِّرْك بَاقِيًا فِي بَلَد الْإِمَام , وَلَا يَتَنَاوَل مَنْ لَمْ يَكُنْ تَحْت يَد الْإِمَام وَلَا مُتَحَيِّزًا إِلَيْهِ.
وَاسْتَنْبَطَ مِنْهُ بَعْض الْمُتَأَخِّرِينَ أَنَّ بَعْض مُلُوك الْمُسْلِمِينَ مَثَلًا لَوْ هَادَنَ بَعْض مُلُوك الشِّرْك فَغَزَاهُمْ مَلِك آخَر مِنْ الْمُسْلِمِينَ فَقَتَلَهُمْ وَغَنِمَ أَمْوَالهمْ جَازَ لَهُ ذَلِكَ , لِأَنَّ عَهْد الَّذِي هَادَنَهُمْ لَمْ يَتَنَاوَل مَنْ لَمْ يُهَادِنهُمْ , وَلَا يَخْفَى أَنَّ مَحَلّ ذَلِكَ مَا إِذَا لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ قَرِينَة تَعْمِيم.
‏ ‏قَوْله : ( فَأَنْزَلَ اللَّه تَعَالَى : وَهُوَ الَّذِي كَفّ أَيْدِيهمْ عَنْكُمْ ) ‏ ‏كَذَا هُنَا , ظَاهِره أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي شَأْن أَبِي بَصِير , وَفِيهِ نَظَر , وَالْمَشْهُور فِي سَبَب نُزُولهَا مَا أَخْرَجَهُ مُسْلِم مِنْ حَدِيث سَلَمَة بْن الْأَكْوَع وَمِنْ حَدِيث أَنَس بْن مَالِك أَيْضًا , وَأَخْرَجَهُ أَحْمَد وَالنَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيث عَبْد اللَّه بْن مُغَفَّل بِإِسْنَادٍ صَحِيح أَنَّهَا نَزَلَتْ بِسَبَبِ الْقَوْم الَّذِينَ أَرَادُوا مِنْ قُرَيْش أَنْ يَأْخُذُوا مِنْ الْمُسْلِمِينَ غِرَّة فَظَفِرُوا بِهِمْ , فَعَفَا عَنْهُمْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , فَنَزَلَتْ الْآيَة.
وَقِيلَ فِي نُزُولهَا غَيْر ذَلِكَ.
‏ ‏قَوْله : ( مَعَرَّة الْعَرّ الْجَرَب ) ‏ ‏يَعْنِي أَنَّ الْمَعَرَّة مُشْتَقَّة مِنْ الْعَرّ بِفَتْحِ الْمُهْمَلَة وَتَشْدِيد الرَّاء.
‏ ‏قَوْله : ( تَزَيَّلُوا تَمَيَّزُوا , حَمَيْت الْقَوْم مَنَعْتهمْ حِمَايَة إِلَخْ ) ‏ ‏هَذَا الْقَدْر مِنْ تَفْسِير سُورَة الْفَتْح فِي الْمَجَاز لِأَبِي عُبَيْدَة وَهُوَ فِي رِوَايَة الْمُسْتَمْلِي وَحْده.
‏ ‏قَوْله : ( قَالَ عُقَيْل عَنْ الزُّهْرِيِّ ) ‏ ‏تَقَدَّمَ مَوْصُولًا بِتَمَامِهِ فِي أَوَّل الشُّرُوط , وَأَرَادَ الْمُصَنِّف بِإِيرَادِهِ بَيَان مَا وَقَعَ فِي رِوَايَة مَعْمَر مِنْ الْإِدْرَاج.
‏ ‏قَوْله : ( وَبَلَغَنَا ) ‏ ‏هُوَ مَقُول الزُّهْرِيِّ , وَصَلَهُ اِبْن مَرْدَوَيْهِ فِي تَفْسِيره مِنْ طَرِيق عُقَيْل.
‏ ‏وَقَوْله : ( وَبَلَغَنَا أَنَّ أَبَا بَصِير إِلَخْ ) ‏ ‏هُوَ مِنْ قَوْل الزُّهْرِيِّ أَيْضًا وَالْمُرَاد بِهِ أَنَّ قِصَّة أَبِي بَصِير فِي رِوَايَة عُقَيْل مِنْ مُرْسَل الزُّهْرِيِّ , وَفِي رِوَايَة مَعْمَر مَوْصُولَة إِلَى الْمِسْوَر , لَكِنْ قَدْ تَابَعَ مَعْمَرًا عَلَى وَصْلهَا اِبْن إِسْحَاق كَمَا تَقَدَّمَ , وَتَابَعَ عُقَيْلًا الْأَوْزَاعِيُّ عَلَى إِرْسَالهَا.
فَلَعَلَّ الزُّهْرِيَّ كَانَ يُرْسِلهَا تَارَة وَيُوصِلهَا أُخْرَى وَاَللَّه أَعْلَم.
وَوَقَعَ فِي هَذِهِ الرِّوَايَة الْأَخِيرَة مِنْ الزِّيَادَة " وَمَا نَعْلَم أَنَّ أَحَدًا مِنْ الْمُهَاجِرَات اِرْتَدَّتْ بَعْد إِيمَانهَا " وَفِيهَا قَوْله : " أَنَّ أَبَا بَصِير بْن أَسِيد بِفَتْحِ الْهَمْزَة قَدِمَ مُؤْمِنًا " كَذَا لِلْأَكْثَرِ , وَفِي رِوَايَة السَّرَخْسِيّ وَالْمُسْتَمْلِي " قَدِمَ مِنْ مِنًى " وَهُوَ تَصْحِيف.
‏ ‏قَوْله : ( أَنَّ عُمَر طَلَّقَ اِمْرَأَتَيْنِ قَرِيبَة ) ‏ ‏يَأْتِي ضَبْطهَا وَبَيَان الْحُكْم فِي ذَلِكَ فِي كِتَاب النِّكَاح فِي " بَاب نِكَاح مَنْ أَسْلَمَ مِنْ الْمُشْرِكَات ".
‏ ‏وَقَوْله : ( فَلَمَّا أَبَى الْكُفَّار أَنْ يُقِرُّوا بِأَدَاءِ مَا أَنْفَقَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَزْوَاجهمْ ) ‏ ‏يُشِير إِلَى قَوْله تَعَالَى : ( وَاسْأَلُوا مَا أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُوا مَا أَنْفَقُوا ) وَقَدْ بَيَّنَهُ عَبْد الرَّزَّاق فِي رِوَايَته عَنْ مَعْمَر عَنْ الزُّهْرِيِّ فَذَكَرَ الْقِصَّة وَفِيهَا " لَمَّا نَزَلَتْ حَكَمَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ بِمِثْلِ ذَلِكَ إِذَا جَاءَتْهُمْ اِمْرَأَة مِنْ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَرُدّ الصَّدَاق إِلَى زَوْجهَا , قَالَ اللَّه تَعَالَى : ( وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِر ) فَأَتَاهُ الْمُؤْمِنُونَ فَأَقَرُّوا بِحُكْمِ اللَّه , وَأَمَّا الْمُشْرِكُونَ فَأَبَوْا أَنْ يُقِرُّوا , فَأَنْزَلَ اللَّه : ( وَإِنْ فَاتَكُمْ شَيْء مِنْ أَزْوَاجكُمْ إِلَى الْكُفَّار فَعَاقَبْتُمْ ).
