حديث الرسول ﷺ English الإجازة تواصل معنا
الحديث النبوي

لا يشرب الخمر حين يشرب وهو مؤمن - صحيح البخاري

صحيح البخاري | كتاب الحدود وما يحذر من الحدود باب لا يشرب الخمر (حديث رقم: 6772 )


6772- عن ‌أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشرب وهو مؤمن، ولا يسرق حين يسرق وهو مؤمن، ولا ينتهب نهبة، يرفع الناس إليه فيها أبصارهم، وهو مؤمن» وعن ابن شهاب، عن سعيد بن المسيب وأبي سلمة، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم بمثله، إلا النهبة.

أخرجه البخاري

شرح حديث (لا يشرب الخمر حين يشرب وهو مؤمن )

فتح الباري شرح صحيح البخاري: ابن حجر العسقلاني - أحمد بن علي بن حجر العسقلاني

‏ ‏قَوْله ( عَنْ أَبِي بَكْر بْن عَبْد الرَّحْمَن ) ‏ ‏أَيْ اِبْن الْحَارِث بْن هِشَام الْمَخْزُومِيّ , وَوَقَعَ فِي رِوَايَة مُسْلِم مِنْ طَرِيق شُعَيْب بْن اللَّيْث عَنْ أَبِيهِ " حَدَّثَنِي عُقَيْل بْن خَالِد قَالَ قَالَ اِبْن شِهَاب أَخْبَرَنِي أَبُو بَكْر بْن عَبْد الرَّحْمَن بْن الْحَارِث بْن هِشَام ".
‏ ‏قَوْله ( لَا يَزْنِي الزَّانِي حِين يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِن ) ‏ ‏قَيَّدَ نَفْيَ الْإِيمَانِ بِحَالَةِ اِرْتِكَابِهِ لَهَا , وَمُقْتَضَاهُ أَنَّهُ لَا يَسْتَمِرُّ بَعْد فَرَاغه , وَهَذَا هُوَ الظَّاهِر , وَيَحْتَمِل أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى أَنَّ زَوَالَ ذَلِكَ إِنَّمَا هُوَ إِذَا أَقْلَعَ الْإِقْلَاعَ الْكُلِّيَّ , وَأَمَّا لَوْ فَرَغَ وَهُوَ مُصِرٌّ عَلَى تِلْكَ الْمَعْصِيَةِ فَهُوَ كَالْمُرْتَكِبِ فَيُتَّجَه أَنَّ نَفْيَ الْإِيمَانِ عَنْهُ يَسْتَمِرّ , وَيُؤَيِّدُهُ مَا وَقَعَ فِي بَعْضِ طُرُقِهِ كَمَا سَيَأْتِي فِي الْمُحَارِبِينَ مِنْ قَوْل اِبْن عَبَّاسٍ " فَإِنْ تَابَ عَادَ إِلَيْهِ " وَلَكِنْ أَخْرَجَ الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيق نَافِع بْن جُبَيْر بْن مُطْعِم عَنْ اِبْن عَبَّاس قَالَ : لَا يَزْنِي حِين يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ , فَإِذَا زَالَ رَجَعَ إِلَيْهِ الْإِيمَان.
لَيْسَ إِذَا تَابَ مِنْهُ وَلَكِنْ إِذَا تَأَخَّرَ عَنْ الْعَمَلِ بِهِ.
وَيُؤَيِّدهُ أَنَّ الْمُصِرَّ وَإِنْ كَانَ إِثْمُهُ مُسْتَمِرًّا لَكِنْ لَيْسَ إِثْمُهُ كَمَنْ بَاشَرَ الْفِعْلَ كَالسَّرِقَةِ مَثَلًا.
‏ ‏قَوْله ( وَلَا يَشْرَب الْخَمْر حِين يَشْرَب وَهُوَ مُؤْمِن ) ‏ ‏فِي الرِّوَايَة الْمَاضِيَة فِي الْأَشْرِبَة " وَلَا يَشْرَبهَا " وَلَمْ يَذْكُر اِسْم الْفَاعِل مِنْ الشُّرْب كَمَا ذَكَرَهُ فِي الزِّنَا وَالسَّرِقَة , وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَام عَلَى ذَلِكَ فِي كِتَاب الْأَشْرِبَة.
قَالَ اِبْن مَالِك : فِيهِ جَوَازُ حَذْف الْفَاعِل لِدَلَالَةِ الْكَلَام عَلَيْهِ وَالتَّقْدِير : وَلَا يَشْرَب الشَّارِب الْخَمْر إِلَخْ , وَلَا يَرْجِع الضَّمِير إِلَى الزَّانِي لِئَلَّا يَخْتَصّ بِهِ بَلْ هُوَ عَامٌّ فِي حَقِّ كُلِّ مَنْ شَرِبَ , وَكَذَا الْقَوْل فِي لَا يَسْرِق وَلَا يَقْتُل وَفِي لَا يَغُلّ , وَنَظِير حَذْف الْفَاعِل بَعْد النَّفْي قِرَاءَة هِشَام ( وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيل اللَّه ) بِفَتْحِ الْيَاء التَّحْتَانِيَّة أَوَّلَهُ أَيْ لَا يَحْسَبَنَّ حَاسِبٌ.
