حديث الرسول ﷺ English الإجازة تواصل معنا
الحديث النبوي

إن الله كتب الحسنات والسيئات ثم بين ذلك - صحيح البخاري

صحيح البخاري | كتاب الرقاق باب من هم بحسنة أو بسيئة (حديث رقم: 6491 )


6491- عن ‌ابن عباس رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يروي عن ربه عز وجل قال: قال: «إن الله كتب الحسنات والسيئات، ثم بين ذلك، فمن هم بحسنة فلم يعملها كتبها الله له عنده حسنة كاملة، فإن هو هم بها فعملها كتبها الله له عنده عشر حسنات إلى سبعمائة ضعف، إلى أضعاف كثيرة، ومن هم بسيئة فلم يعملها كتبها الله له عنده حسنة كاملة، فإن هو هم بها فعملها كتبها الله له سيئة واحدة.»

أخرجه البخاري


أخرجه مسلم في الإيمان باب إذا هم العبد بحسنة كتبت.
.
رقم 131 (كتب) قدر.
(بين ذلك) وضحها وكشف اللبس عنها وفصل حكمها.
(هم) قصد وحدث نفسه.
(فلم يعملها) أي الحسنة لعائق حال بينه وبين فعلها أو السيئة خوفا من الله عز وجل.
(ضعف) مثل.
(كاملة) أي لم تنقص بسبب الهم والقصد إلى فعلها

شرح حديث ( إن الله كتب الحسنات والسيئات ثم بين ذلك)

