6445- قال أبو هريرة: رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لو كان لي مثل أحد ذهبا لسرني أن لا تمر علي ثلاث ليال وعندي منه شيء إلا شيئا أرصده لدين.»
(أرصده لدين) أحفظه وأعده لوفاء دين مستحق علي
فتح الباري شرح صحيح البخاري: ابن حجر العسقلاني - أحمد بن علي بن حجر العسقلاني
قَوْله ( حَدَّثَنَا أَحْمَد بْن شَبِيب ) بِفَتْحِ الْمُعْجَمَة وَمُوَحَّدَتَيْنِ مِثْل حَبِيب , وَهُوَ الْحَبَطِيّ بِفَتْحِ الْمُهْمَلَة وَالْمُوَحَّدَة ثُمَّ الطَّاء الْمُهْمَلَة نِسْبَة إِلَى الْحَبَطَات مِنْ بَنِي تَمِيم , وَهُوَ بَصْرِيّ صَدُوق ضَعَّفَهُ اِبْن عَبْد الْبَرّ تَبَعًا لِأَبِي الْفَتْح الْأَزْدِيّ وَالْأَزْدِيّ غَيْر مَرْضِيٍّ فَلَا يُتْبَع فِي ذَلِكَ , وَأَبُوهُ يُكَنَّى أَبَا سَعِيد , رَوَى عَنْهُ اِبْن وَهْب وَهُوَ مِنْ أَقْرَانه , وَوَثَّقَهُ اِبْن الْمَدِينِيّ.
قَوْله ( وَقَالَ اللَّيْث حَدَّثَنِي يُونُس ) هَذَا التَّعْلِيق وَصَلَهُ الذُّهْلِيُّ فِي " الزُّهْرِيَّات " عَنْ عَبْد اللَّه بْن صَالِح عَنْ اللَّيْث , وَأَرَادَ الْبُخَارِيّ بِإِيرَادِهِ تَقْوِيَة رِوَايَة أَحْمَد بْن شَبِيب , وَيُونُس هُوَ اِبْن يَزِيد.
قَوْله ( لَوْ كَانَ لِي ) زَادَ فِي رِوَايَة الْأَعْوَج عَنْ أَبِي هُرَيْرَة عِنْد أَحْمَد فِي أَوَّله " وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ " وَعِنْده فِي رِوَايَة هَمَّام عَنْ أَبِي هُرَيْرَة " وَاَلَّذِي نَفْس مُحَمَّد بِيَدِهِ ".
قَوْله ( مِثْل أُحُد ذَهَبًا ) فِي رِوَايَة الْأَعْرَج لَوْ أَنَّ أُحُدكُمْ عِنْدِي ذَهَبًا ".
قَوْله ( مَا يَسُرُّنِي أَنْ لَا تَمُرَّ عَلَيَّ ثَلَاث لَيَالٍ وَعِنْدِي مِنْهُ شَيْء إِلَّا شَيْئًا أَرْصُدهُ لِدَيْنٍ ) فِي رِوَايَة الْأَعْرَج " إِلَّا أَنْ يَكُون شَيْء أَرْصُدهُ فِي دَيْن عَلَيَّ " وَفِي رِوَايَة هَمَّام " وَعِنْدِي مِنْهُ دِينَار أَجِد مَنْ يَقْبَلهُ لَيْسَ شَيْئًا أَرْصُدهُ فِي دَيْنٍ عَلَيَّ " قَالَ اِبْن مَالِك : فِي هَذَا الْحَدِيث وُقُوع التَّمَنِّي بَعْد مَثَلٍ , وَجَوَاب لَوْ مُضَارِعًا مَنْفِيًّا بِمَا , وَحَقّ جَوَابهَا أَنْ يَكُون مَاضِيًا مُثْبَتًا نَحْو لَوْ قَامَ لَقُمْت , أَوْ بِلَمْ نَحْو لَوْ قَامَ لَمْ أَقُمْ.
