حديث الرسول ﷺ English الإجازة تواصل معنا
الحديث النبوي

يجمع الله الناس يوم القيامة فيقولون لو استشفعنا على ربنا حتى يريحنا من مكاننا - صحيح البخاري

صحيح البخاري | كتاب الرقاق باب صفة الجنة والنار (حديث رقم: 6565 )


6565- عن ‌أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يجمع الله الناس يوم القيامة فيقولون: لو استشفعنا على ربنا حتى يريحنا من مكاننا، فيأتون آدم فيقولون: أنت الذي خلقك الله بيده، ونفخ فيك من روحه، وأمر الملائكة فسجدوا لك، فاشفع لنا عند ربنا، فيقول: لست هناكم، ويذكر خطيئته ويقول: ائتوا نوحا أول رسول بعثه الله، فيأتونه فيقول: لست هناكم، ويذكر خطيئته، ائتوا إبراهيم الذي اتخذه الله خليلا، فيأتونه فيقول: لست هناكم، ويذكر خطيئته، ائتوا موسى الذي كلمه الله، فيأتونه فيقول: لست هناكم، فيذكر خطيئته، ائتوا عيسى فيأتونه، فيقول: لست هناكم، ائتوا محمدا صلى الله عليه وسلم فقد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فيأتوني فأستأذن على ربي، فإذا رأيته وقعت ساجدا، فيدعني ما شاء الله، ثم يقال: ارفع رأسك، سل تعطه، وقل يسمع، واشفع تشفع، فأرفع رأسي فأحمد ربي بتحميد يعلمني، ثم أشفع فيحد لي حدا، ثم أخرجهم من النار وأدخلهم الجنة، ثم أعود فأقع ساجدا مثله في الثالثة أو الرابعة، حتى ما بقي في النار إلا من حبسه القرآن» وكان قتادة يقول: عند هذا أي وجب عليه الخلود.

أخرجه البخاري

شرح حديث (يجمع الله الناس يوم القيامة فيقولون لو استشفعنا على ربنا حتى يريحنا من مكاننا)