‏ ‏قَوْله ( وَلَا يَنْتَهِب نُهْبَة ) ‏ ‏بِضَمِّ النُّون هُوَ الْمَال الْمَنْهُوب وَالْمُرَاد بِهِ الْمَأْخُوذ جَهْرًا قَهْرًا , وَوَقَعَ فِي رِوَايَة هَمَّام عِنْد أَحْمَد " وَاَلَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَا يَنْتَهِبَنَّ أَحَدُكُمْ نُهْبَة " الْحَدِيث , وَأَشَارَ بِرَفْعِ الْبَصَر إِلَى حَالَة الْمَنْهُوبِينَ فَإِنَّهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَى مَنْ يَنْهَبُهُمْ وَلَا يَقْدِرُونَ عَلَى دَفْعِهِ وَلَوْ تَضَرَّعُوا إِلَيْهِ , وَيَحْتَمِل أَنْ يَكُون كِنَايَة عَنْ عَدَمِ التَّسَتُّرِ بِذَلِكَ فَيَكُون صِفَةً لَازِمَةً لِلنَّهْبِ , بِخِلَافِ السَّرِقَةِ وَالِاخْتِلَاسِ فَإِنَّهُ يَكُون فِي خُفْيَةٍ , وَالِانْتِهَابُ أَشَدُّ لِمَا فِيهِ مِنْ مَزِيدِ الْجَرَاءَةِ وَعَدَمِ الْمُبَالَاةِ , وَزَادَ فِي رِوَايَة يُونُس بْن يَزِيد عَنْ اِبْن شِهَاب الَّتِي يَأْتِي التَّنْبِيهُ عَلَيْهَا عَقِبَهَا ذَات شَرَف أَيْ ذَات قَدْر حَيْثُ يُشْرِفُ النَّاسُ لَهَا نَاظِرِينَ إِلَيْهَا وَلِهَذَا وَصَفَهَا بِقَوْلِهِ " يَرْفَعُ النَّاسُ إِلَيْهِ فِيهَا أَبْصَارَهُمْ " وَلَفْظ يُشْرِفُ وَقَعَ فِي مُعْظَمِ الرِّوَايَاتِ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرهمَا بِالشِّينِ الْمُعْجَمَةِ , وَقَيَّدَهَا بَعْضُ رُوَاةِ مُسْلِمٍ بِالْمُهْمَلَةِ , وَكَذَا نُقِلَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الْحَرْبِيِّ , وَهِيَ تَرْجِع إِلَى التَّفْسِير الْأَوَّل قَالَهُ اِبْن الصَّلَاح.
‏ ‏قَوْله ( يَرْفَع النَّاس إِلَخْ ) ‏ ‏هَكَذَا وَقَعَ تَقْيِيدُهُ بِذَلِكَ فِي النُّهْبَةِ دُونَ السَّرِقَة.
‏ ‏قَوْله ( وَعَنْ اِبْن شِهَاب عَنْ سَعِيد بْن الْمُسَيِّبِ وَأَبِي سَلَمَة عَنْ أَبِي هُرَيْرَة عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمِثْلِهِ إِلَّا النُّهْبَة ) ‏ ‏هُوَ مَوْصُولٌ بِالسَّنَدِ الْمَذْكُور , وَقَدْ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ شُعَيْبِ بْنِ اللَّيْث بِلَفْظِ " قَالَ اِبْن شِهَاب وَحَدَّثَنِي سَعِيد بْن الْمُسَيِّب وَأَبُو سَلَمَة بْن عَبْد الرَّحْمَن عَنْ أَبِي هُرَيْرَة عَنْ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمِثْلِ حَدِيث أَبِي بَكْر هَذَا إِلَّا النُّهْبَة ) وَتَقَدَّمَ فِي الْأَشْرِبَة مِنْ طَرِيق يُونُس بْن يَزِيد عَنْ اِبْن شِهَاب " سَمِعْت أَبَا سَلَمَة بْن عَبْد الرَّحْمَن وَابْن الْمُسَيِّب يَقُولَانِ قَالَ أَبُو هُرَيْرَة " فَذَكَرَهُ مَرْفُوعًا , وَقَالَ بَعْده " قَالَ اِبْن شِهَاب وَأَخْبَرَنِي عَبْد الْمَلِك بْن أَبِي بَكْر بْن عَبْد الرَّحْمَن بْن الْحَارِث بْن هِشَام أَنَّ أَبَا بَكْر يَعْنِي أَبَاهُ كَانَ يُحَدِّثهُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَة ثُمَّ يَقُول : كَانَ أَبُو بَكْر يُلْحِق مَعَهُنَّ " وَلَا يَنْتَهِب نُهْبَة ذَات شَرَف " وَالْبَاقِي نَحْو الَّذِي هُنَا , وَتَقَدَّمَ فِي كِتَاب الْأَشْرِبَة أَنَّ مُسْلِمًا أَخْرَجَهُ مِنْ رِوَايَة الْأَوْزَاعِيِّ عَنْ اِبْن شِهَاب عَنْ اِبْن الْمُسَيِّب وَأَبِي سَلَمَة وَأَبِي بَكْر بْن عَبْد الرَّحْمَن ثَلَاثَتهمْ عَنْ أَبِي هُرَيْرَة وَسَاقَهُ مَسَاقًا وَاحِدًا مِنْ غَيْر تَفْصِيل , قَالَ اِبْن الصَّلَاح فِي كَلَامه عَلَى مُسْلِم قَوْله " وَكَانَ أَبُو هُرَيْرَةَ يُلْحِق مَعَهُنَّ , وَلَا يَنْتَهِب " يُوهِم أَنَّهُ مَوْقُوف عَلَى أَبِي هُرَيْرَة , وَقَدْ رَوَاهُ أَبُو نُعَيْم فِي مُسْتَخْرَجِهِ عَلَى مُسْلِم مِنْ طَرِيق هَمَّام عَنْ أَبِي هُرَيْرَة عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ " وَاَلَّذِي نَفْس مُحَمَّد بِيَدِهِ لَا يَنْتَهِب أَحَدكُمْ نُهْبَة " الْحَدِيث فَصَرَّحَ بِرَفْعِهِ اِنْتَهَى.
وَقَدْ أَخْرَجَهُ مُسْلِم مِنْ هَذَا الْوَجْه لَكِنْ لَمْ يَسُقْ لَفْظَهُ بَلْ قَالَ " مِثْل حَدِيث الزُّهْرِيّ " لَكِنْ قَالَ " يَرْفَع إِلَيْهِ الْمُؤْمِنُونَ أَعْيُنهمْ فِيهَا " الْحَدِيث , قَالَ : وَزَادَ " وَلَا يَغُلُّ أَحَدُكُمْ حِين يَغُلُّ وَهُوَ مُؤْمِن فَإِيَّاكُمْ إِيَّاكُمْ " وَسَيَأْتِي فِي الْمُحَارِبِينَ مِنْ حَدِيث اِبْن عَبَّاس هَذَا فِيهِ مِنْ الزِّيَادَة " وَلَا يَقْتُل " وَتَقَدَّمَتْ الْإِشَارَة إِلَى بَعْض مَا قِيلَ فِي تَأْوِيله فِي أَوَّل كِتَاب الْأَشْرِبَة وَاسْتَوْعَبَهُ هُنَا إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى , قَالَ الطَّبَرِيُّ : اِخْتَلَفَ الرُّوَاة فِي أَدَاء لَفْظ هَذَا الْحَدِيث , وَأَنْكَرَ بَعْضهمْ أَنْ يَكُون صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَهُ , ثُمَّ ذَكَرَ الِاخْتِلَاف فِي تَأْوِيله.