‏ ‏قَوْله : ( وَالْعَقِب إِلَخْ ) ‏ ‏بِفَتْحِ الْعَيْن الْمُهْمَلَة وَكَسْر الْقَاف.
‏ ‏قَوْله : ( وَمَا نَعْلَم أَحَدًا مِنْ الْمُهَاجِرَات اِرْتَدَّتْ بَعْد إِيمَانهَا ) ‏ ‏هُوَ كَلَام الزُّهْرِيِّ , وَأَرَادَ بِذَلِكَ الْإِشَارَة إِلَى أَنَّ الْعَاقِبَة الْمَذْكُورَة بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْجَانِبَيْنِ إِنَّمَا وَقَعَتْ فِي الْجَانِب الْوَاحِد , لِأَنَّهُ لَمْ يَعْرِف أَحَدًا مِنْ الْمُؤْمِنَات فَرَّتْ مِنْ الْمُسْلِمِينَ إِلَى الْمُشْرِكِينَ بِخِلَافِ عَكْسه , وَقَدْ ذَكَرَ اِبْن أَبِي حَاتِم مِنْ طَرِيق الْحَسَن أَنَّ أُمّ الْحَكَم بِنْت أَبِي سُفْيَان اِرْتَدَّتْ وَفَرَّتْ مِنْ زَوْجهَا عِيَاض بْن شَدَّاد فَتَزَوَّجَهَا رَجُل مِنْ ثَقِيف وَلَمْ يَرْتَدّ مِنْ قُرَيْش غَيْرهَا وَلَكِنَّهَا أَسْلَمَتْ بَعْد ذَلِكَ مَعَ ثَقِيف حِين أَسْلَمُوا , فَإِنْ ثَبَتَ ذَلِكَ فَيُجْمَع بَيْنه وَبَيْن قَوْل الزُّهْرِيِّ بِأَنَّهَا لَمْ تَكُنْ هَاجَرَتْ فِيمَا قَبْل ذَلِكَ.
وَفِي هَذَا الْحَدِيث مِنْ الْفَوَائِد غَيْر مَا تَقَدَّمَ أَشْيَاء تَتَعَلَّق بِالْمَنَاسِكِ : مِنْهَا أَنَّ ذَا الْحُلَيْفَة مِيقَات أَهْل الْمَدِينَة لِلْحَاجِّ وَالْمُعْتَمِر , وَأَنَّ تَقْلِيد الْهَدْي وَسَوْقه سُنَّة لِلْحَاجِّ وَالْمُعْتَمِر فَرْضًا كَانَ أَوْ سُنَّة , وَأَنَّ الْإِشْعَار سُنَّة لَا مُثْلَة , وَأَنَّ الْحَلْق أَفْضَل مِنْ التَّقْصِير , وَأَنَّهُ نُسُك فِي حَقّ الْمُعْتَمِر مَحْصُورًا كَانَ أَوْ غَيْر مَحْصُور , وَأَنَّ الْمُحْصَر يَنْحَر هَدْيه حَيْثُ أُحْصِرَ وَلَوْ لَمْ يَصِل إِلَى الْحَرَم , وَيُقَاتِل مَنْ صَدَّهُ عَنْ الْبَيْت , وَأَنَّ الْأَوْلَى فِي حَقّه تَرْك الْمُقَاتَلَة إِذَا وَجَدَ إِلَى الْمُسَالَمَة طَرِيقًا , وَغَيْر ذَلِكَ مِمَّا تَقَدَّمَ بَسْط أَكْثَره فِي كِتَاب الْحَجّ.
وَفِيهِ أَشْيَاء تَتَعَلَّق بِالْجِهَادِ : مِنْهَا جَوَاز سَبْي ذَرَارِيّ الْكُفَّار إِذَا اِنْفَرَدُوا عَنْ الْمُقَاتِلَة وَلَوْ كَانَ قَبْل الْقِتَال.
وَفِيهِ الِاسْتِتَار عَنْ طَلَائِع الْمُشْرِكِينَ , وَمُفَاجَأَتهمْ بِالْجَيْشِ لِطَلَبِ غِرَّتهمْ , وَجَوَاز التَّنَكُّب عَنْ الطَّرِيق السَّهْل إِلَى الطَّرِيق الْوَعْر لِدَفْعِ الْمَفْسَدَة وَتَحْصِيل الْمَصْلَحَة , وَاسْتِحْبَاب تَقْدِيم الطَّلَائِع وَالْعُيُون بَيْن يَدَيْ الْجَيْش , وَالْأَخْذ بِالْحَزْمِ فِي أَمْر الْعَدُوّ لِئَلَّا يَنَالُوا غِرَّة الْمُسْلِمِينَ , وَجَوَاز الْخِدَاع فِي الْحَرْب , وَالتَّعْرِيض بِذَلِكَ مِنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِنْ كَانَ مِنْ خَصَائِصه أَنَّهُ مَنْهِيّ عَنْ خَائِنَة الْأَعْيُن.
وَفِي الْحَدِيث أَيْضًا فَضْل الِاسْتِشَارَة لِاسْتِخْرَاجِ وَجْه الرَّأْي وَاسْتِطَابَة قُلُوب الْأَتْبَاع , وَجَوَاز بَعْض الْمُسَامَحَة فِي أَمْر الدِّين , وَاحْتِمَال الضَّيْم فِيهِ مَا لَمْ يَكُنْ قَادِحًا فِي أَصْله إِذَا تَعَيَّنَ ذَلِكَ طَرِيقًا لِلسَّلَامَةِ فِي الْحَال وَالصَّلَاح فِي الْمَآل سَوَاء كَانَ ذَلِكَ فِي حَال ضَعْف الْمُسْلِمِينَ أَوْ قُوَّتهمْ , وَأَنَّ التَّابِع لَا يَلِيق بِهِ الِاعْتِرَاض عَلَى الْمَتْبُوع بِمُجَرَّدِ مَا يَظْهَر فِي الْحَال بَلْ عَلَيْهِ التَّسْلِيم , لِأَنَّ الْمَتْبُوع أَعْرَف بِمَآلِ الْأُمُور غَالِبًا بِكَثْرَةِ التَّجْرِبَة وَلَا سِيَّمَا مَعَ مَنْ هُوَ مُؤَيَّد بِالْوَحْيِ.
وَفِيهِ جَوَاز الِاعْتِمَاد عَلَى خَبَر الْكَافِر إِذَا قَامَتْ الْقَرِينَة عَلَى صِدْقه , قَالَهُ الْخَطَّابِيُّ مُسْتَدِلًّا بِأَنَّ الْخُزَاعِيّ الَّذِي بَعَثَهُ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَيْنًا لَهُ لِيَأْتِيَهُ بِخَبَرِ قُرَيْش كَانَ حِينَئِذٍ كَافِرًا , وَإِنَّمَا اِخْتَارَهُ لِذَلِكَ مَعَ كُفْره لِيَكُونَ أَمْكَنَ لَهُ فِي الدُّخُول فِيهِمْ وَالِاخْتِلَاط بِهِمْ وَالِاطِّلَاع عَلَى أَسْرَارهمْ , قَالَ : وَيُسْتَفَاد مِنْ ذَلِكَ جَوَاز قَبُول قَوْل الطَّبِيب الْكَافِر.
قُلْت : وَيَحْتَمِل أَنْ يَكُون الْخُزَاعِيّ الْمَذْكُور كَانَ قَدْ أَسْلَمَ وَلَمْ يَشْتَهِر إِسْلَامه حِينَئِذٍ , فَلَيْسَ مَا قَالَهُ دَلِيلًا عَلَى مَا اِدَّعَاهُ , وَاَللَّه سُبْحَانه وَتَعَالَى أَعْلَم بِالصَّوَابِ.