فتح الباري شرح صحيح البخاري: ابن حجر العسقلاني - أحمد بن علي بن حجر العسقلاني

‏ ‏قَوْله ( حَدَّثَنَا أَبُو مَعْمَر ) ‏ ‏هُوَ عَبْد اللَّه بْن عَمْرو بْن الْحَجَّاج الْمِنْقَرِيّ بِكَسْرِ الْمِيمِ وَسُكُون النُّون وَفَتْح الْقَاف , ‏ ‏وَعَبْد الْوَارِث ‏ ‏هُوَ اِبْن سَعِيد , وَالسَّنَد كُلّه بَصْرِيُّونَ , ‏ ‏وَجَعْد بْن دِينَار ‏ ‏تَابِعِيٌّ صَغِيرٌ وَهُوَ الْجَعْدُ أَبُو عُثْمَان الرَّاوِي عَنْ أَنَسٍ فِي أَوَاخِر النَّفَقَاتِ وَفِي غَيْرِهَا.
‏ ‏قَوْله ( عَنْ اِبْن عَبَّاس ) ‏ ‏فِي رِوَايَة الْحَسَن بْن ذَكْوَانَ عَنْ أَبِي رَجَاءَ " حَدَّثَنِي اِبْن عَبَّاس " أَخْرَجَهُ أَحْمَد.
‏ ‏قَوْله ( عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ) ‏ ‏فِي رِوَايَة مُسَدَّدٍ عِنْد الْإِسْمَاعِيلِيّ " عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " وَلَمْ أَرَ فِي شَيْءٍ مِنْ الطُّرُقِ التَّصْرِيحَ بِسَمَاعِ اِبْن عَبَّاسٍ لَهُ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
‏ ‏قَوْله ( فِيمَا يَرْوِي عَنْ رَبِّهِ ) ‏ ‏هَذَا مِنْ الْأَحَادِيث الْإِلَهِيَّةِ , ثُمَّ هُوَ مُحْتَمِلٌ أَنْ يَكُونَ مِمَّا تَلَقَّاهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ رَبِّهِ بِلَا وَاسِطَةٍ وَيَحْتَمِل أَنْ يَكُون مِمَّا تَلَقَّاهُ بِوَاسِطَةِ الْمَلَك وَهُوَ الرَّاجِحُ , وَقَالَ الْكَرْمَانِيُّ : يَحْتَمِل أَنْ يَكُون مِنْ الْأَحَادِيثِ الْقُدْسِيَّةِ وَيَحْتَمِل أَنْ يَكُون لِلْبَيَانِ لِمَا فِيهِ مِنْ الْإِسْنَادِ الصَّرِيحِ إِلَى اللَّه حَيْثُ قَالَ : " إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ " وَيَحْتَمِل أَنْ يَكُونَ لِبَيَانِ الْوَاقِعِ وَلَيْسَ فِيهِ أَنَّ غَيْره لَيْسَ كَذَلِكَ لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى , بَلْ فِيهِ أَنَّ غَيْره كَذَلِكَ إِذْ قَالَ " فِيمَا يَرْوِيهِ " أَيْ فِي جُمْلَة مَا يَرْوِيه اِنْتَهَى مُلَخَّصًا.
وَالثَّانِي لَا يُنَافِي الْأَوَّل وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ , فَقَدْ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيق جَعْفَر بْن سُلَيْمَان عَنْ الْجَعْد وَلَمْ يَسُقْ لَفْظَهُ , وَأَخْرَجَهُ أَبُو عَوَانَةَ مِنْ طَرِيق عَفَّان , وَأَبُو نُعَيْمٍ مِنْ طَرِيق قُتَيْبَةَ كِلَاهُمَا عَنْ جَعْفَر بِلَفْظِ " فِيمَا يَرْوِي عَنْ رَبِّهِ قَالَ : إِنَّ رَبَّكُمْ رَحِيمٌ , مَنْ هَمَّ بِحَسَنَةٍ " وَسَيَأْتِي فِي التَّوْحِيدِ مِنْ طَرِيقِ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ بِلَفْظِ " عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ إِذَا أَرَادَ عَبْدِي أَنْ يَعْمَلَ " وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ بِنَحْوِهِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ وَمَنْ طُرُق أُخْرَى مِنْهَا عَنْ الْعَلَاء بْن عَبْد الرَّحْمَن عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " قَالَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ إِذَا هَمَّ عَبْدِي ".
‏ ‏قَوْله ( إِنَّ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ كَتَبَ الْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ ) ‏ ‏يَحْتَمِل أَنْ يَكُون هَذَا مِنْ قَوْل اللَّه تَعَالَى فَيَكُون التَّقْدِير قَالَ اللَّه إِنَّ اللَّه كَتَبَ , وَيَحْتَمِل أَنْ يَكُون مِنْ كَلَام النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَحْكِيهِ عَنْ فِعْلِ اللَّهِ تَعَالَى وَفَاعِل " ثُمَّ بَيَّنَ ذَلِكَ " هُوَ اللَّهُ تَعَالَى , وَقَوْله " فَمَنْ هَمَّ " شَرْحُ ذَلِكَ.
‏ ‏قَوْله ( ثُمَّ بَيَّنَ ذَلِكَ ) ‏ ‏أَيْ فَصَّلَهُ بِقَوْلِهِ " فَمَنْ هَمَّ " وَالْمُجْمَلُ قَوْله " كَتَبَ الْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ " وَقَوْله كَتَبَ قَالَ الطُّوفِيُّ أَيْ أَمَرَ الْحَفَظَةَ أَنْ تَكْتُبَ , أَوْ الْمُرَاد قَدَّرَ ذَلِكَ فِي عِلْمِهِ عَلَى وَفْقِ الْوَاقِعِ مِنْهَا.
وَقَالَ غَيْرُهُ الْمُرَاد قَدَّرَ ذَلِكَ وَعَرَّفَ الْكَتَبَةَ مِنْ الْمَلَائِكَة ذَلِكَ التَّقْدِيرَ , فَلَا يَحْتَاج إِلَى الِاسْتِفْسَارِ فِي كُلِّ وَقْتٍ عَنْ كَيْفِيَّة الْكِتَابَة لِكَوْنِهِ أَمْرًا مَفْرُوغًا مِنْهُ اِنْتَهَى.
وَقَدْ يُعَكِّرُ عَلَى ذَلِكَ مَا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيق هَمَّامٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَة رَفَعَهُ قَالَ : " قَالَتْ الْمَلَائِكَةُ : رَبِّ ذَاكَ عَبْدُك يُرِيدُ أَنْ يَعْمَلَ سَيِّئَةً , وَهُوَ أَبْصَرُ بِهِ , فَقَالَ : اُرْقُبُوهُ فَإِنْ عَمِلَهَا فَاكْتُبُوهَا " فَهَذَا ظَاهِرُهُ وُقُوعُ الْمُرَاجَعَةِ لَكِنَّ ذَلِكَ مَخْصُوصٌ بِإِرَادَةِ عَمَلِ السَّيِّئَةِ , وَيَحْتَمِل أَنْ يَكُون ذَلِكَ وَقَعَ فِي اِبْتِدَاء الْأَمْرِ فَلَمَّا حَصَلَ الْجَوَابُ اِسْتَقَرَّ ذَلِكَ فَلَا يُحْتَاج إِلَى الْمُرَاجَعَةِ بَعْدَهُ.
وَقَدْ وَجَدْت عَنْ الشَّافِعِيِّ مَا يُوَافِقُ ظَاهِرَ الْخَبَرِ , وَأَنَّ الْمُؤَاخَذَةَ إِنَّمَا تَقَعُ لِمَنْ هَمَّ عَلَى الشَّيْءِ فَشَرَعَ فِيهِ.
لَا مَنْ هَمَّ بِهِ وَلَمْ يَتَّصِلْ بِهِ الْعَمَلُ , فَقَالَ فِي صَلَاةِ الْخَوْفِ لَمَّا ذَكَرَ الْعَمَلَ الَّذِي يُبْطِلُهَا مَا حَاصِلُهُ : إِنَّ مَنْ أَحْرَمَ بِالصَّلَاةِ وَقَصَدَ الْقِتَالَ فَشَرَعَ فِيهِ بَطَلَتْ صَلَاتُهُ , وَمَنْ تَحَرَّمَ وَقَصَدَ إِلَى الْعَدُوِّ لَوْ دَهَمَهُ دَفَعَهُ بِالْقِتَالِ لَمْ تَبْطُلْ.
