6502- عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله قال: «من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضت عليه، وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، وإن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه، وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن نفس المؤمن؛ يكره الموت وأنا أكره مساءته.»
(وليا) هو العالم بدين الله تعالى المواظب على طاعته المخلص في عبادته.
(آذنته بالحرب) أعلمته بالهلاك والنكال.
(مما افترضت عليه) من الفروض العينية وفروض الكفاية.
(كنت سمعه.
.
) أحفظه كما يحفظ العبد جوارحه من التلف والهلاك وأوفقه لما فيه خيره وصلاحه وأعينه في المواقف وأنصره في الشدائد.
(استعاذني) استجار بي مما يخاف
(ما ترددت) كناية عن اللطف والشفقة وعدم الإسراع بقبض روحه
(مساءته) إساءته بفعل ما يكره
فتح الباري شرح صحيح البخاري: ابن حجر العسقلاني - أحمد بن علي بن حجر العسقلاني
قَوْله ( مُحَمَّد بْن عُثْمَان بْن كَرَامَة ) بِفَتْحِ الْكَافِ وَالرَّاءِ الْخَفِيفَةِ هُوَ مِنْ صِغَارِ شُيُوخِ الْبُخَارِيِّ , وَقَدْ شَارَكَهُ فِي كَثِير مِنْ شُيُوخِهِ مِنْهُمْ خَالِد بْن مَخْلَد شَيْخه فِي هَذَا الْحَدِيث , فَقَدْ أَخْرَجَ عَنْهُ الْبُخَارِيّ كَثِيرًا بِغَيْرِ وَاسِطَةٍ مِنْهَا فِي " بَاب الِاسْتِعَاذَة مِنْ الْجُبْنِ " فِي كِتَاب الدَّعَوَاتِ وَهُوَ أَقْرَبُهَا إِلَى هَذَا.
قَوْله ( عَنْ عَطَاء ) هُوَ اِبْن يَسَار , وَوَقَعَ كَذَلِكَ فِي بَعْض النَّسْخِ , وَقِيلَ هُوَ اِبْن أَبِي رَبَاح وَالْأَوَّل أَصَحُّ نَبَّهَ عَلَى ذَلِكَ الْخَطِيب , وَسَاقَ الذَّهَبِيُّ فِي تَرْجَمَةِ خَالِد مِنْ الْمِيزَان بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ قَوْل أَحْمَد فِيهِ لَهُ مَنَاكِير , وَقَوْل أَبِي حَاتِم لَا يُحْتَجُّ بِهِ , وَأَخْرَجَ اِبْن عَدِيٍّ عَشَرَة أَحَادِيث مِنْ حَدِيثه اِسْتَنْكَرَهَا : هَذَا الْحَدِيث مِنْ طَرِيق مُحَمَّد بْن مَخْلَد عَنْ مُحَمَّد بْن عُثْمَان بْن كَرَامَة شَيْخ الْبُخَارِيّ فِيهِ وَقَالَ : هَذَا حَدِيث غَرِيب جِدًّا لَوْلَا هَيْبَةُ الصَّحِيحِ لَعَدُّوهُ فِي مُنْكَرَات خَالِدِ بْن مَخْلَد , فَإِنَّ هَذَا الْمَتْنَ لَمْ يُرْوَ إِلَّا بِهَذَا الْإِسْنَادِ وَلَا خَرَّجَهُ مَنْ عَدَا الْبُخَارِيّ وَلَا أَظُنُّهُ فِي مُسْنَد أَحْمَدَ.
قُلْت : لَيْسَ هُوَ فِي مُسْنَد أَحْمَد جَزْمًا , وَإِطْلَاق أَنَّهُ لَمْ يُرْوَ هَذَا الْمَتْنُ إِلَّا بِهَذَا الْإِسْنَادِ مَرْدُودٌ , وَمَعَ ذَلِكَ فَشَرِيكٌ شَيْخُ شَيْخِ خَالِدٍ فِيهِ مَقَالٌ أَيْضًا , وَهُوَ رَاوِي حَدِيث الْمِعْرَاج الَّذِي زَادَ فِيهِ وَنَقَصَ وَقَدَّمَ وَأَخَّرَ وَتَفَرَّدَ فِيهِ بِأَشْيَاءَ لَمْ يُتَابَعْ عَلَيْهَا كَمَا يَأْتِي الْقَوْل فِيهِ مُسْتَوْعَبًا فِي مَكَانِهِ , وَلَكِنْ لِلْحَدِيثِ طُرُقٌ أُخْرَى يَدُلُّ مَجْمُوعُهَا عَلَى أَنْ لَهُ أَصْلًا , مِنْهَا عَنْ عَائِشَةَ أَخْرَجَهُ أَحْمَد فِي " الزُّهْد " وَابْن أَبِي الدُّنْيَا وَأَبُو نُعَيْم فِي " الْحِلْيَة " وَالْبَيْهَقِيُّ فِي " الزُّهْد " مِنْ طَرِيق عَبْد الْوَاحِد بْن مَيْمُون عَنْ عُرْوَة عَنْهَا , وَذَكَرَ اِبْن حِبَّانَ وَابْن عَدِيٍّ أَنَّهُ تَفَرَّدَ بِهِ , وَقَدْ قَالَ الْبُخَارِيُّ إِنَّهُ مُنْكَرُ الْحَدِيثِ , لَكِنْ أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ مِنْ طَرِيقِ يَعْقُوب بْن مُجَاهِد عَنْ عُرْوَة وَقَالَ : لَمْ يَرَوْهُ عَنْ عُرْوَة إِلَّا يَعْقُوب وَعَبْد الْوَاحِد.
وَمِنْهَا عَنْ أَبِي أُمَامَةَ أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي " الزُّهْد " بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ.
وَمِنْهَا عَنْ عَلِيٍّ عِنْد الْإِسْمَاعِيلِيّ فِي مُسْنَد عَلِيٍّ , وَعَنْ اِبْن عَبَّاس أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ وَسَنَدُهُمَا ضَعِيفٌ , وَعَنْ أَنَس أَخْرَجَهُ أَبُو يَعْلَى وَالْبَزَّار وَالطَّبَرَانِيُّ وَفِي سَنَدِهِ ضَعْفٌ أَيْضًا , وَعَنْ حُذَيْفَةَ أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ مُخْتَصَرًا وَسَنَده حَسَنٌ غَرِيبٌ , وَعَنْ مُعَاذِ بْن جَبَلٍ أَخْرَجَهُ اِبْن مَاجَهْ وَأَبُو نُعَيْمٍ فِي " الْحِلْيَة " مُخْتَصَرًا وَسَنَدُهُ ضَعِيفٌ أَيْضًا , وَعَنْ وَهْب بْن مُنَبِّهٍ مَقْطُوعًا أَخْرَجَهُ أَحْمَد فِي " الزُّهْد " وَأَبُو نُعَيْم فِي " الْحِلْيَة " وَفِيهِ تَعَقُّبٌ عَلَى اِبْن حِبَّانَ حَيْثُ قَالَ بَعْدَ إِخْرَاج حَدِيث أَبِي هُرَيْرَة : لَا يُعْرَفُ لِهَذَا الْحَدِيث إِلَّا طَرِيقَانِ يَعْنِي غَيْر حَدِيث الْبَاب وَهُمَا هِشَامٌ الْكِنَانِيُّ عَنْ أَنَس وَعَبْد الْوَاحِد بْن مَيْمُون عَنْ عُرْوَة عَنْ عَائِشَة وَكِلَاهُمَا لَا يَصِحُّ , وَسَأَذْكُرُ مَا فِي رِوَايَاتِهِمْ مِنْ فَائِدَةٍ زَائِدَةٍ.
قَوْله ( إِنَّ اللَّه تَعَالَى ) قَالَ الْكَرْمَانِيُّ : هَذَا مِنْ الْأَحَادِيث الْقُدْسِيَّةِ , وَقَدْ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِيهَا قَبْلَ سِتَّةِ أَبْوَابٍ.
قُلْت : وَقَدْ وَقَعَ فِي بَعْضِ طُرُقِهِ أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَدَّثَ بِهِ عَنْ جِبْرِيل عَنْ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ وَذَلِكَ فِي حَدِيث أَنَسٍ.
قَوْله ( مِنْ عَادَى لِي وَلِيًّا ) الْمُرَاد بِوَلِيِّ اللَّهِ الْعَالِم بِاَللَّهِ الْمُوَاظِب عَلَى طَاعَته الْمُخْلِص فِي عِبَادَته.