وَمِنْ أَقْوَى مَا يَحْمِل عَلَى صَرْفه عَنْ ظَاهِره إِيجَابُ الْحَدّ فِي الزِّنَا عَلَى أَنْحَاء مُخْتَلِفَة فِي حَقّ الْحُرّ الْمُحْصَن وَالْحُرّ الْبِكْر وَفِي حَقّ الْعَبْد , فَلَوْ كَانَ الْمُرَاد بِنَفْيِ الْإِيمَان ثُبُوت الْكُفْر لَاسْتَوَوْا فِي الْعُقُوبَة لِأَنَّ الْمُكَلَّفِينَ فِيمَا يَتَعَلَّق بِالْإِيمَانِ وَالْكُفْر سَوَاء , فَلَمَّا كَانَ الْوَاجِب فِيهِ مِنْ الْعُقُوبَة مُخْتَلِفًا دَلَّ عَلَى أَنَّ مُرْتَكِب ذَلِكَ لَيْسَ بِكَافِرٍ حَقِيقَة.
وَقَالَ النَّوَوِيّ : اِخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي مَعْنَى هَذَا الْحَدِيث , وَالصَّحِيح الَّذِي قَالَهُ الْمُحَقِّقُونَ أَنَّ مَعْنَاهُ : لَا يَفْعَل هَذِهِ الْمَعَاصِيَ وَهُوَ كَامِل الْإِيمَان , هَذَا مِنْ الْأَلْفَاظ الَّتِي تُطْلَقُ عَلَى نَفْي الشَّيْء وَالْمُرَاد نَفْيُ كَمَالِهِ كَمَا يُقَال لَا عِلْمَ إِلَّا مَا نَفَعَ وَلَا مَال إِلَّا مَا يُغَلُّ وَلَا عَيْشَ إِلَّا عَيْشُ الْآخِرَةِ , وَإِنَّمَا تَأَوَّلْنَاهُ لِحَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ " مَنْ قَالَ لَا إِلَه إِلَّا اللَّه دَخَلَ الْجَنَّة وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ " وَحَدِيثِ عُبَادَةَ الصَّحِيحِ الْمَشْهُورِ " أَنَّهُمْ بَايَعُوا رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَنْ لَا يَسْرِقُوا وَلَا يَزْنُوا " الْحَدِيث , وَفِي آخِره " وَمَنْ فَعَلَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ فَعُوقِبَ بِهِ فِي الدُّنْيَا فَهُوَ كَفَّارَة , وَمَنْ لَمْ يُعَاقَب فَهُوَ إِلَى اللَّه إِنْ شَاءَ عَفَا عَنْهُ وَإِنْ شَاءَ عَذَّبَهُ " فَهَذَا مَعَ قَوْل اللَّه عَزَّ وَجَلَّ ( إِنَّ اللَّه لَا يَغْفِر أَنْ يُشْرَك بِهِ وَيَغْفِر مَا دُون ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاء ) مَعَ إِجْمَاع أَهْل السُّنَّة عَلَى أَنَّ مُرْتَكِب الْكَبَائِر لَا يَكْفُر إِلَّا بِالشِّرْكِ يَضْطَرُّنَا إِلَى تَأْوِيل الْحَدِيث وَنَظَائِره , وَهُوَ تَأْوِيل ظَاهِر سَائِغ فِي اللُّغَة مُسْتَعْمَل فِيهَا كَثِيرًا , قَالَ : وَتَأَوَّلَهُ بَعْض الْعُلَمَاء عَلَى مَنْ فَعَلَهُ مُسْتَحِلًّا مَعَ عِلْمِهِ بِتَحْرِيمِهِ.
وَقَالَ الْحَسَن الْبَصْرِيّ وَمُحَمَّد بْن جَرِير الطَّبَرِيُّ : مَعْنَاهُ يُنْزَع عَنْهُ اِسْم الْمَدْح الَّذِي سَمَّى اللَّهُ بِهِ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا يُقَال فِي حَقِّهِ مُؤْمِن وَيَسْتَحِقّ اِسْم الذَّمّ فَيُقَال سَارِق وَزَانٍ وَفَاجِر وَفَاسِق , وَعَنْ اِبْن عَبَّاس : يُنْزَع مِنْهُ نُور الْإِيمَان , وَفِيهِ حَدِيث مَرْفُوع , وَعَنْ الْمُهَلَّب تُنْزَعُ مِنْهُ بَصِيرَته فِي طَاعَة اللَّه , وَعَنْ الزُّهْرِيّ أَنَّهُ مِنْ الْمُشْكِل الَّذِي نُؤْمِن بِهِ وَنُمِرُّهُ كُلَّمَا جَاءَ وَلَا نَتَعَرَّض لِتَأْوِيلِهِ , قَالَ : وَهَذِهِ الْأَقْوَال مُحْتَمَلَة وَالصَّحِيح مَا قَدَّمْته , قَالَ وَقِيلَ فِي مَعْنَاهُ عَنْ مَا ذَكَرْته مِمَّا لَيْسَ بِظَاهِرٍ بَلْ بَعْضهَا غَلَطٌ فَتَرَكْتهَا.
اِنْتَهَى مُلَخَّصًا.