‏ ‏قَوْله ( فَمَنْ هَمَّ ) ‏ ‏كَذَا فِي رِوَايَة اِبْن سِيرِينَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عِنْد مُسْلِمٍ , وَفِي رِوَايَة الْأَعْرَج فِي التَّوْحِيدِ " إِذَا أَرَادَ " وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ بِلَفْظِ " إِذَا هَمَّ " كَذَا عِنْدَهُ مِنْ رِوَايَةِ الْعَلَاءِ بْن عَبْد الرَّحْمَن عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَة فَهُمَا بِمَعْنًى وَاحِدٍ , وَوَقَعَ لِمُسْلِمٍ أَيْضًا مِنْ رِوَايَة هَمَّام عَنْ أَبِي هُرَيْرَة بِلَفْظِ " إِذَا تَحَدَّثَ " وَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى حَدِيثِ النَّفْسِ لِتُوَافِقَ الرِّوَايَاتِ الْأُخْرَى , وَيَحْتَمِل أَنْ يَكُون عَلَى ظَاهِرِهِ وَلَكِنْ لَيْسَ قَيْدًا فِي كِتَابَة الْحَسَنَةِ بَلْ بِمُجَرَّدِ الْإِرَادَة تُكْتَبُ الْحَسَنَةُ , نَعَمْ وَرَدَ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مُطْلَقَ الْهَمِّ وَالْإِرَادَةِ لَا يَكْفِي , فَعِنْد أَحْمَد وَصَحَّحَهُ اِبْن حِبَّانَ وَالْحَاكِم مِنْ حَدِيث خَرِيمِ بْن فَاتِكٍ رَفَعَهُ " وَمَنْ هَمَّ بِحَسَنَةٍ يَعْلَم اللَّهُ أَنَّهُ قَدْ أُشْعِرَ بِهَا قَلْبُهُ وَحَرَصَ عَلَيْهَا " وَقَدْ تَمَسَّكَ بِهِ اِبْن حِبَّانَ فَقَالَ بَعْدَ إِيرَاد حَدِيث الْبَاب فِي صَحِيحِهِ : الْمُرَاد بِالْهَمِّ هُنَا الْعَزْمُ.
ثُمَّ قَالَ : وَيَحْتَمِل أَنَّ اللَّهَ يَكْتُب الْحَسَنَةَ بِمُجَرَّدِ الْهَمِّ بِهَا وَإِنْ لَمْ يَعْزِمْ عَلَيْهَا زِيَادَةً فِي الْفَضْلِ.
‏ ‏قَوْله ( فَلَمْ يَعْمَلْهَا ) ‏ ‏يَتَنَاوَلُ نَفْيَ عَمَلِ الْجَوَارِحِ , وَأَمَّا عَمَلُ الْقَلْبِ فَيَحْتَمِل نَفْيه أَيْضًا إِنْ كَانَتْ الْحَسَنَةُ تُكْتَبُ بِمُجَرَّدِ الْهَمِّ كَمَا فِي مُعْظَمِ الْأَحَادِيثِ , لَا إِنْ قُيِّدَتْ بِالتَّصْمِيمِ كَمَا فِي حَدِيث خَرِيمٍ , وَيُؤَيِّدُ الْأَوَّل حَدِيث أَبِي ذَرٍّ عِنْد مُسْلِم أَنَّ الْكَفَّ عَنْ الشَّرِّ صَدَقَةٌ.
‏ ‏قَوْله ( كَتَبَهَا اللَّهُ لَهُ ) ‏ ‏أَيْ لِلَّذِي هَمَّ بِالْحَسَنَةِ ‏ ‏( عِنْدَهُ ) ‏ ‏أَيْ عِنْد اللَّه ‏ ‏( حَسَنَةً كَامِلَةً ) ‏ ‏كَذَا ثَبَتَ فِي حَدِيث اِبْن عَبَّاس دُون حَدِيث أَبِي هُرَيْرَة وَغَيْره وَصْف الْحَسَنَة بِكَوْنِهَا كَامِلَةً , وَكَذَا قَوْله " عِنْده " وَفِيهِمَا نَوْعَانِ مِنْ التَّأْكِيدِ : فَأَمَّا الْعِنْدِيَّةُ فَإِشَارَةٌ إِلَى الشَّرَف , وَأَمَّا الْكَمَالُ فَإِشَارَةٌ إِلَى رَفْعِ تَوَهُّمِ نَقْصِهَا لِكَوْنِهَا نَشَأَتْ عَنْ الْهَمِّ الْمُجَرَّدِ.
فَكَأَنَّهُ قِيلَ بَلْ هِيَ كَامِلَةٌ لَا نَقْصَ فِيهَا.
قَالَ النَّوَوِيُّ : أَشَارَ بِقَوْلِهِ " عِنْده " إِلَى مَزِيد الِاعْتِنَاءِ بِهِ , وَبِقَوْلِهِ " كَامِلَةً " إِلَى تَعْظِيمِ الْحَسَنَةِ وَتَأْكِيد أَمْرِهَا , وَعَكْس ذَلِكَ فِي السَّيِّئَةِ فَلَمْ يَصِفْهَا بِكَامِلَةٍ بَلْ أَكَّدَهَا بِقَوْلِهِ " وَاحِدَة " إِشَارَة إِلَى تَخْفِيفهَا مُبَالَغَةً فِي الْفَضْلِ وَالْإِحْسَانِ.
وَمَعْنَى قَوْله : " كَتَبَهَا اللَّهُ " أَمَرَ الْحَفَظَة بِكِتَابَتِهَا بِدَلِيلِ حَدِيث أَبِي هُرَيْرَة الْآتِي فِي التَّوْحِيد بِلَفْظِ : " إِذَا أَرَادَ عَبْدِي أَنْ يَعْمَل سَيِّئَة فَلَا تَكْتُبُوهَا عَلَيْهِ حَتَّى يَعْمَلَهَا " وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمَلَكَ يَطَّلِعُ عَلَى مَا فِي قَلْبِ الْآدَمِيِّ إِمَّا بِإِطْلَاعِ اللَّهِ إِيَّاهُ أَوْ بِأَنْ يَخْلُقَ لَهُ عِلْمًا يُدْرِكُ بِهِ ذَلِكَ , وَيُؤَيِّدُ الْأَوَّلَ مَا أَخْرَجَهُ اِبْن أَبِي الدُّنْيَا عَنْ أَبِي عِمْرَانَ الْجَوْنِيِّ قَالَ : " يُنَادِي الْمَلَك اُكْتُبْ لِفُلَانٍ كَذَا وَكَذَا , فَيَقُول يَا رَبِّ إِنَّهُ لَمْ يَعْمَلْهُ , فَيَقُولُ إِنَّهُ نَوَاهُ " وَقِيلَ بَلْ يَجِدُ الْمَلَك لِلْهَمِّ بِالسَّيِّئَةِ رَائِحَةً خَبِيثَةً وَبِالْحَسَنَةِ رَائِحَة طَيِّبَة , وَأَخْرَجَ ذَلِكَ الطَّبَرِيُّ عَنْ أَبِي مَعْشَرٍ الْمَدَنِيِّ , وَجَاءَ مِثْلُهُ عَنْ سُفْيَان بْن عُيَيْنَةَ وَرَأَيْت فِي شَرْح مُغَلْطَاي أَنَّهُ وَرَدَ مَرْفُوعًا , قَالَ الطُّوفِيُّ إِنَّمَا كُتِبَتْ الْحَسَنَةُ بِمُجَرَّدِ الْإِرَادَةِ لِأَنَّ إِرَادَةَ الْخَيْرِ سَبَبٌ إِلَى الْعَمَلِ وَإِرَادَة الْخَيْر خَيْر لِأَنَّ إِرَادَة الْخَيْر مِنْ عَمَل الْقَلْب , وَاسْتُشْكِلَ بِأَنَّهُ إِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَكَيْفَ لَا تُضَاعَفُ لِعُمُومِ قَوْلِهِ : { مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا } وَأُجِيبَ بِحَمْلِ الْآيَةِ عَلَى عَمَلِ الْجَوَارِحِ وَالْحَدِيثِ عَلَى الْهَمِّ الْمُجَرَّدِ وَاسْتَشْكَلَ أَيْضًا بِأَنَّ عَمَلَ الْقَلْبِ إِذَا اُعْتُبِرَ فِي حُصُولِ الْحَسَنَةِ فَكَيْفَ لَمْ يُعْتَبَرْ فِي حُصُولِ السَّيِّئَةِ ؟ وَأُجِيبَ بِأَنَّ تَرْكَ عَمَلِ السَّيِّئَةِ الَّتِي وَقَعَ الْهَمُّ بِهَا يُكَفِّرُهَا لِأَنَّهُ قَدْ نَسَخَ قَصْدَهُ السَّيِّئَةَ وَخَالَفَ هَوَاهُ , ثُمَّ إِنَّ ظَاهِرَ الْحَدِيث حُصُول الْحَسَنَة بِمُجَرَّدِ التَّرْك سَوَاء كَانَ ذَلِكَ لِمَانِعٍ أَمْ لَا , وَيَتَّجِهُ أَنْ يُقَال : يَتَفَاوَتُ عِظَمُ الْحَسَنَةِ بِحَسَبِ الْمَانِعِ فَإِنْ كَانَ خَارِجِيًّا مَعَ بَقَاء قَصْد الَّذِي هَمَّ بِفِعْلِ الْحَسَنَةِ فَهِيَ عَظِيمَةُ الْقَدْرِ , وَلَا سِيَّمَا إِنْ قَارَنَهَا نَدَمٌ عَلَى تَفْوِيتِهَا وَاسْتَمَرَّتْ النِّيَّة عَلَى فِعْلِهَا عِنْدَ الْقُدْرَةِ , وَإِنْ كَانَ التَّرْكُ مِنْ الَّذِي هَمَّ مِنْ قِبَلِ نَفْسِهِ فَهِيَ دُونَ ذَلِكَ إِلَّا إِنْ قَارَنَهَا قَصْدُ الْإِعْرَاضِ عَنْهَا جُمْلَةً وَالرَّغْبَة عَنْ فِعْلِهَا , وَلَا سِيَّمَا إِنْ وَقَعَ الْعَمَلُ فِي عَكْسِهَا كَأَنْ يُرِيدَ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِدِرْهَمٍ مَثَلًا فَصَرَفَهُ بِعَيْنِهِ فِي مَعْصِيَةٍ , فَاَلَّذِي يَظْهَرُ فِي الْأَخِيرِ أَنْ لَا تُكْتَبَ لَهُ حَسَنَةً أَصْلًا , وَأَمَّا مَا قَبْلَهُ فَعَلَى الِاحْتِمَال.
وَاسْتُدِلَّ بِقَوْلِهِ حَسَنَةً كَامِلَةً عَلَى أَنَّهَا تُكْتَبُ حَسَنَةً مُضَاعَفَةً لِأَنَّ ذَلِكَ هُوَ الْكَمَالُ لَكِنَّهُ مُشْكِلٌ يَلْزَمُ مِنْهُ مُسَاوَاةُ مَنْ نَوَى الْخَيْرَ بِمَنْ فَعَلَهُ فِي أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا يَكْتُب لَهُ حَسَنَةً.