وَقَدْ اُسْتُشْكِلَ وُجُود أَحَدٍ يُعَادِيهِ لِأَنَّ الْمُعَادَاةَ إِنَّمَا تَقَعُ مِنْ الْجَانِبَيْنِ وَمَنْ شَأْن الْوَلِيِّ الْحِلْم وَالصَّفْح عَمَّنْ يَجْهَل عَلَيْهِ , وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْمُعَادَاةَ لَمْ تَنْحَصِرْ فِي الْخُصُومَةِ وَالْمُعَامَلَةِ الدُّنْيَوِيَّةِ مَثَلًا بَلْ قَدْ تَقَع عَنْ بُغْضٍ يَنْشَأُ عَنْ التَّعَصُّبِ كَالرَّافِضِيِّ فِي بُغْضِهِ لِأَبِي بَكْرٍ , وَالْمُبْتَدِع فِي بُغْضِهِ لِلسُّنِّيِّ , فَتَقَعُ الْمُعَادَاةُ مِنْ الْجَانِبَيْنِ , أَمَّا مِنْ جَانِب الْوَلِيِّ فَلِلَّهِ تَعَالَى وَفِي اللَّه , وَأَمَّا مِنْ جَانِب الْآخَر فَلِمَا تَقَدَّمَ.
وَكَذَا الْفَاسِق الْمُتَجَاهِر بِبُغْضِهِ الْوَلِيُّ فِي اللَّه وَبِبُغْضِهِ الْآخَر لِإِنْكَارِهِ عَلَيْهِ وَمُلَازَمَتِهِ لِنَهْيِهِ عَنْ شَهَوَاتِهِ.
وَقَدْ تُطْلَقُ الْمُعَادَاةُ وَيُرَاد بِهَا الْوُقُوع مِنْ أَحَد الْجَانِبَيْنِ بِالْفِعْلِ وَمِنْ الْآخَر بِالْقُوَّةِ , قَالَ الْكَرْمَانِيُّ : قَوْله " لِي " هُوَ فِي الْأَصْل صِفَةٌ لِقَوْلِهِ " وَلِيًّا " لَكِنَّهُ لَمَّا تَقَدَّمَ صَارَ حَالًا.
وَقَالَ اِبْن هُبَيْرَةَ فِي " الْإِفْصَاحِ " قَوْله " عَادَى لِي وَلِيًّا " أَيْ اِتَّخَذَهُ عَدُوًّا , وَلَا أَرَى الْمَعْنَى إِلَّا أَنَّهُ عَادَاهُ مِنْ أَجْلِ وِلَايَتِهِ وَهُوَ إِنْ تَضَمَّنَ التَّحْذِيرَ مِنْ إِيذَاء قُلُوبِ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ لَيْسَ عَلَى الْإِطْلَاقِ بَلْ يُسْتَثْنَى مِنْهُ مَا إِذَا كَانَتْ الْحَالُ تَقْتَضِي نِزَاعًا بَيْنَ وَلِيَّيْنِ فِي مُخَاصَمَةٍ أَوْ مُحَاكَمَةٍ تَرْجِعُ إِلَى اِسْتِخْرَاجِ حَقٍّ أَوْ كَشْف غَامِضٍ , فَإِنَّهُ جَرَى بَيْنَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ مُشَاجَرَةٌ , وَبَيْن الْعَبَّاسِ وَعَلِيٍّ , إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْوَقَائِعِ اِنْتَهَى مُلَخَّصًا مُوَضَّحًا.
وَتَعَقَّبَهُ الْفَاكِهَانِيُّ بِأَنَّ مُعَادَاة الْوَلِيّ لِكَوْنِهِ وَلِيًّا لَا يُفْهَمُ إِلَّا إِنْ كَانَ عَلَى طَرِيقِ الْحَسَدِ الَّذِي هُوَ تَمَنِّي زَوَال وِلَايَته وَهُوَ بَعِيدٌ جِدًّا فِي حَقّ الْوَلِيِّ فَتَأَمَّلْهُ قُلْت : وَاَلَّذِي قَدَّمْته أَوْلَى أَنْ يُعْتَمَد , قَالَ اِبْن هُبَيْرَة : وَيُسْتَفَاد مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَقْدِيمُ الْإِعْذَارِ عَلَى الْإِنْذَارِ وَهُوَ وَاضِحٌ.
قَوْله ( فَقَدْ آذَنْته ) بِالْمَدِّ وَفَتْح الْمُعْجَمَةِ بَعْدهَا نُونٌ أَيْ أَعْلَمْته , وَالْإِيذَانُ الْإِعْلَامُ , وَمِنْهُ أُخِذَ الْأَذَانُ.
قَوْله ( بِالْحَرْبِ ) فِي رِوَايَة الْكُشْمِيهَنِيِّ " بِحَرْبٍ " وَوَقَعَ فِي حَدِيث عَائِشَةَ " مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا " وَفِي رِوَايَةٍ لِأَحْمَدَ " مَنْ آذَى لِي وَلِيًّا " وَفِي أُخْرَى لَهُ " مَنْ آذَى " وَفِي حَدِيثِ مَيْمُونَةَ مِثْلُهُ " فَقَدْ اِسْتَحَلَّ مُحَارَبَتِي " وَفِي رِوَايَة وَهْبِ بْن مُنَبِّهٍ مَوْقُوفًا " قَالَ اللَّهُ مَنْ أَهَانَ وَلِيِّي الْمُؤْمِنَ فَقَدْ اِسْتَقْبَلَنِي بِالْمُحَارَبَةِ " وَفِي حَدِيث مُعَاذ " فَقَدْ بَارَزَ اللَّهَ بِالْمُحَارَبَةِ " وَفِي حَدِيثِ أَبِي أُمَامَةَ وَأَنَسٍ " فَقَدْ بَارَزَنِي " وَقَدْ اُسْتُشْكِلَ وُقُوعُ الْمُحَارَبَةِ وَهِيَ مُفَاعَلَةٌ مِنْ الْجَانِبَيْنِ مَعَ أَنَّ الْمَخْلُوقَ فِي أَسْرِ الْخَالِقِ , وَالْجَوَاب أَنَّهُ مِنْ الْمُخَاطَبَةِ بِمَا يُفْهَمُ , فَإِنَّ الْحَرْبَ تَنْشَأُ عَنْ الْعَدَاوَةِ وَالْعَدَاوَةُ تَنْشَأُ عَنْ الْمُخَالَفَةِ وَغَايَة الْحَرْب الْهَلَاك وَاَللَّه لَا يَغْلِبُهُ غَالِبٌ , فَكَأَنَّ الْمَعْنَى فَقَدْ تَعَرَّضَ لِإِهْلَاكِي إِيَّاهُ.
فَأَطْلَقَ الْحَرْبَ وَأَرَادَ لَازِمَهُ أَيْ أَعْمَلُ بِهِ مَا يَعْمَلُهُ الْعَدُوُّ الْمُحَارَبُ.
قَالَ الْفَاكِهَانِيُّ : فِي هَذَا تَهْدِيدٌ شَدِيدٌ , لِأَنَّ مَنْ حَارَبَهُ اللَّهُ أَهْلَكَهُ , وَهُوَ مِنْ الْمَجَازِ الْبَلِيغِ , لِأَنَّ مَنْ كَرِهَ مَنْ أَحَبَّ اللَّهُ خَالَفَ اللَّهَ وَمَنْ خَالَفَ اللَّهَ عَانَدَهُ وَمَنْ عَانَدَهُ أَهْلَكَهُ , وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فِي جَانِبِ الْمُعَادَاةِ ثَبَتَ فِي جَانِب الْمُوَالَاةِ , فَمَنْ وَالَى أَوْلِيَاءَ اللَّه أَكْرَمَهُ اللَّهُ.
وَقَالَ الطُّوفِيُّ : لَمَّا كَانَ وَلِيُّ اللَّهِ مَنْ تَوَلَّى اللَّهَ بِالطَّاعَةِ وَالتَّقْوَى تَوَلَّاهُ اللَّهُ بِالْحِفْظِ وَالنُّصْرَةِ , وَقَدْ أَجْرَى اللَّهُ الْعَادَةَ بِأَنَّ عَدُوَّ الْعَدُوّ صِدِّيقٌ وَصِدِّيقَ الْعَدُوِّ عَدُوٌّ , فَعَدُوُّ وَلِيِّ اللَّهِ عَدُوُّ اللَّهِ فَمَنْ عَادَاهُ كَانَ كَمَنْ حَارَبَهُ وَمَنْ حَارَبَهُ فَكَأَنَّمَا حَارَبَ اللَّه.