وَالْجَوَاب مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدهمَا أَنْ يَكُون وَضَعَ الْمُضَارِع مَوْضِع الْمَاضِي الْوَاقِع جَوَابًا كَمَا وَقَعَ مَوْضِعه وَهُوَ شَرْط فِي قَوْله تَعَالَى ( لَوْ يُطِيعكُمْ فِي كَثِير مِنْ الْأَمْر لَعَنِتُّمْ ) , ثَانِيهمَا أَنْ يَكُون الْأَصْل مَا كَانَ يَسُرُّنِي فَحَذَفَ كَانَ وَهُوَ جَوَاب وَفِيهِ ضَمِير وَهُوَ الِاسْم وَيَسُرُّنِي خَبَر , وَحَذْفُ كَانَ مَعَ اِسْمهَا وَبَقَاء خَبَرهَا كَثِير نَظْمًا وَنَثْرًا وَمِنْهُ " الْمَرْء مَجْزِيٌّ بِعَمَلِهِ إِنْ خَيْرًا فَخَيْر وَإِنْ شَرًّا فَشَرّ " قَالَ وَأَشْبَهُ شَيْء بِحَذْفِ كَانَ قَبْل يَسُرُّنِي حَذْفُ جَعَلَ قَبْل يُجَادِلنَا فِي قَوْله تَعَالَى ( فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيم الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا ) أَيْ جَعَلَ يُجَادِلُنَا , وَالْوَجْه الْأَوَّل أَوْلَى.
وَفِيهِ أَيْضًا وُقُوع لَا بَيْن أَنْ وَتَمُرّ وَهِيَ زَائِدَة وَالْمَعْنَى مَا يَسُرُّنِي أَنْ تَمُرَّ , وَقَالَ الطِّيبِيُّ : قَوْله " مَا يَسُرُّنِي " هُوَ جَوَاب " لَوْ " الِامْتِنَاعِيَّةِ فَيُفِيد أَنَّهُ لَمْ يَسُرَّهُ الْمَذْكُور بَعْده لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ عِنْده مِثْل أُحُدٍ ذَهَبًا , وَفِيهِ نَوْع مُبَالَغَة لِأَنَّهُ إِذَا لَمْ يَسُرُّهُ كَثْرَة مَا يُنْفِقهُ فَكَيْف مَا لَا يُنْفِقهُ قَالَ : وَفِي التَّقْيِيد بِالثَّلَاثَةِ تَتْمِيم وَمُبَالَغَة فِي سُرْعَة الْإِنْفَاق , فَلَا تَكُون لَا زَائِدَة كَمَا قَالَ اِبْن مَالِك بَلْ النَّفْي فِيهَا عَلَى حَاله.
قُلْت : وَيُؤَيِّد قَوْل اِبْن مَالِك الرِّوَايَة الْمَاضِيَة قَبْلُ فِي حَدِيث أَبِي ذَرّ بِلَفْظِ " مَا يَسُرُّنِي أَنَّ عِنْدِي مِثْل أُحُدٍ ذَهَبًا تَمْضِي عَلَيَّ ثَالِثَة ".
وَفِي حَدِيث الْبَاب مِنْ الْفَوَائِد أَدَب أَبِي ذَرّ مَعَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَرَقُّبُهُ أَحْوَاله وَشَفَقَته عَلَيْهِ حَتَّى لَا يَدْخُل عَلَيْهِ أَدْنَى شَيْء مِمَّا يَتَأَذَّى بِهِ.
وَفِيهِ حُسْنُ الْأَدَب مَعَ الْأَكَابِر وَأَنَّ الصَّغِير إِذَا رَأَى الْكَبِير مُنْفَرِدًا لَا يَتَسَوَّر عَلَيْهِ وَلَا يَجْلِس مَعَهُ وَلَا يُلَازِمُهُ إِلَّا بِإِذْنٍ مِنْهُ.
وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إِذَا كَانَ فِي مَجْمَع كَالْمَسْجِدِ وَالسُّوق فَيَكُون جُلُوسه مَعَهُ بِحَسَبِ مَا يَلِيق بِهِ.
وَفِيهِ جَوَاز تَكْنِيَة الْمَرْء نَفْسه لِغَرَضٍ صَحِيح كَأَنْ يَكُون أَشْهَرَ مِنْ اِسْمه , وَلَا سِيَّمَا إِنْ كَانَ اِسْمُهُ مُشْتَرِكًا بِغَيْرِهِ وَكُنْيَته فَرْدَة.
وَفِيهِ جَوَاز تَفْدِيَة الْكَبِير بِنَفْسِهِ وَبِغَيْرِهَا , وَالْجَوَاب بِمِثْلِ لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْك زِيَادَة فِي الْأَدَب.
وَفِيهِ الِانْفِرَاد عِنْد قَضَاء الْحَاجَة.