وَقَدْ وَرَدَ فِي تَأْوِيله بِالْمُسْتَحِلِّ حَدِيث مَرْفُوع عَنْ عَلِيّ عِنْد الطَّبَرَانِيّ فِي الصَّغِير لَكِنْ فِي سَنَدِهِ رَاوٍ كَذَّبُوهُ , فَمِنْ الْأَقْوَال الَّتِي لَمْ يَذْكُرهَا مَا أَخْرَجَهُ الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيق مُحَمَّد بْن زَيْد بْن وَاقِد بْن عَبْد اللَّه بْن عُمَر أَنَّهُ خَبَرٌ بِمَعْنَى النَّهْي وَالْمَعْنَى : لَا يَزْنِيَنَّ مُؤْمِن وَلَا يَسْرِقَنَّ مُؤْمِن , وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ : كَانَ بَعْضهمْ يَرْوِيه وَلَا يَشْرَبِ بِكَسْرِ الْبَاءِ عَلَى مَعْنَى النَّهْيِ , وَالْمَعْنَى الْمُؤْمِن لَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَفْعَل ذَلِكَ , وَرَدَّ بَعْضهمْ هَذَا الْقَوْل بِأَنَّهُ لَا يَبْقَى لِلتَّقْيِيدِ بِالظَّرْفِ فَائِدَةٌ فَإِنَّ الزِّنَا مَنْهِيٌّ عَنْهُ فِي جَمِيع الْمِلَل وَلَيْسَ مُخْتَصًّا بِالْمُؤْمِنِينَ.
قُلْت : وَفِي هَذَا الرَّدّ نَظَرٌ وَاضِحٌ لِمَنْ تَأَمَّلَهُ.
ثَانِيهَا أَنْ يَكُون بِذَلِكَ مُنَافِقًا نِفَاق مَعْصِيَة لَا نِفَاق كُفْرٍ حَكَاهُ اِبْن بَطَّال عَنْ الْأَوْزَاعِيِّ وَقَدْ مَضَى تَقْرِيرُهُ فِي كِتَابِ الْإِيمَان أَوَّل الْكِتَاب.
ثَالِثهَا أَنَّ مَعْنَى نَفْيِ كَوْنه مُؤْمِنًا أَنَّهُ شَابَهَ الْكَافِرَ فِي عَمَلِهِ , وَمَوْقِع التَّشْبِيه أَنَّهُ مِثْله فِي جَوَاز قِتَاله فِي تِلْكَ الْحَالَة لِيَكُفَّ عَنْ الْمَعْصِيَةِ وَلَوْ أَدَّى إِلَى قَتْلِهِ , فَإِنَّهُ لَوْ قُتِلَ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ كَانَ دَمُهُ هَدَرًا فَانْتَفَتْ فَائِدَةُ الْإِيمَانِ فِي حَقِّهِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى زَوَال عِصْمَتِهِ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ , وَهَذَا يُقَوِّي مَا تَقَدَّمَ مِنْ التَّقْيِيد بِحَالَةِ التَّلَبُّس بِالْمَعْصِيَةِ.
رَابِعُهَا مَعْنَى قَوْله لَيْسَ بِمُؤْمِنٍ أَيْ لَيْسَ بِمُسْتَحْضِرٍ فِي حَالَةِ تَلَبُّسِهِ بِالْكَبِيرَةِ جَلَالَ مَنْ آمَنَ بِهِ , فَهُوَ كِنَايَةٌ عَنْ الْغَفْلَةِ الَّتِي جَلَبَتْهَا لَهُ غَلَبَةُ الشَّهْوَةِ , وَعَبَّرَ عَنْ هَذَا اِبْن الْجَوْزِيّ بِقَوْلِهِ : فَإِنَّ الْمَعْصِيَة تُذْهِلُهُ عَنْ مُرَاعَاةِ الْإِيمَانِ وَهُوَ تَصْدِيقُ الْقَلْبِ , فَكَأَنَّهُ نَسِيَ مَنْ صَدَّقَ بِهِ , قَالَ ذَلِكَ فِي تَفْسِيرِ نَزْعِ نُورِ الْإِيمَانِ , وَلَعَلَّ هَذَا هُوَ مُرَاد الْمُهَلَّب , خَامِسهَا مَعْنَى نَفْيِ الْإِيمَان نَفْيُ الْأَمَانِ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ لِأَنَّ الْإِيمَانَ مُشْتَقٌّ مِنْ الْأَمْنِ.
سَادِسُهَا أَنَّ الْمُرَاد بِهِ الزَّجْر وَالتَّنْفِير وَلَا يُرَاد ظَاهِرُهُ , وَقَدْ أَشَارَ إِلَى ذَلِكَ الطِّيبِيُّ فَقَالَ : يَجُوز أَنْ يَكُونَ مِنْ بَاب التَّغْلِيظ وَالتَّهْدِيد كَقَوْلِهِ تَعَالَى ( وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّه غَنِيٌّ عَنْ الْعَالَمِينَ ) يَعْنِي أَنَّ هَذِهِ الْخِصَال لَيْسَتْ مِنْ صِفَات الْمُؤْمِن لِأَنَّهَا مُنَافِيَة لِحَالِهِ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَتَّصِف بِهَا.
سَابِعهَا أَنَّهُ يَسْلُب الْإِيمَان حَالَة تَلَبُّسه بِالْكَبِيرَةِ فَإِذَا فَارَقَهَا عَادَ إِلَيْهِ , وَهُوَ ظَاهِر مَا أَسْنَدَهُ الْبُخَارِيّ عَنْ اِبْن عَبَّاس كَمَا سَيَأْتِي فِي " بَاب إِثْم الزِّنَا " مِنْ كِتَاب الْمُحَارِبِينَ عَنْ عِكْرِمَة عَنْهُ بِنَحْوِ حَدِيث الْبَاب , قَالَ عِكْرِمَة : قُلْت لِابْنِ عَبَّاس كَيْف يُنْزَعُ مِنْهُ الْإِيمَانُ ؟ قَالَ : هَكَذَا , وَشَبَّكَ بَيْن أَصَابِعه ثُمَّ أَخْرَجَهَا , فَإِذَا تَابَ عَادَ إِلَيْهِ هَكَذَا , وَشَبَّكَ بَيْن أَصَابِعه.