قَوْله ( وَمَا تَقَرَّبَ إِلَىَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا اِفْتَرَضْت عَلَيْهِ ) يَجُوزُ فِي " أَحَبّ " الرَّفْعُ وَالنَّصْبُ , وَيَدْخُلُ تَحْتَ هَذَا اللَّفْظِ جَمِيعُ فَرَائِضِ الْعَيْنِ وَالْكِفَايَةِ , وَظَاهِرُهُ الِاخْتِصَاصُ بِمَا اِبْتَدَأَ اللَّه فَرْضِيَّتَهُ , وَفِي دُخُول مَا أَوْجَبَهُ الْمُكَلَّف عَلَى نَفْسِهِ نَظَرٌ لِلتَّقْيِيدِ بِقَوْلِهِ اِفْتَرَضْت عَلَيْهِ , إِلَّا إِنْ أُخِذَ مِنْ جِهَة الْمَعْنَى الْأَعَمِّ , وَيُسْتَفَادُ مِنْهُ أَنَّ أَدَاء الْفَرَائِض أَحَبُّ الْأَعْمَالِ إِلَى اللَّه.
قَالَ الطُّوفِيُّ : الْأَمْرُ بِالْفَرَائِضِ جَازِمٌ وَيَقَعُ بِتَرْكِهَا الْمُعَاقَبَةُ بِخِلَافِ النَّفْلِ فِي الْأَمْرَيْنِ وَإِنْ اِشْتَرَكَ مَعَ الْفَرَائِضِ فِي تَحْصِيلِ الثَّوَابِ فَكَانَتْ الْفَرَائِضُ أَكْمَلَ , فَلِهَذَا كَانَتْ أَحَبَّ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى وَأَشَدَّ تَقْرِيبًا , وَأَيْضًا فَالْفَرْضُ كَالْأَصْلِ وَالْأُسِّ وَالنَّفْلُ كَالْفَرْعِ وَالْبِنَاءِ , وَفِي الْإِتْيَانِ بِالْفَرَائِضِ عَلَى الْوَجْهِ الْمَأْمُورِ بِهِ اِمْتِثَالُ الْأَمْرِ وَاحْتِرَامُ الْآمِرِ وَتَعْظِيمُهُ بِالِانْقِيَادِ إِلَيْهِ وَإِظْهَارُ عَظَمَةِ الرُّبُوبِيَّةِ وَذُلِّ الْعُبُودِيَّةِ فَكَانَ التَّقَرُّبُ بِذَلِكَ أَعْظَمَ الْعَمَلِ , وَاَلَّذِي يُؤَدِّي الْفَرَائِض قَدْ يَفْعَلهُ خَوْفًا مِنْ الْعُقُوبَةِ وَمُؤَدِّي النَّفْلِ لَا يَفْعَلُهُ إِلَّا إِيثَارًا لِلْخِدْمَةِ فَيُجَازَى بِالْمَحَبَّةِ الَّتِي هِيَ غَايَةُ مَطْلُوبِ مَنْ يَتَقَرَّبُ بِخِدْمَتِهِ.
قَوْله ( وَمَا زَالَ ) فِي رِوَايَة الْكُشْمِيهَنِيِّ " وَمَا يَزَالُ " بِصِيغَةِ الْمُضَارَعَةِ.
قَوْله ( يَتَقَرَّب إِلَيَّ ) التَّقَرُّب طَلَبُ الْقُرْبِ , قَالَ أَبُو الْقَاسِم الْقُشَيْرِيُّ : قُرْبُ الْعَبْدِ مِنْ رَبِّهِ يَقَعُ أَوَّلًا بِإِيمَانِهِ , ثُمَّ بِإِحْسَانِهِ.
وَقُرْبُ الرَّبِّ مِنْ عَبْدِهِ مَا يَخُصُّهُ بِهِ فِي الدُّنْيَا مِنْ عِرْفَانِهِ , وَفِي الْآخِرَة مِنْ رِضْوَانه , وَفِيمَا بَيْن ذَلِكَ مِنْ وُجُوه لُطْفه وَامْتِنَانه.
وَلَا يَتِمُّ قُرْبُ الْعَبْدِ مِنْ الْحَقِّ إِلَّا بِبَعْدِهِ مِنْ الْخَلْقِ.
قَالَ : وَقُرْب الرَّبّ بِالْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ عَامٌّ لِلنَّاسِ , وَبِاللُّطْفِ وَالنُّصْرَةِ خَاصٌّ بِالْخَوَاصِّ , وَبِالتَّأْنِيسِ خَاصٌّ بِالْأَوْلِيَاءِ.
وَوَقَعَ فِي حَدِيث أَبِي أُمَامَةَ " يَتَحَبَّبُ إِلَىَّ " بَدَلَ " يَتَقَرَّبُ " وَكَذَا فِي حَدِيث مَيْمُونَةَ.
قَوْله ( بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أَحْبَبْته ) فِي رِوَايَة الْكُشْمِيهَنِيِّ " أُحِبَّهُ " ظَاهِرُهُ أَنَّ مَحَبَّةَ اللَّهِ تَعَالَى لِلْعَبْدِ تَقَعُ بِمُلَازَمَةِ الْعَبْدِ التَّقَرُّبَ بِالنَّوَافِلِ , وَقَدْ اُسْتُشْكِلَ بِمَا تَقَدَّمَ أَوَّلًا أَنَّ الْفَرَائِضَ أَحَبُّ الْعِبَادَاتِ الْمُتَقَرَّبِ بِهَا إِلَى اللَّهِ فَكَيْفَ لَا تُنْتِجُ الْمَحَبَّةَ ؟ وَالْجَوَابُ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ النَّوَافِلِ مَا كَانَتْ حَاوِيَةً لِلْفَرَائِضِ مُشْتَمِلَةً عَلَيْهَا وَمُكَمِّلَةً لَهَا , وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّ فِي رِوَايَةِ أَبِي أُمَامَةَ " اِبْن آدَم.
إِنَّك لَنْ تُدْرِكَ مَا عِنْدِي إِلَّا بِأَدَاءِ مَا اِفْتَرَضْت عَلَيْك " وَقَالَ الْفَاكِهَانِيُّ : مَعْنَى الْحَدِيث أَنَّهُ إِذَا أَدَّى الْفَرَائِض وَدَامَ عَلَى إِتْيَان النَّوَافِل مِنْ صَلَاة وَصِيَام وَغَيْرهمَا أَفْضَى بِهِ ذَلِكَ إِلَى مَحَبَّة اللَّه تَعَالَى.
وَقَالَ اِبْن هُبَيْرَة : يُؤْخَذ مِنْ قَوْله " مَا تَقْرَب إِلَخْ " أَنَّ النَّافِلَة لَا تُقَدَّمُ عَلَى الْفَرِيضَة , لِأَنَّ النَّافِلَة إِنَّمَا سُمِّيَتْ نَافِلَةً لِأَنَّهَا تَأْتِي زَائِدَةً عَلَى الْفَرِيضَةِ , فَمَا لَمْ تُؤَدَّ الْفَرِيضَةُ لَا تَحْصُلُ النَّافِلَةُ , وَمَنْ أَدَّى الْفَرْضَ ثُمَّ زَادَ عَلَيْهِ النَّفْل وَأَدَامَ ذَلِكَ تَحَقَّقَتْ مِنْهُ إِرَادَةُ التَّقَرُّبِ اِنْتَهَى.
وَأَيْضًا فَقَدْ جَرَتْ الْعَادَةُ أَنَّ التَّقَرُّبَ يَكُون غَالِبًا بِغَيْرِ مَا وَجَبَ عَلَى الْمُتَقَرِّب كَالْهَدِيَّةِ وَالتُّحْفَة بِخِلَافِ مَنْ يُؤَدِّي مَا عَلَيْهِ مِنْ خَرَاجٍ أَوْ يَقْضِي مَا عَلَيْهِ مِنْ دَيْنٍ.