فتح الباري شرح صحيح البخاري: ابن حجر العسقلاني - أحمد بن علي بن حجر العسقلاني

حَدِيث أَنَس الطَّوِيل فِي الشَّفَاعَة , أَوْرَدَهُ هُنَا مِنْ طَرِيق أَبِي عَوَانَة , وَمَضَى فِي تَفْسِير الْبَقَرَة مِنْ رِوَايَة هِشَام الدَّسْتِوَائِيِّ وَمِنْ رِوَايَة سَعِيد بْن أَبِي عَرُوبَة , وَيَأْتِي فِي التَّوْحِيد مِنْ طَرِيق هَمَّام أَرْبَعَتهمْ عَنْ قَتَادَةَ وَأَخْرَجَهُ أَيْضًا أَحْمَد مِنْ رِوَايَة شَيْبَانَ عَنْ قَتَادَةَ وَيَأْتِي فِي التَّوْحِيد مِنْ طَرِيق مَعْبَد بْن هِلَال عَنْ أَنَس وَفِيهِ زِيَادَة لِلْحَسَنِ عَنْ أَنَس , وَمِنْ طَرِيق حُمَيْدٍ عَنْ أَنَس بِاخْتِصَارٍ , وَأَخْرَجَهُ أَحْمَد مِنْ طَرِيق النَّضْر بْن أَنَس عَنْ أَنَس , وَأَخْرَجَهُ أَيْضًا مِنْ حَدِيث اِبْن عَبَّاس , وَأَخْرَجَهُ اِبْن خُزَيْمَةَ مِنْ طَرِيق مُعْتَمِر عَنْ حُمَيْدٍ عَنْ أَنَس , وَعِنْد الْحَاكِم مِنْ حَدِيث اِبْن مَسْعُود وَالطَّبَرَانِيِّ مِنْ حَدِيث عُبَادَةَ بْن الصَّامِت , وَلِابْنِ أَبِي شَيْبَة مِنْ حَدِيث سَلْمَان الْفَارِسِيّ وَجَاءَ مِنْ حَدِيث أَبِي هُرَيْرَة كَمَا مَضَى فِي التَّفْسِير مِنْ رِوَايَة أَبِي زَرْعَة عَنْهُ , وَأَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيّ مِنْ رِوَايَة الْعَلَاء بْن يَعْقُوب عَنْهُ , مِنْ حَدِيث أَبِي سَعِيد كَمَا سَيَأْتِي فِي التَّوْحِيد , وَلَهُ طُرُق عَنْ أَبِي سَعِيد مُخْتَصَرَة , وَأَخْرَجَهُ مُسْلِم مِنْ حَدِيث أَبِي هُرَيْرَة وَحُذَيْفَة مَعًا , وَأَبُو عَوَانَة مِنْ رِوَايَة حُذَيْفَة عَنْ أَبِي بَكْر الصِّدِّيق , وَمَضَى فِي الزَّكَاة فِي تَفْسِير سُبْحَانَ مِنْ حَدِيث اِبْن عُمَر بِاخْتِصَارٍ , وَعِنْد كُلٍّ مِنْهُمْ مَا لَيْسَ عِنْد الْآخَر , وَسَأَذْكُرُ مَا عِنْد كُلٍّ مِنْهُمْ مِنْ فَائِدَةٍ مُسْتَوْعِبًا إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى.
‏ ‏قَوْله ( يَجْمَع اللَّه النَّاس يَوْم الْقِيَامَة ) ‏ ‏فِي رِوَايَة الْمُسْتَمْلِيّ " جَمَعَ بِصِيغَةِ الْفِعْل الْمَاضِي وَالْأَوَّل الْمُعْتَمَد وَوَقَعَ فِي رِوَايَة مَعْبَد بْن هِلَال " إِذَا كَانَ يَوْم الْقِيَامَة مَاجَ النَّاس بَعْضهمْ فِي بَعْض " وَأَوَّل حَدِيث أَبِي هُرَيْرَة " أَنَا سَيِّد النَّاس يَوْم الْقِيَامَة , يَجْمَع اللَّه النَّاس الْأَوَّلِينَ وَالْآخَرِينَ فِي صَعِيد وَاحِد يُسْمِعهُمْ الدَّاعِي وَيَنْفُذهُمْ الْبَصَر , وَتَدْنُو الشَّمْس فَيَبْلُغ النَّاس مِنْ الْغَمّ وَالْكَرْب مَا لَا يُطِيقُونَ وَلَا يَحْتَمِلُونَ " وَزَادَ فِي رِوَايَة إِسْحَاق بْن رَاهْوَيْهِ عَنْ جَرِير عَنْ عِمَارَة بْن الْقَعْقَاع عَنْ أَبِي زَرْعه فِيهِ " وَتَدْنُو الشَّمْس مِنْ رُءُوسِهِمْ فَيَشْتَدّ عَلَيْهِمْ حَرُّهَا وَيَشُقُّ عَلَيْهِمْ دُنُوُّهَا فَيَنْطَلِقُونَ مِنْ الضَّجَر وَالْجَزَع مِمَّا هُمْ فِيهِ " وَهَذِهِ الطَّرِيق عِنْد مُسْلِم عَنْ أَبِي خَيْثَمَةَ عَنْ جَرِير , لَكِنْ لَمْ يَسُقْ لَفْظهَا , وَأَوَّل حَدِيث أَبِي بَكْر " عُرِضَ عَلَيَّ مَا هُوَ كَائِن مِنْ أَمْر الدُّنْيَا وَالْآخِرَة يَجْمَع اللَّه الْأَوَّلِينَ وَالْآخَرِينَ فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ فَيُفْظَع النَّاس لِذَلِكَ وَالْعَرَق كَادَ يُلَجِّمُهُمْ " وَفِي رِوَايَة مُعْتَمِر " يَلْبَثُونَ مَا شَاءَ اللَّه مِنْ الْحَبْس " وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي " بَاب أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ " مَا أَخْرَجَهُ مُسْلِم مِنْ حَدِيث الْمِقْدَاد أَنَّ الشَّمْس تَدْنُو حَتَّى تَصِير مِنْ النَّاس قَدْرَ مِيل وَسَائِر مَا وَرَدَ فِي ذَلِكَ وَبَيَان تَفَاوُتِهِمْ فِي الْعَرَق بِقَدْرِ أَعْمَالهمْ , وَفِي حَدِيث سَلْمَان " تُعْطِي الشَّمْس يَوْم الْقِيَامَة حَرّ عَشْر سِنِينَ , ثُمَّ تَدْنُو مِنْ جَمَاجِم النَّاس فَيَعْرَقُونَ حَتَّى يَرْشَح الْعَرَق فِي الْأَرْض قَامَة , ثُمَّ يَرْتَفِع الرَّجُل حَتَّى يَقُول عَقّ عَقّ " وَفِي رِوَايَة النَّضْر بْن أَنَس " لِغَمِّ مَا هُمْ فِيهِ وَالْخَلْق مُلَجَّمُونَ بِالْعَرَقِ , فَأَمَّا الْمُؤْمِن فَهُوَ عَلَيْهِ كَالزُّكْمَةِ , وَأَمَّا الْكَافِر فَيَغْشَاهُ الْمَوْت " وَفِي حَدِيث عُبَادَةَ بْن الصَّامِت رَفَعَهُ " إِنِّي لَسَيِّد النَّاس يَوْم الْقِيَامَة بِغَيْرِ فَخْر , وَمَا مِنْ النَّاس إِلَّا مَنْ هُوَ تَحْتَ لِوَائِي يَنْتَظِر الْفَرَجَ , وَإِنَّ مَعِي لِوَاءَ الْحَمْد " وَوَقَعَ فِي رِوَايَة هِشَام وَسَعِيد وَهَمَّام " يَجْتَمِع الْمُؤْمِنُونَ فَيَقُولُونَ " وَتَبَيَّنَ مِنْ رِوَايَة النَّضْر بْن أَنَس أَنَّ التَّعْبِير بِالنَّاسِ , أَرْجَح لَكِنَّ الَّذِي يَطْلُبُ الشَّفَاعَةَ هُمْ الْمُؤْمِنُونَ.
‏ ‏قَوْله ( فَيَقُولُونَ لَوْ اِسْتَشْفَعْنَا ) ‏ ‏فِي رِوَايَة مُسْلِم " فَيُلْهَمُونَ ذَلِكَ " وَفِي لَفْظ " فَيَهْتَمُّونَ بِذَلِكَ " , وَفِي رِوَايَة هَمَّام " حَتَّى يُهْتَمُّوا بِذَلِكَ ".
‏ ‏قَوْله ( عَلَى رَبّنَا ) ‏ ‏فِي رِوَايَة هِشَام وَسَعِيد " إِلَى رَبّنَا " وَتَوَجَّهَ بِأَنَّهُ ضَمَّنَ مَعْنَى اِسْتَشْفَعْنَا سَعْي لِأَنَّ الِاسْتِشْفَاعَ طَلَب الشَّفَاعَة وَهِيَ اِنْضِمَام الْأَدْنَى إِلَى الْأَعْلَى لِيَسْتَعِينَ بِهِ عَلَى مَا يَرُومُهُ.
وَفِي حَدِيث حُذَيْفَة وَأَبِي هُرَيْرَة مَعًا " يَجْمَع اللَّه النَّاس يَوْم الْقِيَامَة , فَيَقُوم الْمُؤْمِنُونَ حَيّ تَتَزَلَّف لَهُمْ الْجَنَّة فَيَأْتُونَ آدَم " وَ " حَتَّى " غَايَة لِقِيَامِهِمْ الْمَذْكُور.
وَيُؤْخَذ مِنْهُ أَنَّ طَلَبهمْ الشَّفَاعَة يَقَع حِين تَتَزَلَّف لَهُمْ الْجَنَّة.
وَوَقَعَ فِي أَوَّل حَدِيث أَبِي نَضْرَةَ عَنْ أَبِي سَعِيد فِي مُسْلِم رَفَعَهُ " أَنَا أَوَّل مَنْ تَنْشَقّ عَنْهُ الْأَرْض " الْحَدِيثَ وَفِيهِ " فَيَفْزَع النَّاس ثَلَاث فَزَعَاتٍ , فَيَأْتُونَ آدَم " الْحَدِيثَ قَالَ الْقُرْطُبِيّ " كَأَنَّ ذَلِكَ يَقَع إِذَا جِيءَ بِجَهَنَّمَ , فَإِذَا زَفَرَتْ فَزِعَ النَّاس حِينَئِذٍ وَجَثَوَا عَلَى رُكَبِهِمْ ".
‏ ‏قَوْله ( حَتَّى يُرِيحَنَا ) ‏ ‏فِي رِوَايَة مُسْلِم " فَيُرِيحنَا " وَفِي حَدِيث اِبْن مَسْعُود عِنْد اِبْن حِبَّانَ " إِنَّ الرَّجُل لَيُلَجِّمُهُ الْعَرَق يَوْم الْقِيَامَة حَتَّى يَقُول : يَا رَبّ أَرِحْنِي وَلَوْ إِلَى النَّار " وَفِي رِوَايَة ثَابِت عَنْ أَنَس " يَطُول يَوْم الْقِيَامَة عَلَى النَّاس , فَيَقُول بَعْضهمْ لِبَعْضٍ : اِنْطَلِقُوا بِنَا إِلَى آدَمَ أَبِي الْبَشَر فَلْيَشْفَعْ لَنَا إِلَى رَبّنَا فَلْيَقْضِ بَيْنَنَا " وَفِي حَدِيث سَلْمَان " فَإِذَا رَأَوْا مَا هُمْ فِيهِ قَالَ بَعْضهمْ لِبَعْضٍ : اِئْتُوا أَبَاكُمْ آدَمَ ".
‏ ‏قَوْله ( حَتَّى يُرِيحَنَا مِنْ مَكَانِنَا هَذَا ) فِي رِوَايَة ثَابِتٍ " فَلْيَقْضِ بَيْنَنَا " وَفِي رِوَايَة حُذَيْفَة وَأَبِي هُرَيْرَة فَيَقُولُونَ " يَا أَبَانَا اِسْتَفْتِحْ لَنَا الْجَنَّةَ ".
‏ ‏قَوْله ( فَيَأْتُونَ آدَم ) ‏ ‏فِي رِوَايَة شَيْبَانَ " فَيَنْطَلِقُونَ حَتَّى يَأْتُوا آدَمَ فَيَقُولُونَ أَنْتَ الَّذِي " فِي رِوَايَة مُسْلِم " يَا آدَمُ أَنْتَ أَبُو الْبَشَر " وَفِي رِوَايَة هَمَّام وَشَيْبَان " أَنْتَ أَبُو الْبَشَر " وَفِي حَدِيث أَبِي هُرَيْرَة نَحْو رِوَايَة مُسْلِم.
وَفِي حَدِيث حُذَيْفَة " فَيَقُولُونَ يَا أَبَانَا ".
‏ ‏قَوْله ( خَلَقَك اللَّه بِيَدِهِ وَنَفَخَ فِيك مِنْ رُوحه ) ‏ ‏زَادَ فِي رِوَايَة هَمَّام " وَأَسْكَنَك جَنَّتَهُ وَعَلَّمَك أَسْمَاءَ كُلّ شَيْء " وَفِي حَدِيث أَبِي هُرَيْرَة " وَأَمَرَ الْمَلَائِكَة فَسَجَدُوا لَك " وَفِي حَدِيث أَبِي بَكْر " أَنْتَ أَبُو الْبَشَر وَأَنْتَ اِصْطَفَاك اللَّه ".
‏ ‏قَوْله ( فَاشْفَعْ لَنَا عِنْد رَبّنَا ) ‏ ‏فِي رِوَايَة مُسْلِم " عِنْد رَبّك " وَكَذَا لِشَيْبَانَ فِي حَدِيث أَبِي بَكْر وَأَبِي هُرَيْرَة اِشْفَعْ لَنَا إِلَى رَبّك , وَزَادَ أَبُو هُرَيْرَة " أَلَا تَرَى مَا نَحْنُ فِيهِ , أَلَّا تَرَى مَا بَلَغَنَا ".
‏ ‏قَوْله ( لَسْت هُنَاكُمْ ) ‏ ‏قَالَ عِيَاضٌ : قَوْله لَسْت هُنَاكُم كِنَايَةٌ عَنْ أَنَّ مَنْزِلَتَهُ دُون الْمَنْزِلَة الْمَطْلُوبَة قَالَهُ تَوَاضُعًا وَإِكْبَارًا لِمَا يَسْأَلُونَهُ , قَالَ : وَقَدْ يَكُون فِيهِ إِشَارَة إِلَى أَنَّ هَذَا الْمَقَام لَيْسَ لِي بَلْ لِغَيْرِي.
قُلْت : وَقَدْ وَقَعَ فِي رِوَايَة مَعْبَد بْن هِلَال " فَيَقُول لَسْت لَهَا " وَكَذَا فِي بَقِيَّة الْمَوَاضِع , وَفِي رِوَايَة حُذَيْفَة " لَسْت بِصَاحِبِ ذَاكَ " وَهُوَ يُؤَيِّد الْإِشَارَةَ الْمَذْكُورَةَ.
‏ ‏قَوْله ( وَيَذْكُرُ خَطِيئَتَهُ ) ‏ ‏زَادَ مُسْلِم الَّتِي أَصَابَ , وَالرَّاجِح أَنَّ الْمَوْصُول مَحْذُوفٌ تَقْدِيره أَصَابَهَا , زَادَ هَمَّام فِي رِوَايَته " أَكْلَهُ مِنْ الشَّجَرَة.
وَقَدْ نُهِيَ عَنْهَا " وَهُوَ بِنَصْبِ أَكْلَهُ بَدَلٌ مِنْ قَوْله خَطِيئَتَهُ وَفِي رِوَايَة هِشَام " فَيَذْكُر ذَنْبه فَيَسْتَحْيِ " وَفِي رِوَايَة اِبْن عَبَّاس " إِنِّي قَدْ أُخْرِجْت بِخَطِيئَتِي مِنْ الْجَنَّة " وَفِي رِوَايَة أَبِي نَضْرَةَ عَنْ أَبِي سَعِيد " وَإِنِّي أَذْنَبْت ذَنْبًا فَأَهْبَطَتْ بِهِ إِلَى الْأَرْض " وَفِي رِوَايَة حُذَيْفَة وَأَبِي هُرَيْرَة مَعًا " هَلْ أَخْرَجَكُمْ مِنْ الْجَنَّة إِلَّا خَطِيئَةُ أَبِيكُمْ آدَم " وَفِي رِوَايَة ثَابِت عِنْد سَعِيد بْن مَنْصُور " إِنِّي أَخْطَأْت وَأَنَا فِي الْفِرْدَوْسِ فَإِنْ يُغْفَرْ لِي الْيَوْمَ حَسْبِي " وَفِي حَدِيث أَبِي هُرَيْرَة " إِنَّ رَبِّي غَضِبَ الْيَوْمَ غَضَبًا لَمْ يَغْضَبْ قَبْلَهُ مِثْلَهُ وَلَنْ يَغْضَبَ بَعْدَهُ مِثْلَهُ , وَإِنَّهُ نَهَانِي عَنْ الشَّجَرَة فَعَصَيْت , نَفْسِي نَفْسِي نَفْسِي , اِذْهَبُوا إِلَى غَيْرِي ".