وَجَاءَ مِثْلُ هَذَا مَرْفُوعًا أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ وَالْحَاكِم بِسَنَدٍ صَحِيح مِنْ طَرِيق سَعِيد الْمَقْبُرِيِّ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَة رَفَعَهُ " إِذَا زَنَى الرَّجُل خَرَجَ مِنْهُ الْإِيمَان فَكَانَ عَلَيْهِ كَالظُّلَّةِ , فَإِذَا أَقْلَعَ رَجَعَ إِلَيْهِ الْإِيمَان " وَأَخْرَجَ الْحَاكِم مِنْ طَرِيق اِبْن حُجَيْرَة أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَة يَقُول " مَنْ زَنَى أَوْ شَرِبَ الْخَمْرَ نَزَعَ اللَّه مِنْهُ الْإِيمَان كَمَا يَخْلَعُ الْإِنْسَانُ الْقَمِيصَ مِنْ رَأْسِهِ " وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ بِسَنَدٍ جَيِّد مِنْ رِوَايَة رَجُل مِنْ الصَّحَابَة لَمْ يُسَمَّ رَفَعَهُ " مَنْ زَنَى خَرَجَ مِنْهُ الْإِيمَان فَإِنْ تَابَ تَابَ اللَّه عَلَيْهِ " وَأَخْرَجَ الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيق عَبْد اللَّه بْن رَوَاحَة " مَثَل الْإِيمَان مَثَل قَمِيص بَيْنَمَا أَنْتَ مُدْبِرٌ عَنْهُ إِذْ لَبِسْته , وَبَيْنَمَا , أَنْتَ قَدْ لَبِسْته إِذْ نَزَعْته " قَالَ اِبْن بَطَّال : وَبَيَان ذَلِكَ أَنَّ الْإِيمَان هُوَ التَّصْدِيق , غَيْر أَنَّ لِلتَّصْدِيقِ مَعْنَيَيْنِ أَحَدُهُمَا قَوْلٌ وَالْآخَرُ عَمَلٌ , فَإِذَا رَكِبَ الْمُصَدِّق كَبِيرَة فَارَقَهُ اِسْم الْإِيمَان فَإِذَا كَفَّ عَنْهَا عَادَ لَهُ الِاسْم , لِأَنَّهُ فِي حَال كَفِّهِ عَنْ الْكَبِيرَة مُجْتَنِب بِلِسَانِهِ وَلِسَانُهُ مُصَدِّقٌ عَقْدَ قَلْبِهِ وَذَلِكَ مَعْنَى الْإِيمَان.
قُلْت : وَهَذَا الْقَوْل قَدْ يُلَاقِي مَا أَشَارَ إِلَيْهِ النَّوَوِيّ فِيمَا نَقَلَهُ عَنْ اِبْن عَبَّاس : يُنْزَع مِنْهُ نُور الْإِيمَان , لِأَنَّهُ يُحْمَل مِنْهُ عَلَى أَنَّ الْمُرَاد فِي هَذِهِ الْأَحَادِيث نُور الْإِيمَان وَهُوَ عِبَارَة عَنْ فَائِدَة التَّصْدِيق وَثَمَرَته وَهُوَ الْعَمَل بِمُقْتَضَاهُ , وَيُمْكِنُ رَدُّ هَذَا الْقَوْلِ إِلَى الْقَوْل الَّذِي رَجَّحَهُ النَّوَوِيّ , فَقَدْ قَالَ اِبْن بَطَّال فِي آخِرِ كَلَامه تَبَعًا لِلطَّبَرِيِّ : الصَّوَابُ عِنْدَنَا قَوْلُ مَنْ قَالَ يَزُول عَنْهُ اِسْم الْإِيمَان الَّذِي هُوَ بِمَعْنَى الْمَدْحِ إِلَى الِاسْم الَّذِي بِمَعْنَى الذَّمِّ فَيُقَال لَهُ فَاسِق مَثَلًا , وَلَا خِلَافَ أَنَّهُ يُسَمَّى بِذَلِكَ مَا لَمْ تَظْهَرْ مِنْهُ التَّوْبَةُ , فَالزَّائِل عَنْهُ حِينَئِذٍ اِسْمُ الْإِيمَانِ بِالْإِطْلَاقِ وَالثَّابِت لَهُ اِسْم الْإِيمَان بِالتَّقْيِيدِ فَيُقَال هُوَ مُصَدِّقٌ بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ لَفْظًا وَاعْتِقَادًا لَا عَمَلًا , وَمِنْ ذَلِكَ الْكَفّ عَنْ الْمُحَرَّمَاتِ.
وَأَظُنّ أَنَّ اِبْن بَطَّال تَلَقَّى ذَلِكَ مِنْ اِبْن حَزْم فَإِنَّهُ قَالَ : الْمُعْتَمَد عَلَيْهِ عِنْد أَهْل السُّنَّة أَنَّ الْإِيمَان اِعْتِقَادٌ بِالْقَلْبِ وَنُطْقٌ بِاللِّسَانِ وَعَمَلٌ بِالْجَوَارِحِ , وَهُوَ يَشْمَل عَمَل الطَّاعَة وَالْكَفّ عَنْ الْمَعْصِيَة , فَالْمُرْتَكِب لِبَعْضِ مَا ذُكِرَ لَمْ يَخْتَلَّ اِعْتِقَادُهُ وَلَا نُطْقُهُ بَلْ اِخْتَلَّتْ طَاعَتُهُ فَقَطْ , فَلَيْسَ بِمُؤْمِنٍ بِمَعْنَى أَنَّهُ لَيْسَ بِمُطِيعٍ , فَمَعْنَى نَفْيِ الْإِيمَانِ مَحْمُولٌ عَلَى الْإِنْذَارِ بِزَوَالِهِ مِمَّنْ اِعْتَادَ ذَلِكَ لِأَنَّهُ يُخْشَى عَلَيْهِ أَنْ يُفْضِيَ بِهِ إِلَى الْكُفْرِ , وَهُوَ كَقَوْلِهِ " وَمَنْ يَرْتَع حَوْلَ الْحِمَى " الْحَدِيث أَشَارَ إِلَيْهِ الْخَطَّابِيُّ , وَقَدْ أَشَارَ الْمَازِرِيّ إِلَى أَنَّ الْقَوْل الْمُصَحَّح هُنَا مَبْنِيٌّ عَلَى قَوْل مَنْ يَرَى أَنَّ الطَّاعَاتِ تُسَمَّى إِيمَانًا , وَالْعَجَب مِنْ النَّوَوِيّ كَيْفَ جَزَمَ بِأَنَّ فِي التَّأْوِيل الْمَنْقُول عَنْ اِبْن عَبَّاس حَدِيثًا مَرْفُوعًا ثُمَّ صَحَّحَ غَيْره فَلَعَلَّهُ لَمْ يَطَّلِعْ عَلَى صِحَّتِهِ , وَقَدْ قَدَّمْت أَنَّهُ يُمْكِنُ رَدُّهُ إِلَى الْقَوْلِ الَّذِي صَحَّحَهُ , قَالَ الطِّيبِيُّ : يَحْتَمِل أَنْ يَكُون الَّذِي نَقَصَ مِنْ إِيمَان الْمَذْكُور الْحَيَاءُ وَهُوَ الْمُعَبَّرُ عَنْهُ فِي الْحَدِيث الْآخَر بِالنُّورِ , وَقَدْ مَضَى أَنَّ الْحَيَاء مِنْ الْإِيمَان فَيَكُون التَّقْدِير : لَا يَزْنِي حِين يَزْنِي وَهُوَ يَسْتَحِي مِنْ اللَّه لِأَنَّهُ لَوْ اِسْتَحَى مِنْهُ وَهُوَ يَعْرِف أَنَّهُ مُشَاهِدٌ حَالَهُ لَمْ يَرْتَكِبْ ذَلِكَ , وَإِلَى ذَلِكَ تَصِحّ إِشَارَة اِبْن عَبَّاس تَشْبِيك أَصَابِعه ثُمَّ إِخْرَاجهَا مِنْهَا ثُمَّ إِعَادَتهَا إِلَيْهَا , وَيُعَضِّدهُ حَدِيث " مَنْ اِسْتَحَى مِنْ اللَّه حَقَّ الْحَيَاءِ فَلْيَحْفَظْ الرَّأْسَ وَمَا وَعَى وَالْبَطْنَ وَمَا حَوَى " اِنْتَهَى.
وَحَاصِلُ مَا اِجْتَمَعَ لَنَا مِنْ الْأَقْوَال فِي مَعْنَى هَذَا الْحَدِيث ثَلَاثَةَ عَشَرَ قَوْلًا خَارِجًا عَنْ قَوْل الْخَوَارِج وَعَنْ قَوْل الْمُعْتَزِلَة , وَقَدْ أَشَرْت إِلَى أَنَّ بَعْض الْأَقْوَال الْمَنْسُوبَة لِأَهْلِ السُّنَّة يُمْكِنُ رَدُّ بَعْضهَا إِلَى بَعْض , قَالَ الْمَازِرِيّ : هَذِهِ التَّأْوِيلَات تَدْفَع قَوْل الْخَوَارِج وَمَنْ وَافَقَهُمْ مِنْ الرَّافِضَة إِنَّ مُرْتَكِبَ الْكَبِيرَةِ كَافِر مُخَلَّد فِي النَّار إِذَا مَاتَ مِنْ غَيْر تَوْبَة , وَكَذَا قَوْل الْمُعْتَزِلَة إِنَّهُ فَاسِق مُخَلَّد فِي النَّار , فَإِنَّ الطَّوَائِف الْمَذْكُورِينَ تَعَلَّقُوا بِهَذَا الْحَدِيث وَشِبْهه , وَإِذَا اِحْتَمَلَ مَا قُلْنَاهُ اِنْدَفَعَتْ حُجَّتُهُمْ.
قَالَ الْقَاضِي عِيَاض : أَشَارَ بَعْض الْعُلَمَاء إِلَى أَنَّ فِي هَذَا الْحَدِيث تَنْبِيهًا عَلَى جَمِيع أَنْوَاع الْمَعَاصِي وَالتَّحْذِير مِنْهَا , فَنَبَّهَ بِالزِّنَا عَلَى جَمِيعِ الشَّهَوَات وَبِالسَّرِقَةِ عَلَى الرَّغْبَةِ فِي الدُّنْيَا وَالْحِرْصِ عَلَى الْحَرَامِ وَبِالْخَمْرِ عَلَى جَمِيعِ مَا يَصُدُّ عَنْ اللَّهِ تَعَالَى وَيُوجِب الْغَفْلَةَ عَنْ حُقُوقِهِ وَبِالِانْتِهَابِ الْمَوْصُوفِ عَلَى الِاسْتِخْفَاف بِعِبَادِ اللَّه وَتَرْك تَوْقِيرهمْ وَالْحَيَاء مِنْهُمْ وَعَلَى جَمِيع الدُّنْيَا مِنْ غَيْر وَجْههَا.
وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ بَعْد أَنْ ذَكَرَهُ مُلَخَّصًا : وَهَذَا لَا يَتَمَشَّى إِلَّا مَعَ الْمُسَامَحَة , وَالْأَوْلَى أَنْ يُقَال : إِنَّ الْحَدِيث يَتَضَمَّن التَّحَرُّز مِنْ ثَلَاثَة أُمُور هِيَ مِنْ أَعْظَمِ أُصُولِ الْمَفَاسِدِ , وَأَضْدَادُهَا مِنْ أُصُول الْمَصَالِح وَهِيَ اِسْتِبَاحَة الْفُرُوج الْمُحَرَّمَة وَمَا يُؤَدِّي إِلَى اِخْتِلَال الْعَقْل , وَخُصَّ الْخَمْرُ بِالذِّكْرِ لِكَوْنِهَا أَغْلَبَ الْوُجُوه فِي ذَلِكَ وَالسَّرِقَة بِالذِّكْرِ لِكَوْنِهَا أَغْلَبَ الْوُجُوهِ الَّتِي يُؤْخَذ بِهَا مَال الْغَيْر بِغَيْرِ حَقٍّ.
قُلْت : وَأَشَارَ بِذَلِكَ إِلَى أَنَّ عُمُوم مَا ذَكَرَهُ الْأَوَّلُ يَشْمَلُ الْكَبَائِرَ وَالصَّغَائِرَ , وَلَيْسَتْ الصَّغَائِرُ مُرَادَةً هُنَا لِأَنَّهَا تُكَفَّرُ بِاجْتِنَابِ الْكَبَائِرِ فَلَا يَقَعُ الْوَعِيدُ عَلَيْهَا بِمِثْلِ التَّشْدِيد الَّذِي فِي هَذَا الْحَدِيث.
وَفِي الْحَدِيث مِنْ الْفَوَائِد أَنَّ مَنْ زَنَى دَخَلَ فِي هَذَا الْوَعِيد سَوَاء كَانَ بِكْرًا أَوْ مُحْصَنًا وَسَوَاء كَانَ الْمَزْنِيُّ بِهَا أَجْنَبِيَّةً أَوْ مَحْرَمًا , وَلَا شَكَّ أَنَّهُ فِي حَقِّ الْمَحْرَمِ أَفْحَشُ وَمِنْ الْمُتَزَوِّج أَعْظَمُ , وَلَا يَدْخُل فِيهِ مَا يُطْلَق عَلَيْهِ اِسْمُ الزِّنَا مِنْ اللَّمْسِ الْمُحَرَّمِ وَكَذَا التَّقْبِيل وَالنَّظَر لِأَنَّهَا وَإِنْ سُمِّيَتْ فِي عُرْفِ الشَّرْعِ زِنًا فَلَا تَدْخُلُ فِي ذَلِكَ لِأَنَّهَا مِنْ الصَّغَائِرِ كَمَا تَقَدَّمَ تَقْرِيرُهُ فِي تَفْسِيرِ اللَّمَمِ.
