3581- عن عبد الرحمن بن أبي بكر، رضي الله عنهما أن أصحاب الصفة كانوا أناسا فقراء، وأن النبي صلى الله عليه وسلم قال مرة: «من كان عنده طعام اثنين فليذهب بثالث، ومن كان عنده طعام أربعة فليذهب بخامس أو سادس» أو كما قال: وأن أبا بكر جاء بثلاثة، وانطلق النبي صلى الله عليه وسلم بعشرة، وأبو بكر ثلاثة، قال: فهو أنا وأبي وأمي، ولا أدري هل قال: امرأتي وخادمي، بين بيتنا وبين بيت أبي بكر، وأن أبا بكر تعشى عند النبي صلى الله عليه وسلم، ثم لبث حتى صلى العشاء، ثم رجع فلبث حتى تعشى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاء بعد ما مضى من الليل ما شاء الله، قالت له امرأته: ما حبسك عن أضيافك أو ضيفك؟، قال: أوعشيتهم؟ قالت: أبوا حتى تجيء، قد عرضوا عليهم فغلبوهم، فذهبت فاختبأت، فقال يا غنثر، فجدع وسب، وقال: كلوا، وقال: لا أطعمه أبدا، قال: وايم الله، ما كنا نأخذ من اللقمة إلا ربا من أسفلها أكثر منها حتى شبعوا، وصارت أكثر مما كانت قبل، فنظر أبو بكر فإذا شيء أو أكثر، قال لامرأته: يا أخت بني فراس، قالت: لا وقرة عيني، لهي الآن أكثر مما قبل بثلاث مرات، فأكل منها أبو بكر وقال: إنما كان الشيطان، يعني يمينه، ثم أكل منها لقمة، ثم حملها إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأصبحت عنده، وكان بيننا وبين قوم عهد، فمضى الأجل فتفرقنا اثنا عشر رجلا، مع كل رجل منهم أناس، الله أعلم كم مع كل رجل، غير أنه بعث معهم، قال: أكلوا منها أجمعون، أو كما قال وغيره يقول فعرفنا من العرافة
(أصحاب الصفة) الذين كانوا يقيمون فيها وهي مكان مظلل في مؤخرة المسجد النبوي أعد لنزول الغرباء فيه ومن لا مأوى له ولا أهل.
وكان عمل هؤلاء تعلم العلم والجهاد وكانوا يقلون ويكثرون.
(فغلبوهم) أي غلب الأضياف آل أبي بكر رضي الله عنهم بالامتناع عن الأكل.
(فتفرقنا اثنا عشر) عند مسلم اثني عشر والرواية الأولى على لغة من يجعل المثنى بالألف في جميع أحواله
فتح الباري شرح صحيح البخاري: ابن حجر العسقلاني - أحمد بن علي بن حجر العسقلاني
حَدِيث عَبْد الرَّحْمَن بْن أَبِي بَكْر الصِّدِّيق فِي قِصَّة أَضْيَاف أَبِي بَكْر , وَالْمُرَاد مِنْهُ تَكْثِير الطَّعَام الْقَلِيل.
قَوْله : ( عَنْ أَبِيهِ ) هُوَ سُلَيْمَان بْن طَرْخَان التَّيْمِيُّ أَحَد صِغَار التَّابِعِينَ , وَفِي رِوَايَة أَبِي النُّعْمَان عَنْ مُعْتَمِر " حَدَّثَنَا أَبِي " كَمَا تَقَدَّمَ فِي الصَّلَاة.
وَأَبُو عُثْمَان هُوَ النَّهْدِيّ.
قَوْله : ( أَنَّ أَصْحَاب الصُّفَّة كَانُوا أُنَاسًا فُقَرَاء ) سَيَأْتِي ذِكْرهمْ فِي كِتَاب الرِّقَاق , وَأَنَّ الصُّفَّة مَكَان فِي مُؤَخَّر الْمَسْجِد النَّبَوِيّ مُظَلَّل أُعِدّ لِنُزُولِ الْغُرَبَاء فِيهِ مِمَّنْ لَا مَأْوَى لَهُ وَلَا أَهْل , وَكَانُوا يَكْثُرُونَ فِيهِ وَيَقِلُّونَ بِحَسَبِ مَنْ يَتَزَوَّج مِنْهُمْ أَوْ يَمُوت أَوْ يُسَافِر , وَقَدْ سَرَدَ أَسْمَاءَهُمْ أَبُو نُعَيْم فِي " الْحِلْيَة " فَزَادُوا عَلَى الْمِائَة.
قَوْله : ( مَنْ كَانَ عِنْده طَعَام اِثْنَيْنِ فَلْيَذْهَبْ بِثَالِثٍ ) أَيْ مِنْ أَهْل الصُّفَّة الْمَذْكُورِينَ.
وَوَقَعَ فِي رِوَايَة مُسْلِم " فَلْيَذْهَبْ بِثَلَاثَةٍ " قَالَ عِيَاض : وَهُوَ غَلَط , وَالصَّوَاب رِوَايَة الْبُخَارِيّ لِمُوَافَقَتِهَا لِسِيَاقِ بَاقِي الْحَدِيث.
وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ : إِنْ حُمِلَ عَلَى ظَاهِره فَسَدَ الْمَعْنَى , لِأَنَّ الَّذِي عِنْده طَعَام اِثْنَيْنِ إِذَا ذَهَبَ مَعَهُ بِثَلَاثَةٍ لَزِمَ أَنْ يَأْكُلهُ فِي خَمْسَة وَحِينَئِذٍ لَا يَكْفِيهِمْ وَلَا يَسُدّ رَمَقَهُمْ , بِخِلَافِ مَا إِذَا ذَهَبَ بِوَاحِدٍ فَإِنَّهُ يَأْكُلهُ فِي ثَلَاثَة , وَيُؤَيِّدهُ قَوْله فِي الْحَدِيث الْآخَر " طَعَام الِاثْنَيْنِ يَكْفِي أَرْبَعَة " أَيْ الْقَدْر الَّذِي يُشْبِع الِاثْنَيْنِ يَسُدّ رَمَق أَرْبَعَة , وَوَجَّهَهَا النَّوَوِيّ بِأَنَّ التَّقْدِير فَلْيَذْهَبْ بِمَنْ يُتِمّ مَنْ عِنْده ثَلَاثَة , أَوْ فَلْيَذْهَبْ بِتَمَامِ ثَلَاثَة.
قَوْله : ( وَمَنْ كَانَ عِنْده طَعَام أَرْبَعَة فَلْيَذْهَبْ بِخَامِسٍ بِسَادِسٍ أَوْ كَمَا قَالَ ) أَيْ فَلْيَذْهَبْ بِخَامِسٍ إِنْ لَمْ يَكُنْ عِنْده مَا يَقْتَضِي أَكْثَر مِنْ ذَلِكَ , وَإِلَّا فَلْيَذْهَبْ بِسَادِسٍ مَعَ الْخَامِس إِنْ كَانَ عِنْده أَكْثَر مِنْ ذَلِكَ.
وَالْحِكْمَة فِي كَوْنه يَزِيد كُلّ أَحَد وَاحِدًا فَقَطْ أَنَّ عَيْشهمْ فِي ذَلِكَ الْوَقْت لَمْ يَكُنْ مُتَّسِعًا , فَمَنْ كَانَ عِنْده مَثَلًا ثَلَاثَة أَنْفُس لَا يَضِيق عَلَيْهِ أَنْ يُطْعِم الرَّابِع مِنْ قُوتهمْ , وَكَذَلِكَ الْأَرْبَعَة وَمَا فَوْقهَا , بِخِلَافِ مَا لَوْ زِيدَتْ الْأَضْيَاف بِعَدَدِ الْعِيَال فَإِنَّمَا ذَلِكَ يَحْصُل الِاكْتِفَاء فِيهِ عِنْد اِتِّسَاع الْحَال.
وَوَقَعَ فِي رِوَايَة أَبِي النُّعْمَان " وَإِنْ أَرْبَع فَخَامِس أَوْ سَادِس " وَ " أَوْ " فِيهِ لِلتَّنْوِيعِ أَوْ لِلتَّخْيِيرِ كَمَا فِي الرِّوَايَة الْأُخْرَى , وَيَحْتَمِل أَنْ يَكُون مَعْنَى " أَوْ سَادِس " وَإِنْ كَانَ عِنْده طَعَام خَمْس فَلْيَذْهَبْ بِسَادِسٍ , فَيَكُون مِنْ عَطْف الْجُمْلَة عَلَى الْجُمْلَة.