‏ ‏قَوْله ( اِئْتُوا نُوحًا فَيَأْتُونَهُ ) ‏ ‏فِي رِوَايَة مُسْلِم " وَلَكِنْ اِئْتُوا نُوحًا أَوَّلَ رَسُول بَعَثَهُ اللَّه إِلَى أَهْل الْأَرْض.
فَيَأْتُونَ نُوحًا " وَفِي رِوَايَة هِشَام " فَإِنَّهُ أَوَّل رَسُول بَعَثَهُ اللَّه إِلَى أَهْل الْأَرْض " وَفِي حَدِيث أَبِي بَكْر " اِنْطَلِقُوا إِلَى أَبِيكُمْ بَعْدَ أَبِيكُمْ , إِلَى نُوح , اِئْتُوا عَبْدًا شَاكِرًا " وَفِي حَدِيث أَبِي هُرَيْرَة " اِذْهَبُوا إِلَى نُوح , فَيَأْتُونَ نُوحًا فَيَقُولُونَ : يَا نُوح أَنْتَ أَوَّل الرُّسُل إِلَى أَهْل الْأَرْض , وَقَدْ سَمَّاك اللَّه عَبْدًا شَكُورًا " وَفِي حَدِيث أَبِي بَكْر " فَيَنْطَلِقُونَ إِلَى نُوح فَيَقُولُونَ : يَا نُوحُ اِشْفَعْ لَنَا إِلَى رَبّك , فَإِنَّ اللَّهَ اِصْطَفَاك وَاسْتَجَابَ لَك فِي دُعَائِك وَلَمْ يَدَعْ عَلَى الْأَرْض مِنْ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا " وَيُجْمَعُ بَيْنَهُمَا بِأَنَّ آدَم سَبَقَ إِلَى وَصْفِهِ بِأَنَّهُ أَوَّل رَسُول فَخَاطَبَهُ أَهْل الْمَوْقِف بِذَلِكَ , وَقَدْ اُسْتُشْكِلَتْ هَذِهِ الْأَوَّلِيَّة بِأَنَّ آدَم نَبِيٌّ مُرْسَلٌ وَكَذَا شِيث وَإِدْرِيس وَهُمْ قَبْلَ نُوح , وَقَدْ تَقَدَّمَ الْجَوَاب عَنْ ذَلِكَ فِي شَرْح حَدِيث جَابِر " أُعْطِيت خَمْسًا " فِي كِتَاب التَّيَمُّم وَفِيهِ " وَكَانَ النَّبِيّ يُبْعَث إِلَى قَوْمه خَاصَّةً " الْحَدِيثَ : وَمُحَصَّل الْأَجْوِبَة عَنْ الْإِشْكَال الْمَذْكُور أَنَّ الْأَوَّلِيَّة مُقَيَّدَة بِقَوْلِهِ " أَهْل الْأَرْض " لِأَنَّ آدَم وَمَنْ ذُكِرَ مَعَهُ لَمْ يُرْسَلُوا إِلَى أَهْل الْأَرْض , وَيُشْكِل عَلَيْهِ حَدِيث جَابِر , وَيُجَاب بِأَنَّ بَعْثَتَهُ إِلَى أَهْل الْأَرْض بِاعْتِبَارِ الْوَاقِع لِصِدْقِ أَنَّهُمْ قَوْمُهُ بِخِلَافِ عُمُوم بَعْثَة نَبِيّنَا مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِقَوْمِهِ وَلِغَيْرِ قَوْمِهِ , أَوْ الْأَوَّلِيَّة مُقَيَّدَة بِكَوْنِهِ أَهْلَكَ قَوْمَهُ , أَوْ أَنَّ الثَّلَاثَةَ كَانُوا أَنْبِيَاءَ وَلَمْ يَكُونُوا رُسُلًا , وَإِلَى هَذَا جَنَحَ اِبْن بَطَّال فِي حَقّ آدَم , وَتَعَقَّبَهُ عِيَاض بِمَا صَحَّحَهُ اِبْن حِبَّان مِنْ حَدِيث أَبِي ذَرّ فَإِنَّهُ كَالصَّرِيحِ فِي أَنَّهُ كَانَ مُرْسَلًا , وَفِيهِ التَّصْرِيح بِإِنْزَالِ الصُّحُف عَلَى شِيث وَهُوَ مِنْ عَلَامَات الْإِرْسَال , وَأَمَّا إِدْرِيس فَذَهَبَتْ طَائِفَة إِلَى أَنَّهُ كَانَ فِي بَنِي إِسْرَائِيل وَهُوَ إِلْيَاس , وَقَدْ ذُكِرَ ذَلِكَ فِي أَحَادِيث الْأَنْبِيَاء.
وَمِنْ الْأَجْوِبَة أَنَّ رِسَالَةَ آدَمَ كَانَتْ إِلَى بَنِيهِ وَهُمْ مُوَحِّدُونَ لِيُعْلِمَهُمْ شَرِيعَتَهُ , وَنُوح كَانَتْ رِسَالَته إِلَى قَوْم كُفَّار يَدْعُوهُمْ إِلَى التَّوْحِيد.
‏ ‏قَوْله ( فَيَقُول : لَسْت هُنَاكُمْ , وَيَذْكُر خَطِيئَتَهُ الَّتِي أَصَابَ فَيَسْتَحْيِي رَبَّهُ مِنْهَا ) ‏ ‏فِي رِوَايَة هِشَام " وَيَذْكُر سُؤَالَ رَبِّهِ مَا لَيْسَ لَهُ بِهِ عِلْم " وَفِي رِوَايَة شَيْبَانَ " سُؤَال اللَّه " وَفِي رِوَايَة مَعْبَد بْن هِلَال مِثْل جَوَاب آدَم لَكِنْ قَالَ " وَإِنَّهُ كَانَتْ لِي دَعْوَة دَعَوْت بِهَا عَلَى قَوْمِي " وَفِي حَدِيث اِبْن عَبَّاس " فَيَقُول لَيْسَ ذَاكُمْ عِنْدِي " وَفِي حَدِيث أَبِي هُرَيْرَة " إِنِّي دَعَوْت بِدَعْوَةٍ أَغْرَقَتْ أَهْل الْأَرْض " وَيُجْمَع بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْأَوَّل بِأَنَّهُ اِعْتَذَرَ بِأَمْرَيْنِ : أَحَدهمَا نَهْيُ اللَّه تَعَالَى لَهُ أَنْ يَسْأَل مَا لَيْسَ لَهُ بِهِ عِلْم فَخَشِيَ أَنْ تَكُون شَفَاعَتُهُ لِأَهْلِ الْمَوْقِف مِنْ ذَلِكَ , ثَانِيهمَا أَنَّ لَهُ دَعْوَةً وَاحِدَةً مُحَقَّقَةَ الْإِجَابَة وَقَدْ اِسْتَوْفَاهَا بِدُعَائِهِ عَلَى أَهْل الْأَرْض فَخَشِيَ أَنْ يَطْلُبَ فَلَا يُجَابَ.
وَقَالَ بَعْض الشُّرَّاح : كَانَ اللَّه وَعَدَ نُوحًا أَنْ يُنْجِيَهُ وَأَهْلَهُ , فَلَمَّا غَرِقَ اِبْنه ذَكَرَ لِرَبِّهِ مَا وَعَدَهُ فَقِيلَ لَهُ : الْمُرَاد مِنْ أَهْلِك مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَخَرَجَ اِبْنك مِنْهُمْ , فَلَا تَسْأَلْ مَا لَيْسَ لَك بِهِ عِلْمٌ.
‏ ‏( تَنْبِيهَانِ ) : ‏ ‏( الْأَوَّل ) سَقَطَ مِنْ حَدِيث أَبِي حُذَيْفَة الْمَقْرُون بِأَبِي هُرَيْرَة ذِكْر نُوح , فَقَالَ فِي قِصَّة آدَم : اِذْهَبُوا إِلَى اِبْنِي إِبْرَاهِيم.
وَكَذَا سَقَطَ مِنْ حَدِيث اِبْن عُمَر , وَالْعُمْدَة عَلَى مَنْ حَفِظَ.
‏ ‏( الثَّانِي ) ذَكَرَ أَبُو حَامِد الْغَزَالِيّ فِي كَشْف عُلُوم الْآخِرَة أَنَّ بَيْن إِتْيَان أَهْل الْمَوْقِف آدَمَ وَإِتْيَانِهِمْ نُوحًا أَلْف سَنَة , وَكَذَا بَيْن كُلّ نَبِيّ وَنَبِيّ إِلَى نَبِيّنَا صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ أَقِف لِذَلِكَ عَلَى أَصْل , وَلَقَدْ أَكْثَرَ فِي هَذَا الْكِتَاب مِنْ إِيرَاد أَحَادِيثَ لَا أُصُولَ لَهَا فَلَا يُغْتَرَّ بِشَيْءٍ مِنْهَا.
‏ ‏قَوْله ( اِئْتُوا إِبْرَاهِيم ) ‏ ‏فِي رِوَايَة مُسْلِم " وَلَكِنْ اِئْتُوا إِبْرَاهِيم الَّذِي اِتَّخَذَهُ اللَّه خَلِيلًا " وَفِي رِوَايَة مَعْبَد بْن هِلَال " وَلَكِنْ عَلَيْكُمْ بِإِبْرَاهِيمَ فَهُوَ خَلِيلُ اللَّهِ ".
‏ ‏قَوْله ( فَيَأْتُونَهُ ) ‏ ‏فِي رِوَايَة مُسْلِم " فَيَأْتُونَ إِبْرَاهِيم " زَادَ أَبُو هُرَيْرَة فِي حَدِيثه فَيَقُولُونَ : يَا إِبْرَاهِيمُ أَنْتَ نَبِيُّ اللَّه وَخَلِيلُهُ مِنْ أَهْل الْأَرْض , قُمْ اِشْفَعْ لَنَا إِلَى رَبّك " وَذَكَرَ مِثْل مَا لِآدَم قَوْلًا وَجَوَابًا إِلَّا أَنَّهُ قَالَ " قَدْ كُنْت كَذَبْت ثَلَاثَ كَذَبَات " وَذَكَرَهُنَّ.
‏ ‏قَوْله ( فَيَقُول لَسْت هُنَاكُمْ , وَيَذْكُر خَطِيئَتَهُ ) ‏ ‏زَادَ مُسْلِم " الَّتِي أَصَابَ فَيَسْتَحْيِي رَبّه مِنْهَا " وَفِي حَدِيث أَبِي بَكْر " لَيْسَ ذَاكُمْ عِنْدِي " وَفِي رِوَايَة هَمَّام " إِنِّي كُنْت كَذَبْت ثَلَاث كَذَبَات " زَادَ شَيْبَانَ فِي رِوَايَته " قَوْله إِنِّي سَقِيم " وَقَوْله فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا , وَقَوْله لِامْرَأَتِهِ أَخْبِرِيهِ أَنِّي أَخُوك " وَفِي رِوَايَة أَبِي نَضْرَةَ عَنْ أَبِي سَعِيد " فَيَقُول إِنِّي كَذَبْت ثَلَاث كَذَبَات , قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : مَا مِنْهَا كِذْبَة إِلَّا مَا حَلَّ بِهَا عَنْ دِين اللَّه " وَمَا حَلَّ بِمُهْمَلَةٍ بِمَعْنَى جَادَلَ وَزْنُهُ وَمَعْنَاهُ.
وَوَقَعَ فِي رِوَايَة حُذَيْفَة الْمَقْرُونَة " لَسْت بِصَاحِبِ ذَاكَ , إِنَّمَا كُنْت خَلِيلًا مِنْ وَرَاء وَرَاء " وَضُبِطَ بِفَتْحِ الْهَمْزَة وَبِضَمِّهَا , وَاخْتَلَفَ التَّرْجِيح فِيهِمَا.
قَالَ النَّوَوِيّ : أَشْهَرهمَا الْفَتْح بِلَا تَنْوِين وَيَجُوز بِنَاؤُهَا عَلَى الضَّمّ , وَصَوَّبَهُ أَبُو الْبَقَاء وَالْكِنْدِيّ , وَصَوَّبَ اِبْن دِحْيَة الْفَتْح عَلَى أَنَّ الْكَلِمَة مُرَكَّبَة مِثْل شَذَر مَذَر , وَإِنْ وَرَدَ مَنْصُوبًا مُنَوَّنًا جَازَ , وَمَعْنَاهُ لَمْ أَكُنْ فِي التَّقْرِيب وَالْإِدْلَال بِمَنْزِلَةِ الْحَبِيب.
قَالَ صَاحِب التَّحْرِير : كَلِمَة تُقَال عَلَى سَبِيل التَّوَاضُع , أَيْ لَسْت فِي تِلْكَ الدَّرَجَة.
قَالَ : وَقَدْ وَقَعَ لِي فِيهِ مَعْنَى مَلِيح وَهُوَ أَنَّ الْفَضْل الَّذِي أَعْطَيْته كَانَ بِسِفَارَةِ جِبْرِيل , وَلَكِنْ اِئْتُوا مُوسَى الَّذِي كَلَّمَهُ اللَّه بِلَا وَاسِطَة , وَكَرَّرَ وَرَاء إِشَارَة إِلَى نَبِيّنَا صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّهُ حَصَلَتْ لَهُ الرُّؤْيَةُ وَالسَّمَاعُ بِلَا وَاسِطَة , فَكَأَنَّهُ قَالَ أَنَا مِنْ وَرَاء مُوسَى الَّذِي هُوَ مِنْ وَرَاء مُحَمَّد , قَالَ الْبَيْضَاوِيّ : الْحَقّ أَنَّ الْكَلِمَات الثَّلَاث إِنَّمَا كَانَتْ مِنْ مَعَارِيضِ الْكَلَامِ , لَكِنْ لَمَّا كَانَتْ صُورَتهَا صُورَة الْكَذِب أَشْفَقَ مِنْهَا اِسْتِصْغَارًا لِنَفْسِهِ عَنْ الشَّفَاعَة مَعَ وُقُوعهَا , لِأَنَّ مَنْ كَانَ أَعْرَفَ بِاَللَّهِ وَأَقْرَب إِلَيْهِ مَنْزِلَة كَانَ أَعْظَمَ خَوْفًا.
‏ ‏قَوْله ( اِئْتُوا مُوسَى الَّذِي كَلَّمَهُ اللَّه ) ‏ ‏فِي رِوَايَة مُسْلِم " وَلَكِنْ اِئْتُوا مُوسَى " وَزَادَ " وَأَعْطَاهُ التَّوْرَاة " وَكَذَا فِي رِوَايَة هِشَام وَغَيْره , وَفِي رِوَايَة مَعْبَد بْن هِلَال " وَلَكِنْ عَلَيْكُمْ بِمُوسَى فَهُوَ كَلِيم اللَّه " وَفِي رِوَايَة الْإِسْمَاعِيلِيّ " عَبْدًا أَعْطَاهُ اللَّه التَّوْرَاة وَكَلَّمَهُ تَكْلِيمًا " زَادَ هَمَّام فِي رِوَايَته " وَقَرَّبَهُ نَجِيًّا " وَفِي رِوَايَة حُذَيْفَة الْمَقْرُونَة " اِعْمِدُوا إِلَى مُوسَى ".
‏ ‏قَوْله ( فَيَأْتُونَهُ ) ‏ ‏فِي رِوَايَة مُسْلِم " فَيَأْتُونَ مُوسَى فَيَقُول " وَفِي حَدِيث أَبِي هُرَيْرَة " فَيَقُولُونَ يَا مُوسَى أَنْتَ رَسُول اللَّه فَضَّلَك اللَّه بِرِسَالَتِهِ وَكَلَامه عَلَى النَّاس , اِشْفَعْ لَنَا " فَذَكَرَ مِثْل آدَم قَوْلًا وَجَوَابًا لَكِنَّهُ قَالَ : " إِنِّي قَتَلْت نَفْسًا لَمْ أُومَر بِقَتْلِهَا ".