وَأَيْضًا فَإِنَّ مِنْ جُمْلَة مَا شُرِعَتْ لَهُ النَّوَافِل جَبْر الْفَرَائِض كَمَا صَحَّ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي أَخْرَجَهُ مُسْلِم " اُنْظُرُوا هَلْ لِعَبْدِي مِنْ تَطَوُّعٍ فَتَكْمُلُ بِهِ فَرِيضَتُهُ " الْحَدِيث بِمَعْنَاهُ فَتَبَيَّنَ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ التَّقَرُّب بِالنَّوَافِلِ أَنْ تَقَع مِمَّنْ أَدَّى الْفَرَائِضَ لَا مَنْ أَخَلَّ بِهَا كَمَا قَالَ بَعْض الْأَكَابِرِ : مَنْ شَغَلَهُ الْفَرْضُ عَنْ النَّفْلِ فَهُوَ مَعْذُورٌ وَمَنْ شَغَلَهُ النَّفْلُ عَنْ الْفَرْضِ فَهُوَ مَغْرُورٌ.
قَوْله ( فَكُنْت سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ ) زَادَ الْكُشْمِيهَنِيُّ " بِهِ ".
قَوْله ( وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ ) فِي حَدِيث عَائِشَة فِي رِوَايَة عَبْد الْوَاحِد " عَيْنَهُ الَّتِي يُبْصِرُ بِهَا " وَفِي رِوَايَة يَعْقُوبَ بْن مُجَاهِد " عَيْنَيْهِ الَّتِي يُبْصِرُ بِهِمَا " بِالتَّثْنِيَةِ وَكَذَا قَالَ فِي الْأُذُنِ وَالْيَدِ وَالرِّجْلِ , وَزَادَ عَبْد الْوَاحِد فِي رِوَايَته " وَفُؤَادَهُ الَّذِي يَعْقِلُ بِهِ , وَلِسَانَهُ الَّذِي يَتَكَلَّمُ بِهِ " وَنَحْوه فِي حَدِيث أَبِي أُمَامَةَ وَفِي حَدِيث مَيْمُونَةَ " وَقَلْبَهُ الَّذِي يَعْقِلُ بِهِ " وَفِي حَدِيث أَنَس " وَمَنْ أَحْبَبْته كُنْت لَهُ سَمْعًا وَبَصَرًا وَيَدًا وَمُؤَيِّدًا " وَقَدْ اُسْتُشْكِلَ كَيْفَ يَكُونُ الْبَارِي جَلَّ وَعَلَا سَمْعَ الْعَبْدِ وَبَصَرَهُ إِلَخْ ؟ وَالْجَوَابُ مِنْ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا أَنَّهُ وَرَدَ عَلَى سَبِيل التَّمْثِيلِ , وَالْمَعْنَى كُنْت سَمْعَهُ وَبَصَرَهُ فِي إِيثَارِهِ أَمْرِي فَهُوَ يُحِبُّ طَاعَتِي وَيُؤْثِرُ خِدْمَتِي كَمَا يُحِبّ هَذِهِ الْجَوَارِح : ثَانِيهَا أَنَّ الْمَعْنَى كُلِّيَّته مَشْغُولَةٌ بِي فَلَا يُصْغِي بِسَمْعِهِ إِلَّا إِلَى مَا يُرْضِينِي , وَلَا يَرَى بِبَصَرِهِ إِلَّا مَا أَمَرْتُهُ بِهِ.
ثَالِثهَا الْمَعْنَى أُحَصِّلُ لَهُ مَقَاصِدَهُ كَأَنَّهُ يَنَالُهَا بِسَمْعِهِ وَبَصَرِهِ إِلَخْ.
رَابِعهَا كُنْت لَهُ فِي النُّصْرَة كَسَمْعِهِ وَبَصَره وَيَده وَرِجْلِهِ فِي الْمُعَاوَنَة عَلَى عَدُوِّهِ خَامِسهَا قَالَ الْفَاكِهَانِيُّ وَسَبَقَهُ إِلَى مَعْنَاهُ اِبْن هُبَيْرَة : هُوَ فِيمَا يَظْهَرُ لِي أَنَّهُ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ , وَالتَّقْدِيرُ كُنْت حَافِظ سَمْعِهِ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ فَلَا يَسْمَعُ إِلَّا مَا يَحِلُّ اِسْتِمَاعُهُ , وَحَافِظ بَصَرِهِ كَذَلِكَ إِلَخْ.
سَادِسُهَا قَالَ الْفَاكِهَانِيُّ : يَحْتَمِل مَعْنًى آخَرَ أَدَقَّ مِنْ الَّذِي قَبْلَهُ , وَهُوَ أَنْ يَكُون مَعْنَى سَمْعِهِ مَسْمُوعَهُ , لِأَنَّ الْمَصْدَر قَدْ جَاءَ بِمَعْنَى الْمَفْعُولِ مِثْل فُلَانٌ أَمْلَى بِمَعْنَى مَأْمُولِي , وَالْمَعْنَى أَنَّهُ لَا يَسْمَعُ إِلَّا ذِكْرِي وَلَا يَلْتَذُّ إِلَّا بِتِلَاوَةِ كِتَابِي وَلَا يَأْنَسُ إِلَّا بِمُنَاجَاتِي وَلَا يَنْظُرُ إِلَّا فِي عَجَائِبِ مَلَكُوتِي وَلَا يَمُدُّ يَدَهُ إِلَّا فِيمَا فِيهِ رِضَايَ وَرِجْله كَذَلِكَ , وَبِمَعْنَاهُ قَالَ اِبْن هُبَيْرَة أَيْضًا.
وَقَالَ الطُّوفِيُّ : اِتَّفَقَ الْعُلَمَاء مِمَّنْ يُعْتَدّ بِقَوْلِهِ أَنَّ هَذَا مَجَاز وَكِنَايَة عَنْ نُصْرَة الْعَبْد وَتَأْيِيده وَإِعَانَته , حَتَّى كَأَنَّهُ سُبْحَانَهُ يُنَزِّلُ نَفْسَهُ مِنْ عَبْدِهِ مَنْزِلَةَ الْآلَاتِ الَّتِي يَسْتَعِينُ بِهَا وَلِهَذَا وَقَعَ فِي رِوَايَةٍ " فَبِي يَسْمَعُ وَبِي يُبْصِرُ وَبِي يَبْطِشُ وَبِي يَمْشِي " قَالَ : وَالِاتِّحَادِيَّة زَعَمُوا أَنَّهُ عَلَى حَقِيقَتِهِ وَأَنَّ الْحَقَّ عَيْنُ الْعَبْدِ , وَاحْتَجُّوا بِمَجِيءِ جِبْرِيلَ فِي صُورَةِ دِحْيَةَ , قَالُوا فَهُوَ رُوحَانِيٌّ خَلَعَ صُورَتَهُ وَظَهَرَ بِمَظْهَرِ الْبَشَرِ , قَالُوا فَاَللَّهُ أَقْدَرُ عَلَى أَنْ يَظْهَرَ فِي صُورَةِ الْوُجُودِ الْكُلِّيِّ أَوْ بَعْضِهِ , تَعَالَى اللَّه عَمَّا يَقُول الظَّالِمُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا.
وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ : هَذِهِ أَمْثَالٌ وَالْمَعْنَى تَوْفِيقُ اللَّهِ لِعَبْدِهِ فِي الْأَعْمَالِ الَّتِي يُبَاشِرُهَا بِهَذِهِ الْأَعْضَاءِ , وَتَيْسِير الْمَحَبَّة لَهُ فِيهَا بِأَنْ يَحْفَظ جَوَارِحه عَلَيْهِ وَيَعْصِمَهُ عَنْ مُوَاقَعَة مَا يَكْرَه اللَّهُ مِنْ الْإِصْغَاء إِلَى اللَّهْو بِسَمْعِهِ , وَمِنْ النَّظَر إِلَى مَا نَهَى اللَّه عَنْهُ بِبَصَرِهِ , وَمِنْ الْبَطْش فِيمَا لَا يَحِلّ لَهُ بِيَدِهِ , وَمَنْ السَّعْيِ إِلَى الْبَاطِلِ بِرِجْلِهِ.
وَإِلَى هَذَا نَحَا الدَّاوُدِيُّ , وَمِثْله الْكَلَابَاذِيّ , وَعَبَّرَ بِقَوْلِهِ أَحْفَظُهُ فَلَا يَتَصَرَّفُ إِلَّا فِي مَحَابِّي , لِأَنَّهُ إِذَا أَحَبَّهُ كَرِهَ لَهُ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِيمَا يَكْرَهُهُ مِنْهُ.