وَقَوْله : ( وَإِنْ أَرْبَع فَخَامِس ) بِالْجَرِّ فِيهِمَا , وَالتَّقْدِير فَإِنْ كَانَ عِنْده طَعَام أَرْبَع فَلْيَذْهَبْ بِخَامِسٍ أَوْ بِسَادِسٍ , فَحَذَفَ عَامِل الْجَرّ وَأَبْقَى عَمَله , كَمَا يُقَال مَرَرْت بِرَجُلِ صَالِح وَإِنْ لَا صَالِح فَطَالِح , أَيْ إِنْ لَا أَمُرّ بِصَالِحٍ فَقَدْ مَرَرْت بِطَالِحٍ , وَيَجُوز الرَّفْع عَلَى حَذْف مُضَاف وَإِقَامَة الْمُضَاف إِلَيْهِ مَقَامه وَهُوَ أَوْجَه , قَالَ اِبْن مَالِك : تَضَمَّنَ هَذَا الْحَدِيث حَذْف فِعْلَيْنِ وَعَامِلَيْ جَرّ مَعَ بَقَاء عَمَلهمَا بَعْد إِنْ وَبَعْد الْفَاء , وَالتَّقْدِير مَنْ كَانَ عِنْده طَعَام اِثْنَيْنِ فَلْيَذْهَبْ بِثَالِثٍ , وَإِنْ قَامَ بِأَرْبَعَةٍ فَلْيَذْهَبْ بِخَامِسٍ أَوْ سَادِس ا ه.
وَهَذَا قَالَهُ فِي الرِّوَايَة الَّتِي فِي الصَّلَاة , وَأَمَّا هَذِهِ الرِّوَايَة وَهِيَ قَوْله : " بِخَامِسٍ بِسَادِسٍ " فَيَكُون حُذِفَ مِنْهَا شَيْء آخَر وَالتَّقْدِير أَوْ إِنْ قَامَ بِخَمْسَةٍ فَلْيَذْهَبْ بِسَادِسٍ قَوْله : ( وَإِنَّ أَبَا بَكْر جَاءَ بِثَلَاثَةٍ وَانْطَلَقَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِعَشَرَةٍ ) عَبَّرَ عَنْ أَبِي بَكْر بِلَفْظِ الْمَجِيء لِبُعْدِ مَنْزِله مِنْ الْمَسْجِد , وَعَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالِانْطِلَاقِ لِقُرْبِهِ.
وَقَوْله بَعْد ذَلِكَ " وَأَبُو بَكْر ثَلَاثَة " بِالنَّصْبِ لِلْأَكْثَرِ أَيْ أَخَذَ ثَلَاثَة فَلَا يَكُون قَوْله قَبْل ذَلِكَ " جَاءَ بِثَلَاثَةٍ " تَكْرَارًا لِأَنَّ هَذَا بَيَان لِابْتِدَاءِ مَا جَاءَ فِي نَصِيبه , وَالْأَوَّل لِبَيَانِ مَنْ أَحْضَرَهُمْ إِلَى مَنْزِله.
وَأَبْعَدَ مَنْ قَالَ ثَلَاثَة بِالرَّفْعِ وَقَدَّرَهُ وَأَبُو بَكْر أَهْله ثَلَاثَة أَيْ عَدَد أَضْيَافه , وَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ أَبَا بَكْر كَانَ عِنْده طَعَام أَرْبَعَة وَمَعَ ذَلِكَ فَأَخَذَ خَامِسًا وَسَادِسًا وَسَابِعًا فَكَأَنَّ الْحِكْمَة فِي أَخْذه وَاحِدًا زَائِدًا عَمَّا ذَكَرَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ أَرَادَ أَنْ يُؤْثِر السَّابِع بِنَصِيبِهِ إِذْ ظَهَرَ لَهُ أَنَّهُ لَمْ يَأْكُل أَوَّلًا مَعَهُمْ.
وَوَقَعَ فِي رِوَايَة الْكُشْمِيهَنِيِّ " وَأَبُو بَكْر بِثَلَاثَةٍ , فَيَكُون مَعْطُوفًا عَلَى قَوْله " وَانْطَلَقَ النَّبِيّ " أَيْ وَانْطَلَقَ أَبُو بَكْر بِثَلَاثَةٍ وَهِيَ رِوَايَة مُسْلِم , وَالْأَوَّل أَوْجَه , وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَوْله : ( قَالَ فَهُوَ أَنَا وَأَبِي وَأُمِّي ) الْقَائِل هُوَ عَبْد الرَّحْمَن بْن أَبِي بَكْر , قَوْله : " فَهُوَ " أَيْ الشَّأْن , وَقَوْله : ( أَنَا ) مُبْتَدَأ وَخَبَره مَحْذُوف يَدُلّ عَلَيْهِ السِّيَاق وَتَقْدِيره فِي الدَّار.
قَوْله : ( وَلَا أَدْرِي هَلْ قَالَ اِمْرَأَتِي وَخَادِمِي ) فِي رِوَايَة الْكُشْمِيهَنِيِّ " وَخَادِم " بِغَيْرِ إِضَافَة , وَالْقَائِل " هَلْ قَالَ " هُوَ أَبُو عُثْمَان الرَّاوِي عَنْ عَبْد الرَّحْمَن كَأَنَّهُ شَكَّ فِي ذَلِكَ , وَقَوْله : ( بَيْن بَيْتنَا ) أَيْ خِدْمَتهَا مُشْتَرَكَة بَيْن بَيْتنَا وَبَيْت أَبِي بَكْر , وَهُوَ ظَرْف لِلْخَادِمِ , وَأُمّ عَبْد الرَّحْمَن هِيَ أُمّ رُومَان مَشْهُورَة بِكُنْيَتِهَا , وَاسْمهَا زَيْنَب وَقِيلَ : وَعْلَة بِنْت عَامِر بْن عُوَيْمِر وَقِيلَ عُمَيْرَةُ , مِنْ ذُرِّيَّة الْحَارِث بْن غُنْم بْن مَالِك بْن كِنَانَة , كَانَتْ قَبْل أَبِي بَكْر عِنْد الْحَارِث بْن سَخْبَرَة الْأَزْدِيّ فَقَدِمَ مَكَّة فَمَاتَ وَخَلَّفَ مِنْهَا اِبْنه الطُّفَيْل , فَتَزَوَّجَهَا أَبُو بَكْر فَوَلَدَتْ لَهُ عَبْد الرَّحْمَن وَعَائِشَة , وَأَسْلَمَتْ أُمّ رُومَان قَدِيمًا وَهَاجَرَتْ وَمَعَهَا عَائِشَة , أَمَّا عَبْد الرَّحْمَن فَتَأَخَّرَ إِسْلَامه وَهِجْرَته إِلَى هُدْنَة الْحُدَيْبِيَة , فَقَدِمَ فِي سَنَة سَبْع أَوْ أَوَّل سَنَة ثَمَان , وَاسْم اِمْرَأَته - وَالِدَة أَكْبَر أَوْلَاده أَبِي عَتِيق مُحَمَّد - أُمَيْمَة بِنْت عَدِيّ بْن قَيْس السَّهْمِيَّة وَالْخَادِم لَمْ أَعْرِف اِسْمهَا.