‏ ‏قَوْله ( فَيَقُول لَسْت هُنَاكُمْ ) ‏ ‏زَادَ مُسْلِم " فَيَذْكُر خَطِيئَتَهُ الَّتِي أَصَابَ قَتْلَ النَّفْس " وَلِلْإِسْمَاعِيلِيِّ " فَيَسْتَحْيِي رَبَّهُ مِنْهَا " وَفِي رِوَايَة ثَابِت عِنْد سَعِيد بْن مَنْصُور إِنِّي قَتَلْت نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْس , وَإِنْ يُغْفَر لِي الْيَوْمَ حَسْبِي " وَفِي حَدِيث أَبِي هُرَيْرَة " إِنِّي قَتَلْت نَفْسًا لَمْ أُومَر بِقَتْلِهَا " وَذَكَرَ مِثْل مَا فِي آدَمَ.
‏ ‏قَوْله ( اِئْتُوا عِيسَى ) ‏ ‏زَادَ مُسْلِم " رُوح اللَّه وَكَلِمَته " وَفِي رِوَايَة هِشَام " عَبْد اللَّه وَرَسُوله وَكَلِمَتُهُ وَرُوحُهُ " وَفِي حَدِيث أَبِي بَكْر " فَإِنَّهُ كَانَ يُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَيُحْيِي الْمَوْتَى ".
‏ ‏قَوْله ( فَيَأْتُونَهُ ) ‏ ‏فِي رِوَايَة مُسْلِم " فَيَأْتُونَ عِيسَى فَيَقُول : لَسْت هُنَاكُمْ " وَفِي حَدِيث أَبِي هُرَيْرَة " فَيَقُولُونَ : يَا عِيسَى أَنْتَ رَسُول اللَّه وَكَلِمَته أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَم وَرُوح مِنْهُ وَكَلَّمْت النَّاس فِي الْمَهْد صَبِيًّا , اِشْفَعْ لَنَا إِلَى رَبّك , أَلَا تَرَى إِلَى مَا نَحْنُ فِيهِ ؟ مِثْل آدَم قَوْلًا وَجَوَابًا لَكِنْ قَالَ : وَلَمْ يَذْكُر ذَنْبًا " لَكِنْ وَقَعَ فِي رِوَايَة التِّرْمِذِيّ مِنْ حَدِيث أَبِي نَضْرَةَ عَنْ أَبِي سَعِيد " إِنِّي عُبِدْت مِنْ دُون اللَّه " وَفِي رِوَايَة أَحْمَد وَالنَّسَائِيِّ مِنْ حَدِيث اِبْن عَبَّاس " إِنِّي اُتُّخِذْت إِلَهًا مِنْ دُون اللَّه " وَفِي رِوَايَة ثَابِت عِنْد سَعِيد بْن مَنْصُور نَحْوه وَزَادَ " وَإِنْ يُغْفَر لِي الْيَوْم حَسْبِي ".
‏ ‏قَوْله ( اِئْتُوا مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَدْ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبه وَمَا تَأَخَّرَ ) ‏ ‏فِي رِوَايَة مُسْلِم " عَبْد غُفِرَ لَهُ إِلَخْ " زَادَ ثَابِت " مِنْ ذَنْبه " وَفِي رِوَايَة هِشَام " غَفَرَ اللَّه لَهُ " وَفِي رِوَايَة مُعْتَمِر " اِنْطَلِقُوا إِلَى مَنْ جَاءَ الْيَوْم مَغْفُورًا لَهُ لَيْسَ عَلَيْهِ ذَنْب " وَفِي رِوَايَة ثَابِت أَيْضًا " خَاتَم النَّبِيِّينَ قَدْ حَضَرَ الْيَوْم , أَرَأَيْتُمْ لَوْ كَانَ مَتَاع فِي وِعَاء قَدْ خُتِمَ عَلَيْهِ أَكَانَ يُقْدَر عَلَى مَا فِي الْوِعَاء حَتَّى يُفَضَّ الْخَاتَم " وَعِنْد سَعِيد بْن مَنْصُور مِنْ هَذَا الْوَجْه " فَيَرْجِعُونَ إِلَى آدَم فَيَقُول أَرَأَيْتُمْ إِلَخْ " وَفِي حَدِيث أَبِي بَكْر " وَلَكِنْ اِنْطَلِقُوا إِلَى سَيِّد وَلَد آدَم فَإِنَّهُ أَوَّل مَنْ تَنْشَقُّ عَنْهُ الْأَرْض " قَالَ عِيَاض : اِخْتَلَفُوا فِي تَأْوِيل قَوْله تَعَالَى ( لِيَغْفِرَ لَك اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِك وَمَا تَأَخَّرَ ) فَقِيلَ : الْمُتَقَدِّم مَا قَبْل النُّبُوَّة وَالْمُتَأَخِّر الْعِصْمَة.
وَقِيلَ : مَا وَقَعَ عَنْ سَهْو أَوْ تَأْوِيل.
وَقِيلَ : الْمُتَقَدِّم ذَنْب آدَم وَالْمُتَأَخِّرُ ذَنْبُ أُمَّتِهِ , وَقِيلَ : الْمَعْنَى أَنَّهُ مَغْفُورٌ لَهُ غَيْرُ مُؤَاخَذٍ لَوْ وَقَعَ , وَقِيلَ غَيْر ذَلِكَ.
قُلْت : وَاللَّائِق بِهَذَا الْمَقَام الْقَوْل الرَّابِع , وَأَمَّا الثَّالِث فَلَا يَتَأَتَّى هُنَا , وَيُسْتَفَاد مِنْ قَوْل عِيسَى فِي حَقّ نَبِيّنَا هَذَا وَمَنْ قَوْل مُوسَى فِيمَا تَقَدَّمَ " إِنِّي قَتَلْت نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْس وَإِنْ يُغْفَر لِي الْيَوْم حَسْبِي " مَعَ أَنَّ اللَّه قَدْ غَفَرَ لَهُ بِنَصِّ الْقُرْآن , التَّفْرِقَة بَيْن مَنْ وَقَعَ مِنْهُ شَيْء وَمَنْ لَمْ يَقَع شَيْء أَصْلًا , فَإِنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام مَعَ وُقُوع الْمَغْفِرَة لَهُ لَمْ يَرْتَفِع إِشْفَاقه مِنْ الْمُؤَاخَذَة بِذَلِكَ وَرَأَى فِي نَفْسه تَقْصِيرًا عَنْ مَقَام الشَّفَاعَة مَعَ وُجُود مَا صَدَرَ مِنْهُ , بِخِلَافِ نَبِيّنَا صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ذَلِكَ كُلّه , وَمِنْ ثَمَّ اِحْتَجَّ عِيسَى بِأَنَّهُ صَاحِب الشَّفَاعَة لِأَنَّهُ قَدْ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبه وَمَا تَأَخَّرَ بِمَعْنَى أَنَّ اللَّه أَخْبَرَ أَنَّهُ لَا يُؤَاخِذهُ بِذَنْبٍ لَوْ وَقَعَ مِنْهُ , وَهَذَا مِنْ النَّفَائِس الَّتِي فَتَحَ اللَّه بِهَا فِي فَتْح الْبَارِي فَلَهُ الْحَمْد.
‏ ‏قَوْله ( فَيَأْتُونِي ) ‏ ‏فِي رِوَايَة النَّضْر بْن أَنَس عَنْ أَبِيهِ " حَدَّثَنِي نَبِيّ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : إِنِّي لَقَائِمٌ أَنْتَظِر أُمَّتِي تَعْبُر الصِّرَاط إِذْ جَاءَ عِيسَى فَقَالَ : يَا مُحَمَّد هَذِهِ الْأَنْبِيَاء قَدْ جَاءَتْك يَسْأَلُونَ لِتَدْعُوَ اللَّه أَنْ يُفَرِّق جَمْع الْأُمَم إِلَى حَيْثُ يَشَاء لِغَمِّ مَا هُمْ فِيهِ " فَأَفَادَتْ هَذِهِ الرِّوَايَة تَعْيِين مَوْقِف النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَئِذٍ , وَأَنَّ هَذَا الَّذِي وُصِفَ مِنْ كَلَام أَهْل الْمَوْقِف كُلّه يَقَع عِنْد نَصْب الصِّرَاط بَعْد تَسَاقُط الْكُفَّار فِي النَّار كَمَا سَيَأْتِي بَيَانه قَرِيبًا , وَأَنَّ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام هُوَ الَّذِي يُخَاطِب النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , وَأَنَّ الْأَنْبِيَاء جَمِيعًا يَسْأَلُونَهُ فِي ذَلِكَ.
وَقَدْ أَخْرَجَ التِّرْمِذِيّ وَغَيْره مِنْ حَدِيث أُبَيّ بْن كَعْب فِي نُزُول الْقُرْآن عَلَى سَبْعَة أَحْرُف وَفِيهِ " وَأَخَّرْت الثَّالِثَة لِيَوْمٍ يَرْغَب إِلَيَّ فِيهِ الْخَلْق حَتَّى إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام " وَوَقَعَ فِي رِوَايَة مَعْبَد بْن هِلَال " فَيَأْتُونِي فَأَقُول : أَنَا لَهَا أَنَا لَهَا " زَادَ عُقْبَة بْن عَامِر عِنْد اِبْن الْمُبَارَك فِي الزُّهْد " فَيَأْذَن اللَّه لِي فَأَقُوم , فَيَثُور مِنْ مَجْلِسِي أَطْيَب رِيح شَمَّهَا أَحَد " وَفِي حَدِيث سَلْمَان بْن أَبِي بَكْر بْن أَبِي شَيْبَة " يَأْتُونَ مُحَمَّدًا فَيَقُولُونَ : يَا نَبِيّ اللَّه أَنْتَ الَّذِي فَتَحَ اللَّه بِك وَخَتَمَ , وَغَفَرَ لَك مَا تَقَدَّمَ وَمَا تَأَخَّرَ , وَجِئْت فِي هَذَا الْيَوْم آمِنًا وَتَرَى مَا نَحْنُ فِيهِ , فَقُمْ فَاشْفَعْ لَنَا إِلَى رَبّنَا.
فَيَقُول : أَنَا صَاحِبكُمْ , فَيَجُوش النَّاس حَتَّى يَنْتَهِي إِلَى بَاب الْجَنَّة " وَفِي رِوَايَة مُعْتَمِر " فَيَقُول : أَنَا صَاحِبهَا ".
‏ ‏قَوْله ( فَأَسْتَأْذِنُ ) ‏ ‏فِي رِوَايَة هِشَام " فَأَنْطَلِق حَتَّى أَسْتَأْذِنَ ".
‏ ‏قَوْله ( عَلَى رَبِّي ) ‏ ‏زَادَ هَمَّام " فِي دَاره فَيُؤْذَن لِي " قَالَ عِيَاض : أَيْ فِي الشَّفَاعَة.
وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ ظَاهِر مَا تَقَدَّمَ أَنَّ اِسْتِئْذَانه الْأَوَّل وَالْإِذْن لَهُ إِنَّمَا هُوَ فِي دُخُول الدَّار وَهِيَ الْجَنَّة , وَأُضِيفَتْ إِلَى اللَّه تَعَالَى إِضَافَةَ تَشْرِيفٍ , وَمِنْهُ ( وَاَللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ ) عَلَى الْقَوْل بِأَنَّ الْمُرَاد بِالسَّلَامِ هُنَا الِاسْم الْعَظِيم وَهُوَ مِنْ أَسْمَاء اللَّه تَعَالَى , قِيلَ الْحِكْمَة فِي اِنْتِقَال النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ مَكَانه إِلَى دَار السَّلَام أَنَّ أَرْض الْمَوْقِف لَمَّا كَانَتْ مَقَامَ عَرْض وَحِسَاب كَانَتْ مَكَانَ مَخَافَة وَإِشْفَاق , وَمَقَام الشَّافِع يُنَاسِب أَنْ يَكُون فِي مَكَانِ إِكْرَامٍ , وَمِنْ ثَمَّ يُسْتَحَبّ أَنْ يُتَحَرَّى لِلدُّعَاءِ الْمَكَانُ الشَّرِيفُ لِأَنَّ الدُّعَاءَ فِيهِ أَقْرَب لِلْإِجَابَةِ.
قُلْت : وَتَقَدَّمَ فِي بَعْض طُرُقه أَنَّ مِنْ جُمْلَة سُؤَال أَهْل الْمَوْقِف اِسْتِفْتَاح بَاب الْجَنَّة.
وَقَدْ ثَبَتَ فِي صَحِيح مُسْلِم أَنَّهُ أَوَّل مَنْ يَسْتَفْتِح بَاب الْجَنَّة , وَفِي رِوَايَة عَلِيّ بْن زَيْد عَنْ أَنَس عِنْد التِّرْمِذِيّ " فَآخُذُ حَلْقَةَ بَاب الْجَنَّة فَأُقَعْقِعُهَا فَيُقَال : مَنْ هَذَا ؟ فَأَقُول : مُحَمَّد , فَيُفْتَحُونَ لِي وَيُرَحِّبُونَ , فَأَخُرُّ سَاجِدًا " وَفِي رِوَايَة ثَابِت عَنْ أَنَس عِنْد مُسْلِم " فَيَقُول الْخَازِن : مَنْ ؟ فَأَقُول : مُحَمَّد , فَيَقُول : بِك أُمِرْت أَنْ لَا أُفْتَح لِأَحَدٍ قَبْلَك " وَلَهُ مِنْ رِوَايَة الْمُخْتَار بْن فُلْفُل عَنْ أَنَس رَفَعَهُ " أَنَا أَوَّل مَنْ يَقْرَع بَاب الْجَنَّة " وَفِي رِوَايَة قَتَادَةَ عَنْ أَنَس " آتِي بَاب الْجَنَّة فَأَسْتَفْتِح فَيُقَال : مَنْ هَذَا ؟ فَأَقُول : مُحَمَّد , فَيُقَال : مَرْحَبًا بِمُحَمَّدٍ " وَفِي حَدِيث سَلْمَان " فَيَأْخُذ بِحَلْقَةِ الْبَاب وَهِيَ مِنْ ذَهَب فَيَقْرَع الْبَاب فَيُقَال : مَنْ هَذَا ؟ فَيَقُول : مُحَمَّد , فَيُفْتَح لَهُ حَتَّى يَقُوم بَيْن يَدَيْ اللَّه فَيَسْتَأْذِن فِي السُّجُود فَيُؤْذَن لَهُ " وَفِي حَدِيث أَبِي بَكْر الصِّدِّيق " فَيَأْتِي جِبْرِيل رَبّه فَيَقُول اِئْذَنْ لَهُ ".