وَفِيهِ أَنَّ اِمْتِثَال أَمْر الْكَبِير وَالْوُقُوف عِنْده أَوْلَى مِنْ اِرْتِكَاب مَا يُخَالِفهُ بِالرَّأْيِ وَلَوْ كَانَ فِيمَا يَقْتَضِيه الرَّأْي تَوَهُّمُ دَفْع مَفْسَدَة حَتَّى يَتَحَقَّق ذَلِكَ فَيَكُون دَفْع الْمَفْسَدَة أَوْلَى.
وَفِيهِ اِسْتِفْهَام التَّابِع مِنْ مَتْبُوعه عَلَى مَا يَحْصُل لَهُ فَائِدَة دِينِيَّة أَوْ عِلْمِيَّة أَوْ غَيْر ذَلِكَ.
وَفِيهِ الْأَخْذ بِالْقَرَائِنِ لِأَنَّ أَبَا ذَرّ لَمَّا قَالَ لَهُ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , " أَتُبْصِرُ أُحُدًا " فَهِمَ مِنْهُ أَنَّهُ يُرِيد أَنْ يُرْسِلهُ فِي حَاجَة فَنَظَرَ إِلَى مَا عَلَى أُحُدٍ مِنْ الشَّمْس لِيَعْلَم هَلْ يَبْقَى مِنْ النَّهَار قَدْر يَسْعُهَا.
وَفِيهِ أَنَّ مَحَلّ الْأَخْذ بِالْقَرِينَةِ إِنْ كَانَ فِي اللَّفْظ مَا يُخَصِّصُ ذَلِكَ , فَإِنَّ الْأَمْر وَقَعَ عَلَى خِلَاف مَا فَهِمَهُ أَبُو ذَرّ مِنْ الْقَرِينَة , فَيُؤْخَذ مِنْهُ أَنَّ بَعْض الْقَرَائِن لَا يَكُون دَالًّا عَلَى الْمُرَاد وَذَلِكَ لِضَعْفِهِ.
وَفِيهِ الْمُرَاجَعَة فِي الْعِلْم بِمَا تَقَرَّرَ عِنْد الطَّالِب فِي مُقَابَلَة مَا يَسْمَعهُ مِمَّا يُخَالِف ذَلِكَ ; لِأَنَّهُ تَقَرَّرَ عِنْد أَبِي ذَرّ مِنْ الْآيَات وَالْآثَار الْوَارِدَة فِي وَعِيد أَهْل الْكَبَائِر بِالنَّارِ وَبِالْعَذَابِ , فَلَمَّا سَمِعَ أَنَّ مَنْ مَاتَ لَا يُشْرِكُ دَخَلَ الْجَنَّة اِسْتَفْهَمَ عَنْ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ " وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ " وَاقْتَصَرَ عَلَى هَاتَيْنِ الْكَبِيرَتَيْنِ لِأَنَّهُمَا كَالْمِثَالَيْنِ فِيمَا يَتَعَلَّق بِحَقِّ اللَّه وَحَقّ الْعِبَاد , وَأَمَّا قَوْله فِي الرِّوَايَة الْأُخْرَى " وَإِنْ شَرِبَ الْخَمْرَ " فَالْإِشَارَةُ إِلَى فُحْش تِلْكَ الْكَبِيرَة لِأَنَّهَا تُؤَدِّي إِلَى خَلَل الْعَقْل الَّذِي شَرُفَ بِهِ الْإِنْسَان عَلَى الْبَهَائِم , وَبِوُقُوعِ الْخَلَل فِيهِ قَدْ يَزُول التَّوَقِّي الَّذِي يَحْجِز عَنْ اِرْتِكَاب بَقِيَّة الْكَبَائِر.