قَوْله : ( وَإِنَّ أَبَا بَكْر تَعَشَّى عِنْد النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ لَبِثَ حَتَّى صَلَّى الْعِشَاء ثُمَّ رَجَعَ ) وَوَقَعَ فِي الرِّوَايَة الَّتِي فِي الصَّلَاة " ثُمَّ لَبِثَ حَتَّى صَلَّيْت الْعِشَاء " وَفِي رِوَايَة " حَيْثُ صَلَّيْت ثُمَّ رَجَعَ " فَشَرَحَهُ الْكَرْمَانِيُّ فَقَالَ : هَذَا يُشْعِر بِأَنَّ تَعَشِّي أَبِي بَكْر كَانَ بَعْد الرُّجُوع إِلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , وَالَّذِي تَقَدَّمَ بِعَكْسِهِ , وَالْجَوَاب أَنَّ الْأَوَّل بَيَان حَال أَبِي بَكْر فِي عَدَم اِحْتِيَاجه إِلَى الطَّعَام عِنْد أَهْله , وَالثَّانِي فِيهِ سِيَاق الْقِصَّة عَلَى التَّرْتِيب الْوَاقِع : الْأَوَّل تَعَشِّي الصِّدِّيق وَالثَّانِي تَعَشِّي النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَالْأَوَّل مِنْ الْعَشَاء بِفَتْحِهَا أَيْ الْأَكْل , وَالثَّانِي بِكَسْرِهَا أَيْ الصَّلَاة , فَأَحَد هَذِهِ الِاحْتِمَالَات أَنَّ أَبَا بَكْر لَمَّا جَاءَ بِالثَّلَاثَةِ إِلَى مَنْزِله لَبِثَ إِلَى وَقْت صَلَاة الْعِشَاء فَرَجَعَ إِلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى تَعَشَّى عِنْده , وَهَذَا لَا يَصِحّ لِأَنَّهُ يُخَالِف صَرِيح قَوْله فِي حَدِيث الْبَاب " وَإِنَّ أَبَا بَكْر تَعَشَّى عِنْد النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " ثُمَّ إِنَّ الَّذِي وَقَعَ عِنْد الْبُخَارِيّ بِلَفْظِ " ثُمَّ رَجَعَ " بِالْجِيمِ لَيْسَ مُتَّفَقًا عَلَيْهِ مِنْ الرُّوَاة لِمَا سَأَذْكُرُهُ , وَظَاهِر قَوْله فِي هَذِهِ الرِّوَايَة " ثُمَّ رَجَعَ " أَيْ إِلَى مَنْزِله , وَعَلَى هَذَا فَفِي قَوْله : " فَلَبِثَ حَتَّى تَعَشَّى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَجَاءَ بَعْدَمَا مَضَى مِنْ اللَّيْل مَا شَاءَ اللَّه " تَكْرَار وَفَائِدَته الْإِشَارَة إِلَى أَنَّ تَأَخُّره عِنْد النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ بِمِقْدَارِ أَنْ تَعَشَّى مَعَهُ وَصَلَّى الْعِشَاء وَمَا رَجَعَ إِلَى مَنْزِله إِلَّا بَعْد أَنْ مَضَى مِنْ اللَّيْل قِطْعَة , وَذَلِكَ أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُحِبّ أَنْ يُؤَخِّر صَلَاة الْعِشَاء كَمَا تَقَدَّمَ فِي حَدِيث أَبِي بَرْزَة , وَوَقَعَ عِنْد الْإِسْمَاعِيلِيّ " ثُمَّ رَكَعَ " بِالْكَافِ أَيْ صَلَّى النَّافِلَة بَعْد الْعِشَاء , فَعَلَى هَذَا فَالتَّكْرَار فِي قَوْله : " فَلَبِثَ حَتَّى تَعَشَّى " فَقَطْ , وَفَائِدَته مَا تَقَدَّمَ.
وَوَقَعَ فِي رِوَايَة مُسْلِم وَالْإِسْمَاعِيلِيّ أَيْضًا " فَلَبِثَ حَتَّى نَعَسَ , بِعَيْنٍ وَسِين مُهْمَلَتَيْنِ مَفْتُوحَتَيْنِ مِنْ النُّعَاس وَهُوَ أَوْجَه , وَقَالَ عِيَاض إِنَّهُ الصَّوَاب , وَبِهِ يَنْتَفِي التَّكْرَار مِنْ الْمَوَاضِع كُلّهَا إِلَّا فِي قَوْله : " لَبِثَ " وَسَبَبه اِخْتِلَاف تَعَلُّق اللُّبْث فَالْأَوَّل قَالَ : " لَبِثَ حَتَّى صَلَّى الْعِشَاء " ثُمَّ قَالَ : " فَلَبِثَ حَتَّى نَعَسَ " وَالْحَاصِل أَنَّهُ تَأَخَّرَ عِنْد النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى صَلَّى الْعِشَاء ثُمَّ تَأَخَّرَ حَتَّى نَعَسَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَامَ لِيَنَامَ فَرَجَعَ أَبُو بَكْر حِينَئِذٍ إِلَى بَيْته , وَقَدْ تَرْجَمَ عَلَيْهِ الْمُصَنِّف فِي أَبْوَاب الصَّلَاة قُبَيْل الْأَذَان " بَاب السَّمَر مَعَ الضَّيْف وَالْأَهْل " وَأَخَذَهُ مِنْ كَوْن أَبِي بَكْر رَجَعَ إِلَى أَهْله وَضِيفَانه بَعْد أَنْ صَلَّى الْعِشَاء مَعَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَدَارَ بَيْنهمْ وَبَيْنه مَا ذُكِرَ فِي الْحَدِيث.
وَوَقَعَ فِي رِوَايَة أَبِي دَاوُدَ مِنْ رِوَايَة الْجَرِيرِيّ عَنْ أَبِي عُثْمَان أَوْ أَبِي السَّلِيل عَنْ عَبْد الرَّحْمَن بْن أَبِي بَكْر قَالَ : " نَزَلَ بِنَا أَضْيَاف , وَكَانَ أَبُو بَكْر يَتَحَدَّث عِنْد النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : لَا أَرْجِع إِلَيْك حَتَّى تَفْرُغ مِنْ ضِيَافَة هَؤُلَاءِ " وَنَحْوه يَأْتِي فِي الْأَدَب مِنْ طَرِيق أُخْرَى عَنْ الْجَرِيرِيّ عَنْ أَبِي عُثْمَان بِلَفْظِ " أَنَّ أَبَا بَكْر تَضَيَّفَ رَهْطًا , فَقَالَ لِعَبْدِ الرَّحْمَن : دُونك أَضْيَافك , فَإِنِّي مُنْطَلِق إِلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , فَافْرُغْ مِنْ قِرَاهُمْ قَبْل أَنْ أَجِيء " وَهَذَا يَدُلّ عَلَى أَنَّ أَبَا بَكْر أَحْضَرَهُمْ إِلَى مَنْزِله وَأَمَرَ أَهْله أَنْ يُضَيِّفُوهُمْ وَرَجَعَ هُوَ إِلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , وَيَدُلّ عَلَيْهِ صَرِيح قَوْله فِي حَدِيث الْبَاب " وَإِنَّ أَبَا بَكْر جَاءَ بِثَلَاثَةٍ ".
قَوْله : ( قَالَتْ لَهُ اِمْرَأَته مَا حَبَسَك مِنْ أَضْيَافك ) ؟ فِي رِوَايَة الْكُشْمِيهَنِيّ " عَنْ أَضْيَافك " وَكَذَا هُوَ فِي الصَّلَاة وَرِوَايَة مُسْلِم.
قَوْله : ( أَوْ ضَيْفك ) شَكّ مِنْ الرَّاوِي , وَالْمُرَاد بِهِ الْجِنْس لِأَنَّهُمْ ثَلَاثَة , وَاسْم الضَّيْف يُطْلَق عَلَى الْوَاحِد وَمَا فَوْقه.
وَقَالَ الْكَرْمَانِيُّ : أَوْ هُوَ مَصْدَر يَتَنَاوَل الْمُثَنَّى وَالْجَمْع , كَذَا قَالَ وَلَيْسَ بِوَاضِحٍ.
قَوْله : ( أَوَ عَشَّيْتهمْ ) فِي رِوَايَة الْكُشْمِيهَنِيِّ " أَوَ مَا عَشَّيْتهمْ " بِزِيَادَةِ مَا النَّافِيَة , وَكَذَا فِي رِوَايَة مُسْلِم وَالْإِسْمَاعِيلِيّ , وَالْهَمْزَة لِلِاسْتِفْهَامِ وَالْوَاو لِلْعَطْفِ عَلَى مُقَدَّر بَعْد الْهَمْزَة , وَفِي بَعْضهَا عَشَّيْتِهِمْ بِإِشْبَاعِ الْكَسْرَة.
قَوْله : ( قَدْ عَرَضُوا عَلَيْهِمْ ) بِفَتْحِ الْعَيْن وَالرَّاء وَالْفَاعِل مَحْذُوف أَيْ الْخَدَم أَوْ الْأَهْل أَوْ نَحْو ذَلِكَ , ( فَغَلَبُوهُمْ ) أَيْ أَنَّ آلَ أَبِي بَكْر عَرَضُوا عَلَى الْأَضْيَاف الْعَشَاء فَأَبَوْا فَعَالَجُوهُمْ فَامْتَنَعُوا حَتَّى غَلَبُوهُمْ.