‏ ‏قَوْله ( فَإِذَا رَأَيْته وَقَعْت لَهُ سَاجِدًا ) ‏ ‏فِي رِوَايَة أَبِي بَكْر " فَآتِي تَحْت الْعَرْش فَأَقَع سَاجِدًا لِرَبِّي " وَفِي رِوَايَة لِابْنِ حِبَّان مِنْ طَرِيق ثَوْبَانَ عَنْ أَنَس " فَيَتَجَلَّى لَهُ الرَّبّ وَلَا يَتَجَلَّى لِشَيْءٍ قَبْلَهُ " وَفِي حَدِيث أُبَيّ بْن كَعْب عِنْد أَبِي يَعْلَى رَفَعَهُ " يُعَرِّفُنِي اللَّهُ نَفْسه , فَأَسْجُد لَهُ سَجْدَةً يَرْضَى بِهَا عَنِّي , ثُمَّ أَمْتَدِحُهُ بِمَدْحَةٍ يَرْضَى بِهَا عَنِّي ".
‏ ‏قَوْله ( فَيَدَعُنِي مَا شَاءَ اللَّه ) ‏ ‏زَادَ مُسْلِم " أَنْ يَدَعَنِي " وَكَذَا فِي رِوَايَة هِشَام , وَفِي حَدِيث عُبَادَةَ بْن الصَّامِت " فَإِذَا رَأَيْت رَبِّي خَرَرْت لَهُ سَاجِدًا شَاكِرًا لَهُ " وَفِي رِوَايَة مَعْبَد بْن هِلَال " فَأَقُوم بَيْن يَدَيْهِ فَيُلْهِمُنِي مَحَامِدَ لَا أَقْدِر عَلَيْهَا الْآن فَأَحْمَدُهُ بِتِلْكَ الْمَحَامِد , ثُمَّ أَخِرُّ لَهُ سَاجِدًا " وَفِي حَدِيث أَبِي بَكْر الصِّدِّيق " فَيَنْطَلِق إِلَيْهِ جِبْرِيل فَيَخِرُّ سَاجِدًا قَدْرَ جُمُعَةٍ ".
‏ ‏قَوْله ( ثُمَّ يُقَال لِي اِرْفَعْ رَأْسَك ) ‏ ‏فِي رِوَايَة مُسْلِم " فَيُقَال يَا مُحَمَّد " وَكَذَا فِي أَكْثَر الرِّوَايَات , وَفِي رِوَايَة النَّضْر بْن أَنَس " فَأَوْحَى اللَّه إِلَى جِبْرِيل أَنْ اِذْهَبْ إِلَى مُحَمَّد فَقُلْ لَهُ اِرْفَعْ رَأْسَك " فَعَلَى هَذَا فَالْمَعْنَى يَقُول لِي عَلَى لِسَان جِبْرِيلَ.
‏ ‏قَوْله ( وَسَلْ تُعْطَهُ وَقُلْ يُسْمَع وَاشْفَعْ تُشَفَّع ) ‏ ‏فِي رِوَايَة مُسْلِم بِغَيْرِ وَاوٍ , وَسَقَطَ مِنْ أَكْثَر الرِّوَايَات " وَقُلْ يُسْمَع " وَوَقَعَ فِي حَدِيث أَبِي بَكْر " فَيَرْفَع رَأْسَهُ فَإِذَا نَظَرَ إِلَى رَبّه خَرَّ سَاجِدًا قَدْرَ جُمُعَةٍ " وَفِي حَدِيث سَلْمَان " فَيُنَادِي يَا مُحَمَّد اِرْفَعْ رَأْسَك وَسَلْ تُعْطَ وَاشْفَعْ تُشَفَّع وَادْعُ تُجَبْ ".
‏ ‏قَوْله ( فَأَرْفَع رَأْسِي فَأَحْمَد رَبِّي بِتَحْمِيدٍ يُعَلِّمنِي ) ‏ ‏وَفِي رِوَايَة هِشَام " يُعَلِّمُنِيهِ " وَفِي رِوَايَة ثَابِت " بِمَحَامِدَ لَمْ يَحْمَدْهُ بِهَا أَحَد قَبْلِي , وَلَا يَحْمَدهُ بِهَا أَحَد بَعْدِي " وَفِي حَدِيث سَلْمَان " فَيَفْتَح اللَّه لَهُ مِنْ الثَّنَاء وَالتَّحْمِيد وَالتَّمْجِيد مَا لَمْ يَفْتَح لِأَحَدٍ مِنْ الْخَلَائِق " وَكَأَنَّهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُلْهَمُ التَّحْمِيد قَبْل سُجُوده وَبَعْده , وَفِيهِ " وَيَكُون فِي كُلّ مَكَان مَا يَلِيق بِهِ " وَقَدْ وَرَدَ مَا لَعَلَّهُ يُفَسَّر بِهِ بَعْض ذَلِكَ لَا جَمِيعه , فَفِي النَّسَائِيِّ وَمُصَنَّف عَبْد الرَّزَّاق وَمُعْجَم الطَّبَرَانِيِّ مِنْ حَدِيث حُذَيْفَة رَفَعَهُ قَالَ " يُجْمَع النَّاس فِي صَعِيد وَاحِد فَيُقَال : يَا مُحَمَّد , فَأَقُول : لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ وَالْخَيْر فِي يَدَيْك وَالْمَهْدِيُّ مَنْ هَدَيْت وَعَبْدك بَيْن يَدَيْك وَبِك وَإِلَيْك تَبَارَكْت وَتَعَالَيْت سُبْحَانَك لَا مَلْجَأَ وَلَا مَنْجَا مِنْك إِلَّا إِلَيْك " زَادَ عَبْد الرَّزَّاق " سُبْحَانَك رَبَّ الْبَيْتِ " فَذَلِكَ قَوْله ( عَسَى أَنْ يَبْعَثَك رَبُّك مَقَامًا مَحْمُودًا ) قَالَ اِبْن مَنْدَهْ فِي كِتَاب الْإِيمَان : هَذَا حَدِيث مُجْمَعٌ عَلَى صِحَّةِ إِسْنَادِهِ وَثِقَةِ رُوَاتِهِ.
‏ ‏قَوْله ( ثُمَّ أَشْفَعُ ) ‏ ‏فِي رِوَايَة مَعْبَد بْن هِلَال " فَأَقُول رَبِّ أُمَّتِي أُمَّتِي أُمَّتِي " وَفِي حَدِيث أَبِي هُرَيْرَة نَحْوُهُ.
‏ ‏قَوْله ( فَيَحُدّ لِي حَدًّا ) ‏ ‏يُبَيِّن لِي فِي كُلّ طَوْر مِنْ أَطْوَار الشَّفَاعَة حَدًّا أَقِف عِنْده فَلَا أَتَعَدَّاهُ , مِثْل أَنْ يَقُول شَفَّعْتُك فِيمَنْ أَخَلَّ بِالْجَمَاعَةِ ثُمَّ فِيمَنْ أَخَلَّ بِالصَّلَاةِ ثُمَّ فِيمَنْ شَرِبَ الْخَمْر ثُمَّ فِيمَنْ زَنَى وَعَلَى هَذَا الْأُسْلُوب , كَذَا حَكَاهُ الطِّيبِيُّ , وَاَلَّذِي يَدُلّ عَلَيْهِ سِيَاق الْأَخْبَار أَنَّ الْمُرَاد بِهِ تَفْضِيل مَرَاتِب الْمُخْرَجِينَ فِي الْأَعْمَال الصَّالِحَة كَمَا وَقَعَ عِنْد أَحْمَد عَنْ يَحْيَى الْقَطَّان عَنْ سَعِيد بْن أَبِي عَرُوبَة عَنْ قَتَادَةَ فِي هَذَا الْحَدِيث بِعَيْنِهِ وَسَأُنَبِّهُ عَلَيْهِ فِي آخِره , وَكَمَا تَقَدَّمَ فِي رِوَايَة هِشَام عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَس فِي كِتَاب الْإِيمَان بِلَفْظِ " يَخْرُج مِنْ النَّار مَنْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَفِي قَلْبه وَزْن شَعِيرَة " وَفِي رِوَايَة ثَابِت عِنْد أَحْمَد " فَأَقُول : أَيْ رَبِّ أُمَّتِي أُمَّتِي , فَيَقُول : أَخْرِجْ مَنْ كَانَ فِي قَلْبه مِثْقَال شَعِيرَة " ثُمَّ ذَكَرَ نَحْو مَا تَقَدَّمَ وَقَالَ " مِثْقَال ذَرَّة " ثُمَّ قَالَ " مِثْقَال حَبَّة مِنْ خَرْدَل " وَلَمْ يَذْكُرْ بَقِيَّة الْحَدِيث.
وَوَقَعَ فِي طَرِيق النَّضْر بْن أَنَس قَالَ " فَشَفَعْت فِي أُمَّتِي أَنْ أُخْرِجَ مِنْ كُلّ تِسْعَة وَتِسْعِينَ إِنْسَانًا وَاحِدًا , فَمَا زِلْت أَتَرَدَّدُ عَلَى رَبِّي لَا أَقُوم مِنْهُ مَقَامًا إِلَّا شُفِّعْت " وَفِي حَدِيث سَلْمَان " فَيَشْفَع فِي كُلّ مَنْ كَانَ فِي قَلْبه مِثْقَال حَبَّة مِنْ حِنْطَة ثُمَّ شَعِيرَة ثُمَّ حَبَّة مِنْ خَرْدَل فَذَلِكَ الْمَقَام الْمَحْمُود " وَقَدْ تَقَدَّمَتْ الْإِشَارَة إِلَى شَيْء مِنْ هَذَا فِي شَرْح الْحَدِيث الثَّالِثَ عَشَرَ , وَيَأْتِي مَبْسُوطًا فِي شَرْح حَدِيث الْبَاب الَّذِي يَلِيه.
‏ ‏قَوْله ( ثُمَّ أُخْرِجُهُمْ مِنْ النَّار ) ‏ ‏قَالَ الدَّاوُدِيُّ : كَأَنَّ رَاوِيَ هَذَا الْحَدِيث رَكَّبَ شَيْئًا عَلَى غَيْر أَصْله وَذَلِكَ أَنَّ فِي أَوَّل الْحَدِيث ذِكْرَ الشَّفَاعَة فِي الْإِرَاحَة مِنْ كَرْب الْمَوْقِف , وَفِي آخِره ذِكْر الشَّفَاعَة فِي الْإِخْرَاج مِنْ النَّار , يَعْنِي وَذَلِكَ إِنَّمَا يَكُون بَعْد التَّحَوُّل مِنْ الْمَوْقِف وَالْمُرُور عَلَى الصِّرَاط وَسُقُوط مَنْ يَسْقُط فِي تِلْكَ الْحَالَة فِي النَّار , ثُمَّ يَقَع بَعْد ذَلِكَ الشَّفَاعَة فِي الْإِخْرَاج.
وَهُوَ إِشْكَالٌ قَوِيٌّ , وَقَدْ أَجَابَ عَنْهُ عِيَاض وَتَبِعَهُ النَّوَوِيّ وَغَيْره بِأَنَّهُ قَدْ وَقَعَ فِي حَدِيث حُذَيْفَة الْمَقْرُون بِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَة بَعْد قَوْله " فَيَأْتُونَ مُحَمَّدًا فَيَقُوم وَيُؤْذَن لَهُ " أَيْ فِي الشَّفَاعَة " وَتُرْسَل الْأَمَانَة وَالرَّحِم فَيَقُومَانِ جَنْبَيْ الصِّرَاط يَمِينًا وَشِمَالًا فَيَمُرُّ أَوَّلُكُمْ كَالْبَرْقِ " الْحَدِيثَ.
قَالَ عِيَاض : فَبِهَذَا يَتَّصِل الْكَلَام , لِأَنَّ الشَّفَاعَة الَّتِي لَجَأَ النَّاس إِلَيْهِ فِيهَا هِيَ الْإِرَاحَة مِنْ كَرْب الْمَوْقِف , ثُمَّ تَجِيء الشَّفَاعَة فِي الْإِخْرَاج , وَقَدْ وَقَعَ فِي حَدِيث أَبِي هُرَيْرَة - يَعْنِي الْآتِي فِي الْبَاب الَّذِي يَلِيه بَعْد ذِكْر الْجَمْع فِي الْمَوْقِف - الْأَمْر بِاتِّبَاعِ كُلّ أُمَّة مَا كَانَتْ تَعْبُد , ثُمَّ تَمْيِيز الْمُنَافِقِينَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ , ثُمَّ حُلُول الشَّفَاعَة بَعْد وَضْع الصِّرَاط وَالْمُرُور عَلَيْهِ , فَكَانَ الْأَمْر بِاتِّبَاعِ كُلّ أُمَّة مَا كَانَتْ تَعْبُد هُوَ أَوَّل فَصْل الْقَضَاء وَالْإِرَاحَة مِنْ كَرْب الْمَوْقِف , قَالَ : وَبِهَذَا تَجْتَمِع مُتُون الْأَحَادِيث وَتَتَرَتَّب مَعَانِيهَا.
قُلْت : فَكَأَنَّ بَعْض الرُّوَاة حَفِظَ مَا لَمْ يَحْفَظ الْآخَر , وَسَيَأْتِي بَقِيَّته فِي شَرْح حَدِيث الْبَاب الَّذِي يَلِيه وَفِيهِ " حَتَّى يَجِيء الرَّجُل فَلَا يَسْتَطِيع السَّيْر إِلَّا زَحْفًا وَفِي جَانِبَيْ الصِّرَاط كَلَالِيبُ مَأْمُورَةٌ بِأَخْذِ مَنْ أُمِرَتْ بِهِ , فَمَخْدُوشٌ نَاجٍ وَمَكْدُوشٌ فِي النَّار " 00000000000فَظَهَرَ مِنْهُ أَنَّهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوَّل مَا يَشْفَع لِيُقْضَى بَيْن الْخَلْق , وَأَنَّ الشَّفَاعَة فِيمَنْ يَخْرُج مِنْ النَّار مِمَّنْ سَقَطَ تَقَع بَعْد ذَلِكَ , وَقَدْ وَقَعَ ذَلِكَ صَرِيحًا فِي حَدِيث اِبْن عُمَر اِخْتَصَرَ فِي سِيَاقه الْحَدِيث الَّذِي سَاقَهُ أَنَس وَأَبُو هُرَيْرَة مُطَوَّلًا.
وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي كِتَاب الزَّكَاة مِنْ طَرِيق حَمْزَة بْن عَبْد اللَّه بْن عُمَر عَنْ أَبِيهِ بِلَفْظِ " إِنَّ الشَّمْس تَدْنُو حَتَّى يَبْلُغ الْعَرَق نِصْف الْأُذُن , فَبَيْنَا هُمْ كَذَلِكَ اِسْتَغَاثُوا بِآدَم ثُمَّ بِمُوسَى ثُمَّ بِمُحَمَّدٍ فَيَشْفَع لِيُقْضَى بَيْن الْخَلْق , فَيَمْشِي حَتَّى يَأْخُذ بِحَلْقَةِ الْبَاب , فَيَوْمئِذٍ يَبْعَثهُ اللَّه مَقَامًا مَحْمُودًا يَحْمَدهُ أَهْل الْجَمْع كُلّهمْ " وَوَقَعَ فِي حَدِيث أُبَيّ بْن كَعْب عِنْد أَبِي يَعْلَى " ثُمَّ أَمْتَدِحهُ بِمَدْحَةٍ يَرْضَى بِهَا عَنِّي , ثُمَّ يُؤْذَن لِي فِي الْكَلَام , ثُمَّ تَمُرّ أُمَّتِي عَلَى الصِّرَاط وَهُوَ مَنْصُوب بَيْن ظَهْرَانَيْ جَهَنَّم فَيَمُرُّونَ " وَفِي حَدِيث اِبْن عَبَّاس مِنْ رِوَايَة عَبْد اللَّه بْن الْحَارِث عَنْهُ عِنْد أَحْمَد " فَيَقُول عَزَّ وَجَلَّ : يَا مُحَمَّد مَا تُرِيد أَنْ أَصْنَع فِي أُمَّتك ؟ فَأَقُول : يَا رَبّ عَجِّلْ حِسَابَهُمْ " وَفِي رِوَايَة عَنْ اِبْن عَبَّاس عِنْد أَحْمَد وَأَبِي يَعْلَى " فَأَقُول أَنَا لَهَا , حَتَّى يَأْذَن اللَّه لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى , فَإِذَا أَرَادَ اللَّه أَنْ يَفْرُغ مِنْ خَلْقه نَادَى مُنَادٍ : أَيْنَ مُحَمَّد وَأُمَّته " الْحَدِيث وَسَيَأْتِي بَيَان مَا يَقَع فِي الْمَوْقِف قَبْل نَصْب الصِّرَاط فِي شَرْح حَدِيث الْبَاب الَّذِي يَلِيهِ.