سَابِعُهَا قَالَ الْخَطَّابِيُّ أَيْضًا : وَقَدْ يَكُون عَبَّرَ بِذَلِكَ عَنْ سُرْعَة إِجَابَة الدُّعَاء وَالنُّجْحِ فِي الطَّلَب , وَذَلِكَ أَنَّ مَسَاعِيَ الْإِنْسَان كُلَّهَا إِنَّمَا تَكُون بِهَذِهِ الْجَوَارِحِ الْمَذْكُورَةِ.
وَقَالَ بَعْضهمْ : وَهُوَ مُنْتَزَع مِمَّا تَقَدَّمَ لَا يَتَحَرَّك لَهُ جَارِحَةٌ إِلَّا فِي اللَّهِ وَلِلَّهِ , فَهِيَ كُلُّهَا تَعْمَلُ بِالْحَقِّ لِلْحَقِّ.
وَأَسْنَدَ الْبَيْهَقِيُّ فِي " الزُّهْد " عَنْ أَبِي عُثْمَان الْجِيزِيّ أَحَد أَئِمَّة الطَّرِيق قَالَ : مَعْنَاهُ كُنْت أَسْرَعَ إِلَى قَضَاء حَوَائِجه مِنْ سَمْعِهِ فِي الْأَسْمَاع وَعَيْنِهِ فِي النَّظَرِ وَيَده فِي اللَّمْس وَرِجْله فِي الْمَشْي.
وَحَمَلَهُ بَعْض مُتَأَخِّرِي الصُّوفِيَّة عَلَى مَا يَذْكُرُونَهُ مِنْ مَقَام الْفِنَاء وَالْمَحْو , وَأَنَّهُ الْغَايَة الَّتِي لَا شَيْء وَرَاءَهَا , وَهُوَ أَنْ يَكُون قَائِمًا بِإِقَامَةِ اللَّه لَهُ مُحِبًّا بِمَحَبَّتِهِ لَهُ نَاظِرًا بِنَظَرِهِ لَهُ مِنْ غَيْر أَنْ تَبْقَى مَعَهُ بَقِيَّةٌ تُنَاط بِاسْمٍ أَوْ تَقِفُ عَلَى رَسْمٍ أَوْ تَتَعَلَّقُ بِأَمْرٍ أَوْ تُوصَفُ بِوَصْفٍ , وَمَعْنَى هَذَا الْكَلَام أَنَّهُ يَشْهَدُ إِقَامَةَ اللَّهِ لَهُ حَتَّى , قَامَ وَمَحَبَّته لَهُ حَتَّى أَحَبَّهُ وَنَظَرَهُ إِلَى عَبْدِهِ حَتَّى أَقْبَلَ نَاظِرًا إِلَيْهِ بِقَلْبِهِ.
وَحَمَلَهُ بَعْض أَهْل الزَّيْغ عَلَى مَا يَدْعُونَهُ مِنْ أَنَّ الْعَبْد إِذَا لَازَمَ الْعِبَادَةَ الظَّاهِرَة وَالْبَاطِنَة حَتَّى يُصَفَّى مِنْ الْكُدُورَات أَنَّهُ يَصِير فِي مَعْنَى الْحَقّ , تَعَالَى اللَّه عَنْ ذَلِكَ , وَأَنَّهُ يَفْنَى عَنْ نَفْسه جُمْلَةً حَتَّى يَشْهَد أَنَّ اللَّه هُوَ الذَّاكِر لِنَفْسِهِ الْمُوَحِّد لِنَفْسِهِ الْمُحِبّ لِنَفْسِهِ وَأَنَّ هَذِهِ الْأَسْبَاب وَالرُّسُوم تَصِير عَدَمًا صَرْفًا فِي شُهُوده وَإِنْ لَمْ تُعْدَم فِي الْخَارِج , وَعَلَى الْأَوْجُه كُلّهَا فَلَا مُتَمَسَّكَ فِيهِ لِلِاتِّحَادِيَّةِ وَلَا الْقَائِلِينَ بِالْوَحْدَةِ الْمُطْلَقَة لِقَوْلِهِ فِي بَقِيَّة الْحَدِيث " وَلَئِنْ سَأَلَنِي , وَلَئِنْ اِسْتَعَاذَنِي " فَإِنَّهُ كَالصَّرِيحِ فِي الرَّدّ عَلَيْهِمْ.
قَوْلُهُ ( وَإِنْ سَأَلَنِي ) زَادَ فِي رِوَايَةِ عَبْدِ الْوَاحِدِ " عَبْدِي ".
قَوْلُهُ ( أَعْطَيْته ) أَيْ مَا سَأَلَ.
قَوْله ( وَلَئِنْ اِسْتَعَاذَنِي ) ضَبَطْنَاهُ بِوَجْهَيْنِ الْأَشْهَرُ بِالنُّونِ بَعْد الذَّال الْمُعْجَمَة وَالثَّانِي بِالْمُوَحَّدَةِ وَالْمَعْنَى أَعَذْته مِمَّا يَخَاف , وَفِي حَدِيث أَبِي أُمَامَةَ " وَإِذَا اِسْتَنْصَرَ بِي نَصَرْته " وَفِي حَدِيث أَنَس " نَصَحَنِي فَنَصَحْت لَهُ " وَيُسْتَفَاد مِنْهُ أَنَّ الْمُرَاد بِالنَّوَافِلِ جَمِيع مَا يُنْدَب مِنْ الْأَقْوَال وَالْأَفْعَال.
وَقَدْ وَقَعَ فِي حَدِيث أَبِي أُمَامَةَ الْمَذْكُور " وَأَحَبُّ عِبَادَة عَبْدِي إِلَىَّ النَّصِيحَةُ " وَقَدْ اُسْتُشْكِلَ بِأَنَّ جَمَاعَةً مِنْ الْعُبَّادِ وَالصُّلَحَاءِ دَعَوْا وَبَالَغُوا وَلَمْ يُجَابُوا , وَالْجَوَاب أَنَّ الْإِجَابَةَ تَتَنَوَّعُ : فَتَارَةً يَقَع الْمَطْلُوبُ بِعَيْنِهِ عَلَى الْفَوْرِ , وَتَارَةً يَقَعُ وَلَكِنْ يَتَأَخَّرُ لِحِكْمَةٍ فِيهِ , وَتَارَة قَدْ تَقَع الْإِجَابَة وَلَكِنْ بِغَيْرِ عَيْنِ الْمَطْلُوبِ حَيْثُ لَا يَكُون فِي الْمَطْلُوب مَصْلَحَةٌ نَاجِزَةٌ وَفِي الْوَاقِع مَصْلَحَة نَاجِزَة أَوْ أَصْلَحُ مِنْهَا.
وَفِي الْحَدِيث عِظَمُ قَدْر الصَّلَاة فَإِنَّهُ يَنْشَأ عَنْهَا مَحَبَّة اللَّه لِلْعَبْدِ الَّذِي يَتَقَرَّبُ بِهَا , وَذَلِكَ لِأَنَّهَا مَحَلُّ الْمُنَاجَاةِ وَالْقُرْبَةِ , وَلَا وَاسِطَةَ فِيهَا بَيْن الْعَبْد وَرَبِّهِ , وَلَا شَيْء أَقَرَّ لَعَيْنِ الْعَبْدِ مِنْهَا وَلِهَذَا جَاءَ فِي حَدِيث أَنَس الْمَرْفُوع " وَجُعِلَتْ قُرَّةُ عَيْنِي فِي الصَّلَاة " أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ وَغَيْره بِسَنَدٍ صَحِيحٍ , وَمَنْ كَانَتْ قُرَّةُ عَيْنه فِي شَيْء فَإِنَّهُ يَوَدُّ أَنْ لَا يُفَارِقَهُ وَلَا يَخْرُجَ مِنْهُ لِأَنَّ فِيهِ نَعِيمَهُ وَبِهِ تَطِيبُ حَيَاتُهُ , وَإِنَّمَا يَحْصُل ذَلِكَ لِلْعَابِدِ بِالْمُصَابَرَةِ عَلَى النَّصَب , فَإِنَّ السَّالِك غَرَضُ الْآفَات وَالْفُتُورِ.
وَفِي حَدِيث حُذَيْفَة مِنْ الزِّيَادَة " وَيَكُون مِنْ أَوْلِيَائِي وَأَصْفِيَائِي , وَيَكُون جَارِي مَعَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء فِي الْجَنَّة " وَقَدْ تَمَسَّكَ بِهَذَا الْحَدِيث بَعْضُ الْجَهَلَة مِنْ أَهْلِ التَّجَلِّي وَالرِّيَاضَة فَقَالُوا : الْقَلْبُ إِذَا كَانَ مَحْفُوظًا مَعَ اللَّهِ كَانَتْ خَوَاطِرُهُ مَعْصُومَةً مِنْ الْخَطَأِ.