وَفِي الرِّوَايَة الَّتِي فِي الصَّلَاة " قَدْ عُرِّضُوا " بِضَمِّ أَوَّله وَتَشْدِيد الرَّاء أَيْ أُطْعِمُوا مِنْ الْعِرَاضَة وَهِيَ الْهَدِيَّة , قَالَهُ عِيَاض , قَالَ وَهُوَ فِي الرِّوَايَة بِتَخْفِيفِ الرَّاء , وَحَكَى اِبْن قُرْقُول أَنَّ الْقِيَاس بِتَشْدِيدِ الرَّاء وَبِهِ جَزَمَ الْجَوْهَرِيّ , وَقَالَ الْكَرْمَانِيُّ مُوَجِّهًا لِلتَّخْفِيفِ : أَيْ عُرِضَ الطَّعَام عَلَيْهِمْ , فَحَذَفَ الْجَارّ وَوَصَلَ الْفِعْل فَهُوَ مِنْ الْقَلْب كَعَرَضْتُ النَّاقَة عَلَى الْحَوْض.
وَوَقَعَ فِي الصَّلَاة " قَدْ عَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فَامْتَنَعُوا " وَحَكَى اِبْن التِّين أَنَّهُ وَقَعَ فِي بَعْض الرِّوَايَات عَرِصُوا بِصَادٍ مُهْمَلَة , قَالَ وَلَا أَعْرِف لَهَا وَجْهًا وَوَجَّهَهَا غَيْره أَنَّهَا مِنْ قَوْلهمْ عَرَصَ إِذَا نَشِطَ , فَكَأَنَّهُ يُرِيد أَنَّهُمْ نَشِطُوا فِي الْعَزِيمَة عَلَيْهِمْ , وَلَا يَخْفَى تَكَلُّفه.
وَفِي رِوَايَة الْجَرِيرِيّ " فَانْطَلَقَ عَبْد الرَّحْمَن فَأَتَاهُمْ بِمَا عِنْده فَقَالَ : اِطْعَمُوا , قَالُوا : أَيْنَ رَبّ مَنْزِلنَا ؟ قَالَ : اِطْعَمُوا.
قَالُوا : مَا نَحْنُ بِآكِلِينَ حَتَّى يَجِيء.
قَالَ : اِقْبَلُوا عَنَّا قِرَاكُمْ , فَإِنَّهُ إِنْ جَاءَ وَلَمْ تَطْعَمُوا لَأَلْقَيَنَّ مِنْهُ - أَيْ شَرًّا - فَأَبَوْا " وَفِي رِوَايَة مُسْلِم " أَلَا تَقْبَلُوا عَنَّا قِرَاكُمْ ؟ " ضَبَطَهُ عِيَاض عَنْ الْأَكْثَر بِتَخْفِيفِ اللَّام عَلَى اِسْتِفْتَاح الْكَلَام , قَالَ الْقُرْطُبِيّ : وَيَلْزَم عَلَيْهِ أَنْ تَثْبُت النُّون فِي " تَقْبَلُونَ " إِذْ لَا مُوجِب لِحَذْفِهَا , وَضَبَطَهَا اِبْن أَبِي جَعْفَر بِتَشْدِيدِ اللَّام وَهُوَ الْوَجْه.
قَوْله : ( قَالَ فَذَهَبْت فَاخْتَبَأْت ) أَيْ خَوْفًا مِنْ خِصَام أَبِي بَكْر لَهُ وَتَغَيُّظه عَلَيْهِ.
وَفِي رِوَايَة الْجَرِيرِيّ " فَعَرَفْت أَنَّهُ يَجِد عَلَيَّ " أَيْ يَغْضَب " فَلَمَّا جَاءَ تَغَيَّبْت عَنْهُ , فَقَالَ : يَا عَبْد الرَّحْمَن , فَسَكَتَ.
ثُمَّ قَالَ : يَا عَبْد الرَّحْمَن , فَسَكَتَ ".
قَوْله : ( فَقَالَ يَا غُنْثَر فَجَدَّعَ وَسَبَّ ) فِي رِوَايَة الْجَرِيرِيّ فَقَالَ : يَا غُنْثَر أَقْسَمْت عَلَيْك إِنْ كُنْت تَسْمَع صَوْتِي لَمَا جِئْت , قَالَ فَخَرَجْت فَقُلْت وَاَللَّه مَا لِي ذَنْب , هَؤُلَاءِ أَضْيَافك فَسَلْهُمْ.
قَالُوا صَدَقَك قَدْ أَتَانَا.
وَقَوْله : ( فَجَدَعَ وَسَبَّ ) أَيْ دَعَا عَلَيْهِ بِالْجَدْعِ وَهُوَ قَطْع الْأُذُن أَوْ الْأَنْف أَوْ الشَّفَة , وَقِيلَ : الْمُرَاد بِهِ السَّبّ , وَالْأَوَّل أَصَحّ.
وَفِي رِوَايَة الْجَرِيرِيّ " فَجَزَّعَ " بِالزَّايِ بَدَل الدَّال أَيْ نَسَبَهُ إِلَى الْجَزَع بِفَتْحَتَيْنِ وَهُوَ الْخَوْف , وَقِيلَ : الْمُجَازَعَة الْمُخَاصَمَة فَالْمَعْنَى خَاصَمَ , قَالَ الْقُرْطُبِيّ : ظَنَّ أَبُو بَكْر أَنَّ عَبْد الرَّحْمَن فَرَّطَ فِي حَقّ الْأَضْيَاف , فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ الْحَال أَدَّبَهُمْ بِقَوْلِهِ كُلُوا لَا هَنِيئًا , وَسَبَّ أَيْ شَتَمَ.
وَحَذَفَ الْمَفْعُول لِلْعِلْمِ بِهِ.
قَوْله : " غُنْثَر " بِضَمِّ الْمُعْجَمَة وَسُكُون النُّون وَفَتْح الْمُثَلَّثَة , هَذِهِ الرِّوَايَة الْمَشْهُورَة , وَحُكِيَ ضَمّ الْمُثَلَّثَة , وَحَكَى عِيَاض عَنْ بَعْض شُيُوخه فَتْح أَوَّله مَعَ فَتْح الْمُثَلَّثَة , وَحَكَاهُ الْخَطَّابِيُّ بِلَفْظِ " عَنْتَر " بِلَفْظِ اِسْم الشَّاعِر الْمَشْهُور وَهُوَ الْمُهْمَلَة وَالْمُثَنَّاة الْمَفْتُوحَتَيْنِ بَيْنهمَا النُّون السَّاكِنَة , وَرَوَى عَنْ أَبِي عُمَر عَنْ ثَعْلَب أَنَّ مَعْنَاهُ الذُّبَاب , وَأَنَّهُ سُمِّيَ بِذَلِكَ لِصَوْتِهِ فَشَبَّهَهُ بِهِ حَيْثُ أَرَادَ تَحْقِيره وَتَصْغِيره.
وَقَالَ غَيْره : مَعْنَى الرِّوَايَة الْمَشْهُورَة الثَّقِيل الْوَخِم وَقِيلَ : الْجَاهِل وَقِيلَ : السَّفِيه وَقِيلَ اللَّئِيم , وَهُوَ مَأْخُوذ مِنْ الْغُثْر وَنُونه زَائِدَة , وَقِيلَ : هُوَ ذُبَاب أَزْرَق شَبَّهَهُ بِهِ لِتَحْقِيرِهِ كَمَا تَقَدَّمَ.
قَوْله : ( وَقَالَ كُلُوا ) زَادَ فِي الصَّلَاة " لَا هَنِيئًا " وَكَذَا فِي رِوَايَة مُسْلِم أَيْ لَا أَكَلْتُمْ هَنِيئًا وَهُوَ دُعَاء عَلَيْهِمْ , وَقِيلَ خَبَر أَيْ لَمْ تَتَهَنَّئُوا فِي أَوَّل نُضْجه , وَيُسْتَفَاد مِنْ ذَلِكَ جَوَاز الدُّعَاء عَلَى مَنْ لَمْ يَحْصُل مِنْهُ الْإِنْصَاف وَلَا سِيَّمَا عِنْد الْحَرَج وَالتَّغَيُّظ , وَذَلِكَ أَنَّهُمْ تَحَكَّمُوا عَلَى رَبّ الْمَنْزِل بِالْحُضُورِ مَعَهُمْ وَلَمْ يَكْتَفُوا بِوَلَدِهِ مَعَ إِذْنه لَهُمْ فِي ذَلِكَ , وَكَأَنَّ الَّذِي حَمَلَهُمْ عَلَى ذَلِكَ رَغْبَتهمْ فِي التَّبَرُّك بِمُؤَاكَلَتِهِ , وَيُقَال إِنَّهُ إِنَّمَا خَاطَبَ بِذَلِكَ أَهْله لَا الْأَضْيَاف , وَقِيلَ : لَمْ يُرِدْ الدُّعَاء وَإِنَّمَا أَخْبَرَ أَنَّهُمْ فَاتَهُمْ الْهَنَاء بِهِ إِذَا لَمْ يَأْكُلُوهُ فِي وَقْته.