وَتَعَرَّضَ الطِّيبِيُّ لِلْجَوَابِ عَنْ الْإِشْكَال بِطَرِيقٍ آخَر فَقَالَ : يَجُوز أَنْ يُرَاد بِالنَّارِ الْحَبْس وَالْكَرْب وَالشِّدَّة الَّتِي كَانَ أَهْل الْمَوْقِف فِيهَا مِنْ دُنُوِّ الشَّمْس إِلَى رُءُوسِهِمْ وَكَرْبهمْ بِحَرِّهَا وَسَفْعهَا حَتَّى أَلْجَمَهُمْ الْعَرَق , وَأَنْ يُرَاد بِالْخُرُوجِ مِنْهَا خَلَاصهمْ مِنْ تِلْكَ الْحَالَة الَّتِي كَانُوا فِيهَا.
قُلْت : وَهُوَ اِحْتِمَال بَعِيد , إِلَّا أَنْ يُقَال إِنَّهُ يَقَع إِخْرَاجَانِ وَقَعَ ذِكْر أَحَدهمَا فِي حَدِيث الْبَاب عَلَى اِخْتِلَاف طُرُقه وَالْمُرَاد بِهِ الْخَلَاص مِنْ كَرْب الْمَوْقِف , وَالثَّانِي فِي حَدِيث الْبَاب الَّذِي يَلِيه وَيَكُون قَوْله فِيهِ " فَيَقُول مَنْ كَانَ يَعْبُد شَيْئًا فَلْيَتْبَعْهُ " بَعْد تَمَام الْخَلَاص مِنْ الْمَوْقِف وَنَصْب الصِّرَاط وَالْإِذْن فِي الْمُرُور عَلَيْهِ , وَيَقَع الْإِخْرَاج الثَّانِي لِمَنْ يَسْقُط فِي النَّار حَال الْمُرُور فَيَتَّحِدَا , وَقَدْ أَشَرْت إِلَى الِاحْتِمَال الْمَذْكُور فِي شَرْح حَدِيث الْعَرَق فِي " بَاب قَوْله تَعَالَى أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ " وَالْعِلْم عِنْد اللَّه تَعَالَى.
وَأَجَابَ الْقُرْطُبِيّ عَنْ أَصْل الْإِشْكَال بِأَنَّ فِي قَوْله آخِر حَدِيث أَبِي زُرْعَة عَنْ أَبِي هُرَيْرَة بَعْد قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَقُول يَا رَبِّ أُمَّتِي أُمَّتِي " فَيُقَال أَدْخِلْ مِنْ أُمَّتك مِنْ الْبَاب الْأَيْمَن مِنْ أَبْوَاب الْجَنَّة مَنْ لَا حِسَاب عَلَيْهِ وَلَا عَذَاب " قَالَ : فِي هَذَا مَا يَدُلّ عَلَى أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُشَفَّع فِيمَا طَلَبَ مِنْ تَعْجِيل الْحِسَاب , فَإِنَّهُ لِمَا أُذِنَ لَهُ فِي إِدْخَال مَنْ لَا حِسَاب عَلَيْهِ دَلَّ عَلَى تَأْخِير مَنْ عَلَيْهِ حِسَاب لِيُحَاسَب , وَوَقَعَ فِي حَدِيث الصُّور الطَّوِيل عِنْد أَبِي يَعْلَى " فَأَقُول يَا رَبّ وَعَدْتنِي الشَّفَاعَة فَشَفِّعْنِي فِي أَهْل الْجَنَّة يَدْخُلُونَ الْجَنَّة , فَيَقُول اللَّه : وَقَدْ شَفَّعْتُك فِيهِمْ وَأَذِنْت لَهُمْ فِي دُخُول الْجَنَّة " قُلْت : وَفِيهِ إِشْعَار بِأَنَّ الْعَرْض وَالْمِيزَان وَتَطَايُر الصُّحُف يَقَع فِي هَذَا الْمَوْطِن , ثُمَّ يُنَادِي الْمُنَادِي : لِيَتْبَعْ كُلّ أُمَّة مَنْ كَانَتْ تَعْبُد , فَيَسْقُط الْكُفَّار فِي النَّار , ثُمَّ يُمَيَّز بَيْن الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُنَافِقِينَ بِالِامْتِحَانِ بِالسُّجُودِ عِنْد كَشْف السَّاق , ثُمَّ يُؤْذَن فِي نَصْب الصِّرَاط وَالْمُرُور عَلَيْهِ , فَيُطْفَأ نُور الْمُنَافِقِينَ فَيَسْقُطُونَ فِي النَّار أَيْضًا , وَيَمُرّ الْمُؤْمِنُونَ عَلَيْهِ إِلَى الْجَنَّة , فَمِنْ الْعُصَاة مَنْ يَسْقُط وَيُوقَف بَعْض مَنْ نَجَا عِنْد الْقَنْطَرَة لِلْمُقَاصَصَةِ بَيْنهمْ ثُمَّ يَدْخُلُونَ الْجَنَّة , وَسَيَأْتِي تَفْصِيل ذَلِكَ وَاضِحًا فِي شَرْح حَدِيث الْبَاب الَّذِي يَلِيه إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى.
ثُمَّ وَقَفْت فِي تَفْسِير يَحْيَى بْن سَلَام الْبَصْرِيّ نَزِيل مِصْر ثُمَّ إِفْرِيقِيَة - وَهُوَ فِي طَبَقَة يَزِيد بْن هَارُون , وَقَدْ ضَعَّفَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ , وَقَالَ أَبُو حَاتِم الرَّازِيُّ صَدُوق , وَقَالَ أَبُو زُرْعَة رُبَّمَا وَهِمَ , وَقَالَ اِبْن عَدِيّ يُكْتَب حَدِيثه مَعَ ضَعْفه - فَنَقَلَ فِيهِ عَنْ الْكَلْبِيّ قَالَ : إِذَا دَخَلَ أَهْل الْجَنَّة الْجَنَّة وَأَهْل النَّار النَّار بَقِيَتْ زُمْرَة مِنْ آخِر زُمَر الْجَنَّة إِذَا خَرَجَ الْمُؤْمِنُونَ مِنْ الصِّرَاط بِأَعْمَالِهِمْ فَيَقُول آخِر زُمْرَة مِنْ زُمَر النَّار لَهُمْ وَقَدْ بَلَغَتْ النَّار مِنْهُمْ كُلَّ مَبْلَغ : أَمَّا نَحْنُ فَقَدْ أَخَذْنَا بِمَا فِي قُلُوبنَا مِنْ الشَّكّ وَالتَّكْذِيب , فَمَا نَفَعَكُمْ أَنْتُمْ تَوْحِيدكُمْ ؟ قَالَ فَيَصْرُخُونَ عِنْد ذَلِكَ يَدْعُونَ رَبّهمْ , فَيَسْمَعهُمْ أَهْل الْجَنَّة فَيَأْتُونَ آدَم , فَذَكَرَ الْحَدِيث فِي إِتْيَانهمْ الْأَنْبِيَاء الْمَذْكُورِينَ قَبْلُ وَاحِدًا وَاحِدًا إِلَى مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , فَيَنْطَلِق فَيَأْتِي رَبّ الْعِزَّة فَيَسْجُد لَهُ حَتَّى يَأْمُرهُ أَنْ يَرْفَع رَأْسَهُ ثُمَّ يَسْأَلهُ مَا تُرِيد ؟ وَهُوَ أَعْلَم بِهِ , فَيَقُول : رَبّ أُنَاس مِنْ عِبَادك أَصْحَاب ذُنُوب لَمْ يُشْرِكُوا بِك وَأَنْتَ أَعْلَم بِهِمْ , فَعَيَّرَهُمْ أَهْل الشِّرْك بِعِبَادَتِهِمْ إِيَّاكَ , فَيَقُول وَعِزَّتِي لَأُخْرِجَنهُمْ فَيُخْرِجهُمْ قَدْ اِحْتَرَقُوا , فَيَنْضَح عَلَيْهِمْ مِنْ الْمَاء حَتَّى يَنْبُتُوا ثُمَّ يَدْخُلُونَ الْجَنَّة فَيُسَمَّوْنَ الْجَهَنَّمِيِّينَ , فَيُغْبِطهُ عِنْد ذَلِكَ الْأَوَّلُونَ وَالْآخَرُونَ , فَذَلِكَ قَوْله ( عَسَى أَنْ يَبْعَثَك رَبُّك مَقَامًا مَحْمُودًا ).
قُلْت : فَهَذَا لَوْ ثَبَتَ لَرَفَعَ الْإِشْكَال لَكِنَّ الْكَلْبِيّ ضَعِيف , وَمَعَ ذَلِكَ لَمْ يُسْنِدهُ , ثُمَّ هُوَ مُخَالِف لِصَرِيحِ الْأَحَادِيث الصَّحِيحَة أَنْ سُؤَال الْمُؤْمِنِينَ الْأَنْبِيَاء وَاحِدًا بَعْد وَاحِد إِنَّمَا يَقَع فِي الْمَوْقِف قَبْل دُخُول الْمُؤْمِنِينَ الْجَنَّة وَاَللَّه أَعْلَم.
وَقَدْ تَمَسَّكَ بَعْض الْمُبْتَدِعَة مِنْ الْمُرْجِئَة بِالِاحْتِمَالِ الْمَذْكُور فِي دَعْوَاهُ أَنَّ أَحَدًا مِنْ الْمُوَحِّدِينَ لَا يَدْخُل النَّار أَصْلًا , وَإِنَّمَا الْمُرَاد بِمَا جَاءَ مِنْ أَنَّ النَّار تَسْفَعُهُمْ أَوْ تَلْفَحُهُمْ , وَمَا جَاءَ فِي الْإِخْرَاج مِنْ النَّار جَمِيعه مَحْمُول عَلَى مَا يَقَع لَهُمْ مِنْ الْكَرْب فِي الْمَوْقِف , وَهُوَ تَمَسُّكٌ بَاطِل , وَأَقْوَى مَا يُرَدّ بِهِ عَلَيْهِ مَا تَقَدَّمَ فِي الزَّكَاة مِنْ حَدِيث أَبِي هُرَيْرَة فِي قِصَّة مَانِع الزَّكَاة وَاللَّفْظ لِمُسْلِمِ " مَا مِنْ صَاحِب إِبِل لَا يُؤَدِّي حَقّهَا مِنْهَا إِلَّا إِذَا كَانَ يَوْم الْقِيَامَة بُطِحَ لَهَا بِقَاعٍ قَرْقَرٍ أَوْفَرَ مَا كَانَتْ تَطَؤُهُ بِأَخْفَافِهَا وَتَعَضّهُ بِأَفْوَاهِهَا فِي يَوْم كَانَ مِقْدَاره خَمْسِينَ أَلْف سَنَة , حَتَّى يُقْضَى بَيْن الْعِبَاد , فَيَرَى سَبِيله إِمَّا إِلَى الْجَنَّة وَإِمَّا إِلَى النَّار " الْحَدِيث بِطُولِهِ وَفِيهِ ذِكْر الذَّهَب وَالْفِضَّة وَالْبَقَر وَالْغَنَم , وَهُوَ دَالٌّ عَلَى تَعْذِيب مَنْ شَاءَ اللَّه مِنْ الْعُصَاة بِالنَّارِ حَقِيقَة زِيَادَة عَلَى كَرْب الْمَوْقِف.
وَوَرَدَ فِي سَبَب إِخْرَاج بَقِيَّة الْمُوَحِّدِينَ مِنْ النَّار مَا تَقَدَّمَ أَنَّ الْكُفَّار يَقُولُونَ لَهُمْ : مَا أَغْنَى عَنْكُمْ قَوْل لَا إِلَه إِلَّا اللَّه وَأَنْتُمْ مَعَنَا , فَيَغْضَبُ اللَّه لَهُمْ فَيُخْرِجهُمْ.
وَهُوَ مِمَّا يُرَدُّ بِهِ عَلَى الْمُبْتَدِعَة الْمَذْكُورِينَ.
وَسَأَذْكُرُهُ فِي شَرْح حَدِيث الْبَاب الَّذِي يَلِيه إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى.
‏ ‏قَوْله ( ثُمَّ أَعُود فَأَقَع سَاجِدًا مِثْله فِي الثَّالِثَة أَوْ الرَّابِعَة ) ‏ ‏فِي رِوَايَة هِشَام " فَأَحُدّ لَهُمْ حَدًّا فَأُدْخِلهُمْ الْجَنَّة , ثُمَّ أَرْجِع ثَانِيًا فَأَسْتَأْذِن " إِلَى أَنْ قَالَ " ثُمَّ أَحُدّ لَهُمْ حَدًّا ثَالِثًا فَأُدْخِلهُمْ الْجَنَّة ثُمَّ أَرْجِع " هَكَذَا فِي أَكْثَر الرِّوَايَات.
وَوَقَعَ عِنْد أَحْمَد مِنْ رِوَايَة سَعِيد بْن أَبِي عَرُوبَة عَنْ قَتَادَةَ " ثُمَّ أَعُود الرَّابِعَة فَأَقُول : يَا رَبّ مَا بَقِيَ إِلَّا مَنْ حَبَسَهُ الْقُرْآن " وَلَمْ يَشُكَّ بَلْ جَزَمَ بِأَنَّ هَذَا الْقَوْل يَقَع فِي الرَّابِعَة.
وَوَقَعَ فِي رِوَايَة مَعْبَد بْن هِلَال عَنْ أَنَس أَنَّ الْحَسَن حَدَّثَ مَعْبَدًا بَعْد ذَلِكَ بِقَوْلِهِ " فَأَقُوم الرَّابِعَة " وَفِيهِ قَوْل اللَّه لَهُ " لَيْسَ ذَلِكَ لَك " وَأَنَّ اللَّه يَخْرُج مِنْ النَّار مَنْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَإِنْ لَمْ يَعْمَل خَيْرًا قَطُّ.
فَعَلَى هَذَا فَقَوْله " حَبَسَهُ الْقُرْآن " يَتَنَاوَل الْكُفَّار وَبَعْض الْعُصَاة مِمَّنْ وَرَدَ فِي الْقُرْآن فِي حَقِّهِ التَّخْلِيدُ , ثُمَّ يَخْرُج الْعُصَاة فِي الْقَبْضَة وَتَبْقَى الْكُفَّار , وَيَكُون الْمُرَاد بِالتَّخْلِيدِ فِي حَقّ الْعُصَاة الْمَذْكُورِينَ الْبَقَاء فِي النَّار بَعْد إِخْرَاج مَنْ تَقَدَّمَهُمْ.
‏ ‏قَوْله ( حَتَّى مَا يَبْقَى ) ‏ ‏فِي رِوَايَة الْكُشْمِيهَنِيِّ " مَا بَقِيَ " وَفِي رِوَايَة هِشَام بَعْد الثَّالِثَة " حَتَّى أَرْجِع فَأَقُول ".
‏ ‏قَوْله ( إِلَّا مَنْ حَبَسَهُ الْقُرْآن , وَكَانَ قَتَادَةُ يَقُول عِنْد هَذَا : أَيْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْخُلُود ) ‏ ‏فِي رِوَايَة هَمَّام " إِلَّا مَنْ حَبَسَهُ الْقُرْآن أَيْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْخُلُود " كَذَا أَبْهَمَ قَائِل " أَيْ وَجَبَ " وَتَبَيَّنَ مِنْ رِوَايَة أَبِي عَوَانَة أَنَّهُ قَتَادَةُ أَحَد رُوَاته.