وَفِيهِ أَنَّ الطَّالِب إِذَا أَلَحَّ فِي الْمُرَاجَعَة يُزْجَرُ بِمَا يَلِيق بِهِ أَخْذًا مِنْ قَوْله " وَإِنْ رَغِمَ أَنْف أَبِي ذَرّ " وَقَدْ حَمَلَهُ الْبُخَارِيّ كَمَا مَضَى فِي اللِّبَاس عَلَى مَنْ تَابَ عِنْد الْمَوْت , وَحَمَلَهُ غَيْره عَلَى أَنَّ الْمُرَاد بِدُخُولِ الْجَنَّة أَعَمُّ مِنْ أَنْ يَكُون اِبْتِدَاء أَوْ بَعْد الْمُجَازَاة عَلَى الْمَعْصِيَة , وَالْأَوَّل هُوَ وَفْق مَا فَهِمَهُ أَبُو ذَرّ , وَالثَّانِي أَوْلَى لِلْجَمْعِ بَيْن الْأَدِلَّة , فَفِي الْحَدِيث حُجَّة لِأَهْلِ السُّنَّة وَرَدٌّ عَلَى مَنْ زَعَمَ مِنْ الْخَوَارِج وَالْمُعْتَزِلَة أَنَّ صَاحِب الْكَبِيرَة إِذَا مَاتَ عَنْ غَيْر تَوْبَة يَخْلُد فِي النَّار , لَكِنْ فِي الِاسْتِدْلَال بِهِ لِذَلِكَ نَظَر , لِمَا مَرَّ مِنْ سِيَاق كَعْب بْن ذُهْلٍ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاء أَنَّ ذَلِكَ فِي حَقّ مَنْ عَمِلَ سُوءًا أَوْ ظَلَمَ نَفْسه ثُمَّ اِسْتَغْفَرَ , وَسَنَدُهُ جَيِّد عِنْد الطَّبَرَانِيّ.
وَحَمَلَهُ بَعْضُهُمْ عَلَى ظَاهِره وَخَصَّ بِهِ هَذِهِ الْأُمَّةَ لِقَوْلِهِ فِيهِ " بَشِّر أُمَّتك " وَإِنَّ مَنْ مَاتَ مِنْ أُمَّتِي , وَتُعُقِّبَ بِالْأَخْبَارِ الصَّحِيحَة الْوَارِدَة فِي أَنَّ بَعْض عُصَاة هَذِهِ الْأُمَّة يُعَذَّبُونَ , فَفِي صَحِيح مُسْلِم عَنْ أَبِي هُرَيْرَة " الْمُفْلِس مِنْ أُمَّتِي " الْحَدِيث.
وَفِيهِ تَعَقُّبٌ عَلَى مَنْ تَأَوَّلَ فِي الْأَحَادِيث الْوَارِدَة فِي أَنَّ " مَنْ شَهِدَ أَنَّ لَا إِلَه إِلَّا اللَّه دَخَلَ الْجَنَّة " وَفِي بَعْضِهَا " حُرِّمَ عَلَى النَّار " أَنَّ ذَلِكَ كَانَ قَبْل نُزُول الْفَرَائِض وَالْأَمْر وَالنَّهْي , وَهُوَ مَرْوِيّ عَنْ سَعِيد بْن الْمُسَيِّب وَالزُّهْرِيّ , وَوَجْه التَّعَقُّب ذِكْرُ الزِّنَا وَالسَّرِقَة فِيهِ فَذُكِرَ عَلَى خِلَاف هَذَا التَّأْوِيل , وَحَمَلَهُ الْحَسَن الْبَصْرِيّ عَلَى مَنْ قَالَ الْكَلِمَة وَأَدَّى حَقَّهَا بِأَدَاءِ مَا وَجَبَ وَاجْتِنَاب مَا نَهَى , وَرَجَّحَهُ الطِّيبِيُّ إِلَّا أَنَّ هَذَا الْحَدِيث يَخْدِش فِيهِ , وَأَشْكَلُ الْأَحَادِيث وَأَصْعَبُهَا قَوْلُهُ " لَا يَلْقَى اللَّه بِهِمَا عَبْد غَيْر شَاكّ فِيهِمَا إِلَّا دَخَلَ الْجَنَّة " وَفِي آخِره وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ " وَقِيلَ أَشْكَلُهَا حَدِيث أَبِي هُرَيْرَة عِنْد مُسْلِم بِلَفْظِ " مَا مِنْ عَبْد يَشْهَد أَنْ لَا إِلَه إِلَّا اللَّه وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُول اللَّه إِلَّا حَرَّمَهُ اللَّه عَلَى النَّار " لِأَنَّهُ أَتَى فِيهِ بِأَدَاةِ الْحَصْر وَمِنْ الِاسْتِغْرَاقِيَّةَ وَصَرَّحَ بِتَحْرِيمِ النَّار , بِخِلَافِ قَوْله " دَخَلَ الْجَنَّة " فَإِنَّهُ لَا يَنْفِي دُخُول النَّار أَوَّلًا , قَالَ الطِّيبِيُّ : لَكِنَّ الْأَوَّل يَتَرَجَّح بِقَوْلِهِ " وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ " لِأَنَّهُ شَرْط لِمُجَرَّدِ التَّأْكِيد , وَلَا سِيَّمَا وَقَدْ كَرَّرَهُ ثَلَاثًا مُبَالَغَة وَخَتَمَ بِقَوْلِهِ " وَإِنْ رَغِمَ أَنْف أَبِي ذَرّ " تَتْمِيمًا لِلْمُبَالَغَةِ , وَالْحَدِيث الْآخَرُ مُطْلَقٌ يَقْبَل التَّقْيِيد فَلَا يُقَاوِمُ قَوْله " وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ , وَقَالَ النَّوَوِيّ بَعْد أَنْ ذَكَرَ الْمُتُون فِي ذَلِكَ وَالِاخْتِلَاف فِي هَذَا الْحُكْم : مَذْهَب أَهْل السُّنَّة بِأَجْمَعِهِمْ أَنَّ أَهْل الذُّنُوب فِي الْمَشِيئَة , وَأَنَّ مَنْ مَاتَ مُوقِنًا بِالشَّهَادَتَيْنِ يَدْخُل الْجَنَّة , فَإِنْ كَانَ دَيِّنًا أَوْ سَلِيمًا مِنْ الْمَعَاصِي دَخَلَ الْجَنَّة بِرَحْمَةِ اللَّه وَحَرُمَ عَلَى النَّار , وَإِنْ كَانَ مِنْ الْمُخَلِّطِينَ بِتَضْيِيعِ الْأَوَامِر أَوْ بَعْضهَا وَارْتِكَاب النَّوَاهِي أَوْ بَعْضهَا وَمَاتَ عَنْ غَيْر تَوْبَة فَهُوَ فِي خَطَر الْمَشِيئَة , وَهُوَ بِصَدَدِ أَنْ يَمْضِي عَلَيْهِ الْوَعِيد إِلَّا أَنْ يَشَاء اللَّه أَنْ يَعْفُو عَنْهُ , فَإِنْ شَاءَ أَنْ يُعَذِّبَهُ فَمَصِيرُهُ إِلَى الْجَنَّة بِالشَّفَاعَةِ , اِنْتَهَى.
وَعَلَى هَذَا فَتَقْيِيد اللَّفْظ الْأَوَّل تَقْدِيره وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ دَخَلَ الْجَنَّة , لَكِنَّهُ قَبْل ذَلِكَ إِنْ مَاتَ مُصِرًّا عَلَى الْمَعْصِيَة فِي مَشِيئَة اللَّه , وَتَقْدِير الثَّانِي حَرَّمَهُ اللَّه عَلَى النَّار إِلَّا أَنْ يَشَاء اللَّه أَوْ حَرَّمَهُ عَلَى نَار الْخُلُود وَاَللَّه أَعْلَم.
قَالَ الطِّيبِيُّ : قَالَ بَعْض الْمُحَقِّقِينَ قَدْ يُتَّخَذُ مِنْ أَمْثَال هَذِهِ الْأَحَادِيث الْمُبْطَلَة ذَرِيعَة إِلَى طَرْحِ التَّكَالِيف وَإِبْطَال الْعَمَلِ ظَنًّا أَنَّ تَرْكَ الشِّرْك كَافٍ , وَهَذَا يَسْتَلْزِم طَيَّ بِسَاط الشَّرِيعَة وَإِبْطَال الْحُدُود , وَأَنَّ التَّرْغِيب فِي الطَّاعَة وَالتَّحْذِير عَنْ الْمَعْصِيَة لَا تَأْثِير لَهُ بَلْ يَقْتَضِي الِانْخِلَاع عَنْ الدِّين وَالِانْحِلَال عَنْ قَيْد الشَّرِيعَة وَالْخُرُوج عَنْ الضَّبْط وَالْوُلُوج فِي الْخَبْط وَتَرْك النَّاس سُدًى مُهْمَلِينَ وَذَلِكَ يُفْضِي إِلَى خَرَاب الدُّنْيَا بَعْد أَنْ يُفْضِي إِلَى خَرَاب الْأُخْرَى , مَعَ أَنَّ قَوْله فِي بَعْض طُرُق الْحَدِيث " أَنْ يَعْبُدُوهُ " يَتَضَمَّن جَمِيع أَنْوَاع التَّكَالِيف الشَّرْعِيَّة وَقَوْله " وَلَا يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا " يَشْمَل مُسَمَّى الشِّرْك الْجَلِيِّ وَالْخَفِيِّ , فَلَا رَاحَة لِلتَّمَسُّكِ بِهِ فِي تَرْكِ الْعَمَل لِأَنَّ الْأَحَادِيث إِذَا ثَبَتَتْ وَجَبَ ضَمُّ بَعْضهَا إِلَى بَعْضٍ فَإِنَّهَا فِي حُكْم الْحَدِيث الْوَاحِد , فَيُحْمَلُ مُطْلَقُهَا عَلَى مُقَيَّدهَا لِيَحْصُل الْعَمَل بِجَمِيعِ مَا فِي مَضْمُونهَا وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيق.