حديث خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم زمن الحديبية حتى إذا كانوا ببعض الطريق قال

الحديث بالسند الكامل مع التشكيل

‏ ‏حَدَّثَنِي ‏ ‏عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ ‏ ‏حَدَّثَنَا ‏ ‏عَبْدُ الرَّزَّاقِ ‏ ‏أَخْبَرَنَا ‏ ‏مَعْمَرٌ ‏ ‏قَالَ أَخْبَرَنِي ‏ ‏الزُّهْرِيُّ ‏ ‏قَالَ أَخْبَرَنِي ‏ ‏عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ ‏ ‏عَنْ ‏ ‏الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ ‏ ‏وَمَرْوَانَ ‏ ‏يُصَدِّقُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حَدِيثَ صَاحِبِهِ ‏ ‏قَالَا ‏ ‏خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ ‏ ‏صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ‏ ‏زَمَنَ ‏ ‏الْحُدَيْبِيَةِ ‏ ‏حَتَّى إِذَا كَانُوا بِبَعْضِ الطَّرِيقِ قَالَ النَّبِيُّ ‏ ‏صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ‏ ‏إِنَّ ‏ ‏خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ ‏ ‏بِالْغَمِيمِ ‏ ‏فِي خَيْلٍ ‏ ‏لِقُرَيْشٍ ‏ ‏طَلِيعَةٌ فَخُذُوا ذَاتَ الْيَمِينِ فَوَاللَّهِ مَا شَعَرَ بِهِمْ ‏ ‏خَالِدٌ ‏ ‏حَتَّى إِذَا هُمْ ‏ ‏بِقَتَرَةِ ‏ ‏الْجَيْشِ فَانْطَلَقَ يَرْكُضُ نَذِيرًا ‏ ‏لِقُرَيْشٍ ‏ ‏وَسَارَ النَّبِيُّ ‏ ‏صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ‏ ‏حَتَّى إِذَا كَانَ ‏ ‏بِالثَّنِيَّةِ ‏ ‏الَّتِي يُهْبَطُ عَلَيْهِمْ مِنْهَا بَرَكَتْ بِهِ رَاحِلَتُهُ فَقَالَ النَّاسُ حَلْ حَلْ ‏ ‏فَأَلَحَّتْ ‏ ‏فَقَالُوا ‏ ‏خَلَأَتْ ‏ ‏الْقَصْوَاءُ ‏ ‏خَلَأَتْ ‏ ‏الْقَصْوَاءُ فَقَالَ النَّبِيُّ ‏ ‏صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ‏ ‏مَا ‏ ‏خَلَأَتْ ‏ ‏الْقَصْوَاءُ وَمَا ذَاكَ لَهَا بِخُلُقٍ وَلَكِنْ حَبَسَهَا حَابِسُ الْفِيلِ ثُمَّ قَالَ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا يَسْأَلُونِي خُطَّةً يُعَظِّمُونَ فِيهَا حُرُمَاتِ اللَّهِ إِلَّا أَعْطَيْتُهُمْ إِيَّاهَا ثُمَّ زَجَرَهَا فَوَثَبَتْ قَالَ فَعَدَلَ عَنْهُمْ حَتَّى نَزَلَ بِأَقْصَى ‏ ‏الْحُدَيْبِيَةِ ‏ ‏عَلَى ‏ ‏ثَمَدٍ ‏ ‏قَلِيلِ الْمَاءِ ‏ ‏يَتَبَرَّضُهُ ‏ ‏النَّاسُ ‏ ‏تَبَرُّضًا ‏ ‏فَلَمْ يُلَبِّثْهُ النَّاسُ حَتَّى نَزَحُوهُ وَشُكِيَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ‏ ‏صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ‏ ‏الْعَطَشُ فَانْتَزَعَ سَهْمًا مِنْ كِنَانَتِهِ ثُمَّ أَمَرَهُمْ أَنْ يَجْعَلُوهُ فِيهِ فَوَاللَّهِ مَا زَالَ يَجِيشُ لَهُمْ بِالرِّيِّ حَتَّى صَدَرُوا عَنْهُ فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ إِذْ جَاءَ ‏ ‏بُدَيْلُ بْنُ وَرْقَاءَ الْخُزَاعِيُّ ‏ ‏فِي نَفَرٍ مِنْ قَوْمِهِ مِنْ ‏ ‏خُزَاعَةَ ‏ ‏وَكَانُوا ‏ ‏عَيْبَةَ ‏ ‏نُصْحِ رَسُولِ اللَّهِ ‏ ‏صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ‏ ‏مِنْ أَهْلِ ‏ ‏تِهَامَةَ ‏ ‏فَقَالَ إِنِّي تَرَكْتُ ‏ ‏كَعْبَ بْنَ لُؤَيٍّ ‏ ‏وَعَامِرَ بْنَ لُؤَيٍّ ‏ ‏نَزَلُوا أَعْدَادَ مِيَاهِ ‏ ‏الْحُدَيْبِيَةِ ‏ ‏وَمَعَهُمْ ‏ ‏الْعُوذُ ‏ ‏الْمَطَافِيلُ ‏ ‏وَهُمْ مُقَاتِلُوكَ وَصَادُّوكَ عَنْ ‏ ‏الْبَيْتِ ‏ ‏فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ‏ ‏صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ‏ ‏إِنَّا لَمْ نَجِئْ لِقِتَالِ أَحَدٍ وَلَكِنَّا جِئْنَا مُعْتَمِرِينَ وَإِنَّ ‏ ‏قُرَيْشًا ‏ ‏قَدْ نَهِكَتْهُمْ الْحَرْبُ وَأَضَرَّتْ بِهِمْ فَإِنْ شَاءُوا مَادَدْتُهُمْ مُدَّةً وَيُخَلُّوا بَيْنِي وَبَيْنَ النَّاسِ فَإِنْ أَظْهَرْ فَإِنْ شَاءُوا أَنْ يَدْخُلُوا فِيمَا دَخَلَ فِيهِ النَّاسُ فَعَلُوا وَإِلَّا فَقَدْ ‏ ‏جَمُّوا ‏ ‏وَإِنْ هُمْ أَبَوْا فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَأُقَاتِلَنَّهُمْ عَلَى أَمْرِي هَذَا حَتَّى تَنْفَرِدَ ‏ ‏سَالِفَتِي ‏ ‏وَلَيُنْفِذَنَّ اللَّهُ أَمْرَهُ فَقَالَ ‏ ‏بُدَيْلٌ ‏ ‏سَأُبَلِّغُهُمْ مَا تَقُولُ قَالَ فَانْطَلَقَ حَتَّى أَتَى ‏ ‏قُرَيْشًا ‏ ‏قَالَ إِنَّا قَدْ جِئْنَاكُمْ مِنْ هَذَا الرَّجُلِ وَسَمِعْنَاهُ يَقُولُ قَوْلًا فَإِنْ شِئْتُمْ أَنْ نَعْرِضَهُ عَلَيْكُمْ فَعَلْنَا فَقَالَ سُفَهَاؤُهُمْ لَا حَاجَةَ لَنَا أَنْ تُخْبِرَنَا عَنْهُ بِشَيْءٍ وَقَالَ ذَوُو الرَّأْيِ مِنْهُمْ هَاتِ مَا سَمِعْتَهُ يَقُولُ قَالَ سَمِعْتُهُ يَقُولُ كَذَا وَكَذَا فَحَدَّثَهُمْ بِمَا قَالَ النَّبِيُّ ‏ ‏صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ‏ ‏فَقَامَ ‏ ‏عُرْوَةُ بْنُ مَسْعُودٍ ‏ ‏فَقَالَ أَيْ قَوْمِ أَلَسْتُمْ بِالْوَالِدِ قَالُوا بَلَى قَالَ أَوَلَسْتُ بِالْوَلَدِ قَالُوا بَلَى قَالَ فَهَلْ تَتَّهِمُونِي قَالُوا لَا قَالَ أَلَسْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنِّي اسْتَنْفَرْتُ أَهْلَ ‏ ‏عُكَاظَ ‏ ‏فَلَمَّا ‏ ‏بَلَّحُوا ‏ ‏عَلَيَّ جِئْتُكُمْ بِأَهْلِي وَوَلَدِي وَمَنْ أَطَاعَنِي قَالُوا بَلَى قَالَ فَإِنَّ هَذَا قَدْ عَرَضَ لَكُمْ خُطَّةَ رُشْدٍ اقْبَلُوهَا وَدَعُونِي آتِيهِ قَالُوا ائْتِهِ فَأَتَاهُ فَجَعَلَ يُكَلِّمُ النَّبِيَّ ‏ ‏صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ‏ ‏فَقَالَ النَّبِيُّ ‏ ‏صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ‏ ‏نَحْوًا مِنْ قَوْلِهِ ‏ ‏لِبُدَيْلٍ ‏ ‏فَقَالَ ‏ ‏عُرْوَةُ ‏ ‏عِنْدَ ذَلِكَ أَيْ ‏ ‏مُحَمَّدُ ‏ ‏أَرَأَيْتَ إِنْ اسْتَأْصَلْتَ أَمْرَ قَوْمِكَ هَلْ سَمِعْتَ بِأَحَدٍ مِنْ ‏ ‏الْعَرَبِ ‏ ‏اجْتَاحَ أَهْلَهُ قَبْلَكَ وَإِنْ تَكُنِ الْأُخْرَى فَإِنِّي وَاللَّهِ لَأَرَى وُجُوهًا وَإِنِّي لَأَرَى ‏ ‏أَوْشَابًا ‏ ‏مِنْ النَّاسِ خَلِيقًا أَنْ يَفِرُّوا وَيَدَعُوكَ فَقَالَ لَهُ ‏ ‏أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ ‏ ‏امْصُصْ ‏ ‏بِبَظْرِ اللَّاتِ أَنَحْنُ نَفِرُّ عَنْهُ وَنَدَعُهُ فَقَالَ مَنْ ذَا قَالُوا ‏ ‏أَبُو بَكْرٍ ‏ ‏قَالَ أَمَا وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْلَا يَدٌ كَانَتْ لَكَ عِنْدِي لَمْ ‏ ‏أَجْزِكَ ‏ ‏بِهَا لَأَجَبْتُكَ قَالَ وَجَعَلَ يُكَلِّمُ النَّبِيَّ ‏ ‏صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ‏ ‏فَكُلَّمَا تَكَلَّمَ أَخَذَ بِلِحْيَتِهِ ‏ ‏وَالْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ ‏ ‏قَائِمٌ عَلَى رَأْسِ النَّبِيِّ ‏ ‏صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ‏ ‏وَمَعَهُ السَّيْفُ وَعَلَيْهِ الْمِغْفَرُ فَكُلَّمَا أَهْوَى ‏ ‏عُرْوَةُ ‏ ‏بِيَدِهِ إِلَى لِحْيَةِ النَّبِيِّ ‏ ‏صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ‏ ‏ضَرَبَ يَدَهُ بِنَعْلِ السَّيْفِ وَقَالَ لَهُ أَخِّرْ يَدَكَ عَنْ لِحْيَةِ رَسُولِ اللَّهِ ‏ ‏صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ‏ ‏فَرَفَعَ ‏ ‏عُرْوَةُ ‏ ‏رَأْسَهُ فَقَالَ مَنْ هَذَا قَالُوا ‏ ‏الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ ‏ ‏فَقَالَ أَيْ ‏ ‏غُدَرُ أَلَسْتُ أَسْعَى فِي غَدْرَتِكَ وَكَانَ ‏ ‏الْمُغِيرَةُ ‏ ‏صَحِبَ قَوْمًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَقَتَلَهُمْ وَأَخَذَ أَمْوَالَهُمْ ثُمَّ جَاءَ فَأَسْلَمَ فَقَالَ النَّبِيُّ ‏ ‏صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ‏ ‏أَمَّا الْإِسْلَامَ فَأَقْبَلُ وَأَمَّا الْمَالَ فَلَسْتُ مِنْهُ فِي شَيْءٍ ثُمَّ إِنَّ ‏ ‏عُرْوَةَ ‏ ‏جَعَلَ يَرْمُقُ ‏ ‏أَصْحَابَ النَّبِيِّ ‏ ‏صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ‏ ‏بِعَيْنَيْهِ قَالَ فَوَاللَّهِ مَا تَنَخَّمَ رَسُولُ اللَّهِ ‏ ‏صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ‏ ‏نُخَامَةً إِلَّا وَقَعَتْ فِي كَفِّ رَجُلٍ مِنْهُمْ فَدَلَكَ بِهَا وَجْهَهُ وَجِلْدَهُ وَإِذَا أَمَرَهُمْ ابْتَدَرُوا أَمْرَهُ وَإِذَا تَوَضَّأَ كَادُوا يَقْتَتِلُونَ عَلَى وَضُوئِهِ وَإِذَا تَكَلَّمَ خَفَضُوا أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَهُ وَمَا يُحِدُّونَ إِلَيْهِ النَّظَرَ تَعْظِيمًا لَهُ فَرَجَعَ ‏ ‏عُرْوَةُ ‏ ‏إِلَى أَصْحَابِهِ فَقَالَ أَيْ قَوْمِ وَاللَّهِ لَقَدْ وَفَدْتُ عَلَى الْمُلُوكِ وَوَفَدْتُ عَلَى ‏ ‏قَيْصَرَ ‏ ‏وَكِسْرَى ‏ ‏وَالنَّجَاشِيِّ ‏ ‏وَاللَّهِ إِنْ رَأَيْتُ مَلِكًا قَطُّ يُعَظِّمُهُ أَصْحَابُهُ مَا يُعَظِّمُ ‏ ‏أَصْحَابُ ‏ ‏مُحَمَّدٍ ‏ ‏صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ‏ ‏مُحَمَّدًا ‏ ‏وَاللَّهِ إِنْ تَنَخَّمَ نُخَامَةً إِلَّا وَقَعَتْ فِي كَفِّ رَجُلٍ مِنْهُمْ فَدَلَكَ بِهَا وَجْهَهُ وَجِلْدَهُ وَإِذَا أَمَرَهُمْ ابْتَدَرُوا أَمْرَهُ وَإِذَا تَوَضَّأَ كَادُوا يَقْتَتِلُونَ عَلَى وَضُوئِهِ وَإِذَا تَكَلَّمَ خَفَضُوا أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَهُ وَمَا يُحِدُّونَ إِلَيْهِ النَّظَرَ تَعْظِيمًا لَهُ وَإِنَّهُ قَدْ عَرَضَ عَلَيْكُمْ خُطَّةَ رُشْدٍ فَاقْبَلُوهَا فَقَالَ ‏ ‏رَجُلٌ ‏ ‏مِنْ ‏ ‏بَنِي كِنَانَةَ ‏ ‏دَعُونِي آتِيهِ فَقَالُوا ائْتِهِ فَلَمَّا أَشْرَفَ عَلَى النَّبِيِّ ‏ ‏صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ‏ ‏وَأَصْحَابِهِ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ‏ ‏صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ‏ ‏هَذَا فُلَانٌ وَهُوَ مِنْ قَوْمٍ يُعَظِّمُونَ الْبُدْنَ فَابْعَثُوهَا لَهُ فَبُعِثَتْ لَهُ وَاسْتَقْبَلَهُ النَّاسُ يُلَبُّونَ فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ قَالَ سُبْحَانَ اللَّهِ مَا يَنْبَغِي لِهَؤُلَاءِ أَنْ يُصَدُّوا عَنْ ‏ ‏الْبَيْتِ ‏ ‏فَلَمَّا رَجَعَ إِلَى أَصْحَابِهِ قَالَ رَأَيْتُ الْبُدْنَ قَدْ قُلِّدَتْ وَأُشْعِرَتْ فَمَا أَرَى أَنْ يُصَدُّوا عَنْ ‏ ‏الْبَيْتِ ‏ ‏فَقَامَ رَجُلٌ مِنْهُمْ يُقَالُ لَهُ ‏ ‏مِكْرَزُ بْنُ حَفْصٍ ‏ ‏فَقَالَ دَعُونِي آتِيهِ فَقَالُوا ائْتِهِ فَلَمَّا أَشْرَفَ عَلَيْهِمْ قَالَ النَّبِيُّ ‏ ‏صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ‏ ‏هَذَا ‏ ‏مِكْرَزٌ ‏ ‏وَهُوَ رَجُلٌ فَاجِرٌ فَجَعَلَ يُكَلِّمُ النَّبِيَّ ‏ ‏صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ‏ ‏فَبَيْنَمَا هُوَ يُكَلِّمُهُ إِذْ جَاءَ ‏ ‏سُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو ‏ ‏قَالَ ‏ ‏مَعْمَرٌ ‏ ‏فَأَخْبَرَنِي ‏ ‏أَيُّوبُ ‏ ‏عَنْ ‏ ‏عِكْرِمَةَ ‏ ‏أَنَّهُ لَمَّا جَاءَ ‏ ‏سُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو ‏ ‏قَالَ النَّبِيُّ ‏ ‏صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ‏ ‏لَقَدْ سَهُلَ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ ‏ ‏قَالَ ‏ ‏مَعْمَرٌ ‏ ‏قَالَ ‏ ‏الزُّهْرِيُّ ‏ ‏فِي حَدِيثِهِ فَجَاءَ ‏ ‏سُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو ‏ ‏فَقَالَ هَاتِ اكْتُبْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ كِتَابًا فَدَعَا النَّبِيُّ ‏ ‏صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ‏ ‏الْكَاتِبَ فَقَالَ النَّبِيُّ ‏ ‏صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ‏ ‏بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ‏ ‏قَالَ ‏ ‏سُهَيْلٌ ‏ ‏أَمَّا الرَّحْمَنُ فَوَاللَّهِ مَا أَدْرِي مَا هُوَ وَلَكِنْ اكْتُبْ بِاسْمِكَ اللَّهُمَّ كَمَا كُنْتَ تَكْتُبُ فَقَالَ الْمُسْلِمُونَ وَاللَّهِ لَا نَكْتُبُهَا إِلَّا ‏ ‏بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ‏ ‏فَقَالَ النَّبِيُّ ‏ ‏صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ‏ ‏اكْتُبْ بِاسْمِكَ اللَّهُمَّ ثُمَّ قَالَ هَذَا مَا قَاضَى عَلَيْهِ ‏ ‏مُحَمَّدٌ ‏ ‏رَسُولُ اللَّهِ فَقَالَ ‏ ‏سُهَيْلٌ ‏ ‏وَاللَّهِ لَوْ كُنَّا نَعْلَمُ أَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ مَا صَدَدْنَاكَ عَنْ ‏ ‏الْبَيْتِ ‏ ‏وَلَا قَاتَلْنَاكَ وَلَكِنْ اكْتُبْ ‏ ‏مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ ‏ ‏فَقَالَ النَّبِيُّ ‏ ‏صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ‏ ‏وَاللَّهِ إِنِّي لَرَسُولُ اللَّهِ وَإِنْ كَذَّبْتُمُونِي اكْتُبْ ‏ ‏مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ ‏ ‏قَالَ ‏ ‏الزُّهْرِيُّ ‏ ‏وَذَلِكَ لِقَوْلِهِ لَا يَسْأَلُونِي خُطَّةً يُعَظِّمُونَ فِيهَا حُرُمَاتِ اللَّهِ إِلَّا أَعْطَيْتُهُمْ إِيَّاهَا فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ ‏ ‏صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ‏ ‏عَلَى أَنْ تُخَلُّوا بَيْنَنَا وَبَيْنَ ‏ ‏الْبَيْتِ ‏ ‏فَنَطُوفَ بِهِ فَقَالَ ‏ ‏سُهَيْلٌ ‏ ‏وَاللَّهِ لَا تَتَحَدَّثُ ‏ ‏الْعَرَبُ ‏ ‏أَنَّا أُخِذْنَا ضُغْطَةً وَلَكِنْ ذَلِكَ مِنْ الْعَامِ الْمُقْبِلِ فَكَتَبَ فَقَالَ ‏ ‏سُهَيْلٌ ‏ ‏وَعَلَى أَنَّهُ لَا يَأْتِيكَ مِنَّا رَجُلٌ وَإِنْ كَانَ عَلَى دِينِكَ إِلَّا رَدَدْتَهُ إِلَيْنَا قَالَ الْمُسْلِمُونَ سُبْحَانَ اللَّهِ كَيْفَ يُرَدُّ إِلَى الْمُشْرِكِينَ وَقَدْ جَاءَ مُسْلِمًا فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ إِذْ دَخَلَ ‏ ‏أَبُو جَنْدَلِ بْنُ سُهَيْلِ بْنِ عَمْرٍو ‏ ‏يَرْسُفُ فِي قُيُودِهِ وَقَدْ خَرَجَ مِنْ أَسْفَلِ ‏ ‏مَكَّةَ ‏ ‏حَتَّى رَمَى بِنَفْسِهِ بَيْنَ أَظْهُرِ الْمُسْلِمِينَ فَقَالَ ‏ ‏سُهَيْلٌ ‏ ‏هَذَا يَا ‏ ‏مُحَمَّدُ ‏ ‏أَوَّلُ مَا أُقَاضِيكَ عَلَيْهِ أَنْ تَرُدَّهُ إِلَيَّ فَقَالَ النَّبِيُّ ‏ ‏صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ‏ ‏إِنَّا لَمْ نَقْضِ الْكِتَابَ بَعْدُ قَالَ فَوَاللَّهِ إِذًا لَمْ أُصَالِحْكَ عَلَى شَيْءٍ أَبَدًا قَالَ النَّبِيُّ ‏ ‏صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ‏ ‏فَأَجِزْهُ لِي قَالَ مَا أَنَا بِمُجِيزِهِ لَكَ قَالَ بَلَى فَافْعَلْ قَالَ مَا أَنَا بِفَاعِلٍ قَالَ ‏ ‏مِكْرَزٌ ‏ ‏بَلْ قَدْ أَجَزْنَاهُ لَكَ قَالَ ‏ ‏أَبُو جَنْدَلٍ ‏ ‏أَيْ مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ أُرَدُّ إِلَى الْمُشْرِكِينَ وَقَدْ جِئْتُ مُسْلِمًا أَلَا تَرَوْنَ مَا قَدْ لَقِيتُ وَكَانَ قَدْ عُذِّبَ عَذَابًا شَدِيدًا فِي اللَّهِ قَالَ فَقَالَ ‏ ‏عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ ‏ ‏فَأَتَيْتُ نَبِيَّ اللَّهِ ‏ ‏صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ‏ ‏فَقُلْتُ أَلَسْتَ نَبِيَّ اللَّهِ حَقًّا قَالَ بَلَى قُلْتُ أَلَسْنَا عَلَى الْحَقِّ وَعَدُوُّنَا عَلَى الْبَاطِلِ قَالَ بَلَى قُلْتُ فَلِمَ نُعْطِي الدَّنِيَّةَ فِي دِينِنَا إِذًا قَالَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ وَلَسْتُ أَعْصِيهِ وَهُوَ نَاصِرِي قُلْتُ أَوَلَيْسَ كُنْتَ تُحَدِّثُنَا أَنَّا سَنَأْتِي ‏ ‏الْبَيْتَ ‏ ‏فَنَطُوفُ بِهِ قَالَ بَلَى فَأَخْبَرْتُكَ أَنَّا نَأْتِيهِ الْعَامَ قَالَ قُلْتُ لَا قَالَ فَإِنَّكَ آتِيهِ وَمُطَّوِّفٌ بِهِ قَالَ فَأَتَيْتُ ‏ ‏أَبَا بَكْرٍ ‏ ‏فَقُلْتُ يَا ‏ ‏أَبَا بَكْرٍ ‏ ‏أَلَيْسَ هَذَا نَبِيَّ اللَّهِ حَقًّا قَالَ بَلَى قُلْتُ أَلَسْنَا عَلَى الْحَقِّ وَعَدُوُّنَا عَلَى الْبَاطِلِ قَالَ بَلَى قُلْتُ فَلِمَ نُعْطِي الدَّنِيَّةَ فِي دِينِنَا إِذًا قَالَ أَيُّهَا الرَّجُلُ إِنَّهُ لَرَسُولُ اللَّهِ ‏ ‏صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ‏ ‏وَلَيْسَ يَعْصِي رَبَّهُ وَهُوَ نَاصِرُهُ فَاسْتَمْسِكْ بِغَرْزِهِ فَوَاللَّهِ إِنَّهُ عَلَى الْحَقِّ قُلْتُ أَلَيْسَ كَانَ يُحَدِّثُنَا أَنَّا سَنَأْتِي ‏ ‏الْبَيْتَ ‏ ‏وَنَطُوفُ بِهِ قَالَ بَلَى أَفَأَخْبَرَكَ أَنَّكَ تَأْتِيهِ الْعَامَ قُلْتُ لَا قَالَ فَإِنَّكَ آتِيهِ وَمُطَّوِّفٌ بِهِ ‏ ‏قَالَ ‏ ‏الزُّهْرِيُّ ‏ ‏قَالَ ‏ ‏عُمَرُ ‏ ‏فَعَمِلْتُ لِذَلِكَ أَعْمَالًا ‏ ‏قَالَ فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ قَضِيَّةِ الْكِتَابِ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ‏ ‏صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ‏ ‏لِأَصْحَابِهِ قُومُوا فَانْحَرُوا ثُمَّ احْلِقُوا قَالَ فَوَاللَّهِ مَا قَامَ مِنْهُمْ رَجُلٌ حَتَّى قَالَ ذَلِكَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ فَلَمَّا لَمْ يَقُمْ مِنْهُمْ أَحَدٌ دَخَلَ عَلَى ‏ ‏أُمِّ سَلَمَةَ ‏ ‏فَذَكَرَ لَهَا مَا لَقِيَ مِنْ النَّاسِ فَقَالَتْ ‏ ‏أُمُّ سَلَمَةَ ‏ ‏يَا نَبِيَّ اللَّهِ أَتُحِبُّ ذَلِكَ اخْرُجْ ثُمَّ لَا تُكَلِّمْ أَحَدًا مِنْهُمْ كَلِمَةً حَتَّى تَنْحَرَ بُدْنَكَ وَتَدْعُوَ حَالِقَكَ فَيَحْلِقَكَ فَخَرَجَ فَلَمْ يُكَلِّمْ أَحَدًا مِنْهُمْ حَتَّى فَعَلَ ذَلِكَ نَحَرَ بُدْنَهُ وَدَعَا ‏ ‏حَالِقَهُ ‏ ‏فَحَلَقَهُ فَلَمَّا رَأَوْا ذَلِكَ قَامُوا فَنَحَرُوا وَجَعَلَ بَعْضُهُمْ يَحْلِقُ بَعْضًا حَتَّى كَادَ بَعْضُهُمْ يَقْتُلُ بَعْضًا غَمًّا ثُمَّ جَاءَهُ نِسْوَةٌ مُؤْمِنَاتٌ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى ‏ { ‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمْ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ ‏ ‏حَتَّى بَلَغَ ‏ ‏بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ ‏} ‏فَطَلَّقَ ‏ ‏عُمَرُ ‏ ‏يَوْمَئِذٍ ‏ ‏امْرَأَتَيْنِ ‏ ‏كَانَتَا لَهُ فِي الشِّرْكِ فَتَزَوَّجَ إِحْدَاهُمَا ‏ ‏مُعَاوِيَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ ‏ ‏وَالْأُخْرَى ‏ ‏صَفْوَانُ بْنُ أُمَيَّةَ ‏ ‏ثُمَّ رَجَعَ النَّبِيُّ ‏ ‏صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ‏ ‏إِلَى ‏ ‏الْمَدِينَةِ ‏ ‏فَجَاءَهُ ‏ ‏أَبُو بَصِيرٍ ‏ ‏رَجُلٌ مِنْ ‏ ‏قُرَيْشٍ ‏ ‏وَهُوَ مُسْلِمٌ ‏ ‏فَأَرْسَلُوا ‏ ‏فِي طَلَبِهِ ‏ ‏رَجُلَيْنِ ‏ ‏فَقَالُوا الْعَهْدَ الَّذِي جَعَلْتَ لَنَا فَدَفَعَهُ إِلَى الرَّجُلَيْنِ فَخَرَجَا بِهِ حَتَّى بَلَغَا ‏ ‏ذَا الْحُلَيْفَةِ ‏ ‏فَنَزَلُوا يَأْكُلُونَ مِنْ تَمْرٍ لَهُمْ فَقَالَ ‏ ‏أَبُو بَصِيرٍ ‏ ‏لِأَحَدِ الرَّجُلَيْنِ وَاللَّهِ إِنِّي لَأَرَى سَيْفَكَ هَذَا يَا فُلَانُ جَيِّدًا فَاسْتَلَّهُ الْآخَرُ فَقَالَ أَجَلْ وَاللَّهِ إِنَّهُ لَجَيِّدٌ لَقَدْ جَرَّبْتُ بِهِ ثُمَّ جَرَّبْتُ فَقَالَ ‏ ‏أَبُو بَصِيرٍ ‏ ‏أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْهِ فَأَمْكَنَهُ مِنْهُ فَضَرَبَهُ حَتَّى