قَوْله : ( وَقَالَ لَا أَطْعَمهُ أَبَدًا ) فِي رِوَايَة مُسْلِم وَكَذَا هُوَ فِي الصَّلَاة " فَقَالَ : وَاَللَّه لَا أَطْعَمهُ أَبَدًا " وَفِي رِوَايَة الْجَرِيرِيّ " فَقَالَ فَإِنَّمَا اِنْتَظَرْتُمُونِي , وَاَللَّه لَا أَطْعَمهُ أَبَدًا , فَقَالَ الْآخَر وَاَللَّه لَا نَطْعَمهُ " وَفِي رِوَايَة أَبِي دَاوُدَ مِنْ هَذَا الْوَجْه " فَقَالَ أَبُو بَكْر فَمَا مَنَعَكُمْ ؟ قَالُوا : مَكَانك.
قَالَ وَاَللَّه لَا أَطْعَمهُ أَبَدًا.
ثُمَّ اِتَّفَقَا فَقَالَ : لَمْ أَرَ فِي الشَّرّ كَاللَّيْلَةِ , وَيْلكُمْ مَا أَنْتُمْ ؟ لَمْ تَقْبَلُونَ عَنَّا قِرَاكُمْ.
هَاتِ طَعَامك , فَوَضَعَ فَقَالَ : بِسْمِ اللَّه الْأَوَّل مِنْ الشَّيْطَان فَأَكَلَ وَأَكَلُوا " قَالَ اِبْن التِّين : لَمْ يُخَاطِب أَبُو بَكْر أَضْيَافه بِذَلِكَ إِنَّمَا خَاطَبَ أَهْله , وَالرِّوَايَة الَّتِي ذَكَرْتهَا تَرُدّ عَلَيْهِ.
وَوَقَعَ فِي رِوَايَة مُسْلِم " أَلَّا تَقْبَلُونَ " وَهُوَ بِتَشْدِيدِ اللَّام لِلْأَكْثَرِ , وَلِبَعْضِهِمْ بِتَخْفِيفِهَا.
قَوْله : ( وَاَيْمُ اللَّه ) هَمْزَته هَمْزَة وَصْل عِنْد الْجُمْهُور وَقِيلَ : يَجُوز الْقَطْع , وَهُوَ مُبْتَدَأ وَخَبَره مَحْذُوف أَيْ أَيْم اللَّه قَسَمِي , وَأَصْله أَيْمَن اللَّه فَالْهَمْزَة حِينَئِذٍ هَمْزَة قَطْع لَكِنَّهَا لِكَثْرَةِ الِاسْتِعْمَال خُفِّفَتْ فَوُصِلَتْ , وَحُكِيَ فِيهَا لُغَات : أَيْمُن اللَّه مُثَلَّثَة النُّون , وَمُنُ اللَّه مُخْتَصَرَة مِنْ الْأُولَى مُثَلَّثَة النُّون أَيْضًا , وَاَيْم اللَّه كَذَلِكَ , وَمُ اللَّه كَذَلِكَ , بِكَسْرِ الْهَمْزَة أَيْضًا , وَأَم اللَّه.
قَالَ اِبْن مَالِك : وَلَيْسَ الْمِيم بَدَلًا مِنْ الْوَاو وَلَا أَصْلهَا مِنْ خِلَافًا لِمَنْ زَعَمَ ذَلِكَ.
وَلَا أَيْمُن , جَمْع يَمِين خِلَافًا لِلْكُوفِيِّينَ , وَسَيَأْتِي تَمَام هَذَا فِي كِتَاب الْأَيْمَان وَالنُّذُور.
قَوْله : ( إِلَّا رَبَا ) أَيْ زَادَ , وَقَوْله : ( مِنْ أَسْفَلهَا ) أَيْ الْمَوْضِع الَّذِي أُخِذَتْ مِنْهُ.
قَوْله : ( فَنَظَرَ أَبُو بَكْر فَإِذَا شَيْء أَوْ أَكْثَر ) وَالتَّقْدِير فَإِذَا هِيَ شَيْء أَيْ قُدِّرَ الَّذِي كَانَ , كَذَا عِنْد الْمُصَنِّف هُنَا , وَوَقَعَ فِي الصَّلَاة " فَإِذَا هِيَ - أَيْ الْجَفْنَة - كَمَا هِيَ " أَيْ كَمَا كَانَتْ أَوَّلًا أَوْ أَكْثَر , وَكَذَلِكَ فِي رِوَايَة مُسْلِم وَالْإِسْمَاعِيلِيّ وَهُوَ الصَّوَاب.
قَوْله : ( يَا أُخْت بَنِي فِرَاس ) زَادَ فِي الصَّلَاة " مَا هَذَا " وَخَاطَبَ أَبُو بَكْر بِذَلِكَ اِمْرَأَته أُمّ رُومَان , وَبَنُو فِرَاس بِكَسْرِ الْفَاء وَتَخْفِيف الرَّاء وَآخِره مُهْمَلَة اِبْن غَنْم بْن مَالِك بْن كِنَانَة , وَقَالَ النَّوَوِيّ : التَّقْدِير مَا مَنْ هِيَ مِنْ بَنِي فِرَاس وَفِيهِ نَظَر , وَالْعَرَب تُطْلِق عَلَى مَنْ كَانَ مُنْتَسِبًا إِلَى قَبِيلَة أَنَّهُ أَخُوهُمْ كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْعِلْم " ضِمَام أَخُو بَنِي سَعْد بْن بَكْر " وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ أُمّ رُومَان مِنْ ذُرِّيَّة الْحَارِث بْن غَنْم وَهُوَ أَخُو فِرَاس بْن غَنْم فَلَعَلَّ أَبَا بَكْر نَسَبَهَا إِلَى بَنِي فِرَاس لِكَوْنِهِمْ أَشْهَر مِنْ بَنِي الْحَارِث وَيَقَع فِي النَّسَب كَثِير مِنْ ذَلِكَ , وَيُنْسَبُونَ أَحْيَانًا إِلَى أَخِي جَدّهمْ , أَوْ الْمَعْنَى يَا أُخْت الْقَوْم الْمُنْتَسِبِينَ إِلَى بَنِي فِرَاس , وَلَا شَكَّ أَنَّ الْحَارِث أَخُو فِرَاس فَأَوْلَاد كُلّ مِنْهُمَا إِخْوَة لِلْآخَرِينَ لِكَوْنِهِمْ فِي دَرَجَتهمْ , وَحَكَى عِيَاض أَنَّهُ قِيلَ فِي أُمّ رُومَان إِنَّهَا مِنْ بَنِي فِرَاس بْن غَنْم لَا مِنْ بَنِي الْحَارِث وَعَلَى هَذَا فَلَا حَاجَة إِلَى هَذَا التَّأْوِيل , وَلَمْ أَرَ فِي كِتَاب اِبْن سَعْد لَهَا نَسَبًا إِلَّا إِلَى بَنِي الْحَارِث بْن غَنْم سَاقَ لَهَا نَسَبَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ , فَاَللَّه أَعْلَم.
قَوْله : ( قَالَتْ لَا وَقُرَّة عَيْنِي ) قُرَّة الْعَيْن يُعَبَّر بِهَا عَنْ الْمَسَرَّة وَرُؤْيَة مَا يُحِبّهُ الْإِنْسَان وَيُوَافِقهُ , يُقَال ذَلِكَ لِأَنَّ عَيْنه قَرَّتْ أَيْ سَكَنَتْ حَرَكَتهَا مِنْ التَّلَفُّت لِحُصُولِ غَرَضهَا فَلَا تَسْتَشْرِف لِشَيْءٍ آخَر , فَكَأَنَّهُ مَأْخُوذ مِنْ الْقَرَار , وَقِيلَ : مَعْنَاهُ أَنَام اللَّه عَيْنك وَهُوَ يَرْجِع إِلَى هَذَا , وَقِيلَ : بَلْ هُوَ مَأْخُوذ مِنْ الْقَرّ وَهُوَ الْبَرْد أَيْ أَنَّ عَيْنه بَارِدَة لِسُرُورِهِ , وَلِهَذَا قِيلَ دَمْعَة الْحُزْن حَارَّة , وَمِنْ ثَمَّ قِيلَ فِي ضِدّه أَسْخَنَ اللَّه عَيْنه , وَإِنَّمَا حَلَفَتْ أُمّ رُومَان بِذَلِكَ لِمَا وَقَعَ عِنْدهَا مِنْ السُّرُور بِالْكَرَامَةِ الَّتِي حَصَلَتْ لَهُمْ بِبَرَكَةِ الصِّدِّيق رَضِيَ اللَّه عَنْهُ.