وَفِيهِ جَوَاز الْحَلِف بِغَيْرِ تَحْلِيف , وَيُسْتَحَبّ إِذَا كَانَ لِمَصْلَحَةٍ كَتَأْكِيدِ أَمْرٍ مُهِمٍّ وَتَحْقِيقه وَنَفْي الْمَجَاز عَنْهُ , وَفِي قَوْله فِي بَعْض طُرُقه وَاَلَّذِي نَفْس مُحَمَّد بِيَدِهِ تَعْبِير الْإِنْسَان عَنْ نَفْسه بِاسْمِهِ دُون ضَمِيره , وَقَدْ ثَبَتَ بِالضَّمِيرِ فِي الطَّرِيق الْأُخْرَى " وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ " وَفِي الْأَوَّل نَوْع تَجْرِيد , وَفِي الْحَلِف بِذَلِكَ زِيَادَة فِي التَّأْكِيد لِأَنَّ الْإِنْسَان إِذَا اِسْتَحْضَرَ أَنَّ نَفْسه وَهِيَ أَعَزّ الْأَشْيَاء عَلَيْهِ بِيَدِ اللَّه تَعَالَى يَتَصَرَّف فِيهَا كَيْف يَشَاء اِسْتَشْعَرَ الْخَوْف مِنْهُ فَارْتَدَعَ عَنْ الْحَلِف عَلَى مَا لَا يَتَحَقَّقهُ , وَمِنْ ثَمَّ شُرِعَ تَغْلِيظُ الْأَيْمَان بِذِكْرِ الصِّفَات الْإِلَهِيَّة وَلَا سِيَّمَا صِفَات الْجَلَال.
وَفِيهِ الْحَثّ عَلَى الْإِنْفَاق فِي وُجُوه الْخَيْر , وَأَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ فِي أَعْلَى دَرَجَات الزُّهْد فِي الدُّنْيَا بِحَيْثُ إِنَّهُ لَا يُحِبّ أَنْ يَبْقَى بِيَدِهِ شَيْء مِنْ الدُّنْيَا إِلَّا لِإِنْفَاقِهِ فِيمَنْ يَسْتَحِقّهُ , وَإِمَّا لِإِرْصَادِهِ لِمَنْ لَهُ حَقّ , وَإِمَّا لِتَعَذُّرِ مَنْ يَقْبَل ذَلِكَ مِنْهُ لِتَقْيِيدِهِ فِي رِوَايَة هَمَّام عَنْ أَبِي هُرَيْرَة الْآتِيَة فِي كِتَاب التَّمَنِّي بِقَوْلِهِ " أَجِد مَنْ يَقْبَلهُ " وَمِنْهُ يُؤْخَذ جَوَاز تَأْخِير الزَّكَاة الْوَاجِبَة عَنْ الْإِعْطَاء إِذَا لَمْ يُوجَد مَنْ يَسْتَحِقّ أَخْذَهَا , وَيَنْبَغِي لِمَنْ وَقَعَ لَهُ ذَلِكَ أَنْ يَعْزِل الْقَدْر الْوَاجِب مِنْ مَاله وَيَجْتَهِد فِي حُصُول مَنْ يَأْخُذهُ , فَإِنْ لَمْ يَجِد فَلَا حَرَج عَلَيْهِ وَلَا يُنْسَب إِلَى تَقْصِير فِي حَبْسِهِ.
وَفِيهِ تَقْدِيم وَفَاء الدَّيْنِ عَلَى صَدَقَة التَّطَوُّع.
وَفِيهِ جَوَاز الِاسْتِقْرَاض وَقَيَّدَهُ اِبْن بَطَّال بِالْيَسِيرِ أَخْذًا مِنْ قَوْله " إِلَّا دِينَارًا " قَالَ وَلَوْ كَانَ عَلَيْهِ أَكْثَر مِنْ ذَلِكَ لَمْ يَرْصُد لِأَدَائِهِ دِينَارًا وَاحِدًا لِأَنَّهُ كَانَ أَحْسَن النَّاس قَضَاء.