بَرَدَ وَفَرَّ الْآخَرُ حَتَّى أَتَى ‏ ‏الْمَدِينَةَ ‏ ‏فَدَخَلَ الْمَسْجِدَ يَعْدُو فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ‏ ‏صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ‏ ‏حِينَ رَآهُ لَقَدْ رَأَى هَذَا ذُعْرًا فَلَمَّا انْتَهَى إِلَى النَّبِيِّ ‏ ‏صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ‏ ‏قَالَ ‏ ‏قُتِلَ ‏ ‏وَاللَّهِ صَاحِبِي وَإِنِّي لَمَقْتُولٌ فَجَاءَ ‏ ‏أَبُو بَصِيرٍ ‏ ‏فَقَالَ يَا نَبِيَّ اللَّهِ قَدْ وَاللَّهِ أَوْفَى اللَّهُ ذِمَّتَكَ قَدْ رَدَدْتَنِي إِلَيْهِمْ ثُمَّ أَنْجَانِي اللَّهُ مِنْهُمْ قَالَ النَّبِيُّ ‏ ‏صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ‏ ‏وَيْلُ أُمِّهِ ‏ ‏مِسْعَرَ ‏ ‏حَرْبٍ لَوْ كَانَ لَهُ أَحَدٌ فَلَمَّا سَمِعَ ذَلِكَ عَرَفَ أَنَّهُ سَيَرُدُّهُ إِلَيْهِمْ فَخَرَجَ حَتَّى أَتَى سِيفَ الْبَحْرِ قَالَ وَيَنْفَلِتُ مِنْهُمْ ‏ ‏أَبُو جَنْدَلِ بْنُ سُهَيْلٍ ‏ ‏فَلَحِقَ ‏ ‏بِأَبِي بَصِيرٍ ‏ ‏فَجَعَلَ لَا يَخْرُجُ مِنْ ‏ ‏قُرَيْشٍ ‏ ‏رَجُلٌ قَدْ أَسْلَمَ إِلَّا لَحِقَ ‏ ‏بِأَبِي بَصِيرٍ ‏ ‏حَتَّى اجْتَمَعَتْ مِنْهُمْ عِصَابَةٌ فَوَاللَّهِ مَا يَسْمَعُونَ بِعِيرٍ خَرَجَتْ ‏ ‏لِقُرَيْشٍ ‏ ‏إِلَى ‏ ‏الشَّأْمِ ‏ ‏إِلَّا اعْتَرَضُوا لَهَا فَقَتَلُوهُمْ وَأَخَذُوا أَمْوَالَهُمْ فَأَرْسَلَتْ ‏ ‏قُرَيْشٌ ‏ ‏إِلَى النَّبِيِّ ‏ ‏صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ‏ ‏تُنَاشِدُهُ بِاللَّهِ وَالرَّحِمِ لَمَّا أَرْسَلَ فَمَنْ أَتَاهُ فَهُوَ آمِنٌ فَأَرْسَلَ النَّبِيُّ ‏ ‏صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ‏ ‏إِلَيْهِمْ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى ‏ { ‏وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ ‏ ‏مَكَّةَ ‏ ‏مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ ‏ ‏حَتَّى بَلَغَ ‏ ‏الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ ‏} ‏وَكَانَتْ حَمِيَّتُهُمْ أَنَّهُمْ لَمْ يُقِرُّوا أَنَّهُ نَبِيُّ اللَّهِ وَلَمْ يُقِرُّوا بِ ‏ ‏بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ‏ ‏وَحَالُوا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ ‏ ‏الْبَيْتِ ‏ ‏قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ ‏ { ‏مَعَرَّةٌ ‏} ‏الْعُرُّ الْجَرَبُ ‏ { ‏تَزَيَّلُوا ‏} ‏تَمَيَّزُوا وَحَمَيْتُ الْقَوْمَ مَنَعْتُهُمْ حِمَايَةً وَأَحْمَيْتُ الْحِمَى جَعَلْتُهُ حِمًى لَا يُدْخَلُ وَأَحْمَيْتُ الْحَدِيدَ وَأَحْمَيْتُ الرَّجُلَ إِذَا أَغْضَبْتَهُ إِحْمَاءً ‏ ‏وَقَالَ ‏ ‏عُقَيْلٌ ‏ ‏عَنْ ‏ ‏الزُّهْرِيِّ ‏ ‏قَالَ ‏ ‏عُرْوَةُ ‏ ‏فَأَخْبَرَتْنِي ‏ ‏عَائِشَةُ ‏ ‏أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ‏ ‏صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ‏ ‏كَانَ ‏ ‏يَمْتَحِنُهُنَّ ‏ ‏وَبَلَغْنَا أَنَّهُ ‏ ‏لَمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى أَنْ يَرُدُّوا إِلَى الْمُشْرِكِينَ مَا أَنْفَقُوا عَلَى مَنْ هَاجَرَ مِنْ أَزْوَاجِهِمْ وَحَكَمَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ أَنْ لَا يُمَسِّكُوا ‏ ‏بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ ‏ ‏أَنَّ ‏ ‏عُمَرَ ‏ ‏طَلَّقَ امْرَأَتَيْنِ ‏ ‏قَرِيبَةَ بِنْتَ أَبِي أُمَيَّةَ ‏ ‏وَابْنَةَ جَرْوَلٍ الْخُزَاعِيِّ ‏ ‏فَتَزَوَّجَ ‏ ‏قَرِيبَةَ ‏ ‏مُعَاوِيَةُ ‏ ‏وَتَزَوَّجَ الْأُخْرَى ‏ ‏أَبُو جَهْمٍ ‏ ‏فَلَمَّا أَبَى الْكُفَّارُ أَنْ يُقِرُّوا بِأَدَاءِ مَا أَنْفَقَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى ‏ { ‏وَإِنْ فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعَاقَبْتُمْ ‏} ‏وَالْعَقْبُ مَا يُؤَدِّي الْمُسْلِمُونَ إِلَى مَنْ هَاجَرَتْ امْرَأَتُهُ مِنْ الْكُفَّارِ فَأَمَرَ أَنْ يُعْطَى مَنْ ذَهَبَ لَهُ زَوْجٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ مَا أَنْفَقَ مِنْ صَدَاقِ نِسَاءِ الْكُفَّارِ اللَّائِي هَاجَرْنَ وَمَا نَعْلَمُ أَنَّ أَحَدًا مِنْ الْمُهَاجِرَاتِ ارْتَدَّتْ بَعْدَ إِيمَانِهَا وَبَلَغَنَا أَنَّ ‏ ‏أَبَا بَصِيرِ بْنَ أَسِيدٍ الثَّقَفِيَّ ‏ ‏قَدِمَ عَلَى النَّبِيِّ ‏ ‏صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ‏ ‏مُؤْمِنًا مُهَاجِرًا فِي الْمُدَّةِ فَكَتَبَ ‏ ‏الْأَخْنَسُ بْنُ شَرِيقٍ ‏ ‏إِلَى النَّبِيِّ ‏ ‏صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ‏ ‏يَسْأَلُهُ ‏ ‏أَبَا بَصِيرٍ ‏ ‏فَذَكَرَ الْحَدِيثَ ‏