وَأُجِيبَ بِأَنَّ التَّضْعِيف فِي الْآيَة يَقْتَضِي اِخْتِصَاصَهُ بِالْعَامِلِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى : { مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ } وَالْمَجِيءُ بِهَا هُوَ الْعَمَلُ وَأَمَّا النَّاوِي فَإِنَّمَا وَرَدَ أَنَّهُ يُكْتَب لَهُ حَسَنَةٌ وَمَعْنَاهُ يُكْتَب لَهُ مِثْلُ ثَوَاب الْحَسَنَةِ , وَالتَّضْعِيفُ قَدْرٌ زَائِدٌ عَلَى أَصْلِ الْحَسَنَةِ , وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.
‏ ‏قَوْلُهُ ( فَإِنْ هَمَّ بِهَا وَعَمِلَهَا كَتَبَهَا اللَّه لَهُ عِنْدَهُ عَشْر حَسَنَاتٍ ) ‏ ‏يُؤْخَذُ مِنْهُ رَفْع تَوَهُّم أَنَّ حَسَنَةَ الْإِرَادَةِ تُضَافُ إِلَى عَشْرَة التَّضْعِيف فَتَكُونُ الْجُمْلَةُ إِحْدَى عَشْرَةَ عَلَى مَا هُوَ ظَاهِر رِوَايَة جَعْفَر بْن سُلَيْمَان عِنْد مُسْلِم وَلَفْظه : " فَإِنْ عَمِلَهَا كُتِبَتْ لَهُ عَشْرَ أَمْثَالِهَا " وَكَذَا فِي حَدِيث أَبِي هُرَيْرَة وَفِي بَعْض طُرُقه اِحْتِمَال , وَرِوَايَة عَبْد الْوَارِث فِي الْبَاب ظَاهِرَة فِيمَا قُلْته وَهُوَ الْمُعْتَمَد , قَالَ اِبْن عَبْد السَّلَام فِي أَمَالِيهِ : مَعْنَى الْحَدِيث إِذَا هَمَّ بِحَسَنَةٍ فَإِنْ كُتِبَتْ لَهُ حَسَنَة عَمِلَهَا كُمِّلَتْ لَهُ عَشْرَةً لِأَنَّا نَأْخُذُ بِقَيْدِ كَوْنهَا قَدْ هَمَّ بِهَا , وَكَذَا السَّيِّئَةُ إِذَا عَمِلَهَا لَا تُكْتَبُ وَاحِدَةً لِلْهَمِّ وَأُخْرَى لِلْعَمَلِ بَلْ تُكْتَب وَاحِدَةً فَقَطْ.
قُلْت : الثَّانِي صَرِيحٌ فِي حَدِيث هَذَا الْبَاب , وَهُوَ مُقْتَضَى كَوْنِهَا فِي جَمِيعِ الطُّرُقِ لَا تُكْتَبُ بِمُجَرَّدِ الْهَمِّ , وَأَمَّا حَسَنَةُ الْهَمِّ بِالْحَسَنَةِ فَالِاحْتِمَال قَائِمٌ , وَقَوْله بِقَيْدِ كَوْنِهَا قَدْ هَمَّ بِهَا يُعَكِّرُ عَلَيْهِ مَنْ عَمِلَ حَسَنَةً بَغْتَةً مِنْ غَيْرِ أَنْ يَسْبِق لَهُ أَنَّهُ هَمَّ بِهَا فَإِنَّ قَضِيَّةَ كَلَامِهِ أَنَّهُ يُكْتَبُ لَهُ تِسْعَةٌ وَهُوَ خِلَافُ ظَاهِرِ الْآيَةِ { مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا } فَإِنَّهُ يَتَنَاوَلُ مَنْ هَمَّ بِهَا وَمَنْ لَمْ يَهِمَّ , وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ حَسَنَةَ مَنْ هَمَّ بِهَا تَنْدَرِجُ فِي الْعَمَلِ فِي عَشْرَةٍ لِعَمَلٍ لَكِنْ تَكُونُ حَسَنَةُ مَنْ هَمَّ بِهَا أَعْظَمَ قَدْرًا مِمَّنْ لَمْ يَهِمَّ بِهَا , وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.
‏ ‏قَوْله ( إِلَى سَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ ) ‏ ‏الضِّعْفُ فِي اللُّغَة الْمِثْلُ , وَالتَّحْقِيقُ أَنَّهُ اِسْمٌ يَقَعُ عَلَى الْعَدَدِ بِشَرْطِ أَنْ يَكُون مَعَهُ عَدَدٌ آخَر , فَإِذَا قِيلَ ضِعْف الْعَشَرَة فُهِمَ أَنَّ الْمُرَاد عِشْرُونَ , وَمَنْ ذَلِكَ لَوْ أَقَرَّ بِأَنَّ لَهُ عِنْدِي ضِعْف دِرْهَم لَزِمَهُ دِرْهَمَانِ أَوْ ضَعْفَيْ دِرْهَمٍ لَزِمَهُ ثَلَاثَةٌ.
‏ ‏قَوْله ( إِلَى أَضْعَاف كَثِيرَة ) ‏ ‏لَمْ يَقَع فِي شَيْء مِنْ طُرُق حَدِيث أَبِي هُرَيْرَة " إِلَى أَضْعَاف كَثِيرَة " إِلَّا فِي حَدِيثه الْمَاضِي فِي الصِّيَام فَإِنَّ فِي بَعْض طُرُقه عِنْد مُسْلِم " إِلَى سَبْعِمِائَةِ ضِعْف إِلَى مَا شَاءَ اللَّه " وَلَهُ مِنْ حَدِيث أَبِي ذَرّ رَفَعَهُ " يَقُول اللَّه مَنْ عَمِلَ حَسَنَة فَلَهُ عَشْر أَمْثَالهَا وَأَزِيدُ " وَهُوَ بِفَتْحِ الْهَمْزَة وَكَسْر الزَّاي , وَهَذَا يَدُلّ عَلَى أَنَّ تَضْعِيف حَسَنَة الْعَمَل إِلَى عَشْرَةٍ مَجْزُومٌ بِهِ وَمَا زَادَ عَلَيْهَا جَائِز وُقُوعه بِحَسَبِ الزِّيَادَة فِي الْإِخْلَاص وَصِدْق الْعَزْم وَحُضُور الْقَلْب وَتَعَدِّي النَّفْعِ كَالصَّدَقَةِ الْجَارِيَة وَالْعِلْم النَّافِع وَالسُّنَّة الْحَسَنَة وَشَرَف الْعَمَل وَنَحْو ذَلِكَ , وَقَدْ قِيلَ إِنَّ الْعَمَل الَّذِي يُضَاعَف إِلَى سَبْعِمِائَةٍ خَاصٌّ بِالنَّفَقَةِ فِي سَبِيل اللَّه , وَتَمَسَّكَ قَائِلُهُ بِمَا فِي حَدِيث خَرِيم بْن فَاتِك الْمُشَار إِلَيْهِ قَرِيبًا رَفَعَهُ " مَنْ هَمَّ بِحَسَنَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا " فَذَكَرَ الْحَدِيث وَفِيهِ " وَمَنْ عَمِلَ حَسَنَة كَانَتْ لَهُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا , وَمَنْ أَنْفَقَ نَفَقَة فِي سَبِيل اللَّه كَانَتْ لَهُ بِسَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ " وَتُعُقِّبَ بِأَنَّهُ صَرِيحٌ فِي أَنَّ النَّفَقَة فِي سَبِيل اللَّه تُضَاعَف إِلَى سَبْعِمِائَةٍ وَلَيْسَ فِيهِ نَفْي ذَلِكَ عَنْ غَيْرهَا صَرِيحًا , وَيَدُلّ عَلَى التَّعْمِيم حَدِيث أَبِي هُرَيْرَة الْمَاضِي فِي الصِّيَام " كُلّ عَمَلِ اِبْن آدَم يُضَاعَفُ الْحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا إِلَى سَبْعمِائَةِ ضِعْفٍ " الْحَدِيثَ وَاخْتُلِفَ فِي قَوْله تَعَالَى { وَاَللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ } هَلْ الْمُرَاد الْمُضَاعَفَةُ إِلَى سَبْعِمِائَةٍ فَقَطْ أَوْ زِيَادَة عَلَى ذَلِكَ ؟ فَالْأَوَّل هُوَ الْمُحَقَّقُ مِنْ سِيَاقِ الْآيَةِ وَالثَّانِي مُحْتَمَلٌ , وَيُؤَيِّد الْجَوَازَ سَعَةُ الْفَضْلِ.
‏ ‏قَوْله ( وَمَنْ هَمَّ بِسَيِّئَةٍ فَلَمْ يَعْمَلهَا كَتَبَهَا اللَّه لَهُ عِنْده حَسَنَة كَامِلَة ) ‏ ‏الْمُرَاد بِالْكَمَالِ عِظَم الْقَدْر كَمَا تَقَدَّمَ لَا التَّضْعِيف إِلَى الْعَشَرَة , وَلَمْ يَقَع التَّقْيِيد بِكَامِلَةٍ فِي طُرُق حَدِيث أَبِي هُرَيْرَة , وَظَاهِرِ الْإِطْلَاق كِتَابَة الْحَسَنَة بِمُجَرَّدِ التَّرْك , لَكِنَّهُ قَيَّدَهُ فِي حَدِيث الْأَعْرَج عَنْ أَبِي هُرَيْرَة كَمَا سَيَأْتِي فِي كِتَاب التَّوْحِيد وَلَفْظه " إِذَا أَرَادَ عَبْدِي أَنْ يَعْمَلَ سَيِّئَة فَلَا تَكْتُبُوهَا عَلَيْهِ حَتَّى يَعْمَلَهَا , فَإِنْ عَمِلَهَا فَاكْتُبُوهَا لَهُ بِمِثْلِهَا , وَإِنْ تَرَكَهَا مِنْ أَجْلِي فَاكْتُبُوهَا لَهُ حَسَنَة " وَأَخْرَجَهُ مُسْلِم مِنْ هَذَا الْوَجْه , لَكِنْ لَمْ يَقَع عِنْده " مِنْ أَجْلِي " وَوَقَعَ عِنْده مِنْ طَرِيق هَمَّام عَنْ أَبِي هُرَيْرَة " وَإِنْ تَرَكَهَا فَاكْتُبُوهَا لَهُ حَسَنَة , إِنَّمَا تَرَكَهَا مِنْ جَرَّاي " بِفَتْحِ الْجِيم وَتَشْدِيد الرَّاء بَعْد الْأَلِف يَاء الْمُتَكَلِّم وَهِيَ بِمَعْنَى مِنْ أَجْلِي , وَنَقَلَ عِيَاض عَنْ بَعْض الْعُلَمَاء أَنَّهُ حَمَلَ حَدِيث اِبْنِ عَبَّاس عَلَى عُمُومه , ثُمَّ صَوَّبَ حَمْل مُطْلَقِهِ عَلَى مَا قُيِّدَ فِي حَدِيث أَبِي هُرَيْرَة.