قَالَ وَيُؤْخَذ مِنْ هَذَا أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي الِاسْتِغْرَاق فِي الدَّيْنِ بِحَيْثُ لَا يَجِد لَهُ وَفَاء فَيَعْجِز عَنْ أَدَائِهِ , وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ الَّذِي فَهِمَهُ مِنْ لَفْظ الدِّينَار مِنْ الْوَحْدَة لَيْسَ كَمَا فَهِمَ , بَلْ إِنَّمَا الْمُرَاد بِهِ الْجِنْس , وَأَمَّا قَوْله فِي الرِّوَايَة الْأُخْرَى " ثَلَاثَة دَنَانِير " فَلَيْسَتْ الثَّلَاثَة فِيهِ لِلتَّقْلِيلِ بَلْ لِلْمِثَالِ أَوْ لِضَرُورَةِ الْوَاقِع , وَقَدْ قِيلَ إِنَّ الْمُرَاد بِالثَّلَاثَةِ أَنَّهَا كَانَتْ كِفَايَته فِيمَا يَحْتَاج إِلَى إِخْرَاجه فِي ذَلِكَ الْيَوْم , وَقِيلَ بَلْ هِيَ دِينَار الدَّيْنِ كَمَا فِي الرِّوَايَة الْأُخْرَى وَدِينَار لِلْإِنْفَاقِ عَلَى الْأَهْل وَدِينَار لِلْإِنْفَاقِ عَلَى الضَّيْف , ثُمَّ الْمُرَاد بِدِينَارِ الدَّيْنِ الْجِنْس وَيُؤَيِّدهُ تَعْبِيره فِي أَكْثَر الطُّرُق بِالشَّيْءِ عَلَى الْإِبْهَام فَيَتَنَاوَل الْقَلِيل وَالْكَثِير.
وَفِي الْحَدِيث أَيْضًا الْحَثّ عَلَى وَفَاء الدُّيُون وَأَدَاء الْأَمَانَات وَجَوَاز اِسْتِعْمَال " لَوْ " عِنْد تَمَنِّي الْخَيْر وَتَخْصِيص الْحَدِيث الْوَارِد عَنْ اِسْتِعْمَال " لَوْ " عَلَى مَا يَكُون فِي أَمْر غَيْر مَحْمُود شَرْعًا.
وَادَّعَى الْمُهَلَّب أَنَّ قَوْله فِي رِوَايَة الْأَحْنَف عَنْ أَبِي ذَرّ " أَتُبْصِر أُحُدًا ؟ قَالَ فَنَظَرْت مَا عَلَيْهِ مِنْ الشَّمْس " الْحَدِيث أَنَّهُ ذُكِرَ لِلتَّمْثِيلِ فِي تَعْجِيل إِخْرَاج الزَّكَاة وَأَنَّ الْمُرَاد مَا أُحِبّ أَنْ أَحْبِسَ مَا أَوْجَبَ اللَّه عَلَيَّ إِخْرَاجه بِقَدْرِ مَا بَقِيَ مِنْ النَّهَار , وَتَعَقَّبَهُ عِيَاض فَقَالَ : هُوَ بِعِيدٌ فِي التَّأْوِيل , وَإِنَّمَا السِّيَاق بَيِّنٌ فِي أَنَّهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرَادَ أَنْ يُنَبِّهَ عَلَى عِظَمِ أُحُدٍ لِيَضْرِب بِهِ الْمَثَل فِي أَنَّهُ لَوْ كَانَ قَدْره ذَهَبًا مَا أَحَبَّ أَنْ يُؤَخَّرَ عِنْده إِلَّا لِمَا ذَكَرَ مِنْ الْإِنْفَاق وَالْإِرْصَاد , فَظَنَّ أَبُو ذَرّ أَنَّهُ يُرِيد أَنْ يَبْعَثهُ فِي حَاجَة وَلَمْ يَكُنْ ذَاكَ مُرَادًا إِذْ ذَاكَ كَمَا تَقَدَّمَ.
وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ : إِنَّمَا اِسْتَفْهَمَهُ عَنْ رُؤْيَته لِيَسْتَحْضِر قَدْره حَتَّى يُشَبِّهَ لَهُ مَا أَرَادَ بِقَوْلِهِ " إِنَّ لِي مِثْلَهُ ذَهَبًا ".