وَزَعَمَ الدَّاوُدِيُّ أَنَّهَا أَرَادَتْ بِقُرَّةِ عَيْنهَا النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَقْسَمَتْ بِهِ , وَفِيهِ بُعْدٌ.
وَ " لَا " فِي قَوْلهَا : " لَا وَقُرَّة عَيْنِي " زَائِدَة أَوْ نَافِيَة عَلَى حَذْف , تَقْدِيره لَا شَيْء غَيْر مَا أَقُول.
قَوْله : ( لَهِيَ ) أَيْ الْجَفْنَة أَوْ الْبَقِيَّة ( أَكْثَرُ مِمَّا قَبْل ) كَذَا هُنَا , وَفِي رِوَايَة مُسْلِم " أَكْثَر مِنْهَا قَبْل " وَهُوَ أَوْجَه , وَ ( أَكْثَر ) لِلْأَكْثَرِ بِالْمُثَلَّثَةِ وَلِبَعْضِهِمْ بِالْمُوَحَّدَةِ.
قَوْله : ( فَأَكَلَ مِنْهَا أَبُو بَكْر وَقَالَ إِنَّمَا كَانَ الشَّيْطَان يَعْنِي يَمِينه ) كَذَا هُنَا وَفِيهِ حَذْف تَقَدَّمَهَا تَقْدِيره : وَإِنَّمَا كَانَ الشَّيْطَان الْحَامِل عَلَى ذَلِكَ , يَعْنِي الْحَامِل عَلَى يَمِينه الَّتِي حَلَفَهَا فِي قَوْله : " وَاَللَّه لَا أَطْعَمهُ " وَوَقَعَ عِنْد مُسْلِم وَالْإِسْمَاعِيلِيّ " وَإِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ مِنْ الشَّيْطَان " يَعْنِي يَمِينه وَهُوَ أَوْجَه.
وَأَبْعَدَ مَنْ قَالَ : الضَّمِير فِي قَوْله : " هَذِهِ اللُّقْمَة " لِلَّتِي أَكَلَ أَيْ هَذِهِ اللُّقْمَة لِقَمْعِ الشَّيْطَان وَإِرْغَامه.
لِأَنَّهُ قَصَدَ بِتَزْيِينِهِ لَهُ الْيَمِين إِيقَاع الْوَحْشَة بَيْنه وَبَيْن أَضْيَافه , فَأَخْزَاهُ أَبُو بَكْر بِالْحِنْثِ الَّذِي هُوَ خَيْر , وَظَاهِر هَذَا السِّيَاق مُخَالِف لِرِوَايَةِ الْجَرِيرِيّ , فَقَالَ عِيَاض : فِي هَذَا السِّيَاق خَطَأ وَتَقْدِيم وَتَأْخِير , ثُمَّ ذَكَرَ مَا حَاصِله أَنَّ الصَّوَاب مَا فِي رِوَايَة الْجَرِيرِيّ , وَهُوَ أَنَّ رِوَايَة سُلَيْمَان التَّيْمِيِّ هَذِهِ تَقْتَضِي أَنَّ سَبَب أَكْل أَبِي بَكْر مِنْ الطَّعَام مَا رَآهُ مِنْ الْبَرَكَة فِيهِ فَرَغِبَ فِي الْأَكْل مِنْهُ وَأَعْرَضَ عَنْ يَمِينه الَّتِي حَلَفَ لَمَّا رَجَحَ عِنْده مِنْ التَّنَاوُل مِنْ الْبَرَكَة , وَرِوَايَة الْجَرِيرِيّ تَقْتَضِي أَنَّ سَبَب أَكْله مِنْ الطَّعَام لِجَاج الْأَضْيَاف وَحَلِفهمْ بِأَنَّهُمْ لَا يَطْعَمُونَ مِنْ الطَّعَام حَتَّى يَأْكُل أَبُو بَكْر , وَلَا شَكّ فِي كَوْنهَا أَوْجَه , لَكِنْ يُمْكِن رَدّ رِوَايَة سُلَيْمَان التَّيْمِيِّ إِلَيْهَا بِأَنْ يَكُون قَوْله : " فَأَكَلَ مِنْهَا أَبُو بَكْر " مَعْطُوفًا عَلَى قَوْله : " وَاَللَّه لَا أَطْعَمهُ " لَا عَلَى الْقِصَّة الَّتِي دَلَّتْ عَلَى بَرَكَة الطَّعَام , وَغَايَته أَنَّ حَلِف الْأَضْيَاف أَنْ لَا يَطْعَمُوهُ لَمْ يَقَع فِي رِوَايَة سُلَيْمَان وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
ثُمَّ ظَهَرَ لِي أَنَّ ذَلِكَ مِنْ مُعْتَمِر بْن سُلَيْمَان لَا مِنْ أَبِيهِ , فَقَدْ وَقَعَ فِي الْأَدَب عِنْد الْمُصَنِّف مِنْ رِوَايَة اِبْن أَبِي عَدِيّ عَنْ سُلَيْمَان التَّيْمِيِّ " فَحَلَفَتْ الْمَرْأَة لَا تَطْعَمُهُ حَتَّى يَطْعَمُوهُ , فَقَالَ أَبُو بَكْر كَأَنَّ هَذِهِ مِنْ الشَّيْطَان , فَدَعَا بِالطَّعَامِ فَأَكَلَ وَأَكَلُوا , فَجَعَلُوا لَا يَرْفَعُونَ اللُّقْمَة إِلَّا رَبَا مِنْ أَسْفَلهَا " وَيَحْتَمِل أَنْ يُجْمَع بِأَنْ يَكُون أَبُو بَكْر أَكَلَ لِأَجْلِ تَحْلِيل يَمِينهمْ شَيْئًا , ثُمَّ لَمَّا رَأَى الْبَرَكَة الظَّاهِرَة عَادَ فَأَكَلَ مِنْهَا لِتَحْصُل لَهُ وَقَالَ كَالْمُعْتَذِرِ عَنْ يَمِينه الَّتِي حَلَفَ " إِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ مِنْ الشَّيْطَان " وَالْحَاصِل أَنَّ اللَّه أَكْرَمَ أَبَا بَكْر فَأَزَالَ مَا حَصَلَ لَهُ مِنْ الْحَرَج , فَعَادَ مَسْرُورًا , وَانْفَكَّ الشَّيْطَان مَدْحُورًا.
وَاسْتَعْمَلَ الصِّدِّيق مَكَارِم الْأَخْلَاق فَحَنَّثَ نَفْسه زِيَادَة فِي إِكْرَام ضِيفَانه لِيَحْصُل مَقْصُوده مِنْ أَكْلهمْ , وَلِكَوْنِهِ أَكْثَرَ قُدْرَة مِنْهُمْ عَلَى الْكَفَّارَة.
وَوَقَعَ فِي رِوَايَة الْجَرِيرِيّ عِنْد مُسْلِم " فَقَالَ أَبُو بَكْر : يَا رَسُول اللَّه بَرُّوا وَحَنِثْت , فَقَالَ : بَلْ أَنْتَ أَبَرّهمْ وَخَيْرهمْ.