قُلْت : وَيَحْتَمِل أَنْ تَكُونُ حَسَنَةُ مَنْ تَرَكَ بِغَيْرِ اِسْتِحْضَارِ مَا قُيِّدَ بِهِ دُونَ حَسَنَةِ الْآخَر لِمَا تَقَدَّمَ أَنَّ تَرْك الْمَعْصِيَة كَفٌّ عَنْ الشَّرّ وَالْكَفّ عَنْ الشَّرّ خَيْر , وَيَحْتَمِل أَيْضًا أَنْ يُكْتَب لِمَنْ هَمَّ بِالْمَعْصِيَةِ ثُمَّ تَرَكَهَا حَسَنَة مُجَرَّدَة , فَإِنْ تَرَكَهَا مِنْ مَخَافَة رَبِّهِ سُبْحَانَهُ كُتِبَتْ حَسَنَة مُضَاعَفَة.
وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ : مَحَلّ كِتَابَة الْحَسَنَة عَلَى التَّرْك أَنْ يَكُونَ التَّارِك قَدْ قَدَرَ عَلَى الْفِعْل ثُمَّ تَرَكَهُ , لِأَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يُسَمَّى تَارِكًا إِلَّا مَعَ الْقُدْرَة , وَيَدْخُل فِيهِ مَنْ حَالَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ حِرْصه عَلَى الْفِعْل مَانِعٌ كَأَنْ يَمْشِيَ إِلَى اِمْرَأَةٍ لِيَزْنِيَ بِهَا مَثَلًا فَيَجِد الْبَاب مُغْلَقًا وَيَتَعَسَّر فَتْحه , وَمِثْله مَنْ تَمَكَّنَ مِنْ الزِّنَا مَثَلًا فَلَمْ يَنْتَشِرْ أَوْ طَرَقَهُ مَا يَخَاف مِنْ أَذَاهُ عَاجِلًا.
وَوَقَعَ فِي حَدِيث أَبِي كَبْشَة الْأَنْمَارِيّ مَا قَدْ يُعَارِض ظَاهِرِ حَدِيث الْبَاب , وَهُوَ مَا أَخْرَجَهُ أَحْمَد وَابْنِ مَاجَهْ وَالتِّرْمِذِيّ وَصَحَّحَهُ بِلَفْظِ " إِنَّمَا الدُّنْيَا لِأَرْبَعَةٍ " فَذَكَرَ الْحَدِيث وَفِيهِ " وَعَبْد رَزَقَهُ اللَّه مَالًا وَلَمْ يَرْزُقهُ عِلْمًا فَهُوَ يَعْمَل فِي مَالِهِ بِغَيْرِ عِلْم لَا يَتَّقِي فِيهِ رَبَّهُ وَلَا يَصِل فِيهِ رَحِمَهُ وَلَا يَرَى لِلَّهِ فِيهِ حَقًّا , فَهَذَا بِأَخْبَث الْمَنَازِل.
وَرَجُل لَمْ يَرْزُقهُ اللَّه مَالًا وَلَا عِلْمًا فَهُوَ يَقُول : لَوْ أَنَّ لِي مَالًا لَعَمِلْت فِيهِ بِعَمَلِ فُلَان , فَهُمَا فِي الْوِزْر سَوَاء " فَقِيلَ الْجَمْع بَيْن الْحَدِيثَيْنِ بِالتَّنْزِيلِ عَلَى حَالَتَيْنِ , فَتُحْمَل الْحَالَة الْأُولَى عَلَى مَنْ هَمَّ بِالْمَعْصِيَةِ هَمًّا مُجَرَّدًا مِنْ غَيْر تَصْمِيم , وَالْحَالَة الثَّانِيَة عَلَى مَنْ صَمَّمَ عَلَى ذَلِكَ وَأَصَرَّ عَلَيْهِ.
وَهُوَ مُوَافِق لِمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْبَاقِلَّانِيّ وَغَيْره ; قَالَ الْمَازِرِيّ : ذَهَبَ اِبْنِ الْبَاقِلَّانِيّ يَعْنِي وَمَنْ تَبِعَهُ إِلَى أَنَّ مَنْ عَزَمَ عَلَى الْمَعْصِيَة بِقَلْبِهِ وَوَطَّنَ عَلَيْهَا نَفْسَهُ أَنَّهُ يَأْثَم , وَحَمَلَ الْأَحَادِيث الْوَارِدَة فِي الْعَفْو عَمَّنْ هَمَّ بِسَيِّئَةٍ وَلَمْ يَعْمَلْهَا عَلَى الْخَاطِرِ الَّذِي يَمُرُّ بِالْقَلْبِ وَلَا يَسْتَقِرّ.
قَالَ الْمَازِرِيّ : وَخَالَفَهُ كَثِيرٌ مِنْ الْفُقَهَاءِ وَالْمُحَدِّثِينَ وَالْمُتَكَلِّمِينَ وَنَقَلَ ذَلِكَ عَنْ نَصِّ الشَّافِعِيِّ , وَيُؤَيِّدُهُ قَوْله فِي حَدِيث أَبِي هُرَيْرَة فِيمَا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيق هَمَّام عَنْهُ بِلَفْظِ " فَأَنَا أَغْفِرُهَا لَهُ مَا لَمْ يَعْمَلْهَا " فَإِنَّ الظَّاهِر أَنَّ الْمُرَاد بِالْعَمَلِ هُنَا عَمَل الْجَارِحَة بِالْمَعْصِيَةِ الْمَهْمُوم بِهِ.
وَتَعَقَّبَهُ عِيَاض بِأَنَّ عَامَّة السَّلَف وَأَهْل الْعِلْم عَلَى مَا قَالَ اِبْنِ الْبَاقِلَّانِيّ لِاتِّفَاقِهِمْ عَلَى الْمُؤَاخَذَة بِأَعْمَالِ الْقُلُوب , لَكِنْهُمْ قَالُوا : إِنَّ الْعَزْم عَلَى السَّيِّئَة يُكْتَب سَيِّئَة مُجَرَّدَة لَا السَّيِّئَة الَّتِي هَمَّ أَنْ يَعْمَلَهَا , كَمَنْ يَأْمُر بِتَحْصِيلِ مَعْصِيَة ثُمَّ لَا يَفْعَلُهَا بَعْد حُصُولهَا فَإِنَّهُ يَأْثَم بِالْأَمْرِ الْمَذْكُور لَا بِالْمَعْصِيَةِ وَمِمَّا يَدُلّ عَلَى ذَلِكَ حَدِيث " إِذَا اِلْتَقَى الْمُسْلِمَانِ بِسَيْفَيْهِمَا فَالْقَاتِل وَالْمَقْتُول فِي النَّار , قِيلَ هَذَا الْقَاتِل فَمَا بَالُ الْمَقْتُول ؟ قَالَ : إِنَّهُ كَانَ حَرِيصًا عَلَى قَتْل صَاحِبِهِ " وَسَيَأْتِي سِيَاقه وَشَرْحه فِي كِتَاب الْفِتَنِ , وَاَلَّذِي يَظْهَر أَنَّهُ مِنْ هَذَا الْجِنْس وَهُوَ أَنَّهُ يُعَاقَب عَلَى عَزْمه بِمِقْدَارِ مَا يَسْتَحِقّهُ وَلَا يُعَاقَب عِقَاب مَنْ بَاشَرَ الْقَتْل حِسًّا.
وَهُنَا قِسْم آخَرُ وَهُوَ مَنْ فَعَلَ الْمَعْصِيَة وَلَمْ يَتُبْ مِنْهَا ثُمَّ هَمَّ أَنْ يَعُود إِلَيْهَا فَإِنَّهُ يُعَاقَب عَلَى الْإِصْرَار كَمَا جَزَمَ بِهِ اِبْنِ الْمُبَارَك وَغَيْره فِي تَفْسِير قَوْله تَعَالَى { وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا } وَيُؤَيِّدهُ أَنَّ الْإِصْرَار مَعْصِيَة اِتِّفَاقًا , فَمَنْ عَزَمَ عَلَى الْمَعْصِيَة وَصَمَّمَ عَلَيْهَا كُتِبَتْ عَلَيْهِ سَيِّئَة , فَإِذَا عَمِلَهَا كُتِبَتْ عَلَيْهِ مَعْصِيَة ثَانِيَة.
قَالَ النَّوَوِيّ : وَهَذَا ظَاهِرٌ حَسَنٌ لَا مَزِيدَ عَلَيْهِ , وَقَدْ تَظَاهَرَتْ نُصُوص الشَّرِيعَة بِالْمُؤَاخَذَةِ عَلَى عَزْم الْقَلْب الْمُسْتَقِرّ كَقَوْلِهِ تَعَالَى { إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ } الْآيَة , وَقَوْله { اِجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنْ الظَّنِّ } وَغَيْر ذَلِكَ وَقَالَ اِبْنُ الْجَوْزِيّ : إِذَا حَدَّثَ نَفْسه بِالْمَعْصِيَةِ لَمْ يُؤَاخَذ فَإِنْ عَزَمَ وَصَمَّمَ زَادَ عَلَى حَدِيث النَّفْس وَهُوَ مِنْ عَمَل الْقَلْب.
قَالَ : وَالدَّلِيل عَلَى التَّفْرِيق بَيْن الْهَمّ وَالْعَزْم أَنَّ مَنْ كَانَ فِي الصَّلَاة فَوَقَعَ فِي خَاطَرَهُ أَنْ يَقْطَعهَا لَمْ تَنْقَطِع , فَإِنْ صَمَّمَ عَلَى قَطْعهَا بَطَلَتْ.