وَفِيهِ أَنَّ مَنْ سَرَقَ قَلِيلًا أَوْ كَثِيرًا وَكَذَا مَنْ اِنْتَهَبَ أَنَّهُ يَدْخُلُ فِي الْوَعِيدِ , وَفِيهِ نَظَرٌ فَقَدْ شَرَطَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ وَهُوَ لِبَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ أَيْضًا فِي كَوْنِ الْغَصْبِ كَبِيرَةً أَنْ يَكُونَ الْمَغْصُوب نِصَابًا وَكَذَا فِي السَّرِقَة وَإِنْ كَانَ بَعْضُهُمْ أَطْلَقَ فِيهَا فَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى مَا اِشْتَهَرَ أَنَّ وُجُوبَ الْقَطْعِ فِيهَا مُتَوَقِّفٌ عَلَى وُجُودِ النِّصَابِ وَإِنْ كَانَ سَرِقَة مَا دُون النِّصَاب حَرَامًا.
وَفِي الْحَدِيث تَعْظِيمُ شَأْنِ أَخْذِ حَقِّ الْغَيْرِ بِغَيْرِ حَقٍّ لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَقْسَمَ عَلَيْهِ وَلَا يُقْسِمُ إِلَّا عَلَى إِرَادَةِ تَأْكِيدِ الْمُقْسَمِ عَلَيْهِ.
وَفِيهِ أَنَّ مَنْ شَرِبَ الْخَمْرَ دَخَلَ فِي الْوَعِيدِ الْمَذْكُورِ سَوَاء كَانَ الْمَشْرُوبُ كَثِيرًا أَمْ قَلِيلًا لِأَنَّ شُرْبَ الْقَلِيلِ مِنْ الْخَمْرِ مَعْدُودٌ مِنْ الْكَبَائِرِ وَإِنْ كَانَ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَى الشُّرْبِ مِنْ الْمَحْذُور مِنْ اِخْتِلَال الْعَقْل أَفْحَشُ مِنْ شُرْبِ مَا لَا يَتَغَيَّر مَعَهُ الْعَقْلُ , وَعَلَى الْقَوْل الَّذِي رَجَّحَهُ النَّوَوِيُّ لَا إِشْكَالَ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ لِأَنَّ لِنَقْصِ الْكَمَالِ مَرَاتِبَ بَعْضهَا أَقْوَى مِنْ بَعْضٍ , وَاسْتَدَلَّ بِهِ مَنْ قَالَ إِنَّ الِانْتِهَاب كُلَّهُ حَرَامٌ حَتَّى فِيمَا أَذِنَ مَالِكُهُ كَالنِّثَارِ فِي الْعُرْسِ , وَلَكِنْ صَرَّحَ الْحَسَنُ وَالنَّخَعِيّ وَقَتَادَة فِيمَا أَخْرَجَهُ اِبْن الْمُنْذِر عَنْهُمْ بِأَنَّ شَرْطَ التَّحْرِيمِ أَنْ يَكُون بِغَيْرِ إِذْن الْمَالِك وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَة هُوَ كَمَا قَالُوا , وَأَمَّا النُّهْبَةُ الْمُخْتَلَفُ فِيهَا فَهُوَ مَا أَذِنَ فِيهِ صَاحِبُهُ وَأَبَاحَهُ وَغَرَضه تُسَاوِيهِمْ أَوْ مُقَارَبَةُ التَّسَاوِي , فَإِذَا كَانَ الْقَوِيّ مِنْهُمْ يَغْلِب الضَّعِيفَ وَلَمْ تَطِبْ نَفْسُ صَاحِبِهِ بِذَلِكَ فَهُوَ مَكْرُوهٌ وَقَدْ يَنْتَهِي إِلَى التَّحْرِيمِ , وَقَدْ صَرَّحَ الْمَالِكِيَّة وَالشَّافِعِيَّة وَالْجُمْهُور بِكَرَاهَتِهِ , وَمِمَّنْ كَرِهَهُ مِنْ الصَّحَابَة أَبُو مَسْعُود الْبَدْرِيّ وَمِنْ التَّابِعِينَ النَّخَعِيُّ وَعِكْرِمَة , قَالَ اِبْن الْمُنْذِر وَلَمْ يَكْرَهُوهُ مِنْ الْجِهَة الْمَذْكُورَة بَلْ لِكَوْنِ الْأَخْذِ فِي مِثْلِ ذَلِكَ إِنَّمَا يَحْصُل لِمَنْ فِيهِ فَضْلُ قُوَّةٍ أَوْ قِلَّة حَيَاء , وَاحْتَجَّ الْحَنَفِيَّة وَمَنْ وَافَقَهُمْ بِأَنَّهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فِي الْحَدِيث الَّذِي أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ مِنْ حَدِيث عَبْد اللَّه بْن قَرَظ أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فِي الْبُدْن الَّتِي نَحَرَهَا " مَنْ شَاءَ اِقْتَطَعَ " وَاحْتَجُّوا أَيْضًا بِحَدِيثِ مَعَاذ رَفَعَهُ " إِنَّمَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ نُهْبَى الْعَسَاكِرِ فَأَمَّا الْعِرْسَان فَلَا " الْحَدِيث وَهُوَ حَدِيث ضَعِيف فِي سَنَدِهِ ضَعْفٌ وَانْقِطَاع , قَالَ اِبْن الْمُنْذِر : هِيَ حُجَّة قَوِيَّة فِي جَوَاز أَخْذِ مَا يُنْثَر فِي الْعُرْس وَنَحْوه لِأَنَّ الْمُبِيحَ لَهُمْ قَدْ عَلِمَ اِخْتِلَاف حَالهمْ فِي الْأَخْذ كَمَا عَلِمَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ وَأَذِنَ فِيهِ فِي أَخْذِ الْبُدْن الَّتِي نَحَرَهَا وَلَيْسَ فِيهَا مَعْنًى إِلَّا وَهُوَ مَوْجُود فِي النِّثَار.
قُلْت : بَلْ فِيهَا مَعْنًى لَيْسَ فِي غَيْرِهَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمَأْذُون لَهُمْ , فَإِنَّهُمْ كَانُوا الْغَايَة فِي الْوَرَع وَالْإِنْصَاف , وَلَيْسَ غَيْرُهُمْ فِي ذَلِكَ مِثْلَهُمْ.