قَالَ : وَلَمْ يَبْلُغنِي كَفَّارَة " وَسَقَطَ ذَلِكَ مِنْ رِوَايَة الْجَرِيرِيّ عِنْد الْمُصَنِّف , وَكَأَنَّ سَبَب حَذْفه لِهَذِهِ الزِّيَادَة أَنَّ فِيهَا إِدْرَاجًا بَيَّنَتْهُ رِوَايَةُ أَبِي دَاوُدَ حَيْثُ جَاءَ فِيهَا " فَأُخْبِرْت - بِضَمِّ الْهَمْزَة - أَنَّهُ أَصْبَحَ فَغَدَا عَلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَخْ " وَقَوْله : ( أَبَرّهمْ ) أَيْ أَكْثَرهمْ بِرًّا أَيْ طَاعَة , وَقَوْله : ( وَخَيْرهمْ ) أَيْ لِأَنَّك حَنِثْت فِي يَمِينك حِنْثًا مَنْدُوبًا إِلَيْهِ مَطْلُوبًا فَأَنْتَ أَفْضَل مِنْهُمْ بِهَذَا الِاعْتِبَار , وَقَوْله : ( وَلَمْ يَبْلُغنِي كَفَّارَة ) اُسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أَنَّهُ لَا تَجِب الْكَفَّارَة فِي يَمِين اللِّجَاج وَالْغَضَب , وَلَا حُجَّة فِيهِ لِأَنَّهُ لَا يَلْزَم مِنْ عَدَم الذِّكْر عَدَم الْوُجُود , فَلِمَنْ أَثْبَتَ الْكَفَّارَة أَنْ يَتَمَسَّك بِعُمُومِ قَوْله : ( وَلَكِنْ يُؤَاخِذكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمْ الْأَيْمَان فَكَفَّارَته إِطْعَام عَشَرَة مَسَاكِين ) وَيَحْتَمِل أَنْ يَكُون ذَلِكَ وَقَعَ قَبْل مَشْرُوعِيَّة الْكَفَّارَة فِي الْأَيْمَان , لَكِنْ يُعَكِّر عَلَيْهِ مَا سَيَأْتِي مِنْ حَدِيث عَائِشَة أَنَّ أَبَا بَكْر لَمْ يَكُنْ يَحْنَث فِي يَمِين حَتَّى نَزَلَتْ الْكَفَّارَة.
وَقَالَ النَّوَوِيّ : قَوْله : " وَلَمْ تَبْلُغنِي كَفَّارَة " يَعْنِي أَنَّهُ لَمْ يُكَفِّر قَبْل الْحِنْث , فَأَمَّا وُجُوب الْكَفَّارَة فَلَا خِلَاف فِيهِ , كَذَا قَالَ.
وَقَالَ غَيْره : يَحْتَمِل أَنْ يَكُون أَبُو بَكْر لَمَّا حَلَفَ أَنْ لَا يَطْعَمهُ أَضْمَرَ وَقْتًا مُعَيَّنًا أَوْ صِفَة مَخْصُوصَة , أَيْ لَا أَطْعَمَهُ مَعَكُمْ أَوْ عِنْد الْغَضَب , وَهُوَ مَبْنِيّ عَلَى أَنَّ الْيَمِين هَلْ تَقْبَل التَّقْيِيد فِي النَّفْس أَمْ لَا ؟ وَلَا يَخْفَى مَا فِيهِ مِنْ التَّكَلُّف.
وَقَوْل أَبِي بَكْر " وَاَللَّه لَا أَطْعَمهُ أَبَدًا " يَمِين مُؤَكِّدَة وَلَا تَحْتَمِل أَنْ تَكُون مِنْ لَغْو الْكَلَام وَلَا مِنْ سَبْق اللِّسَان.
قَوْله : ( ثُمَّ حَمَلَهَا إِلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَصْبَحَتْ عِنْده ) أَيْ الْجَفْنَة عَلَى حَالهَا , وَإِنَّمَا لَمْ يَأْكُلُوا مِنْهَا فِي اللَّيْل لِكَوْنِ ذَلِكَ وَقَعَ بَعْد أَنْ مَضَى مِنْ اللَّيْل مُدَّة طَوِيلَة.
قَوْله : ( فَفَرَّقَنَا اِثْنَا عَشَر رَجُلًا مِنْ كُلّ رَجُل مِنْهُمْ أُنَاس ) كَذَا هُوَ هُنَا مِنْ التَّفْرِيق أَيْ جَعَلَهُمْ اِثْنَتَيْ عَشْرَة فِرْقَة , وَحَكَى الْكَرْمَانِيُّ أَنَّ فِي بَعْض الرِّوَايَات " فَقَرَيْنَا " بِقَافٍ وَتَحْتَانِيَّة مِنْ الْقِرَى وَهُوَ الضِّيَافَة , وَلَمْ أَقِف عَلَى ذَلِكَ.
قَوْله : ( اِثْنَا عَشَر رَجُلًا ) كَذَا لِلْمُصَنِّفِ , وَعِنْد مُسْلِم اِثْنَيْ عَشَر بِالنَّصْبِ وَهُوَ ظَاهِر , وَالْأَوَّل عَلَى طَرِيق مَنْ يَجْعَل الْمُثَنَّى بِالرَّفْعِ فِي الْأَحْوَال الثَّلَاثَة وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى : ( إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ ) , وَيَحْتَمِل أَنْ يَكُون " فَفُرِّقْنَا " بِضَمِّ أَوَّله عَلَى الْبِنَاء لِلْمَجْهُولِ , فَارْتَفَعَ اِثْنَا عَشَر عَلَى أَنَّهُ مُبْتَدَأ وَخَبَره مَعَ كُلّ رَجُل مِنْهُمْ.
قَوْله : ( اللَّه أَعْلَم كَمْ مَعَ كُلّ رَجُل غَيْر أَنَّهُ بُعِثَ مَعَهُمْ ) يَعْنِي أَنَّهُ تَحَقَّقَ أَنَّهُ جَعَلَ عَلَيْهِمْ اِثْنَا عَشَر عَرِيفًا لَكِنَّهُ لَا يَدْرِي كَمْ كَانَ تَحْت يَد كُلّ عَرِيف مِنْهُمْ لِأَنَّ ذَلِكَ يَحْتَمِل الْكَثْرَة وَالْقِلَّة , غَيْر أَنَّهُ يَتَحَقَّق أَنَّهُ بَعَثَ مَعَهُمْ - أَيْ مَعَ كُلّ نَاس - عَرِيفًا.
قَوْله : ( قَالَ أَكَلُوا مِنْهَا أَجْمَعُونَ أَوْ كَمَا قَالَ ) هُوَ شَكّ مِنْ أَبِي عُثْمَان فِي لَفْظ عَبْد الرَّحْمَن , وَأَمَّا الْمَعْنَى فَالْحَاصِل أَنَّ جَمِيع الْجَيْش أَكَلُوا مِنْ تِلْكَ الْجَفْنَة الَّتِي أَرْسَلَ بِهَا أَبُو بَكْر إِلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , وَظَهَرَ بِذَلِكَ أَنَّ تَمَام الْبَرَكَة فِي الطَّعَام الْمَذْكُور كَانَتْ عِنْد النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّ الَّذِي وَقَعَ فِيهَا بَيْت أَبِي بَكْر ظُهُور أَوَائِل الْبَرَكَة فِيهَا , وَأَمَّا اِنْتِهَاؤُهَا إِلَى أَنْ تَكْفِي الْجَيْش كُلّهمْ فَمَا كَانَ إِلَّا بَعْد أَنْ صَارَتْ عِنْد النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى ظَاهِر الْخَبَر , وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَدْ رَوَى أَحْمَد وَالتِّرْمِذِيّ وَالنَّسَائِيّ مِنْ حَدِيث سَمُرَة قَالَ : " أُتِيَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَصْعَةٍ فِيهَا ثَرِيد فَأَكَلَ وَأَكَلَ الْقَوْم , فَمَا زَالُوا يَتَدَاوَلُونَهَا إِلَى قَرِيب مِنْ الظُّهْر يَأْكُل قَوْم ثُمَّ يَقُومُونَ وَيَجِيء قَوْم فَيَتَعَاقَبُونَه , فَقَالَ رَجُل : هَلْ كَانَتْ تُمَدّ بِطَعَامٍ ؟ قَالَ : أَمَّا مِنْ الْأَرْض فَلَا إِلَّا أَنْ تَكُون كَانَتْ تُمَدّ مِنْ السَّمَاء ".