وَأُجِيبَ عَنْ الْقَوْل الْأَوَّل بِأَنَّ الْمُؤَاخَذَة عَلَى أَعْمَال الْقُلُوب الْمُسْتَقِلَّة بِالْمَعْصِيَةِ لَا تَسْتَلْزِم الْمُؤَاخَذَة عَلَى عَمَل الْقَلْب بِقَصْدِ مَعْصِيَة الْجَارِحَة إِذَا لَمْ يَعْمَل الْمَقْصُود , لِلْفَرْقِ بَيْن مَا هُوَ بِالْقَصْدِ وَمَا هُوَ بِالْوَسِيلَةِ.
وَقَسَمَ بَعْضهمْ مَا يَقَع فِي النَّفْس أَقْسَامًا يَظْهَر مِنْهَا الْجَوَاب عَنْ الثَّانِي , أَضْعَفُهَا أَنْ يَخْطِر لَهُ ثُمَّ يَذْهَب فِي الْحَال , وَهَذَا مِنْ الْوَسْوَسَة وَهُوَ مَعْفُوّ عَنْهُ وَهُوَ دُونَ التَّرَدُّد , وَفَوْقَهُ أَنْ يَتَرَدَّد فِيهِ فَيَهُمّ بِهِ ثُمَّ يَنْفِر عَنْهُ فَيَتْرُكهُ ثُمَّ يَهُمّ بِهِ ثُمَّ يَتْرُك كَذَلِكَ وَلَا يَسْتَمِرّ عَلَى قَصْده , وَهَذَا هُوَ التَّرَدُّد فَيُعْفَى عَنْهُ أَيْضًا , وَفَوْقه أَنْ يَمِيل إِلَيْهِ وَلَا يَنْفِر عَنْهُ لَكِنْ لَا يُصَمِّم عَلَى فِعْله وَهَذَا هُوَ الْهَمّ فَيُعْفَى عَنْهُ أَيْضًا , وَفَوْقه أَنْ يَمِيل إِلَيْهِ وَلَا يَنْفِر مِنْهُ بَلْ يُصَمِّم عَلَى فِعْله فَهَذَا هُوَ الْعَزْم وَهُوَ مُنْتَهَى الْهَمّ , وَهُوَ عَلَى قِسْمَيْنِ : الْقِسْم الْأَوَّل أَنْ يَكُونُ مِنْ أَعْمَال الْقُلُوب صِرْفًا كَالشَّكِّ فِي الْوَحْدَانِيَّة أَوْ النُّبُوَّة أَوْ الْبَعْث فَهَذَا كُفْر وَيُعَاقَب عَلَيْهِ جَزْمًا , وَدُونه الْمَعْصِيَة الَّتِي لَا تَصِل إِلَى الْكُفْر كَمَنْ يُحِبّ مَا يُبْغِض اللَّه وَيُبْغِض مَا يُحِبّهُ اللَّه وَيُحِبّ لِلْمُسْلِمِ الْأَذَى بِغَيْرِ مُوجِب لِذَلِكَ فَهَذَا يَأْثَم , وَيَلْتَحِق بِهِ الْكِبْر وَالْعُجْب وَالْبَغْي وَالْمَكْر وَالْحَسَد , وَفِي بَعْض هَذَا خِلَاف.
فَعَنْ الْحَسَنِ الْبَصْرِيّ أَنَّ سُوء الظَّنّ بِالْمُسْلِمِ وَحَسَدَهُ مَعْفُوّ عَنْهُ وَحَمَلُوهُ عَلَى مَا يَقَع فِي النَّفْس مِمَّا لَا يُقْدَر عَلَى دَفْعه.
لَكِنَّ مَنْ يَقَع لَهُ ذَلِكَ مَأْمُور بِمُجَاهَدَتِهِ النَّفْس عَلَى تَرْكه وَالْقِسْم الثَّانِي أَنْ يَكُونَ مِنْ أَعْمَال الْجَوَارِح كَالزِّنَا وَالسَّرِقَة فَهُوَ الَّذِي وَقَعَ فِيهِ النِّزَاع , فَذَهَبَتْ طَائِفَة إِلَى عَدَم الْمُؤَاخَذَة بِذَلِكَ أَصْلًا , عَنْ نَصّ الشَّافِعِيّ , وَيُؤَيِّدهُ مَا وَقَعَ فِي حَدِيث خُرَيْم بْن فَاتِك الْمُنَبَّه عَلَيْهِ قَبْل فَإِنَّهُ حَيْثُ ذَكَرَ الْهَمّ بِالْحَسَنَةِ قَالَ : عَلِمَ اللَّه أَنَّهُ أَشْعَرَهَا قَلْبه وَحَرَصَ عَلَيْهَا , وَحَيْثُ ذَكَرَ الْهَمّ بِالسَّيِّئَةِ لَمْ يُقَيِّد بِشَيْءٍ بَلْ قَالَ فِيهِ : وَمَنْ هَمَّ بِسَيِّئَةٍ لَمْ تُكْتَب عَلَيْهِ , وَالْمَقَام مَقَام الْفَضْل فَلَا يَلِيق التَّحْجِير فِيهِ.
وَذَهَبَ كَثِير مِنْ الْعُلَمَاء إِلَى الْمُؤَاخَذَة بِالْعَزْمِ الْمُصَمَّم , وَسَأَلَ اِبْنُ الْمُبَارَك سُفْيَان الثَّوْرِيَّ : أَيُؤَاخَذُ الْعَبْد بِمَا يَهُمُّ بِهِ ؟ قَالَ : إِذَا جَزَمَ بِذَلِكَ.
وَاسْتَدَلَّ كَثِير مِنْهُمْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ } وَحَمَلُوا حَدِيث أَبِي هُرَيْرَة الصَّحِيح الْمَرْفُوع " إِنَّ اللَّه تَجَاوَزَ لِأُمَّتِي عَمَّا حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسَهَا مَا لَمْ تَعْمَلْ بِهِ أَوْ تَكَلَّمْ " عَلَى الْخَطَرَات كَمَا تَقَدَّمَ.
ثُمَّ اِفْتَرَقَ هَؤُلَاءِ فَقَالَتْ طَائِفَة : يُعَاقَب عَلَيْهِ صَاحِبُهُ فِي الدُّنْيَا خَاصَّة بِنَحْوِ الْهَمّ وَالْغَمّ , وَقَالَتْ طَائِفَة : بَلْ يُعَاقَب عَلَيْهِ يَوْم الْقِيَامَة لَكِنْ بِالْعِتَابِ لَا بِالْعَذَابِ , وَهَذَا قَوْل اِبْنِ جُرَيْجٍ وَالرَّبِيع بْن أَنَسٍ وَطَائِفَة وَنُسِبَ ذَلِكَ إِلَى اِبْنِ عَبَّاس أَيْضًا , وَاسْتَدَلُّوا بِحَدِيثِ النَّجْوَى الْمَاضِي شَرْحه فِي " بَابِ سَتْر الْمُؤْمِن عَلَى نَفْسه " مِنْ كِتَاب الْأَدَب , وَاسْتَثْنَى جَمَاعَة مِمَّنْ ذَهَبَ إِلَى عَدَم مُؤَاخَذَة مَنْ وَقَعَ مِنْهُ الْهَمّ بِالْمَعْصِيَةِ مَا يَقَع فِي الْحَرَم الْمَكِّيّ وَلَوْ لَمْ يُصَمِّم لِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ } ذَكَرَهُ السُّدِّيّ فِي تَفْسِيره عَنْ مُرَّة عَنْ اِبْنِ مَسْعُود , وَأَخْرَجَهُ أَحْمَد مِنْ طَرِيقه مَرْفُوعًا , وَمِنْهُمْ مَنْ رَجَّحَهُ مَوْقُوفًا , وَيُؤَيِّد ذَلِكَ أَنَّ الْحَرَم يَجِبُ اِعْتِقَاد تَعْظِيمه فَمَنْ هَمَّ بِالْمَعْصِيَةِ فِيهِ خَالَفَ الْوَاجِبَ بِانْتِهَاكِ حُرْمَتِهِ , وَتُعُقِّبَ هَذَا الْبَحْث بِأَنَّ تَعْظِيم اللَّه آكَدُ مِنْ تَعْظِيمِ الْحَرَم وَمَعَ ذَلِكَ فَمَنْ هَمَّ بِمَعْصِيَتِهِ لَا يُؤَاخِذُهُ فَكَيْفَ يُؤَاخَذ بِمَا دُونَهُ ؟ وَيُمْكِن أَنْ يُجَابَ عَنْ هَذَا بِأَنَّ اِنْتَهَاك حُرْمَة الْحَرَم بِالْمَعْصِيَةِ تَسْتَلْزِم اِنْتَهَاك حُرْمَة اللَّه لِأَنَّ تَعْظِيم الْحَرَم مِنْ تَعْظِيم اللَّه فَصَارَتْ الْمَعْصِيَة فِي الْحَرَم أَشَدَّ مِنْ الْمَعْصِيَة فِي غَيْره وَإِنْ اِشْتَرَكَ الْجَمِيع فِي تَرْك تَعْظِيم اللَّه تَعَالَى , نَعَمْ مَنْ هَمَّ بِالْمَعْصِيَةِ قَاصِدًا الِاسْتِخْفَاف بِالْحَرَمِ عَصَى , وَمَنْ هَمَّ بِمَعْصِيَةِ اللَّه قَاصِدًا الِاسْتِخْفَاف بِاَللَّهِ كَفَرَ , وَإِنَّمَا الْمَعْفُوّ عَنْهُ مَنْ هَمَّ بِمَعْصِيَةٍ ذَاهِلًا عَنْ قَصْد الِاسْتِخْفَاف , وَهَذَا تَفْصِيل جَيِّد يَنْبَغِي أَنْ يُسْتَحْضَر عِنْد شَرْح حَدِيث " لَا يَزْنِي الزَّانِي وَهُوَ مُؤْمِن ".