وَوَقَعَ فِي رِوَايَة هِشَام وَسَعِيد " فَأَقُول : مَا بَقِيَ فِي النَّار إِلَّا مَنْ حَبَسَهُ الْقُرْآن وَوَجَبَ عَلَيْهِ الْخُلُود " وَسَقَطَ مِنْ رِوَايَة سَعِيد عِنْد مُسْلِم " وَوَجَبَ عَلَيْهِ الْخُلُود " وَعِنْده مِنْ رِوَايَة هِشَام مِثْل مَا ذَكَرْت مِنْ رِوَايَة هَمَّام , فَتَعَيَّنَ أَنَّ قَوْله " وَوَجَبَ عَلَيْهِ الْخُلُود " فِي رِوَايَة هِشَام مُدْرَج فِي الْمَرْفُوع لِمَا تَبَيَّنَ مِنْ رِوَايَة أَبِي عَوَانَة أَنَّهَا مِنْ قَوْل قَتَادَةَ فَسَّرَ بِهِ قَوْله " مَنْ حَبَسَهُ الْقُرْآن " أَيْ مَنْ أَخْبَرَ الْقُرْآنُ بِأَنَّهُ يَخْلُد فِي النَّار.
وَوَقَعَ فِي رِوَايَة هَمَّام بَعْد قَوْله أَيْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْخُلُود " وَهُوَ الْمَقَام الْمَحْمُود الَّذِي وَعَدَهُ اللَّه " وَفِي رِوَايَة شَيْبَانَ " إِلَّا مَنْ حَبَسَهُ الْقُرْآن , يَقُول : وَجَبَ عَلَيْهِ الْخُلُود , وَقَالَ : عَسَى أَنْ يَبْعَثك رَبّك مَقَامًا مَحْمُودًا " وَفِي رِوَايَة سَعِيد عِنْد أَحْمَد بَعْد قَوْله إِلَّا مَنْ حَبَسَهُ الْقُرْآن " قَالَ فَحَدَّثْنَا أَنَس بْن مَالِك أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : فَيَخْرُج مِنْ النَّار مَنْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَكَانَ فِي قَلْبه مِنْ الْخَيْر مَا يَزِنُ شَعِيرَة " الْحَدِيث وَهُوَ الَّذِي فَصَّلَهُ هِشَام مِنْ الْحَدِيث وَسَبَقَ سِيَاقه فِي كِتَاب الْإِيمَان مُفْرَدًا , وَوَقَعَ فِي رِوَايَة مَعْبَد بْن هِلَال بَعْد رِوَايَته عَنْ أَنَس مِنْ رِوَايَته عَنْ الْحَسَن الْبَصْرِيّ عَنْ أَنَس قَالَ " ثُمَّ أَقُوم الرَّابِعَة فَأَقُول أَيْ رَبّ اِئْذَنْ لِي فِيمَنْ قَالَ لَا إِلَه إِلَّا اللَّه , فَيَقُول لِي لَيْسَ ذَلِكَ لَك " فَذَكَرَ بَقِيَّة الْحَدِيث فِي إِخْرَاجهمْ , وَقَدْ تَمَسَّكَ بِهِ بَعْض الْمُبْتَدِعَة فِي دَعْوَاهُمْ أَنَّ مَنْ دَخَلَ النَّار مِنْ الْعُصَاة لَا يَخْرُج مِنْهَا لِقَوْلِهِ تَعَالَى ( وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ) وَأَجَابَ أَهْل السُّنَّة بِأَنَّهَا نَزَلَتْ فِي الْكُفَّار , وَعَلَى تَسْلِيم أَنَّهَا فِي أَعَمَّ مِنْ ذَلِكَ فَقَدْ ثَبَتَ تَخْصِيص الْمُوَحِّدِينَ بِالْإِخْرَاجِ , وَلَعَلَّ التَّأْيِيد فِي حَقّ مَنْ يَتَأَخَّر بَعْد شَفَاعَة الشَّافِعِينَ حَتَّى يَخْرُجُوا بِقَبْضَةِ أَرْحَم الرَّاحِمِينَ كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ فِي شَرْح حَدِيث الْبَاب الَّذِي يَلِيه , فَيَكُون التَّأْيِيد مُؤَقَّتًا , وَقَالَ عِيَاض : اِسْتَدَلَّ بِهَذَا الْحَدِيث مَنْ جَوَّزَ الْخَطَايَا عَلَى الْأَنْبِيَاء كَقَوْلِ كُلّ مَنْ ذُكِرَ فِيهِ مَا ذُكِرَ , وَأَجَابَ عَنْ أَصْل الْمَسْأَلَة بِأَنَّهُ لَا خِلَاف فِي عِصْمَتِهِمْ مِنْ الْكُفْر بَعْد النُّبُوَّة وَكَذَا قَبْلهَا عَلَى الصَّحِيح , وَكَذَا الْقَوْل فِي الْكَبِيرَة عَلَى التَّفْصِيل الْمَذْكُور , وَيُلْتَحَق بِهَا مَا يُزْرِي بِفَاعِلِهِ مِنْ الصَّغَائِر , وَكَذَا الْقَوْل فِي كُلّ مَا يَقْدَح فِي الْإِبْلَاغ مِنْ جِهَة الْقَوْل , وَاخْتَلَفُوا فِي الْفِعْل فَمَنَعَهُ بَعْضهمْ حَتَّى فِي النِّسْيَان , وَأَجَازَ الْجُمْهُور السَّهْوَ لَكِنْ لَا يَحْصُل التَّمَادِي , وَاخْتَلَفُوا فِيمَا عَدَا ذَلِكَ كُلّه مِنْ الصَّغَائِر فَذَهَبَ جَمَاعَة مِنْ أَهْل النَّظَر إِلَى عِصْمَتهمْ مِنْهَا مُطْلَقًا , وَأَوَّلُوا الْأَحَادِيث وَالْآيَات الْوَارِدَة فِي ذَلِكَ بِضُرُوبٍ مِنْ التَّأْوِيل , وَمَنْ جُمْلَة ذَلِكَ أَنَّ الصَّادِر عَنْهُمْ إِمَّا أَنْ يَكُون بِتَأْوِيلٍ مِنْ بَعْضهمْ أَوْ بِسَهْوٍ أَوْ بِإِذْنٍ , لَكِنْ خَشُوا أَنْ لَا يَكُون ذَلِكَ مُوَافِقًا لِمَقَامِهِمْ فَأَشْفَقُوا مِنْ الْمُؤَاخَذَة أَوْ الْمُعَاتَبَة , قَالَ : وَهَذَا أَرْجَح الْمَقَالَات , وَلَيْسَ هُوَ مَذْهَب الْمُعْتَزِلَة وَإِنْ قَالُوا بِعِصْمَتِهِمْ مُطْلَقًا لِأَنَّ مَنْزَعهمْ فِي ذَلِكَ التَّكْفِير بِالذُّنُوبِ مُطْلَقًا وَلَا يَجُوز عَلَى النَّبِيّ الْكُفْر , وَمَنْزَعُنَا أَنَّ أُمَّة النَّبِيّ مَأْمُورَةٌ بِالِاقْتِدَاءِ بِهِ فِي أَفْعَاله فَلَوْ جَازَ مِنْهُ وُقُوع الْمَعْصِيَة لَلَزِمَ الْأَمْر بِالشَّيْءِ الْوَاحِد وَالنَّهْي عَنْهُ فِي حَالَة وَاحِدَة وَهُوَ بَاطِل.
ثُمَّ قَالَ عِيَاض : وَجَمِيع مَا ذُكِرَ فِي حَدِيث الْبَاب لَا يَخْرُج عَمَّا قُلْنَاهُ لِأَنَّ أَكْل آدَم مِنْ الشَّجَرَة كَانَ عَنْ سَهْو , وَطَلَبَ نُوحٍ نَجَاة وَلَدِهِ كَانَ عَنْ تَأْوِيل , وَمَقَالَات إِبْرَاهِيم كَانَتْ مَعَارِيضَ وَأَرَادَ بِهَا الْخَيْرَ , وَقَتِيل مُوسَى كَانَ كَافِرًا كَمَا تَقَدَّمَ بَسْطُ ذَلِكَ وَاَللَّه أَعْلَم.
وَفِيهِ جَوَاز إِطْلَاق الْغَضَب عَلَى اللَّه وَالْمُرَاد بِهِ مَا يُظْهِرُ مِنْ اِنْتِقَامه مِمَّنْ عَصَاهُ , وَمَا يُشَاهِدهُ أَهْل الْمَوْقِف مِنْ الْأَهْوَال الَّتِي لَمْ يَكُنْ مِثَالهَا وَلَا يَكُون , كَذَا قَرَّرَهُ النَّوَوِيّ.
وَقَالَ غَيْره الْمُرَاد بِالْغَضَبِ لَازِمُهُ وَهُوَ إِرَادَة إِيصَال السُّوء لِلْبَعْضِ , وَقَوْل آدَم وَمَنْ بَعْده " نَفْسِي نَفْسِي نَفْسِي " أَيْ نَفْسِي هِيَ الَّتِي تَسْتَحِقّ أَنْ يُشْفَعَ لَهَا , لِأَنَّ الْمُبْتَدَأ وَالْخَبَر إِذَا كَانَا مُتَّحِدَيْنِ فَالْمُرَاد بِهِ بَعْض اللَّوَازِم , وَيَحْتَمِل أَنْ يَكُون أَحَدهمَا مَحْذُوفًا.
وَفِيهِ تَفْضِيل مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى جَمِيع الْخَلْق لِأَنَّ الرُّسُل وَالْأَنْبِيَاء وَالْمَلَائِكَة أَفْضَل مِمَّنْ سِوَاهُمْ , وَقَدْ ظَهَرَ فَضْله فِي هَذَا الْمَقَام عَلَيْهِمْ , قَالَ الْقُرْطُبِيّ : وَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِي ذَلِكَ إِلَّا الْفَرْق بَيْن مَنْ يَقُول نَفْسِي نَفْسِي وَبَيْن مَنْ يَقُول أُمَّتِي أُمَّتِي لَكَانَ كَافِيًا , وَفِيهِ تَفْضِيل الْأَنْبِيَاء الْمَذْكُورِينَ فِيهِ عَلَى مَنْ لَمْ يُذْكَرْ فِيهِ لِتَأَهُّلِهِمْ لِذَلِكَ الْمَقَام الْعَظِيم دُونَ مَنْ سِوَاهُمْ , وَقَدْ قِيلَ إِنَّمَا اُخْتُصَّ الْمَذْكُورُونَ بِذَلِكَ لِمَزَايَا أُخْرَى لَا تَتَعَلَّق بِالتَّفْضِيلِ , فَآدَم لِكَوْنِهِ وَالِدَ الْجَمِيعِ , وَنُوح لِكَوْنِهِ الْأَبَ الثَّانِيَ , وَإِبْرَاهِيم لِلْأَمْرِ بِاتِّبَاعِ مِلَّتِهِ , وَمُوسَى لِأَنَّهُ أَكْثَر الْأَنْبِيَاءِ تَبَعًا وَعِيسَى لِأَنَّهُ أَوْلَى النَّاس بِنَبِيِّنَا مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا ثَبَتَ فِي الْحَدِيث الصَّحِيح.
وَيَحْتَمِل أَنْ يَكُونُوا اُخْتُصُّوا بِذَلِكَ لِأَنَّهُمْ أَصْحَاب شَرَائِعَ عُمِلَ بِهَا مِنْ بَيْن مَنْ ذُكِرَ أَوَّلًا وَمَنْ بَعْده.
وَفِي الْحَدِيث مِنْ الْفَوَائِد غَيْر مَا ذُكِرَ أَنَّ مَنْ طَلَبَ مِنْ كَبِيرٍ أَمْرًا مَهْمَا أَنْ يُقَدِّمَ بَيْن يَدَيْ سُؤَاله وَصْف الْمَسْئُول بِأَحْسَنَ صِفَاتِهِ وَأَشْرَفِ مَزَايَاهُ لِيَكُونَ ذَلِكَ أَدْعَى لِإِجَابَتِهِ لِسُؤَالِهِ , وَفِيهِ أَنَّ الْمَسْئُول إِذَا لَمْ يَقْدِر عَلَى تَحْصِيل مَا سُئِلَ يَعْتَذِر بِمَا يُقْبَل مِنْهُ وَيَدُلُّ عَلَى مَنْ يَظُنُّ أَنَّهُ يَكْمُلُ فِي الْقِيَام بِذَلِكَ فَالدَّالّ عَلَى الْخَيْر كَفَاعِلِهِ , وَأَنَّهُ يُثْنِي عَلَى الْمَدْلُول عَلَيْهِ بِأَوْصَافِهِ الْمُقْتَضِيَة لِأَهْلِيَّتِهِ وَيَكُون أَدْعَى لِقَبُولِ عُذْرِهِ فِي الِامْتِنَاع , وَفِيهِ اِسْتِعْمَال ظَرْف الْمَكَان فِي الزَّمَان لِقَوْلِهِ لَسْت هُنَاكُمْ لِأَنَّ هُنَا ظَرْف مَكَان فَاسْتُعْمِلَتْ فِي ظَرْف الزَّمَان لِأَنَّ الْمَعْنَى لَسْت فِي ذَلِكَ الْمَقَام , كَذَا قَالَهُ بَعْض الْأَئِمَّة وَفِيهِ نَظَرٌ , وَإِنَّمَا هُوَ ظَرْف مَكَان عَلَى بَابه لَكِنَّهُ الْمَعْنَوِيُّ لَا الْحِسِّيُّ , مَعَ أَنَّهُ يُمْكِن حَمْلُهُ عَلَى الْحِسِّيِّ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُبَاشِر السُّؤَال بَعْدَ أَنْ يَسْتَأْذِن فِي دُخُول الْجَنَّة , وَعَلَى قَوْل مَنْ يُفَسِّر الْمَقَام الْمَحْمُود بِالْقُعُودِ عَلَى الْعَرْش يَتَحَقَّق ذَلِكَ أَيْضًا.
وَفِيهِ الْعَمَل بِالْعَامِّ قَبْل الْبَحْث عَنْ الْمُخَصِّص أَخْذًا مِنْ قِصَّة نُوح فِي طَلَبه نَجَاة اِبْنِهِ , وَقَدْ يَتَمَسَّك بِهِ مَنْ يَرَى بِعَكْسِهِ.
وَفِيهِ أَنَّ النَّاس يَوْم الْقِيَامَة يَسْتَصْحِبُونَ حَالهمْ فِي الدُّنْيَا مِنْ التَّوَسُّل إِلَى اللَّه تَعَالَى فِي حَوَائِجهمْ بِأَنْبِيَائِهِمْ , وَالْبَاعِث عَلَى ذَلِكَ الْإِلْهَام كَمَا تَقَدَّمَ فِي صَدْر الْحَدِيث.
وَفِيهِ أَنَّهُمْ يَسْتَشِير بَعْضُهُمْ بَعْضًا وَيُجْمِعُونَ عَلَى الشَّيْء الْمَطْلُوب وَأَنَّهُمْ يُغَطَّى عَنْهُمْ بَعْضُ مَا عَلِمُوهُ فِي الدُّنْيَا لِأَنَّ فِي السَّائِلِينَ مَنْ سَمِعَ هَذَا الْحَدِيث وَمَعَ ذَلِكَ فَلَا يَسْتَحْضِرُ أَحَد مِنْهُمْ أَنَّ ذَلِكَ الْمَقَام يَخْتَصُّ بِهِ نَبِيّنَا صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , إِذْ لَوْ اِسْتَحْضَرُوا ذَلِكَ لَسَأَلُوهُ مِنْ أَوَّل وَهْلَة وَلَمَا اِحْتَاجُوا إِلَى التَّرَدُّد مِنْ نَبِيّ إِلَى نَبِيّ , وَلَعَلَّ اللَّه تَعَالَى أَنْسَاهُمْ ذَلِكَ لِلْحِكْمَةِ الَّتِي تَتَرَتَّب عَلَيْهِ مِنْ إِظْهَار فَضْل نَبِيّنَا صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا تَقَدَّمَ تَقْرِيرُهُ.