حديث لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ولا يشرب الخمر حين يشرب وهو مؤمن ولا

الحديث بالسند الكامل مع التشكيل

‏ ‏حَدَّثَنَا ‏ ‏يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ ‏ ‏حَدَّثَنَا ‏ ‏اللَّيْثُ ‏ ‏عَنْ ‏ ‏عُقَيْلٍ ‏ ‏عَنْ ‏ ‏ابْنِ شِهَابٍ ‏ ‏عَنْ ‏ ‏أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ ‏ ‏عَنْ ‏ ‏أَبِي هُرَيْرَةَ ‏ ‏أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ‏ ‏صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ‏ ‏قَالَ ‏ ‏لَا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ وَلَا يَشْرَبُ الْخَمْرَ حِينَ يَشْرَبُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ وَلَا يَسْرِقُ السَّارِقُ حِينَ يَسْرِقُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ وَلَا ‏ ‏يَنْتَهِبُ ‏ ‏نُهْبَةً ‏ ‏يَرْفَعُ النَّاسُ إِلَيْهِ فِيهَا أَبْصَارَهُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ ‏ ‏وَعَنْ ‏ ‏ابْنِ شِهَابٍ ‏ ‏عَنْ ‏ ‏سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ ‏ ‏وَأَبِي سَلَمَةَ ‏ ‏عَنْ ‏ ‏أَبِي هُرَيْرَةَ ‏ ‏عَنْ النَّبِيِّ ‏ ‏صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ‏ ‏بِمِثْلِهِ إِلَّا النُّهْبَةَ ‏

كتب الحديث النبوي الشريف

المزيد من أحاديث صحيح البخاري

ضرب النبي ﷺ في الخمر بالجريد والنعال وجلد أبو بكر...

عن ‌أنس بن مالك رضي الله عنه: «أن النبي صلى الله عليه وسلم ضرب في الخمر بالجريد والنعال، وجلد أبو بكر أربعين.»

جيء بالنعيمان شاربا فأمر النبي ﷺ من كان بالبيت أن...

عن ‌عقبة بن الحارث قال: «جيء بالنعيمان، أو بابن النعيمان، شاربا، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم من كان بالبيت أن يضربوه، قال: فضربوه، فكنت أنا فيمن ضرب...

شق عليه وأمر من في البيت أن يضربوه فضربوه بالجريد...

عن ‌عقبة بن الحارث: «أن النبي صلى الله عليه وسلم أتي بنعيمان، أو بابن نعيمان، وهو سكران، فشق عليه، وأمر من في البيت أن يضربوه، فضربوه بالجريد والنعال،...

جلد النبي ﷺ في الخمر بالجريد والنعال

عن ‌أنس قال: «جلد النبي صلى الله عليه وسلم في الخمر بالجريد والنعال، وجلد أبو بكر أربعين.»

قال النبي ﷺ اضربوه فمنا الضارب بيده والضارب بنعله...

عن ‌أبي هريرة رضي الله عنه: «أتي النبي صلى الله عليه وسلم برجل قد شرب، قال: اضربوه قال أبو هريرة: فمنا الضارب بيده، والضارب بنعله، والضارب بثوبه، فلم...

ما كنت لأقيم حدا على أحد فيموت فأجد في نفسي إلا صا...

عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: «ما كنت لأقيم حدا على أحد فيموت، فأجد في نفسي، إلا صاحب الخمر، فإنه لو مات وديته، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه...

كنا نقوم إلى شارب الخمر بأيدينا ونعالنا وأرديتنا

عن ‌السائب بن يزيد قال: «كنا نؤتى بالشارب على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وإمرة أبي بكر وصدرا من خلافة عمر، فنقوم إليه بأيدينا ونعالنا وأرديتنا،...

لا تلعنوه فوالله ما علمت إنه يحب الله ورسوله

عن ‌عمر بن الخطاب: «أن رجلا على عهد النبي صلى الله عليه وسلم كان اسمه عبد الله، وكان يلقب حمارا، وكان يضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان النبي ص...

لا تكونوا عون الشيطان على أخيكم

عن ‌أبي هريرة قال: «أتي النبي صلى الله عليه وسلم بسكران، فأمر بضربه، فمنا من يضربه بيده ومنا من يضربه بنعله ومنا من يضربه بثوبه، فلما انصرف قال رجل: م...