وَتَعَقَّبَ ذَلِكَ أَهْلُ التَّحْقِيقِ مِنْ أَهْل الطَّرِيق فَقَالُوا : لَا يُلْتَفَتُ إِلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ إِلَّا إِذَا وَافَقَ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ , وَالْعِصْمَةُ إِنَّمَا هِيَ لِلْأَنْبِيَاءِ وَمَنْ عَدَاهُمْ فَقَدْ يُخْطِئُ , فَقَدْ كَانَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ رَأْسَ الْمُلْهَمِينَ وَمَعَ ذَلِكَ فَكَانَ رُبَّمَا رَأَى الرَّأْيَ فَيُخْبِرُهُ بَعْضُ الصَّحَابَةِ بِخِلَافِهِ فَيَرْجِعُ إِلَيْهِ وَيَتْرُك رَأْيه.
فَمَنْ ظَنَّ أَنَّهُ يَكْتَفِي بِمَا يَقَع فِي خَاطِرِهِ عَمَّا جَاءَ بِهِ الرَّسُول عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام فَقَدْ اِرْتَكَبَ أَعْظَم الْخَطَإِ , وَأَمَّا مَنْ بَالَغَ مِنْهُمْ فَقَالَ : حَدَّثَنِي قَلْبِي عَنْ رَبِّي فَإِنَّهُ أَشَدّ خَطَأ فَإِنَّهُ لَا يَأْمَنُ أَنْ يَكُون قَلْبه إِنَّمَا حَدَّثَهُ عَنْ الشَّيْطَانِ , وَاَللَّهُ الْمُسْتَعَانُ.
قَالَ الطُّوفِيُّ : هَذَا الْحَدِيثُ أَصْلٌ فِي السُّلُوكِ إِلَى اللَّه وَالْوُصُول إِلَى مَعْرِفَتِهِ وَمَحَبَّتِهِ وَطَرِيقِهِ , إِذْ الْمُفْتَرَضَاتُ الْبَاطِنَةُ وَهِيَ الْإِيمَان وَالظَّاهِرَة وَهِيَ الْإِسْلَام وَالْمُرَكَّبُ مِنْهُمَا وَهُوَ الْإِحْسَانُ فِيهِمَا كَمَا تَضَمَّنَهُ حَدِيثُ جِبْرِيل , وَالْإِحْسَان يَتَضَمَّنُ مَقَامَاتِ السَّالِكِينَ مِنْ الزُّهْد وَالْإِخْلَاص وَالْمُرَاقَبَة وَغَيْرهَا , وَفِي الْحَدِيث أَيْضًا أَنَّ مَنْ أَتَى بِمَا وَجَبَ عَلَيْهِ وَتَقَرَّبَ بِالنَّوَافِلِ لَمْ يُرَدَّ دُعَاؤُهُ لِوُجُودِ هَذَا الْوَعْد الصَّادِق الْمُؤَكَّد بِالْقَسَمِ , وَقَدْ تَقَدَّمَ الْجَوَاب عَمَّا يَتَخَلَّفُ مِنْ ذَلِكَ , وَفِيهِ أَنَّ الْعَبْدَ وَلَوْ بَلَغَ أَعْلَى الدَّرَجَاتِ حَتَّى يَكُونَ مَحْبُوبًا لِلَّهِ لَا يَنْقَطِعُ عَنْ الطَّلَبِ مِنْ اللَّهِ لِمَا فِيهِ مِنْ الْخُضُوعِ لَهُ وَإِظْهَارِ الْعُبُودِيَّةِ , وَقَدْ تَقَدَّمَ تَقْرِيرُ هَذَا وَاضِحًا فِي أَوَائِل كِتَاب الدَّعَوَات.
قَوْله ( وَمَا تَرَدَّدْت عَنْ شَيْءٍ أَنَا فَاعِلُهُ تَرَدُّدِي عَنْ نَفْسِ الْمُؤْمِنِ ) وَفِي حَدِيث عَائِشَة " تَرَدُّدِي عَنْ مَوْتِهِ " وَوَقَعَ فِي " الْحِلْيَة " فِي تَرْجَمَة وَهْب بْن مُنَبِّه " إِنِّي لَأَجِدُ فِي كُتُب الْأَنْبِيَاء أَنَّ اللَّه تَعَالَى يَقُول : مَا تَرَدَّدْت عَنْ شَيْءٍ قَطُّ تَرَدُّدِي عَنْ قَبْض رُوحِ الْمُؤْمِنِ إِلَخْ " قَالَ الْخَطَّابِيُّ : التَّرَدُّدُ فِي حَقِّ اللَّهِ غَيْرُ جَائِزٍ , وَالْبَدَاءُ عَلَيْهِ فِي الْأُمُورِ غَيْرُ سَائِغٍ.
وَلَكِنْ لَهُ تَأْوِيلَانِ : أَحَدهمَا أَنَّ الْعَبْدَ قَدْ يُشْرِفُ عَلَى الْهَلَاكِ فِي أَيَّامِ عُمُرِهِ مِنْ دَاءٍ يُصِيبُهُ وَفَاقَةٍ تَنْزِلُ بِهِ فَيَدْعُو اللَّه فَيَشْفِيهِ مِنْهَا وَيَدْفَع عَنْهُ مَكْرُوهَهَا , فَيَكُون ذَلِكَ مِنْ فِعْله كَتَرَدُّدِ مَنْ يُرِيدُ أَمْرًا ثُمَّ يَبْدُو لَهُ فِيهِ فَيَتْرُكُهُ وَيُعْرِضُ عَنْهُ وَلَا بُدّ لَهُ مِنْ لِقَائِهِ إِذَا بَلَغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ , لِأَنَّ اللَّه قَدْ كَتَبَ الْفَنَاءَ عَلَى خَلْقِهِ وَاسْتَأْثَرَ بِالْبَقَاءِ لِنَفْسِهِ.
وَالثَّانِي أَنْ يَكُون مَعْنَاهُ مَا رَدَدْت رُسُلِي فِي شَيْءٍ أَنَا فَاعِلُهُ كَتَرْدِيدِي إِيَّاهُمْ فِي نَفْسِ الْمُؤْمِنِ , كَمَا رَوَى فِي قِصَّةِ مُوسَى وَمَا كَانَ مِنْ لَطْمَةِ عَيْنَ مَلَكِ الْمَوْتِ وَتَرَدُّدِهِ إِلَيْهِ مَرَّةً بَعْد أُخْرَى , قَالَ : وَحَقِيقَة الْمَعْنَى عَلَى الْوَجْهَيْنِ عَطْف اللَّه عَلَى الْعَبْدِ وَلُطْفُهُ بِهِ وَشَفَقَتُهُ عَلَيْهِ.
وَقَالَ الْكَلَابَاذِيّ مَا حَاصِله : أَنَّهُ عَبَّرَ عَنْ صِفَة الْفِعْل بِصِفَةِ الذَّات , أَيْ عَنْ التَّرْدِيد بِالتَّرَدُّدِ , وَجَعَلَ مُتَعَلَّقَ التَّرْدِيدِ اِخْتِلَافَ أَحْوَالِ الْعَبْدِ مِنْ ضَعْف وَنَصَبٍ إِلَى أَنْ تَنْتَقِلَ مَحَبَّتُهُ فِي الْحَيَاةِ إِلَى مَحَبَّتِهِ لِلْمَوْتِ فَيُقْبَضُ عَلَى ذَلِكَ.
قَالَ : وَقَدْ يُحْدِثُ اللَّهُ فِي قَلْبِ عَبْدِهِ مِنْ الرَّغْبَة فِيمَا عِنْده وَالشَّوْق إِلَيْهِ وَالْمَحَبَّة لِلِقَائِهِ مَا يَشْتَاق مَعَهُ إِلَى الْمَوْت فَضْلًا عَنْ إِزَالَة الْكَرَاهَة عَنْهُ , فَأَخْبَرَ أَنَّهُ يَكْرَهُ الْمَوْتَ وَيَسُوءُهُ , وَيَكْرَهُ اللَّهُ مُسَاءَتَهُ فَيُزِيلُ عَنْهُ كَرَاهِيَةَ الْمَوْتِ لِمَا يُورِدُهُ عَلَيْهِ مِنْ الْأَحْوَال فَيَأْتِيه الْمَوْت وَهُوَ لَهُ مُؤْثِرٌ وَإِلَيْهِ مُشْتَاق.