حديث يجمع الله الناس يوم القيامة فيقولون لو استشفعنا على ربنا حتى يريحنا من مكاننا فيأتون

الحديث بالسند الكامل مع التشكيل

‏ ‏حَدَّثَنَا ‏ ‏مُسَدَّدٌ ‏ ‏حَدَّثَنَا ‏ ‏أَبُو عَوَانَةَ ‏ ‏عَنْ ‏ ‏قَتَادَةَ ‏ ‏عَنْ ‏ ‏أَنَسٍ ‏ ‏رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ‏ ‏قَالَ ‏ ‏قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ‏ ‏صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ‏ ‏يَجْمَعُ اللَّهُ النَّاسَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيَقُولُونَ لَوْ اسْتَشْفَعْنَا عَلَى رَبِّنَا حَتَّى يُرِيحَنَا مِنْ مَكَانِنَا فَيَأْتُونَ ‏ ‏آدَمَ ‏ ‏فَيَقُولُونَ أَنْتَ الَّذِي خَلَقَكَ اللَّهُ بِيَدِهِ وَنَفَخَ فِيكَ مِنْ رُوحِهِ وَأَمَرَ الْمَلَائِكَةَ فَسَجَدُوا لَكَ فَاشْفَعْ لَنَا عِنْدَ رَبِّنَا فَيَقُولُ لَسْتُ هُنَاكُمْ وَيَذْكُرُ خَطِيئَتَهُ وَيَقُولُ ائْتُوا ‏ ‏نُوحًا ‏ ‏أَوَّلَ رَسُولٍ بَعَثَهُ اللَّهُ فَيَأْتُونَهُ فَيَقُولُ لَسْتُ هُنَاكُمْ وَيَذْكُرُ خَطِيئَتَهُ ائْتُوا ‏ ‏إِبْرَاهِيمَ ‏ ‏الَّذِي اتَّخَذَهُ اللَّهُ خَلِيلًا فَيَأْتُونَهُ فَيَقُولُ لَسْتُ هُنَاكُمْ وَيَذْكُرُ خَطِيئَتَهُ ائْتُوا ‏ ‏مُوسَى ‏ ‏الَّذِي كَلَّمَهُ اللَّهُ فَيَأْتُونَهُ فَيَقُولُ لَسْتُ هُنَاكُمْ فَيَذْكُرُ خَطِيئَتَهُ ائْتُوا ‏ ‏عِيسَى ‏ ‏فَيَأْتُونَهُ فَيَقُولُ لَسْتُ هُنَاكُمْ ائْتُوا ‏ ‏مُحَمَّدًا ‏ ‏صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ‏ ‏فَقَدْ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ فَيَأْتُونِي فَأَسْتَأْذِنُ عَلَى رَبِّي فَإِذَا رَأَيْتُهُ وَقَعْتُ سَاجِدًا فَيَدَعُنِي مَا شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ يُقَالُ لِي ارْفَعْ رَأْسَكَ سَلْ ‏ ‏تُعْطَهْ وَقُلْ يُسْمَعْ وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ فَأَرْفَعُ رَأْسِي فَأَحْمَدُ رَبِّي بِتَحْمِيدٍ يُعَلِّمُنِي ثُمَّ أَشْفَعُ فَيَحُدُّ لِي حَدًّا ثُمَّ أُخْرِجُهُمْ مِنْ النَّارِ وَأُدْخِلُهُمْ الْجَنَّةَ ثُمَّ أَعُودُ فَأَقَعُ سَاجِدًا مِثْلَهُ فِي الثَّالِثَةِ أَوْ الرَّابِعَةِ حَتَّى مَا بَقِيَ فِي النَّارِ إِلَّا مَنْ حَبَسَهُ الْقُرْآنُ ‏ ‏وَكَانَ ‏ ‏قَتَادَةُ ‏ ‏يَقُولُ عِنْدَ هَذَا أَيْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْخُلُودُ ‏

كتب الحديث النبوي الشريف

المزيد من أحاديث صحيح البخاري

يخرج قوم من النار بشفاعة محمد ﷺ فيدخلون الجنة

حدثنا ‌عمران بن حصين رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يخرج قوم من النار بشفاعة محمد صلى الله عليه وسلم، فيدخلون الجنة يسمون الجهنميين...

إن كان في الجنة لم أبك عليه وإلا سوف ترى ما أصنع

عن ‌أنس «أن أم حارثة أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد هلك حارثة يوم بدر أصابه غرب سهم، فقالت: يا رسول الله، قد علمت موقع حارثة من قلبي، فإن كان في...

غدوة في سبيل الله أو روحة خير من الدنيا وما فيها

وقال: «غدوة في سبيل الله أو روحة خير من الدنيا وما فيها، ولقاب قوس أحدكم أو موضع قدم من الجنة خير من الدنيا وما فيها، ولو أن امرأة من نساء أهل الجنة ا...

لا يدخل أحد الجنة إلا أري مقعده من النار لو أساء...

عن ‌أبي هريرة قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا يدخل أحد الجنة إلا أري مقعده من النار، لو أساء ليزداد شكرا، ولا يدخل النار أحد إلا أري مقعده من الجنة،...

أسعد الناس بشفاعتي يوم القيامة من قال لا إله إلا...

عن ‌أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: «قلت: يا رسول الله، من أسعد الناس بشفاعتك يوم القيامة، فقال: لقد ظننت يا أبا هريرة أن لا يسألني عن هذا الحديث أحد...

إني لأعلم آخر أهل النار خروجا منها وآخر أهل الجنة...

عن ‌عبد الله رضي الله عنه قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إني لأعلم آخر أهل النار خروجا منها وآخر أهل الجنة دخولا: رجل يخرج من النار كبوا، فيقول الله:...

قال للنبي ﷺ هل نفعت أبا طالب بشيء

عن ‌العباس رضي الله عنه «أنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم: هل نفعت أبا طالب بشيء.»

إنكم ترون الله يوم القيامة ويجمع الناس

عن ‌أبي هريرة قال: «قال أناس: يا رسول الله، هل نرى ربنا يوم القيامة، فقال: هل تضارون في الشمس ليس دونها سحاب؟ قالوا: لا يا رسول الله، قال: هل تضارون ف...

أنا فرطكم على الحوض

عن ‌عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم «أنا فرطكم على الحوض.»