وَقَالَ السُّبْكِيّ الْكَبِير : الْهَاجِس لَا يُؤَاخَذ بِهِ إِجْمَاعًا , وَالْخَاطِر وَهُوَ جَرَيَان ذَلِكَ الْهَاجِس وَحَدِيث النَّفْس لَا يُؤَاخَذ بِهِمَا لِلْحَدِيثِ الْمُشَار إِلَيْهِ , وَالْهَمّ وَهُوَ قَصْد فِعْل الْمَعْصِيَة مَعَ التَّرَدُّد لَا يُؤَاخَذ بِهِ الْحَدِيث الْبَاب , وَالْعَزْم - وَهُوَ قُوَّة ذَلِكَ الْقَصْد أَوْ الْجَزْم بِهِ وَرَفَعَ التَّرَدُّد - قَالَ الْمُحَقِّقُونَ يُؤَاخَذ بِهِ , وَقَالَ بَعْضهمْ لَا وَاحْتَجَّ بِقَوْلِ أَهْل اللُّغَة : هَمَّ بِالشَّيْءِ عَزَمَ عَلَيْهِ , وَهَذَا لَا يَكْفِي , قَالَ : وَمِنْ أَدِلَّة الْأَوَّل حَدِيث " إِذَا اِلْتَقَى الْمُسْلِمَانِ بِسَيْفَيْهِمَا " الْحَدِيث , وَفِيهِ أَنَّهُ كَانَ حَرِيصًا عَلَى قَتْل صَاحِبِهِ فَعُلِّلَ بِالْحِرْصِ , وَاحْتَجَّ بَعْضهمْ بِأَعْمَالِ الْقُلُوب وَلَا حُجَّة مَعَهُ لِأَنَّهَا عَلَى قِسْمَيْنِ : أَحَدُهُمَا لَا يَتَعَلَّق بِفِعْلٍ خَارِجِيٍّ وَلَيْسَ الْبَحْث فِيهِ , وَالثَّانِي يَتَعَلَّق بِالْمُلْتَقِيَيْنِ عَزَمَ كُلٌّ مِنْهُمَا عَلَى قَتْل صَاحِبِهِ وَاقْتَرَنَ بِعَزْمِهِ فِعْل بَعْض مَا عَزَمَ عَلَيْهِ وَهُوَ شَهْر السِّلَاح وَإِشَارَته بِهِ إِلَى الْآخَر فَهَذَا الْفِعْل يُؤَاخَذ بِهِ سَوَاء حَصَلَ الْقَتْل أَمْ لَا.
اِنْتَهَى.
وَلَا يَلْزَم مِنْ قَوْله " فَالْقَاتِل وَالْمَقْتُول فِي النَّار " أَنْ يَكُونَا فِي دَرَجَةٍ وَاحِدَةٍ مِنْ الْعَذَاب بِالِاتِّفَاقِ.
‏ ‏قَوْله ( فَإِنْ هُوَ هَمَّ بِهَا فَعَمِلَهَا كَتَبَهَا اللَّه لَهُ سَيِّئَة وَاحِدَة ) ‏ ‏فِي رِوَايَة الْأَعْرَج " فَاكْتُبُوهَا لَهُ بِمِثْلِهَا " وَزَادَ مُسْلِم فِي حَدِيث أَبِي ذَرّ " فَجَزَاؤُهُ بِمِثْلِهَا أَوْ أَغْفِرُ " وَلَهُ فِي آخِر حَدِيث اِبْن عَبَّاس أَوْ " يَمْحُوهَا " وَالْمَعْنَى أَنَّ اللَّه يَمْحُوهَا بِالْفَضْلِ أَوْ بِالتَّوْبَةِ أَوْ بِالِاسْتِغْفَارِ أَوْ بِعَمَلِ الْحَسَنَةِ الَّتِي تُكَفِّر السَّيِّئَة , وَالْأَوَّل أَشْبَهُ لِظَاهِرِ حَدِيث أَبِي ذَرّ , وَفِيهِ رَدٌّ لِقَوْلِ مَنْ اِدَّعَى أَنَّ الْكَبَائِر لَا تُغْفَرُ إِلَّا بِالتَّوْبَةِ , وَيُسْتَفَادُ مِنْ التَّأْكِيد بِقَوْلِهِ " وَاحِدَة " أَنَّ السَّيِّئَة لَا تُضَاعَف كَمَا تُضَاعَف الْحَسَنَة , وَهُوَ عَلَى وَفْق قَوْله تَعَالَى { فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا } قَالَ اِبْن عَبْد السَّلَام فِي أَمَالِيهِ : فَائِدَة التَّأْكِيد دَفْع تَوَهُّم مَنْ يَظُنّ أَنَّهُ إِذَا عَمِلَ السَّيِّئَة كُتِبَتْ عَلَيْهِ سَيِّئَةُ الْعَمَلِ وَأُضِيفَتْ إِلَيْهَا سَيِّئَةُ الْهَمِّ , وَلَيْسَ كَذَلِكَ إِنَّمَا يُكْتَبُ عَلَيْهِ سَيِّئَةٌ وَاحِدَةٌ.
وَقَدْ اِسْتَثْنَى بَعْض الْعُلَمَاء وُقُوع الْمَعْصِيَة فِي الْحَرَم الْمَكِّيِّ.
قَالَ إِسْحَاق بْن مَنْصُور : قُلْت لِأَحْمَدَ هَلْ وَرَدَ فِي شَيْء مِنْ الْحَدِيث أَنَّ السَّيِّئَة تُكْتَب بِأَكْثَرَ مِنْ وَاحِدَة ؟ قَالَ : لَا , مَا سَمِعْت إِلَّا بِمَكَّةَ لِتَعْظِيمِ الْبَلَد.
وَالْجُمْهُور عَلَى التَّعْمِيم فِي الْأَزْمِنَة وَالْأَمْكِنَة لَكِنْ قَدْ يَتَفَاوَتُ بِالْعِظَمِ , وَلَا يَرِدُ عَلَى ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى { مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ } لِأَنَّ ذَلِكَ وَرَدَ تَعْظِيمًا لِحَقِّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّ وُقُوعَ ذَلِكَ مِنْ نِسَائِهِ يَقْتَضِي أَمْرًا زَائِدًا عَلَى الْفَاحِشَةِ وَهُوَ أَذَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , وَزَادَ مُسْلِمٌ بَعْد قَوْله " أَوْ يَمْحُوهَا " : " وَلَا يَهْلِك عَلَى اللَّه إِلَّا هَالِكٌ " أَيْ مَنْ أَصَرَّ عَلَى التَّجَرِّي عَلَى السَّيِّئَة عَزْمًا وَقَوْلًا وَفِعْلًا وَأَعْرَضَ عَنْ الْحَسَنَات هَمًّا وَقَوْلًا وَفِعْلًا , قَالَ اِبْن بَطَّال : فِي هَذَا الْحَدِيث بَيَان فَضْل اللَّه الْعَظِيم عَلَى هَذِهِ الْأَمَة لِأَنَّهُ لَوْلَا ذَلِكَ كَادَ لَا يَدْخُل أَحَدٌ الْجَنَّةَ , لِأَنَّ عَمَلَ الْعِبَادِ لِلسَّيِّئَاتِ أَكْثَر مِنْ عَمَلِهِمْ الْحَسَنَاتِ ; وَيُؤَيِّد مَا دَلَّ عَلَيْهِ حَدِيث الْبَاب مِنْ الْإِثَابَةِ عَلَى الْهَمِّ بِالْحَسَنَةِ وَعَدَمِ الْمُؤَاخَذَةِ عَلَى الْهَمِّ بِالسَّيِّئَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى { لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اِكْتَسَبَتْ } إِذْ ذَكَرَ فِي السُّوءِ الِافْتِعَالَ الَّذِي يَدُلُّ عَلَى الْمُعَالَجَةِ وَالتَّكَلُّفِ فِيهِ بِخِلَافِ الْحَسَنَة , وَفِيهِ مَا يَتَرَتَّب لِلْعَبْدِ عَلَى هِجْرَان لَذَّتِهِ وَتَرْكِ شَهْوَتِهِ مِنْ أَجْلِ رَبّه رَغْبَة فِي ثَوَابه وَرَهْبَة مِنْ عِقَابه , وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ الْحَفَظَةَ لَا تَكْتُبُ الْمُبَاحَ لِلتَّقْيِيدِ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَات , وَأَجَابَ بَعْض الشُّرَّاح بِأَنَّ بَعْض الْأَئِمَّةِ عَدَّ الْمُبَاحَ مِنْ الْحَسَنِ , وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ الْكَلَام فِيمَا يَتَرَتَّب عَلَى فِعْلِهِ حَسَنَةٌ وَلَيْسَ الْمُبَاح وَلَوْ سُمِّيَ حَسَنًا كَذَلِكَ , نَعَمْ قَدْ يُكْتَبُ حَسَنَةً بِالنِّيَّةِ وَلَيْسَ الْبَحْثُ فِيهِ , وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي " بَاب حِفْظ اللِّسَان " قَرِيبًا شَيْء مِنْ ذَلِكَ , وَفِيهِ أَنَّ اللَّه سُبْحَانه وَتَعَالَى بِفَضْلِهِ وَكَرَمه جَعَلَ الْعَدْلَ فِي السَّيِّئَةِ وَالْفَضْلَ فِي الْحَسَنَة فَضَاعَفَ الْحَسَنَةَ وَلَمْ يُضَاعِفْ السَّيِّئَةَ بَلْ أَضَافَ فِيهَا إِلَى الْعَدْلِ الْفَضْلَ فَأَدَارَهَا بَيْن الْعُقُوبَة وَالْعَفْو بِقَوْلِهِ : " كُتِبَتْ لَهُ وَاحِدَةٌ أَوْ يَمْحُوهَا " وَبِقَوْلِهِ : " فَجَزَاؤُهُ بِمِثْلِهَا أَوْ أَغْفِرُ " وَفِي هَذَا الْحَدِيث رَدٌّ عَلَى الْكَعْبِيِّ فِي زَعْمِهِ أَنْ لَيْسَ فِي الشَّرْعِ مُبَاحٌ بَلْ الْفَاعِل إِمَّا عَاصٍ وَإِمَّا مُثَابٌ , فَمَنْ اِشْتَغَلَ عَنْ الْمَعْصِيَة بِشَيْءٍ فَهُوَ مُثَابٌ , وَتَعَقَّبُوهُ بِمَا تَقَدَّمَ أَنَّ الَّذِي يُثَابُ عَلَى تَرْكِ الْمَعْصِيَةِ هُوَ الَّذِي يَقْصِدُ بِتَرْكِهَا رِضَا اللَّهِ كَمَا تَقَدَّمَتْ الْإِشَارَة إِلَيْهِ , وَحَكَى اِبْن التِّين أَنَّهُ يَلْزَمهُ أَنَّ الزَّانِيَ مَثَلًا مُثَابٌ لِاشْتِغَالِهِ بِالزِّنَا عَنْ مَعْصِيَةٍ أُخْرَى وَلَا يَخْفَى مَا فِيهِ.