قَالَ بَعْض شُيُوخنَا يَحْتَمِل أَنْ تَكُون هَذِهِ الْقَصْعَة هِيَ الَّتِي وَقَعَ فِيهَا فِي بَيْت أَبِي بَكْر مَا وَقَعَ , وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَفِي هَذَا الْحَدِيث مِنْ الْفَوَائِد غَيْر مَا تَقَدَّمَ اِلْتِجَاء الْفُقَرَاء إِلَى الْمَسَاجِد عِنْد الِاحْتِيَاج إِلَى الْمُوَاسَاة إِذَا لَمْ يَكُنْ فِي ذَلِكَ إِلْحَاح وَلَا إِلْحَاف وَلَا تَشْوِيش عَلَى الْمُصَلِّينَ , وَفِيهِ اِسْتِحْبَاب مُوَاسَاتهمْ عِنْد اِجْتِمَاع هَذِهِ الشُّرُوط , وَفِيهِ التَّوْظِيف فِي الْمَخْمَصَة , وَفِيهِ جَوَاز الْغَيْبَة عَنْ الْأَهْل وَالْوَلَد وَالضَّيْف إِذَا أُعِدَّتْ لَهُمْ الْكِفَايَة , وَفِيهِ تَصَرُّف الْمَرْأَة فِيمَا تُقَدِّم لِلضَّيْفِ وَالْإِطْعَام بِغَيْرِ إِذْن خَاصّ مِنْ الرَّجُل , وَفِيهِ جَوَاز سَبّ الْوَالِد لِلْوَلَدِ عَلَى وَجْه التَّأْدِيب وَالتَّمْرِين عَلَى أَعْمَال الْخَيْر وَتَعَاطِيه , وَفِيهِ جَوَاز الْحَلِف عَلَى تَرْك الْمُبَاح , وَفِيهِ تَوْكِيد الرَّجُل الصَّادِق لِخَبَرِهِ بِالْقَسَمِ , وَجَوَاز الْحِنْث بَعْد عَقْد الْيَمِين , وَفِيهِ التَّبَرُّك بِطَعَامِ الْأَوْلِيَاء وَالصُّلَحَاء , وَفِيهِ عَرْض الطَّعَام الَّذِي تَظْهَر فِيهِ الْبَرَكَة عَلَى الْكِبَار وَقَبُولهمْ ذَلِكَ , وَفِيهِ الْعَمَل بِالظَّنِّ الْغَالِب لِأَنَّ أَبَا بَكْر ظَنَّ أَنَّ عَبْد الرَّحْمَن فَرَّطَ فِي أَمْر الْأَضْيَاف فَبَادَرَ إِلَى سَبّه وَقَوَّى الْقَرِينَة عِنْده اِخْتِبَاؤُهُ مِنْهُ , وَفِيهِ مَا يَقَع مِنْ لُطْف اللَّه تَعَالَى بِأَوْلِيَائِهِ وَذَلِكَ أَنَّ خَاطِر أَبِي بَكْر تَشَوَّشَ وَكَذَلِكَ وَلَده وَأَهْله وَأَضْيَافه بِسَبَبِ اِمْتِنَاعهمْ مِنْ الْأَكْل , وَتَكَدَّرَ خَاطِر أَبِي بَكْر مِنْ ذَلِكَ حَتَّى اِحْتَاجَ إِلَى مَا تَقَدَّمَ ذِكْره مِنْ الْحَرَج بِالْحَلِفِ وَبِالْحِنْثِ وَبِغَيْرِ ذَلِكَ , فَتَدَارَكَ اللَّه ذَلِكَ وَرَفَعَهُ عَنْهُ بِالْكَرَامَةِ الَّتِي أَبْدَاهَا لَهُ , فَانْقَلَبَ ذَلِكَ الْكَدَر صَفَاء وَالنَّكَد سُرُورًا وَلِلَّهِ الْحَمْد وَالْمِنَّة.
حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا مُعْتَمِرٌ عَنْ أَبِيهِ حَدَّثَنَا أَبُو عُثْمَانَ أَنَّهُ حَدَّثَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ أَصْحَابَ الصُّفَّةِ كَانُوا أُنَاسًا فُقَرَاءَ وَأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ مَرَّةً مَنْ كَانَ عِنْدَهُ طَعَامُ اثْنَيْنِ فَلْيَذْهَبْ بِثَالِثٍ وَمَنْ كَانَ عِنْدَهُ طَعَامُ أَرْبَعَةٍ فَلْيَذْهَبْ بِخَامِسٍ أَوْ سَادِسٍ أَوْ كَمَا قَالَ وَأَنَّ أَبَا بَكْرٍ جَاءَ بِثَلَاثَةٍ وَانْطَلَقَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِعَشَرَةٍ وَأَبُو بَكْرٍ ثَلَاثَةً قَالَ فَهُوَ أَنَا وَأَبِي وَأُمِّي وَلَا أَدْرِي هَلْ قَالَ امْرَأَتِي وَخَادِمِي بَيْنَ بَيْتِنَا وَبَيْنَ بَيْتِ أَبِي بَكْرٍ وَأَنَّ أَبَا بَكْرٍ تَعَشَّى عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ لَبِثَ حَتَّى صَلَّى الْعِشَاءَ ثُمَّ رَجَعَ فَلَبِثَ حَتَّى تَعَشَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَجَاءَ بَعْدَ مَا مَضَى مِنْ اللَّيْلِ مَا شَاءَ اللَّهُ قَالَتْ لَهُ امْرَأَتُهُ مَا حَبَسَكَ عَنْ أَضْيَافِكَ أَوْ ضَيْفِكَ قَالَ أَوَعَشَّيْتِهِمْ قَالَتْ أَبَوْا حَتَّى تَجِيءَ قَدْ عَرَضُوا عَلَيْهِمْ فَغَلَبُوهُمْ فَذَهَبْتُ فَاخْتَبَأْتُ فَقَالَ يَا غُنْثَرُ فَجَدَّعَ وَسَبَّ وَقَالَ كُلُوا وَقَالَ لَا أَطْعَمُهُ أَبَدًا قَالَ وَايْمُ اللَّهِ مَا كُنَّا نَأْخُذُ مِنْ اللُّقْمَةِ إِلَّا رَبَا مِنْ أَسْفَلِهَا أَكْثَرُ مِنْهَا حَتَّى شَبِعُوا وَصَارَتْ أَكْثَرَ مِمَّا كَانَتْ قَبْلُ فَنَظَرَ أَبُو بَكْرٍ فَإِذَا شَيْءٌ أَوْ أَكْثَرُ قَالَ لِامْرَأَتِهِ يَا أُخْتَ بَنِي فِرَاسٍ قَالَتْ لَا وَقُرَّةِ عَيْنِي لَهِيَ الْآنَ أَكْثَرُ مِمَّا قَبْلُ بِثَلَاثِ مَرَّاتٍ فَأَكَلَ مِنْهَا أَبُو بَكْرٍ وَقَالَ إِنَّمَا كَانَ الشَّيْطَانُ يَعْنِي يَمِينَهُ ثُمَّ أَكَلَ مِنْهَا لُقْمَةً ثُمَّ حَمَلَهَا إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَصْبَحَتْ عِنْدَهُ وَكَانَ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمٍ عَهْدٌ فَمَضَى الْأَجَلُ فَتَفَرَّقْنَا اثْنَا عَشَرَ رَجُلًا مَعَ كُلِّ رَجُلٍ مِنْهُمْ أُنَاسٌ اللَّهُ أَعْلَمُ كَمْ مَعَ كُلِّ رَجُلٍ غَيْرَ أَنَّهُ بَعَثَ مَعَهُمْ قَالَ أَكَلُوا مِنْهَا أَجْمَعُونَ أَوْ كَمَا قَالَ وَغَيْرُهُ يَقُولُ فَعَرَفْنَا مِنْ الْعِرَافَةِ
حدثنا أنس بن مالك : «أن يهوديا رض رأس جارية بين حجرين، فقيل لها من فعل بك هذا؟ أفلان، أفلان؟ حتى سمي اليهودي، فأومأت برأسها، فجيء باليهودي فاعترف، فأ...
عن أنس رضي الله عنه، «أن النبي صلى الله عليه وسلم، كان إذا قدم من سفر، فنظر إلى جدرات المدينة، أوضع راحلته وإن كان على دابة حركها من حبها»
عن أبي سعيد - رضي الله عنه - قال: «بعث إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - بشيء فقسمه بين أربعة وقال: أتألفهم، فقال رجل: ما عدلت، فقال: يخرج من ضئضئ هذا...
عن سهل قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «موضع سوط في الجنة خير من الدنيا وما فيها ولغدوة في سبيل الله أو روحة خير من الدنيا وما فيها.»
عن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «ليس منا من ضرب الخدود وشق الجيوب ودعا بدعوى الجاهلية»
عن جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله عنهما: «أن نبي الله صلى الله عليه وسلم صلى على النجاشي، فصفنا وراءه، فكنت في الصف الثاني أو الثالث».<br>
عن عائشة رضي الله عنها قالت: «فرضت الصلاة ركعتين، ثم هاجر النبي صلى الله عليه وسلم ففرضت أربعا، وتركت صلاة السفر على الأولى».<br> تابعه عبد الرزاق، ع...
عن عتبان بن مالك، أن النبي صلى الله عليه وسلم أتاه في منزله، فقال: «أين تحب أن أصلي لك من بيتك؟» قال: فأشرت له إلى مكان، فكبر النبي صلى الله عليه وسلم...
عن ابن عمر، قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبو بكر، وعمر رضي الله عنهما، يصلون العيدين قبل الخطبة»