وَقَالَ عِيَاض : قَدْ يَحْتَجْ بِهِ مَنْ يُفَضِّلُ الْفَقْرَ عَلَى الْغِنَى , وَقَدْ يَحْتَجُّ بِهِ مَنْ يُفَضِّلُ الْغِنَى عَلَى الْفَقْر , وَمَأْخَذ كُلّ مِنْهُمَا وَاضِح مِنْ سِيَاق الْخَبَر.
وَفِيهِ الْحَضّ عَلَى إِنْفَاق الْمَال فِي الْحَيَاة وَفِي الصِّحَّة وَتَرْجِيحه عَلَى إِنْفَاقه عِنْد الْمَوْت , وَقَدْ مَضَى فِيهِ حَدِيث " أَنْ تَصَدَّقَ وَأَنْتَ صَحِيح شَحِيح " وَذَلِكَ أَنَّ كَثِيرًا مِنْ الْأَغْنِيَاء يَشِحُّ بِإِخْرَاجِ مَا عِنْدَهُ مَا دَامَ فِي عَافِيَة فَيَأْمُل الْبَقَاء وَيَخْشَى الْفَقْر , فَمَنْ خَالَفَ شَيْطَانه وَقَهَرَ نَفْسه إِيثَارًا لِثَوَابِ الْآخِرَة فَازَ , وَمَنْ بَخِلَ بِذَلِكَ لَمْ يَأْمَن الْجَوْر فِي الْوَصِيَّة , وَإِنْ سَلِمَ لَمْ يَأْمَن تَأْخِير تَنْجِيز مَا أَوْصَى بِهِ أَوْ تَرْكَهُ أَوْ غَيْر ذَلِكَ مِنْ الْآفَات وَلَا سِيَّمَا إِنَْ خَلَّفَ وَارِثًا غَيْر مُوَفَّق فَيُبَذِّرهُ فِي أَسْرَعِ وَقْت وَيَبْقَى وَبَاله عَلَى الَّذِي جَمَعَهُ , وَاَللَّه الْمُسْتَعَان.
حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ شَبِيبٍ حَدَّثَنَا أَبِي عَنْ يُونُسَ وَقَالَ اللَّيْثُ حَدَّثَنِي يُونُسُ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَوْ كَانَ لِي مِثْلُ أُحُدٍ ذَهَبًا لَسَرَّنِي أَنْ لَا تَمُرَّ عَلَيَّ ثَلَاثُ لَيَالٍ وَعِنْدِي مِنْهُ شَيْءٌ إِلَّا شَيْئًا أَرْصُدُهُ لِدَيْنٍ
عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ليس الغنى عن كثرة العرض، ولكن الغنى غنى النفس.»
عن سهل بن سعد الساعدي أنه قال: «مر رجل على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال لرجل عنده جالس: ما رأيك في هذا؟ فقال رجل من أشراف الناس: هذا والله حري...
عن أبي وائل قال: عدنا خبابا، فقال: «هاجرنا مع النبي صلى الله عليه وسلم نريد وجه الله، فوقع أجرنا على الله، فمنا من مضى لم يأخذ من أجره، منهم مصعب بن...
عن عمران بن حصين رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «اطلعت في الجنة، فرأيت أكثر أهلها الفقراء، واطلعت في النار، فرأيت أكثر أهلها النساء...
عن أنس رضي الله عنه قال: «لم يأكل النبي صلى الله عليه وسلم على خوان حتى مات وما أكل خبزا مرققا حتى مات.»
عن عائشة رضي الله عنها قالت: «لقد توفي النبي صلى الله عليه وسلم وما في رفي من شيء يأكله ذو كبد إلا شطر شعير في رف لي، فأكلت منه حتى طال علي فكلته ففن...
حدثنا مجاهد: «أن أبا هريرة كان يقول: آلله الذي لا إله إلا هو، إن كنت لأعتمد بكبدي على الأرض من الجوع، وإن كنت لأشد الحجر على بطني من الجوع، ولقد قعدت...
حدثنا قيس قال: سمعت سعدا يقول: «إني لأول العرب رمى بسهم في سبيل الله، ورأيتنا نغزو وما لنا طعام إلا ورق الحبلة وهذا السمر، وإن أحدنا ليضع كما تضع ال...
عن عائشة، قالت: «ما شبع آل محمد صلى الله عليه وسلم منذ قدم المدينة، من طعام بر ثلاث ليال تباعا، حتى قبض»