حديث إن الله كتب الحسنات والسيئات ثم بين ذلك فمن هم بحسنة فلم يعملها كتبها الله

الحديث بالسند الكامل مع التشكيل

‏ ‏حَدَّثَنَا ‏ ‏أَبُو مَعْمَرٍ ‏ ‏حَدَّثَنَا ‏ ‏عَبْدُ الْوَارِثِ ‏ ‏حَدَّثَنَا ‏ ‏جَعْدُ بْنُ دِينَارٍ أَبُو عُثْمَانَ ‏ ‏حَدَّثَنَا ‏ ‏أَبُو رَجَاءٍ الْعُطَارِدِيُّ ‏ ‏عَنْ ‏ ‏ابْنِ عَبَّاسٍ ‏ ‏رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ‏ ‏عَنْ النَّبِيِّ ‏ ‏صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ‏ ‏فِيمَا يَرْوِي عَنْ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ قَالَ قَالَ ‏ ‏إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ الْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ ثُمَّ بَيَّنَ ذَلِكَ فَمَنْ هَمَّ بِحَسَنَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا كَتَبَهَا اللَّهُ لَهُ عِنْدَهُ حَسَنَةً كَامِلَةً فَإِنْ هُوَ هَمَّ بِهَا فَعَمِلَهَا كَتَبَهَا اللَّهُ لَهُ عِنْدَهُ عَشْرَ حَسَنَاتٍ إِلَى سَبْعِ مِائَةِ ضِعْفٍ إِلَى أَضْعَافٍ كَثِيرَةٍ وَمَنْ هَمَّ بِسَيِّئَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا كَتَبَهَا اللَّهُ لَهُ عِنْدَهُ حَسَنَةً كَامِلَةً فَإِنْ هُوَ هَمَّ بِهَا فَعَمِلَهَا كَتَبَهَا اللَّهُ لَهُ سَيِّئَةً وَاحِدَةً ‏

كتب الحديث النبوي الشريف

المزيد من أحاديث صحيح البخاري

إنكم لتعملون أعمالا هي أدق في أعينكم من الشعر

عن ‌أنس رضي الله عنه قال: «إنكم لتعملون أعمالا هي أدق في أعينكم من الشعر، إن كنا نعد على عهد النبي صلى الله عليه وسلم الموبقات» قال أبو عبد الله: يعن...

إن العبد ليعمل فيما يرى الناس عمل أهل الجنة وإنه ل...

عن ‌سهل بن سعد الساعدي قال: «نظر النبي صلى الله عليه وسلم إلى رجل يقاتل المشركين، وكان من أعظم المسلمين غناء عنهم، فقال: من أحب أن ينظر إلى رجل من أهل...

يا رسول الله أي الناس خير

عن ‌أبي سعيد الخدري قال: «جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، أي الناس خير؟ قال: رجل جاهد بنفسه وماله، ورجل في شعب من الشعاب ي...

يأتي على الناس زمان خير مال الرجل المسلم الغنم يتب...

عن ‌أبي سعيد : أنه سمعه يقول: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «يأتي على الناس زمان خير مال الرجل المسلم الغنم يتبع بها شعف الجبال ومواقع القطر، ي...

إذا ضيعت الأمانة فانتظر الساعة

عن ‌أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا ضيعت الأمانة فانتظر الساعة.<br> قال: كيف إضاعتها يا رسول الله؟ قال: إذا أسند ا...

ينام الرجل النومة فتقبض الأمانة من قلبه فيظل أثره...

حدثنا ‌حذيفة قال: «حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثين: رأيت أحدهما وأنا أنتظر الآخر: حدثنا أن الأمانة نزلت في جذر قلوب الرجال، ثم علموا من القر...

إنما الناس كالإبل المائة لا تكاد تجد فيها راحلة

عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إنما الناس كالإبل المائة، لا تكاد تجد فيها راحلة.»

من سمع سمع الله به ومن يرائي يرائي الله به

عن جندب يقول: قال النبي صلى الله عليه وسلم، ولم أسمع أحدا يقول: قال النبي صلى الله عليه وسلم غيره، فدنوت منه فسمعته يقول: قال النبي صلى الله عليه وسلم...

إن حق الله على عباده أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا

عن ‌معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: «بينما أنا رديف النبي صلى الله عليه وسلم ليس بيني وبينه إلا آخرة الرحل، فقال: يا معاذ، قلت: لبيك يا رسول الله، وسعدي...