قَالَ : وَقَدْ وَرَدَ تَفَعَّلَ بِمَعْنَى فَعَلَ مِثْل تَفَكَّرَ وَفَكَّرَ وَتَدَبَّرَ وَدَبَّرَ وَتَهَدَّدَ وَهَدَّدَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَعَنْ بَعْضهمْ : يَحْتَمِل أَنْ يَكُون تَرْكِيب الْوَلِيّ يَحْتَمِل أَنْ يَعِيش خَمْسِينَ سَنَةً وَعُمُرُهُ الَّذِي كُتِبَ لَهُ سَبْعُونَ فَإِذَا بَلَغَهَا فَمَرِضَ دَعَا اللَّه بِالْعَافِيَةِ فَيُحْيِيهِ عِشْرِينَ أُخْرَى مَثَلًا , فَعَبَّرَ عَنْ قَدْر التَّرْكِيبِ وَعَمًّا اِنْتَهَى إِلَيْهِ بِحَسَبِ الْأَجَلِ الْمَكْتُوبِ بِالتَّرَدُّدِ , وَعَبَّرَ اِبْن الْجَوْزِيِّ عَنْ الثَّانِي بِأَنَّ التَّرَدُّدَ لِلْمَلَائِكَةِ الَّذِينَ يَقْبِضُونَ الرُّوحَ وَأَضَافَ الْحَقّ ذَلِكَ لِنَفْسِهِ لِأَنَّ تَرَدُّدَهُمْ عَنْ أَمْرِهِ , قَالَ : وَهَذَا التَّرَدُّدُ يَنْشَأُ عَنْ إِظْهَارِ الْكَرَاهَةِ.
فَإِنْ قِيلَ إِذَا أُمِرَ الْمَلَكُ بِالْقَبْضِ كَيْفَ يَقَعُ مِنْهُ التَّرَدُّدُ ؟ فَالْجَوَاب أَنَّهُ يَتَرَدَّدُ فِيمَا يُحَدُّ لَهُ فِيهِ الْوَقْتُ.
كَأَنْ يُقَالَ لَا تَقْبِضْ رُوحَهُ إِلَّا إِذَا رَضِيَ.
ثُمَّ ذَكَرَ جَوَابًا ثَالِثًا وَهُوَ اِحْتِمَال أَنْ يَكُون مَعْنَى التَّرَدُّد اللُّطْف بِهِ كَأَنَّ الْمَلَك يُؤَخِّر الْقَبْض , فَإِنَّهُ إِذَا نَظَرَ إِلَى قَدْرِ الْمُؤْمِنِ وَعِظَم الْمَنْفَعَةِ بِهِ لِأَهْلِ الدُّنْيَا اِحْتَرَمَهُ فَلَمْ يَبْسُطْ يَدَهُ إِلَيْهِ , فَإِذَا ذَكَرَ أَمْرَ رَبِّهِ لَمْ يَجِدْ بُدًّا مِنْ اِمْتِثَالِهِ.
وَجَوَابًا رَابِعًا وَهُوَ أَنْ يَكُونَ هَذَا خِطَابًا لَنَا بِمَا نَعْقِلُ وَالرَّبُّ مُنَزَّهٌ عَنْ حَقِيقَتِهِ , بَلْ هُوَ مِنْ جِنْسِ قَوْلِهِ " وَمَنْ أَتَانِي يَمْشِي أَتَيْته هَرْوَلَةً " فَكَمَا أَنَّ أَحَدَنَا يُرِيدُ أَنْ يَضْرِب وَلَده تَأْدِيبًا فَتَمْنَعُهُ الْمَحَبَّةُ وَتَبْعَثُهُ الشَّفَقَةُ فَيَتَرَدَّدُ بَيْنَهُمَا وَلَوْ كَانَ غَيْرَ الْوَالِدِ كَالْمُعَلَّمِ لَمْ يَتَرَدَّدْ بَلْ كَانَ يُبَادِرُ إِلَى ضَرْبِهِ لِتَأْدِيبِهِ فَأُرِيدَ تَفْهِيمُنَا تَحْقِيق الْمَحَبَّة لِلْوَلِيِّ بِذِكْرِ التَّرَدُّد.
وَجَوَّزَ الْكَرْمَانِيُّ اِحْتِمَالًا آخَر وَهُوَ أَنَّ الْمُرَاد أَنَّهُ يَقْبِض رُوح الْمُؤْمِن بِالتَّأَنِّي وَالتَّدْرِيجِ , بِخِلَافِ سَائِرِ الْأُمُورِ فَإِنَّهَا تَحْصُلُ بِمُجَرَّدِ قَوْلِ كُنْ سَرِيعًا دَفْعَةً.
قَوْله ( يَكْرَهُ الْمَوْتَ وَأَنَا أَكْرَهُ مُسَاءَتَهُ ) فِي حَدِيث عَائِشَة " إِنَّهُ يَكْرَه الْمَوْتَ وَأَنَا أَكْرَه مُسَاءَتَهُ " زَادَ اِبْن مَخْلَد عَنْ اِبْن كَرَامَةَ فِي آخِره " وَلَا بُدَّ لَهُ مِنْهُ " وَوَقَعَتْ هَذِهِ الزِّيَادَةُ أَيْضًا فِي حَدِيث وَهْب , وَأَسْنَدَ الْبَيْهَقِيُّ فِي " الزُّهْد " عَنْ الْجُنَيْد سَيِّد الطَّائِفَةِ قَالَ : الْكَرَاهَة هُنَا لِمَا يَلْقَى الْمُؤْمِن مِنْ الْمَوْت وَصُعُوبَتِهِ وَكَرْبِهِ , وَلَيْسَ الْمَعْنَى أَنِّي أَكْرَهُ لَهُ الْمَوْت لِأَنَّ الْمَوْت يُورِدُهُ إِلَى رَحْمَةِ اللَّهِ وَمَغْفِرَتِهِ اِنْتَهَى.
وَعَبَّرَ بَعْضهمْ عَنْ هَذَا بِأَنَّ الْمَوْت حَتْم مَقْضِيّ , وَهُوَ مُفَارَقَة الرُّوح لِلْجَسَدِ , وَلَا تَحْصُل غَالِبًا إِلَّا بِأَلَمٍ عَظِيم جِدًّا كَمَا جَاءَ عَنْ عَمْرو بْن الْعَاصِ أَنَّهُ سُئِلَ وَهُوَ يَمُوت فَقَالَ : " كَأَنِّي أَتَنَفَّس مِنْ خُرْم إِبْرَة , وَكَأَنَّ غُصْن شَوْك يَجُرُّ بِهِ مِنْ قَامَتِي إِلَى هَامَتِي " وَعَنْ كَعْب أَنَّ عُمَر سَأَلَهُ عَنْ الْمَوْت فَوَصَفَهُ بِنَحْوِ هَذَا , فَلَمَّا كَانَ الْمَوْت بِهَذَا الْوَصْف , وَاَللَّهُ يَكْرَه أَذَى الْمُؤْمِنِ , أَطْلَقَ عَلَى ذَلِكَ الْكَرَاهَة.
وَيَحْتَمِل أَنْ تَكُون الْمُسَاءَةُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى طُول الْحَيَاة لِأَنَّهَا تُؤَدِّي إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ , وَتَنَكُّس الْخَلْق وَالرَّدّ إِلَى أَسْفَل سَافِلِينَ.
وَجَوَّزَ الْكَرْمَانِيُّ أَنْ يَكُون الْمُرَاد أَكْرَه مُكْرَهَهُ الْمَوْت فَلَا أُسْرِع بِقَبْضِ رُوحِهِ فَأَكُون كَالْمُتَرَدِّدِ.
قَالَ الشَّيْخ أَبُو الْفَضْل بْن عَطَاء : فِي هَذَا الْحَدِيث عِظَم قَدْر الْوَلِيِّ , لِكَوْنِهِ خَرَجَ عَنْ تَدْبِيره إِلَى تَدْبِير رَبّه , وَعَنْ اِنْتِصَاره لِنَفْسِهِ إِلَى اِنْتِصَارِ اللَّهِ لَهُ , وَعَنْ حَوْلِهِ وَقُوَّتِهِ بِصِدْقِ تَوَكُّلِهِ.