كتب الحديث النبوي الشريف

المزيد من أحاديث صحيح البخاري

ابتاعيها فأعتقيها فإنما الولاء لمن أعتق

عن عائشة رضي الله عنها قالت: أتتها بريرة تسألها في كتابتها فقالت: إن شئت أعطيت أهلك ويكون الولاء لي، فلما جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكرته ذلك،...

لله تسعة وتسعين اسما مائة إلا واحدا

عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن لله تسعة وتسعين اسما مائة إلا واحدا، من أحصاها دخل الجنة»

عمر بن الخطاب أصاب أرضا بخيبر فأتى النبي ﷺ يستأمره...

عن ابن عمر رضي الله عنهما: أن عمر بن الخطاب أصاب أرضا بخيبر، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم يستأمره فيها، فقال: يا رسول الله، إني أصبت أرضا بخيبر لم أص...

ما حق امرئ مسلم له شيء يوصي فيه يبيت ليلتين إلا و...

عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ما حق امرئ مسلم له شيء يوصي فيه، يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عنده» تابعه مح...

ما ترك رسول الله ﷺ عند موته درهما ولا دينارا ولا ع...

عن عمرو بن الحارث ختن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخي جويرية بنت الحارث، قال: «ما ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم عند موته درهما ولا دينارا ولا عبدا...

هل كان النبي ﷺ أوصى فقال لا

عن طلحة بن مصرف، قال: سألت عبد الله بن أبي أوفى رضي الله عنهما هل كان النبي صلى الله عليه وسلم أوصى؟ فقال: «لا»، فقلت: كيف كتب على الناس الوصية أو أمر...

متى أوصى إليه وقد كنت مسندته إلى صدري

عن الأسود، قال: ذكروا عند عائشة أن عليا رضي الله عنهما كان وصيا، فقالت: " متى أوصى إليه، وقد كنت مسندته إلى صدري؟ - أو قالت: حجري - فدعا بالطست، فلقد...

فالثلث والثلث كثير إنك أن تدع ورثتك أغنياء خير من...

عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، قال: جاء النبي صلى الله عليه وسلم يعودني وأنا بمكة، وهو يكره أن يموت بالأرض التي هاجر منها، قال: «يرحم الله ابن عفرا...

رسول الله ﷺ قال الثلث والثلث كثير أو كبير

عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: لو غض الناس إلى الربع، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «الثلث والثلث كثير أو كبير»