قَالَ : وَيُؤْخَذ مِنْهُ أَنْ لَا يُحْكَمَ لِإِنْسَانٍ آذَى وَلِيًّا ثُمَّ لَمْ يُعَاجَلْ بِمُصِيبَةٍ فِي نَفْسِهِ أَوْ مَالِهِ أَوْ وَلَدِهِ بِأَنَّهُ سَلِمَ مِنْ اِنْتِقَامِ اللَّهِ , فَقَدْ تَكُون مُصِيبَتُهُ فِي غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ أَشَدُّ عَلَيْهِ كَالْمُصِيبَةِ فِي الدِّينِ مَثَلًا.
قَالَ : وَيَدْخُلُ فِي قَوْله " اِفْتَرَضْت عَلَيْهِ " الْفَرَائِض الظَّاهِرَة فِعْلًا كَالصَّلَاةِ وَالزَّكَاة وَغَيْرهمَا مِنْ الْعِبَادَات , وَتَرْكًا كَالزِّنَا وَالْقَتْل وَغَيْرهمَا مِنْ الْمُحَرَّمَات , وَالْبَاطِنَة كَالْعِلْمِ بِاَللَّهِ وَالْحُبّ لَهُ وَالتَّوَكُّل عَلَيْهِ وَالْخَوْف مِنْهُ وَغَيْر ذَلِكَ.
وَهِيَ تَنْقَسِم أَيْضًا إِلَى أَفْعَال وَتُرُوك.
قَالَ : وَفِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى جَوَاز اِطِّلَاع الْوَلِيّ عَلَى الْمُغَيَّبَاتِ بِإِطْلَاعِ اللَّهِ تَعَالَى لَهُ , وَلَا يَمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ ظَاهِرُ قَوْله تَعَالَى { عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا إِلَّا مَنْ اِرْتَضَى مِنْ رَسُولٍ } فَإِنَّهُ لَا يَمْنَعُ دُخُولَ بَعْضِ أَتْبَاعِهِ مَعَهُ بِالتَّبَعِيَّةِ لِصِدْقِ قَوْلِنَا مَا دَخَلَ عَلَى الْمَلِك الْيَوْمَ إِلَّا الْوَزِيرُ , وَمِنْ الْمَعْلُوم أَنَّهُ دَخَلَ مَعَهُ بَعْض خَدَمِهِ.
قُلْت الْوَصْف الْمُسْتَثْنَى لِلرَّسُولِ هُنَا إِنْ كَانَ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِخُصُوصِ كَوْنِهِ رَسُولًا فَلَا مُشَارَكَةَ لِأَحَدٍ مِنْ أَتْبَاعِهِ فِيهِ إِلَّا مِنْهُ , وَإِلَّا فَيَحْتَمِل مَا قَالَ , وَالْعِلْم عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.
( تَنْبِيهٌ ) : أَشْكَلَ وَجْه دُخُول هَذَا الْحَدِيث فِي بَاب التَّوَاضُع حَتَّى قَالَ الدَّاوُدِيُّ : لَيْسَ هَذَا الْحَدِيث مِنْ التَّوَاضُع فِي شَيْء , وَقَالَ بَعْضهمْ : الْمُنَاسِبُ إِدْخَاله فِي الْبَاب الَّذِي قَبْلَهُ وَهُوَ مُجَاهَدَةُ الْمَرْءِ نَفْسَهُ فِي طَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى , وَبِذَلِكَ تَرْجَمَ الْبَيْهَقِيُّ فِي " الزُّهْد " فَقَالَ : فَصْلٌ فِي الِاجْتِهَادِ فِي الطَّاعَةِ وَمُلَازَمَةِ الْعُبُودِيَّةِ.
وَالْجَوَاب عَنْ الْبُخَارِيّ مِنْ أَوْجُهٍ : أَحَدهَا أَنَّ التَّقَرُّب إِلَى اللَّه بِالنَّوَافِلِ لَا يَكُون إِلَّا بِغَايَةِ التَّوَاضُعِ لِلَّهِ وَالتَّوَكُّل عَلَيْهِ , ذَكَرَهُ الْكَرْمَانِيُّ , ثَانِيهَا ذَكَرَهُ أَيْضًا فَقَالَ : قِيلَ التَّرْجَمَة مُسْتَفَادَة مِمَّا قَالَ " كُنْت سَمْعَهُ " وَمِنْ التَّرَدُّد.
قُلْت : وَيَخْرُج مِنْهُ جَوَابٌ ثَالِثٌ , وَيَظْهَر لِي رَابِعٌ , وَهُوَ أَنَّهَا تُسْتَفَادُ مِنْ لَازِم قَوْله " مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا " لِأَنَّهُ يَقْتَضِي الزَّجْر عَنْ مُعَادَاةِ الْأَوْلِيَاءِ الْمُسْتَلْزِمِ لِمُوَالَاتِهِمْ , وَمُوَالَاة جَمِيع الْأَوْلِيَاء لَا تَتَأَتَّى إِلَّا بِغَايَةِ التَّوَاضُع , إِذْ مِنْهُمْ الْأَشْعَثُ الْأَغْبَرُ الَّذِي لَا يُؤْبَهُ لَهُ وَقَدْ وَرَدَ فِي الْحَثِّ عَلَى التَّوَاضُعِ عِدَّةُ أَحَادِيثَ صَحِيحَةٍ لَكِنْ لَيْسَ شَيْء مِنْهَا عَلَى شَرْطِهِ فَاسْتَغْنَى عَنْهَا بِحَدِيثَيْ الْبَابِ , مِنْهَا حَدِيث عِيَاض بْن حِمَارٍ رَفَعَهُ " إِنَّ اللَّه تَعَالَى أَوْحَى إِلَيَّ أَنْ تَوَاضَعُوا حَتَّى لَا يَفْخَر أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ " أَخْرَجَهُ مُسْلِم وَأَبُو دَاوُدَ وَغَيْرهمَا , وَمِنْهَا حَدِيث أَبِي هُرَيْرَة رَفَعَهُ " وَمَا تَوَاضَعَ أَحَدٌ لِلَّهِ تَعَالَى إِلَّا رَفَعَهُ " أَخْرَجَهُ مُسْلِم أَيْضًا وَالتِّرْمِذِيُّ , وَمِنْهَا حَدِيث أَبِي سَعِيد رَفَعَهُ " مَنْ تَوَاضَعَ لِلَّهِ رَفَعَهُ اللَّهُ حَتَّى يَجْعَلَهُ فِي أَعْلَى عِلِّيِّينَ " الْحَدِيث أَخْرَجَهُ اِبْن مَاجَهْ وَصَحَّحَهُ اِبْن حِبَّانَ
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ كَرَامَةَ حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ مَخْلَدٍ حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ بِلَالٍ حَدَّثَنِي شَرِيكُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي نَمِرٍ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ اللَّهَ قَالَ مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالْحَرْبِ وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا وَإِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ وَلَئِنْ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ وَمَا تَرَدَّدْتُ عَنْ شَيْءٍ أَنَا فَاعِلُهُ تَرَدُّدِي عَنْ نَفْسِ الْمُؤْمِنِ يَكْرَهُ الْمَوْتَ وَأَنَا أَكْرَهُ مَسَاءَتَهُ
عن سهل قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بعثت أنا والساعة هكذا.<br> ويشير بإصبعيه فيمد بهما.»
عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «بعثت والساعة كهاتين.»
عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «بعثت أنا والساعة كهاتين» يعني: إصبعين تابعه إسرائيل عن أبي حصين.<br>
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا تقوم الساعة حتى تطلع الشمس من مغربها، فإذا طلعت فرآها الناس آمنوا أجمعون، فذلك حين...
عن عبادة بن الصامت، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه، ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه.<br> قالت عائشة أو بعض أزواجه...
عن أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه، ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه.»
عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول وهو صحيح: إنه لم يقبض نبي قط حتى يرى مقعده من الجنة، ثم يخير.<br> ف...
عائشة، رضي الله عنها، كانت تقول: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان بين يديه ركوة - أو علبة فيها ماء، يشك عمر - فجعل يدخل يديه في الماء، فيمسح بهما...
عن عائشة قالت: «كان رجال من الأعراب جفاة يأتون النبي صلى الله عليه وسلم فيسألونه متى الساعة، فكان ينظر إلى أصغرهم فيقول: إن يعش هذا لا يدركه الهرم ح...